كلُ الأمسيات.

الثانية فجرًا، يوم الأحد

عزيزي جونغسونغ،

أكتب إليك الآن من غرفتي الصغيرة، قربي على طاولتي الرثيثة يرقد كوب قهوتي السوداء الثالث، أم الرابع؟ يفقدُ حرارته مستسلمًا دون أي مقدرة على المحاربة ضد هذا الجو القاسي. الرشفة التي أخذتها منه قبل لحظات لا تزالُ تتمرغ فوق لساني بمرارة حامضة تمتد حتى نهاية حلقي. ولربما كنت محقًا، إن القهوة السوداء مقززة ولا أعلم كيف أستطيع شربها. لكن ما أعلمه أنني لا أستطيع التوقف عن تجرع الواحد تلو الآخر على مرار اليوم.

رأيت المنشور الذي أرفقته البارحة، لربما هو ما دفعني لكتابة رسالة كهذه الآن بدلًا من رسائلي النصية العادية.

على كلٍ، كنت تبدو سعيدًا، ورائعًا على حدٍ سواء، كما تبدو عادة. سعيدًا ورائعًا، ولا يبدو أن رفاقك الذين احتشدوا في الصورة يقلون عنك في هذا. جميعكم تبدون أنيقين إلى حدٍ أشعرني أنكم هاربون من أحد أفلام المراهقين التي يزخر بها الإعلام ويضع فيها توقعات للمراهقة لا يمكن للأشخاص العاديين الوصول إليها قط. لكن على ما يبدو أنكم تفعلون، خصوصًا الفتاة الشقراء التي كانت يدها معلقة قرب كتفك، إنها جميلة جدًا، لا بد أنها هانا التي حدثتني عنها.

أظنك كنت في حفل؟ حفلٍ فاخر ما على أحد المباني الشاهقة. كنت تبدو مثاليًا في تلك الصورة، مع معطفك الجلدي الأسود المذهل الذي لا أزال أذكر دفئه المفاجىء رغم شكله الذي لا يوحي بذلك إطلاقًا. ابتسامتك التي تنمُ عن ثقة لطالما توشت بها ملامحك، وجسد مرتمي للكاميرا بأسلوب عفوي معتاد على الأضواء. هذا هو حيث تنتمي، في الضوء وبين الحشود، داخل اللحظة و وتيرتها المستعرة.

لم أظن أن ذلك ممكن ، لكن ملامحك بدت أكثر حدة. لثوانٍ سرى شبحها الذي أذكره تحت أناملي مرة أخرى، ملمس عظام خدك الأيمن حتى غرتك الطويلة. تركني هذا في غبطة صغيرة.

أنا عند النافذة الوحيدة في غرفتي التي تعرفها. أنظر للشارع الذي حفظته حتى آخر حصى فيه، وأتذكر قولك أن هذه النافذة هي أفضل جزء من غرفتي. أنت محق، لولا وجودها لكان ابتلعني منذ زمن الاختناق الذي يبعثه ضيقها وضوؤها النيوني الكئيب الذي أعتمد عليه الآن لهذه الأمسية.

لا أريد التحرك من هنا، لا أظنني أستطيع. الجميع نائمون و أكاد أشعر بجبل الأفكار الذي سينهمر علي حالما أنوي الوقوف حتى يلوح من خلفي. وأنا ممتنة بشدة لأنك أتيت ماشيًا إلى خاطري حالما تذكرت تلك الصورة وباشرت كتابة هذه الرسالة. وجدت ما يمكنني وضع تركيزي فيه لباقي الليلة، لأنتظر أن أخرج سالمة من هذا المساء.

رؤيتي لذلك المنشور أعاد لي ذكريات كل الليالي التي كنا فيها سويًا. ليس وكأنها أول مرة استعيد فيها تلك اللحظات، لطالما أفعل في الحقيقة، تلك الأوقات لا تزال كمواساة أستعيدها في كل مرة يصعب علي الركود بين تخبطات أفكاري الهائجة.

أفكاري التي حتى اللحظة، تأبى التوقف. منذ أن بدأت في ذاك اليوم الذي يبدو بعيدًا جدًا ولا أذكر أي تفصيلٍ منه، رغم أنه النقطة حيث انفتق محيط معاناتي وأغرقني، المحيط الذي لم أعلم حتى أنه كان يقبعُ داخلي ولم أضع في الحسبان يومًا صعوبة الوقوف فيه.

أفكاري التي لا أرى لها وجهًا ، وإن رأيته لا أتبين له ملامحًا، وإن كانت له ملامح فإنها تتبدل وتتغير ولا يسعني قط وضع صورة واضحة لها. أفكاري المسلولة بمشاعر لا أفقهها، ولا يسعني التأكد من أي شيء ناحها ولا أعرفُ إلا أنها تقبعُ كوزنٍ قاتم فوق صدري لساعات طويلة من كل يوم.

ولا أزال مذهولة ، بل لربما شاكرة لملاحظتك لها. هل حقًا فعلت، رأيتها من بين طيات وجهي الذي بالكاد يتغير؟ أم أنك أمسكت بأحد تلك الأدلة التي أرميها هنا وهناك دون رغبتي بأن يلاحظ أحد، ووجدت أحدها بين الرسائل التي كنا نتبادلها في ذاك المساء؟

عندما عرضت علي الخروج على الساعة التاسعة في ذاك اليوم، لم أحتج لإلحاح أو تفكير حتى لأوافق. أردت الخروج، أردت الهرب من جدران منزلي في ذاك الحين إذ كانت دواخلي تنهشني بعنف تركني غير قادرة على تبين شيء واحد منطقي من بينها. لذا وكأن الفرج قد انبسط أمام ناظري، لم أتردد أبدًا وأنا أستعد ثم أهرع لملاقاتك وأنا أرتجف في معطفي.

عندما نظرت ناحي من فوق هاتفك في تلك الليلة، فإني لم أخذ وقتًا مذكورًا قبل أن شعرت بأن الهواء وجد له مضيقًا بين الأكوام في صدري المحتشد، وأخيرًا استطعت التنفس وكأني أعرفُ التنفس عن ظهر قلب، لم ترحل أفكاري البائسة، لكنها عقدت مع عقلي هدنة لوهلة رغم بقائها في مكانها مريرة.

ابتسامتك التي مع كل تلك الليالي التي تلت تلك الأولى، لم تفقد ولو لمرة قدرتها على جعلي أشعر بأنه يمكنني الرحيل بعيدًا عن كل هذا، لدي يدٌ فوق الفوضى التي تجوب دواخلي، ولو كانت يدًا ضعيفة كخاصة طفلٍ في الثانية من عمره.

من بين كل تلك الليالي أشعر بأنني استطيع استرجاع أمورٍ جوهرية بطريقة لم أعهدها من ذاكرتي التي لطالما ذمتها والدتي. أستطيع تذكر كثيرٍ من المحادثات بتفاصيل من بدايتها وحتى خواتيمها، أستطيع تذكر كل معطفٍ أنيق ارتديته ولونه أسفل إضاءة الطرق، بل وحتى أذكر ساعاتٍ محددة بدقائقها عندما كنت أقابلك مرتقبًا وأرى الوقت من هاتفك الذي تعيده إلى جيبك حالما أصل.

لم أسألك يومًا عما دفعك لعرض تلك الجولة، أم على وجه الصحة، الجولات علي. لربما لم أستفسر قط، أو أعلم بالضبط، لكني كنت ممتنة. ربما قد كانت تلك متعتك أيضًا في تلك الليالي التي لم تملك فيها شيئًا محددًا لفعله، بعد أن تخرجنا، وحينما لم يكن لديك ارتباطات مع اصدقائك أو والديك، وكانت هنالك الكثير من الليالي الباردة الطويلة، وبدا التجول من مكان لآخر في هذه المدينة ممتعًا أكثر من الا شيء. لكن مع أيٍ ما كانت أسبابك، سوف أكون شاكرة دومًا.

قد لا تعلم ما تعنيه تلك الليالي بالنسبة لشخصٍ مثلي. شخصٍ تقتات عليه أفكاره المعتمة ليل نهار وتكاد لا تفارقه مهما فعل. لكن دعني أخبرك أنها تعني الكثير، لا تزال تعني الكثير حتى هذه اللحظة.

كانت الاضطرابات التي تثقلُ كاهلي تنسابُ وكأنها لم تكن تعذبني قبلًا إلى نهاية رأسي، وتترك لي فرصة لأشعر أنني يمكنني أن أكون متواجدة في هذه اللحظة معك بين الطرقات الشبه فارغة غالبًا والهواء البارد الذي يطاير شعري.

ولكن تلك الليالي لم تكن تنتهي بمجرد افتراقنا عند واجهة شارعي، سأعود للمنزل متذكرة ملمس أصابعك الجافة فوق وجهي عندما وضعت بضعًا من الخصلات المتمردة خلف أذني الملتهبة بفعل قرب عينيك اللامعة من عيني، وسأرتمي على سريري الضعيف متذكرة بكل تفصيل القشعريرة التي خلفتها أنفاسك عند عنقي وصوت ضربات قلبك الطفيف من فوق معطفك حينما جذبتني إلى عناقٍ طويل أسفل أحد الأضواء الباسقة.

ستتصافقُ دواخلي وترتفعُ الحرارة حول وجنتي، إلا أنني سأبتسم في كل مرة أتذكر فيها قربك، وسأسحب الذكرى عائدةً بها إلى محضر وعيي في كل مرة ترتفعُ العقد داخل صدري من مشاعري التي لا ترحمني، وسأحارب بذكريات بشرة وجهي المقابلة لمعطفك القلق الذي يحاولُ الاستيلاء على عقلي.

وعلى الرغم بأن أحدهم قد يتهمُ وصفي هذا بالمبالغة، إلا أني أعنيه بكُل حرفٍ يركض تحت يدي. بما أن محاربتي لكل تلك الأفكار التي تدور كدوامة داخلي لم يكن يجدي نفعًا ، فإن الهرب كان خياري الأخير. لأنني حتى وإن واجهتها، أمسكت بكل خيطٍ على حدى، حاولت جاهدة تفكيكها، وعقد سلامٍ معها، بعد بضع ساعات، في نهاية اليوم، أو مع طلوع الفجر، ستقض مضجعي وتداهمني عائدة، ستجرُ معها الضيق الذي لا أطيق لتنحره فوق قلبي تاركةً جثمانه هنالك، وتعيدني إلى نقطة البداية وكأنها لأول مرة تخترق حصني مع أنها عدوتي اللازمة.

لذا كنت اتطلع لمغادرة محيطي ولو قليلًا، أن أكون بين الناس، ومع أن هذا لم يكن بالضرورة يسعفني دومًا، إلا أنه كان يشعرني بأني على الأقل لست مشلولة بما يخالجني. فقط في تلك الليالي التي كنا فيها سويًا، نتبادل النظرات والأحاديث والأنفاس الساخنة، كنت لوهلة أنسى كل ما أحمله خلفي، وكل الساعات التي أقضيها صراعًا مع عقلي، وأدركُ أنني أشعرُ بملء صدري، والفراشات التي يخلفها وجودك قربي تحشو فؤادي.

كنت أنت هناك، ولبضع ساعات، كنت فقط أنت الذي يقف هناك أمامي ولا شيء سواك.

وأنا عائدة من المطبخ قبلًا، اصطدمت قدمي بحقيبة السفر خاصتي التي لا تزال في الزاوية هنا منذ شهرٍ أو أكثر، تنتظر متى أشفقُ على حالها وأملؤها، متى أصبح مستعدة لتحديد موعد سفري والمضي قدمًا وجعل هناك قيمة لوجودها.

قد يبدو الأمر من هنا غير اعتيادي ، بل حتى ساذجًا إذا أخبرتك أنت بالذات به، بما أنك قد غادرت بالفعل منذ أسابيع إلى الولايات المتحدة، وباشرت الطريق دون تردد عازمًا أمرك، بل ويبدو أنك اعتدت كل شيءٍ بسرعة حتى مما أراه منك وأسمعه من شرحك، لكنني سأخبرك به على كل حال. سأصارحك بالمعضلة التي تواجهني مع المغادرة للجامعة وأخيرًا.

لم أصدق حتى قبولي في بادئ الأمر، بل كنت مصدومة، لكن سعادتي وسعادة كل من حولي كانت كافية لتحمل الحماس فيَّ للاشتعال. ولكن الآن، بعد كل تلك الشهور التي تفصلني عن الذهاب الفعلي، وبدء هذه المسرحية التي لا أزال لا أفهمها بتاتًا مع هذا الحزن الغامض الذي أخد يكتنفني ليل نهار، فإني لم أعد متشوقة إطلاقًا لذاك اليوم، بل خائفة حتى إن كان علي أن ألتزم الصدق كخليل.

خائفة، هل تصدق جاي؟

وهذا يكاد يقودني للجنون. أنا، التي أمضت سنواتٍ من حياتها ترتقبُ فيه اليوم الذي تخرج فيه من هذه المدينة وبدء حياة جديدة وخوض مغامراتٍ كثيرة، لم تعد متأكدة من أيٍ من ذلك، بل لا ترغب به حتى. أنا التي كنت أحلمُ منذ الثانية عشرة من عمري باليوم الذي تحملني فيها الطرق إلى عالمٍ جديد للدراسة في جامعة مرموقة، لم يعد في وسعي تصور أي شيءٍ سوا الغم الذي الذي يخترق صدري لمجرد المباشرة بالأمر.

يتوسد خواطري حزنٌ سخيم لمجرد تفكيري بحزم حقائبي والمضي قدمًا، وتتمكن أفكاري الغاضبة مني أكثر من أي وقتٍ مضى عندما أفكر بتلك الأيام القادمة، وأتنمى لو بإمكاني البقاء وعدم أخذ خطوة على الإطلاق.

مع كل مرةٍ عيبت بها الرتابة، وانتقدت فيها مدينتنا المتقهقرة المتسعة بالبؤس، وتذمرت من مشاكلي العائلية، لم يعد أيٌ من ذاك يؤثر بي كما يفعل الذعر من الرحيل.

كنت مستمرة بذم كل ما يتعلق بأحيائنا الفوضوية، وشوارعنا التي كلما ابتعدت عن وسط المدينة ازدادت كآبةً وجونا القارس، إلا أنني الآن لا أجد فيَّ الرغبة لترك أيٍ من ذلك خلفي.

أصبحت أجدني متعلقة بدوامة الروتين وتكرار الأيام بحذافيرها، وأشعرُ بأني سأفتقد العصريات الكئيبة التي سأقضيها في مطبخ مطعم أمي وأنا أغسل الصحون، ولا أرغب بترك الزيارات العائلية الأسبوعية التي تستمر عمتي فيها بتعييب شعري الخفيف والمجهد من الصبغات، وسأشتاق حتى لديكور غرفتي المشتت الذي انتهى به المطاف ليكون ملكي عن طريق أقاربنا والذي لا تربطه أيُ صلة ببعضه ويترك مساحتي الصغيرة تبدو فوضوية مهما فعلت جاهدة لتنظيمها.

بل حتى أظنني لست مستعدة لترك الأيام السيئة حيث تتراكم الديون فوق كاهل والدتي، وأرضى بالاستماع إلى تذمر جدي من مشروعه التجاري الفاشل بسبب إهمال أولاده، حتى أنني لا أمانع التخلي مرارًا وتكرارًا عن أشياء أرغب بشرائها فقط لأتأكد بأن أختي الصغرى يمكنها أن تطلب المال دون أن تأبه بشيء في كل مرة تخرج فيها مع أصدقائها.

متأهبة للتمسك بحياتي هاته بسبب ذعري من أخذ خطوة خارج منطقة راحتي، مستعدة للتخلي عن كل أحلامي بأن أتذوق طعم الحياة من العالم والعمل جاهدة لتحسين وضع عائلتي المعيشي فقط لخوفي المدقع من التغيير.

اكتشفت أنني أهاب التغيير، وأظن أن السلاسل التي تكبلني بها أفكاري ومشاعري المضطربة كل الفترة الماضية كانت هي سبب نفوري لهذا الحد من فكرة الحياة الجديدة هاته.

لكنني أحاول، أحاول بجهد كما أخبرتك لألا أخضع مطولًا لخوفي ذلك مما هو قادم. أحاول فعل أشياءٍ أحبها، ليس وكأن هناك الكثير الذي يعينُني على أية حال، لكن أعملُ على محاولة حشو وقتي بأي شيءٍ قد يلسعُ أفكاري لتصمت ولو لثوانٍ، كالتنظيف مثلًا، وإن كانت لا تزالُ مصرة على التدلي من فوق منكبي رغم كل محاولاتي بالفرار، فإني لا أتردد بتذكر أي ليلة من تلك التي تشاركناها. استرجاع الشوارع التي سرناها سويًا يبدد شعوري بالاختناق.

لياليَّ المفضلة كانت تلك التي تخبرني قبلها أين سنذهب بالتحديد. لذا سأرتدي شيئًا أنيقًا، لربما أجمل فستانٍ في خزانتي الأثيرة، وأتأكد بأني سأضع مساحيق التجميل خاصتي بكل حذر وكأنني أخطُ فنًا باهرًا فوق ملامحي. وقد كانت كل ثانية أمضيها فوق المرآة أدفعُ أفكاري الساخطة وأتلوى في قلقي من شكلي تستحقُ عندما أرى الطريقة التي تشرقُ ابتسامتك فيها لتومض وجهك والسماء الظلماء التي تراقبُ قدماي المقتربتين ناحك.

لم تكن أبدًا تغفلُ عن إلقاء المديح الذي كان يترقبه فؤادي دون هوادة، وتعطيني ذراعك لأتشبث بك حتى تمتزج رائحة الكلونيا خاصتك المزخرفة بعبق المحيط وخشب الصندل بمعطفي الطويل الخاص. ثم تحملنا بأحاديثك طول الطريق حتى لا تترك لقلبي فرصة الالتفات لجوقة الفوضى المستمرة بالعزف داخل رأسي وصدري. وكان هذا هو فوزي الوحيد طول تلك الأيام العصيبة. صوت كلامك عن كل شيء ولا شيء هو ما يوقفُ سمفونية المعاناة المستمرة في كياني.

كنت أكره أن أشعر وكأني عبء، حتى على والديَّ الخاصين. لذا لن أخفي عنك أني كنت أخشى أن أكون ثقيلة عليك أنت أيضًا. خصوصًا في تلك الأيام، عندما لا تفصلنا سوا بضع سنتيمترات لا غير، وكنت تعرض علي المشروب تلو الآخر, أو حتى الطعام، وكنت أرفض بخجل. ليس فقط حياءً، بل لأني بصدق لم أكن أرغب بأي شيء فعلي سوا التواجد هنا معك. ومع أنك كنت تتنهد في نهاية المطاف وتجرني دون نقاش إلى حيث ترغب لأنني عنيدة كما تصر، إلا أني أستمتع بأي مما كنت تضع بين يدي وأحتفي به وكأنه ألذ ما تناولتُ منذ عقود.

وعلى الرغم بأن زمهرير الأجواء لا ينفك عن مهاجمتنا، تاركًا أصابعي متصلبة وينسيني الشعور بساقاي المكشوفين، إلا أن كل ما أوشحُ به تلك الليالي في عقلي هو دفءٌ غير معهود.

طيفُ ذراعيك المنسلة حول خصري و التشتت الذي تتركه كلماتك قرب أذني، سأحملُ هذا طول الطريق حتى بيتي، وسأكون متهيجة بتخدر كما ستكون شفتاي التي لن تكف عن الابتسام.

أوقفتني أمي مرةً وقد كانت منخرطة بمشاهدة التلفاز بعد عودتها من المطعم لتسألني بارتياب أين ذاهبة بكل ذاك التأنق؟ لم أتردد كثيرًا لألقي باسمك بينما كانت تمشطني بعينيها من رأسي وحتى أخمص قدماي، وتصمت هي لوهلة كمن يفكر، ثم تسأل، أبن السيد بارك؟ لؤمئ وقلبي يضربُ كطبول حربٍ وعثاء لمجرد ذكرك. رمقتني حينها بتعجب وبدا وكأنها ترغب بقول المزيد، لكنها ألقت الوداع وتركتني أخرج ورأسي كله يشتعل كفتيل شمعة صغيرة وجسدي بأسره أصبح دافئًا فجأة لتذكرابتسامتك.

كل ما أربطك به هو دفءٌ يحتل كل إنشٍ من وجهي ويداي.

ومع أنني كنت أرى في تلك الأمسيات مهربي الوحيد، إلا أنني لم أكن دومًا الأقوى في تلك المعركة كما كنت أزعم لنفسي. لا أخفيك أنني شاطرتك لحظاتٍ حيث كانت عينانا متصلة، وحادثاتٍ مطولة، وأنا متواجدة بجسمي، لكن دواخلي كانت تنتفض بالألم.

ألمٌٍ أنا حتى لا أفهم أسبابه أو دوافعه، لا أعلمُ ما الذي يجذبه إلي لينغص أيامي علي، ألمٍ كان يتقطع في أحشائي ويقطعني معه، ويسوِّدُ الدنيا في عيناي حتى ورأسي يتدلى من فوق كتفك النحيل.

في تلك الأيام التي كان فيها وجعي الدفين ذاك لا يفارقني عشيًا أو ضحى، كنت أملك رغبة عارمة بالبكاء ، على أنني لم أبكي قط. لكني أعلم أن تلك الرغبة إن لم تكن ستفيضُ على انحناءات خداي، فإنها ستترك أثرًا باليًا فوق صوتي المخدوش ونظرتي التي تتعلق دون تركيز فوق الأشياء. وأعلم أنك كنت تلاحظ تلك التأثيرات لأنك كنت تزم شفتيك في منتصف حديثك أحيانًا وتجذبني أقرب إلى صدرك حتى أذوب ضد معطفك الجلدي وكأني ندفة ثلجٍ دون حولٍ أو قوى ضد اشتعال أفكاري الحارق ودفئك الرقيق.

ومع أنني لم أقم قط بإخبار إنسيّ بما يدور بعقلي من أفكار وما يتحلل فوق قلبي من أحاسيس، وهذا يعود لأسباب كثيرة أهمها أني أنا بذاتي لم أكن أفقه حقيقة ما أمر به ولا أتقن كلماتٍ لوصفه.
إلا أنني كنت أرى بأنني في كثيرٍ من الأحيان مدينة لك بشرحٍ من شكلٍ ما، بتبرير أنت لم تطلبه بالضرورة لكني آمنت أنك تستحقه لأنك قد تكون الوحيد الذي رأيت تلون وجهي بكل شفافية بسبب معاناتي، ولأنك شاركتني اللحظات القليلة التي كانت تذكرني بأنني لست في القاع المظلم، ليس بعد.

لذا عندما تلاصق كتافنا في تلك المرة أسفل أحد الأضواء وعلى المقعد المعدني الذي جعلني أتنهد من قرصه لجسدي بالبرد قبل أن تجذبني أكثر لجنبك، ومن فوق خيوط البخار المتصاعدة من كوبيّ الشوكولاتة الساخنة المكلفة التي ابتعتها بعد أن رفضت طلبي بقهوة سوداء مقرفة كما قلت ووجهك ينكمش، حاولت حينها أن أشرح لك بعضًا مما أمر فيه، أو على الأقل الجزء الذي أفقه منه.

وصفته بأنه حزن، ذلك أول ما أتى إلى خاطري كإسعافٍ للصمت الذي حل تحت أنفاسنا المتجمدة التي أخذت تمتزج سويًا أمامنا. إنه ليس مجرد حزن هذا هو الأكيد. إنه فوضى مترامية من الأفكار القهرية والأحاسيس المصقولة التي تطعن كل شبرٍ من وعيي لوقتٍ طويل على مدار اليوم، ولا يسعني إيقافها وجمع تركيزي بأسره على شيءٍ واحد دون هربه لأنها تستمر بسلبي إياه.

إنها الكثير، العديد من الأمور التي حتى بعد جزلي لساعات لن أفيها توضياحًا وشناعة. لكني اخترت الحزن كإيجازٍ لها لأن كل ما يخالجني بأسره موشح بأسمالٍ من الشجن الذي لا ينضب. شجنٍ عميق لستُ معتادة عليه ولا أظن أنه يمكن للمرء ممارسة حياته بطبيعية وهو يحمل شيئًا كهذا فوق كاهله.

الحزن يتفاقم سوءًا يومًا بعد يوم إلى أن أصبح ينتابني ناح تفاصيلٍ لا تعقل حتى. بل ويتمكن مني إلى أن أحس به ينبضُ بدل الدماء القانية في عروقي. أشعر به يعاشر الهواء في صدري ويغزوني.

في الليالي التي يكون أسوأ فيها من أي وقتٍ مضى فإنه سيدفعني لأقف رثاءً ناح كل معضلة لا يد لي في حلها ويتركني لأعيش انهيارًا تلو الآخر على عجزي هذا.

كتلك المرات التي كنت أجذب معصمك فيها لنقف عند قارعة الشارع لأحدق بجماعة القطط التي تملأ المكان، ويتمكن مني حزني ذاك وأنا أتمنى لو بمقدوري أخذها جميعًا إلى منزلي كي أحميها من هذا البرد القارس. ثم أرمي لها بقايا الطعام التي اختلستها من المطعم بعد أن تعلمت درسي من أول مرة حضرت فيها واضطررت للرحيل دون أن أطعمها مما تركني ملغومة البدن. سأضع البقايا بحذر واللحم الطري الذي أخذته من الثلاجة ولم أخبر أمي عنه وأنا أتمنى لو بمقدوري رمي حتى قلبي الضعيف لها لتقتات عليه بدوره وتسد به جوعها.

حتى بعد أن وضعت معطفك على كتفيّ في أحد المرات بعد ملاحظتك لارتجافي وأنت تهمس عند خدي أن علينا العودة وأنه علي ألا أقلق كثيرًا على القطط لأنها ليست الوحيدة في العالم، وأنها ستجد قوت يومها بأي طريقة كانت لأن هذه سنة الحياة، لم أستطع نسيان أمرها طول اليوم. وقد كان وكأن عقلي وجد شيئًا ما ليرتجف حسرةً له كما ما يفعل دومًا، يتخبط في الحزن ناح أصغر الأمور.

وقد لاحظت ذلك الرتم الذي يتبعه عقلي، تحويل كل شيءٍ في يومي إلى معالم تبعث على الأسى بطرق لم أظنها معقولة حتى. أخذ يبعث فيَّ شعورًا بالضيق ناح أغلب الأمور حتى تلك التي أحبها.

يلازمني عند استحضار الذكريات أو حتى عيش اللحظات الراهنة. يلتفُ حولي وأنا وحيدة أو حتى وأنا بين عددٍ لا يعد من الناس. يجعلني أرى وكأن كل تفصيلٍ من حياتي يستحق أن أنطوي على ذاتي لأجله وكأني ورقة بالية.

في مرةٍ عندما فاض بقلبي الكيل وشعرت به يثلج صدري، لم يسعني سوى الانصهار ضد كتفك عندما لم أجد تبريرًا. انزلقت يدك دون توقف ذهابًا وإيابًا على ظهري، بينما أخبرتني أنني أملك قلبًا رهيفًا لا يسعه إلا أن يحنّ لكل أنينٍ تطلقه هذه الحياة.

'القلبُ عبءٌ ثقيل'
قلت بين خصلات شعري مذكرًا إياي باقتباسي المفضل لديانا وين جونز، والذي كنت أعلقه على خزانتي في المدرسة وتسألني عنه في كل أسبوع تقريبًا عندما يكون أحدهم قريبًا فقط لمعرفتك بكم متعتي بالحديث عنه. لم يسعني إلا أن أقهقه في تلك اللحظة وأنا أقابل نظرك من فوق كتفك و أشعرُ أن الشتاء الذي احتلني كعاصفة قبلًا قد افتقد الربيع فجأةً.

ولمرة أخرى تلو الأخرى، عدت للمنزل بشوشة وكأني عدت لهدنتي المضطربة مع عقلي.

وعلى الرغم بأنني أظن أن تعاطفي مع هذا العالم أمرٌ لا مفر منه، وأنني معتادة عليه منذ طفولتي، إلا أنني أعلم بأن ما أمر به راهنًا لا بد أنه مختلف. شيءٌ لم أعهده في نفسي من قبل.

لأنني أشعر وكأنني لستُ ذاتي إن كنت تفهم ما أرمي إليه، أو على الأقل أنا فقط لا يسعني الوصول إلى تلك المنطقة من عقلي التي كنت أستطيع فيها تسوية كل شيء.

أنا في هذه الأيام ومنذ أن بدأت مشكلتي هاته لم يعد بإمكاني التعامل مع أي أمرٍ دون الشعور بأنه يلجُ قلبي حتى لُجته. أعرفُ الحزن وأعرفُ اليأس وأعرفُ الخوف، لذا أعرفُ على وجه اليقين أنا ما أمرُ به ليس أيًا من ذلك على وجه التحديد والخصوص.

سأشعرُ بكل ما أمر به طول اليوم حتى أعمق نقطةٍ فيه، سأصلُ بأفكاري إلى أكثر الزوايا عتمة، ولن أستطيع مهما حاولت المضي قدمًا تاركةً خلفي ما يخالجني. وهذا ما يجعلني أعلم أن ما أمر به غير اعتيادي.

أنا أشتاقُ لقدرتي على الاستمتاع بأصغر اللحظات دون أن أركز نظري فقط ناح نهايتها. أشتاقُ للاستيقاظ صباحًا دون شعوري برئتي تتقلص بالسوء قبل أن يتضح نظري حتى. أشتاقُ لرغبتي العارمة بتجربة الكثير، أشتاقُ للسلام الذي كنت أعيشه مع ذاتي والعالم.

أنا أفتقدُ كوني بخير.

أنا بالفعل أفتقد كوني أنا، برضاي العارم ناح الحياة وقسوتها ورغبتي بتغييرها لا القنوط منها.

لكني أعلم بأن على هذا أن ينتهي في نقطةٍ ما. لا يمكنه فقط الاستمرار هكذا، أيمكنه؟

علي أن أتأكد بأنه سيفعل يومًا ما، لأنني أتطلع شوقا لحياتي والأمور المتعلقة بها و التي تجعلها هي. أفتقد كتبي التي لم أنهي قراءة أيٍ منها بسبب ضيقي، وأفلامي التي كنت أتركها واحدًا تلو الآخر لأنني لم أستطع رؤية أحدهم يعاني فيها ولو لثانية.

على هذه الأفكار والمشاعر أن تتركني وترحل وربما حينها سأتوجه للجامعة، وسأعيشُ تلك الأيام بالطريقة التي لطالما تمنيتها.

عليه أن يفارقني وربما يومها سأقرر أنا أن آتي إليك، وسأعطيك شيئًا مقابل معطفك الرمادي العبق بعطرك الثمين و الذي تركته على كتفاي عندما ودعتني في المطار وأنت تُسرُّ في أذني قائلًا بأنك تنتظرني. لربما عندها سأقرر أن أضع وأخيرًا اسمًا على ما نكونه وما يجري بيننا من عواطف.

أنا أفتقدك جاي، وعلى الرغم بأننا لا نتوقف عن تبادل الرسائل النصية كل يوم، إلا أنني أرغب بقول هذا هنا. لأنه الشعور الوحيد الذي رغم دمامة ظاهره، لا يجعلني أرغب بالهرب.

كن بخير، وأرسل لي المزيد من الصور إذا كنت تملك!

مع حبي، هيونجو.

___________

مرحبًا! جيتكم بونشوت خفيف (مو مرة) لجاي 😔❤️

استمتعت وانا اكتبه وحسيته كمتنفس، وحبيت اشارك، ومثل مو شايفين على صورة رسالة مع اني قلت اني معاد اجرب أدب الرسائل لني فاشلة فيه :')

وطبعًا اكيد لاحظتم الرومنسية والرخص كنها دراما. رخص هاي كلاس بلا شك😭

الرسمة الرهيبة من حساب _reemjunior_ في الانستغرام.

شكرًا لقراءتكم واتمنى أنه اعجبكم وكان ممتع.

كونوا بخير💕

Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top