الفصل| 4
●●●
لطالَما قرأ عن السحر وقصص الخيال في الكتب، رغم أنه ليس من النوع الذي يصدق تلك الأمور باعتبارها للأغبياء الحالمين.
لم يصدق ما تراه عيناه خلف الباب من شقٍّ فيه، حيث بدأت جروحها تلتئم بهدوء وبنفس الوقت، بينما أشعة الشمس المتسللة من النافدة تنعكس على بشرتها البيضاء الناصعة.
اندفع إلى الدَّاخل يلهث، فاستدارت بذعر تغطي ما يلزم تغطيته من جسدها بيدين مرتجفتين، لا تدري أيُّ الصَّدمتين أعظم من الأخرى، أهي جروحها التي التأمت، أم دخول الملك عليها فجأة.
"جلالتك.."
نطقت بتردد تضمُّ غطاء السرير إلى صدرها، قبل أن يشير بإصبعه نحوها.
"ماذا تكونين بالضبط! من أنتِ؟ "
انفعل بنهاية كلامه يحدق بعينيها اللتين تتفحصان وجهه المصدوم والحائر، هل هذا نفسه بيون بيكهيون الشخصية التي حافظت على ملامح جامدة طوال قصتها؟
"أنا أخبرتك، حاولت إخبارك، أخبرتك أنني لست هنا بإرادتي."
تقدم أكثر، فانسحبت إلى الوراء ببطء، حتَّى تعثَّرت بالغطاء الطويل وسقطت أرضا.
"أنا لست ساحرة أو شيء من هذا القبيل صدقني أرجوك، لا أعرف بهذه الأمور حتى، و لا أعلم ما الذي يحصل لي."
رفعت يديها دفاعا عن نفسها، ولكن لا حياة لمن تنادي، إذ مدَّ أصابعه، وحاول إبعاد الغطاء حتى يكشف عن ذراعها و يتأكدة مرة أخرى ممَّا رآه، ظنًّا أنه يهلوس، أو أنَّ الأمور اختلطت عليه، لفرط التعب والعصبية.
"سيريم لقد عُدنـا."
دخلت مينا مع الحكيم، وبمجرَّد ما انتبهت لوجود الملك أسقطت الأعشاب التي كانت تحملها بالسلة، فانحنيا سويًّا للملمتِها.
سيريم كانت منكمشة حول نفسها، حيث يبدو عليها الخوف، أما بيكيهون فقد وضع يديه خلف ظهره ثم بدأ يتجول في الغرفة.
"تنبعث رائحة الرطوبة من هذه الغرفة، وقد تسببت لي في الحساسية بينما أمر من هنا. "
حمحمَ ينوي الرَّحيل، فأفسح له الوافدان الجديدان المجال للمرور.
"أكملا عملكما، وأخبريهم أن يُسرعوا في إعداد العشاء أريد تناوله قبل الوقت اليوم."
"أمرُك مولاي."
انحنت مينا ثانية، فيما خرج وأغلق الباب بقدمه بقوة حتى سقطت الصور المعلقة داخل الغرفة على رأس سيريم التي تأوهت بانزعاج.
تمتم:
"تبا."
تنفَّست سيريم الصُّعداء بمجرد خُروجِه مِن الغرفة وبقائها على قيد الحياة، ليس لشيء سوى لأنّه لم يشأ أن يبدوَ كالأبله لو كان اندِثار جروحها مجرد وهمٍ مِن وحي الإرهاق، هُو مرهقٌ للغاية، شُؤون المملَكة تستنزِفه لاسيما وأنَّه أقامها بيديه دونَ معونة أحد، وأبى أن يُشارِكه الحُكم أحد!
الآن قُبالَتها مشكلة أُخرى، فأنَّى قد تُلهي هذين الاثنين عن إصابتِها، فكَّرت لوقتٍ طويل قبل أن تهرعَ إلى مكانِ وقوفِهما، حيثُ انحَنى كلاهما يلتقطان الأعشاب، والمساحيق الَّتي ملأت الأرضيَّة، إذ أفلَتتها الفتاة ذُعرًا مِن بيكهيون.
لاحظَت مينا أنَّ الألوانَ قد انبَثقت بوجهِها، كما انتظَمت أنفاسُها، وغدَت حركتُها أخفَّ مِن ذي قبل، لكنَّ ذلِك لم يمنَعها مِن التذمُّر بينَما تقبِض على مِعصمِها.
" سيريم ما الَّذي أقامَك مِن الفِراش وأنتِ مريضَة؟ استَلقي ونحنُ سنتكفَّل بالباقي. "
تحتَّم عليها اختِلاقُ كذبةٍ مُقتنِعة لتفسيرِ شِفائِها المُباغِت، والتهرُّب مِن الشُّكوك، إذ رمَقتها بمُقلتين هِلاليَّتين.
" أنا بخير حقًّا، إصابَتي ليسَت سيِّئةً كما تخالين، لقد كانَ الملِك رحيمًا معي رغمَ أنّي اقتَرفت خطأً لا يُغتفر. "
لم تقتنِع مينا بكلِماتِ الأُخرى رغمَ أنَّ ملامِحها تُوثِّقها، سُرعانَ ما حمَلت الصَّحن الفضيّ الَّذي يرقُد فيه المَسحوق وجاهَرت.
" هل تُصدِّقينَ ما تقولينَه؟ مُنذ لحظاتٍ كُنت تحتضِرينَ غيرَ قادرة على تحريكِ ساقيك. "
دَنت مِن أذنِها وهمَست حريصةً ألَّا يسمَعها الحَكيم.
" كُنت أمثِّل فقط حتَّى أكسَب استِعطافَ الملك، وأُعفى مِن العذاب لو أنَّه فكَر بصبِّ المزيدِ عليّ. "
ضيَّقت مينا جفنيها مُشكِّكَة في صحَّة مقولتِها، لكنَّها سُرعانَ ما تنهَّدت واجترَّتها إلى السَّرير، أمَّا الحكيم فانصَرف بعدَ أن أتمَّ إلقاء تعليماتِه حِيال طريقةِ استِخدامِ الدَواء، والمُصيبةُ الأعظمُ أنَّ مينا كانت مُصرَّة على دهنِ ظهرِها بمرهمِ الراوند شخصيًّا.
"آه أخبرُك أنني بخير، أعطيني إياه سأضعه بنفسي، ليس و كأنني معاقة أو شيء من هذا القبيل."
بدأت في محاولة أخد الدواء من مينا التي رفعت يدها عاليا وحملقت بها بصدمة، فهي تبدو بخير تماما دون أيَّة علامات تدل على أنّها تعرضت للضرب المُبرح.
تنهدت عندما لمحت إصرار سيريم التي احمرَّ وجهها من التوتر والانتظار، فمدت لها صحن الدواء ووقفت على مشارف سريرها.
"هيا ضعيه و نامي، سأذهب للعمل."
أومأت سيريم بابتسامة مصطنعة قدر الأمكان، وفور خروج الأخرى تنهدت براحة، لكنها اقتحمت الغرفة فجأة، حيث فتحت الباب بقوة جعلتها تقفز في مكانها بذعر، قبل أن تردف.
"ارتاحي حسنا؟ إياك وأن تغادري سريرك."
أشارت لها بأنها تراقبها فهزت سيريم رأسها وقضمت شفتيها، أغلقت الباب خلفها وجلست مقرِّبة صحن الدواء من أنفها حتى تشمه، ثم وضعته أسفل السرير بتقزُّز ونهضت تفتح خزانة الملابس.
بدأت بالبحث بينَ ملابس الخادمات الرثَّة عمَّا قد ينوبُ عن فستان نومِها الممزَّق، والَّذي أسماه الملِك الموقَّر ملابس داخليَّة، انتقت أحدها بعشوائيّة مذ أنَّها متشابهة، وارتدته على الفور، حذرةً من أن يدخل سخص آخر للغرفة مجددا.
"حسنا سيريم، بما أنك الآن داخل قصتك وقد حصل ما حصل، يجب عليك التوقف عن التحسر والخوف، أنتِ الكاتبة، أنتِ من خلقتِ هذه الشخصيات من الأقوى إلى الأضعف، ولا أحد يستطيع إيذائي حتى لو كان الملك الأحمر نفسه، لأنني هنا من أجلِ حمايته!"
خاطبت نفسها بالمرآة، بينما تحدق بشكلها.
"أنتِ لستِ إحدى الشخصيات الجانبية كالواقع، لا أحد سيمنعك من تحقيق ما تطمحين له، هذه قصتي، و هذا عالمي، أنا من نسجته من خيالي وأنا من سيُكمله أيضا."
رفعت قبضتها في الهواء بحماس قبل أن يقاطعها صوت بطنها دليلا على جوعها، فهي لم تتناول شيئا منذ الحفلة ولا تعلم كم مضى من الوقت أو كم الساعة الآن لكنها تريد الطعام وحسب.
فتحت الباب ونظرت يمينا فيسارا، بيكهيون كان على وشك الكشف عن ملابسها قبل قليل وعيناه الثاقبتان كانتا تتفحصانها بصدمة، لحسن الحظ حضرت مينا والحكيم في الوقت المناسب، لذا عليها تفادي أماكن وجوده قدر الإمكان، حتى لا تقع في ورطة معه وتضطر لتفسير المستحيل بالنسبة لرأسه اليابسة.
خرجت بحذرٍ شديد متوجهة نحو المطبخ على أطراف أصابعها ولكنَّ صوتها غريبًا أعاقها.
" توقَّفي مكانك."
تجمَّدت حركتها، وأغضمت عينيها متمتمة.
"سيدة الخدم."
"إلى أين يا آنسة؟ الملك يريد طعامه على الفور وأنتِ تتجولين بالقصر في أوقات العمل."
"اللعنة لم يكن علي وصف شخصيتها بالقاسية وأنا أكتب القصة."
حكت رقبتها بتوتُّر، ثمَّ أخذت نفسا عميقا واستدارت نحوها مبتسِمة... كانت ملامح وجهها عصبيَّة، وطرفا نظاراتها متصلان بالخيط حتى لا تسقط عن جسر أنفها وهي منشغلة.
"سيدتي، لقد كنت على وشك الذهاب، لكنني أخطأت الطريق اعذريني، لازلت أشعر بالدوار قليلا."
رفعت سيِّدة الخدم حاجبها الأيمن، هي تبلغ من العُمر ستا وخمسين سنة، والجميع يتَّبع أوامرها، هي الَّتي تنظِّم الأمور الخاصة بالمطبخ والتنظيف وتوجِّه التَّعليمات للخدم.
"هذه أنتِ! أليس من المفروض أن تكوني بغُرفتِك بعد معاقبة الملك لكِ على تهورك؟ ثم ما خطب تصرفاتك الحمقاء، إن استمررتِ على هذا المنوال فسأطردك من القصر، هل كلامي مفهوم؟"
صرخت بنهاية كلامها بعصبية واضحة، إذ احمرَّ وجهها من الغضب، وعقدت سيريم حاحبيها.
"لعِلمك، الملك هو الشخص الوحيد القادر على طردي وليس أنتِ."
اتَّسعت عينا سيدة الخدم الَّتي لم يجرؤ أحدٌ على تبادل الكلام معها، فهم ينحنون لها باحترام ويعتذرون ثم يعودون إلى عملهم، لكن هذه المجنونة هنا تحاول شبك الخيوط ببعضها ورمي نفسها بالهاوية.
"كيف لكِ قول هذا بكل برودة أمامي؟"
قبضت على نظاراتها بيدين مرتجفتين.
"سأخبر الملك، وهو من سيتكلف بمعاقبتك، يبدو أهن عِظامك متعطشة للضرب!"
"حسنا لا تنسي إخبار بقيَّة الوزراء أيضا، وخطّطوا لعقوبة مناسبة، الشنق سيكون جيدا!"
هزت كتفيها ثم وضعت يديها بجيبيها وغادرت تتجول في القصر متذمِّرة.
"أنا في ورطة، لقد أوقعت نفسي بورطة، لكن هذه قصتي، والحكم بينَ يديّ، إعدامهم لي يعني عودتي إلى عالمي وهذا سيكون أفضل من تحُّكم تلك العجوز بي..."
بعدَ أن غادَرت المَطبخ الواسِع، استَكشفت مرافِق القصر بانبِهارٍ كأنَّها ليست مَن صمَّمته بأقلامِ خيالِها الدَّاكِنة، انطِلاقًا مِن قاعَة البلاط الَّتي ظنَّت أنها ستلقى فيها حتفَها وُصولًا إلى الحديقَة الَّتي تسكُنها أجناسٌ مختلفةٌ مِن الزُّهورِ والوُرود...
ورغم ضخامة القصر إلَّا أنَّه بدا وبشكلٍ ما خاوِيًا للغايَة مِثل دواخِل ملِكه، فلا شريكَ لهُ فيه سِوى حاشِيتُه، مُستشاروه وخدَمه، لا عائلةَ لتُعمِّره، ولا ضحكات تعبِّقه، عدا ضحكات الخادِمات وهنَّ يغتَبن بعضهنّ البعض بنشوة.
مرَّ الوقتُ سريعًا، وها هُو اللَّيلُ يفرِش ظُلمَته على أسرَّة السَّماء، حينَها فقط اهتَدت إلى الدَّاخِل، حيثُ عادَت إلى الغُرفَة الَّتي وُضعت فيها سابِقًا، لابدَّ وأنَّها غُرفة الخادِمَة سيريم، غُرفةٌ نُسِت إليها بعشوائيّةٍ رُبَّما... مينا لم تكُ هُناك، شعُور الوِحدة حملَها على متنِه إلى المطَبخ رغمَ تجربتِها السيِّئة فيه فإذا بها مُنهمكةً في تقطيعِ الفواكِه ونضدِها بالصَّحن في نسق.
قبل أن يتسنَّى لها مُناداتُها خاطبتها رئيسةُ الخَدم، دونَ أن تتنازَل للنَّظر إليها، مُعربةً عن استِيائِها مِن قلَّة أدبِها.
" الملِك يُريد رؤيتك في غُرفتِه مُنذ أمد، أنتِ مُتأخِّرة بالفِعل ولا أظنُّ أنَّه سيمرِّرها لكِ. "
شهقت سيريم بفزَع.
" ولم لم يُطلعني أحدٌ عن أوامِره؟ "
التزمت الرَّئيسةُ الصَّمت، كذلِك فعلت بقيَّة الفتيات عدا مينا، الفتاة الودودَة.
" لقد أتيتُ إلى الغُرفة بحثًا عنك ولكنِّي ما عثرتُ عليك، لم أستطِع مُبارحة موقِعي طويلًا، آسفة. "
" لا عليكِ، الملِك لطيف وسيتغاضى عن تأخُّري. "
اختَتمت السَّطر بابتِسامةٍ بلهاء ليسَت كنُقطة، بل ككثيرٍ مِن علاماتِ التعجُّب، مِن بابِ الرَّجاء.
ركضَت في سبيلٍ مجهولٍ نحوَ غُرفتِه، إذ قطَعت الممرَّ تِلوى الآخر، مِن ثمَّ صعِدت درجًا حلزونيًّا طويلا بلغت قمَّته بأنفاسٍ لاهثة، وها هي ذا ماثلةٌ قُبالةَ بابٍ خشبيٍّ تملؤه الزَّخارِف، للتوِّ تذكَّرت أنَّها لا تعلَم بأيِّ حيِّزٍ تكمن غرفته.
ورغم أنَّها ما ركَّزت مع الدَّرب الَّذي سلكه الحَرسُ حينَما قبضوا عليها وسحبوها رغمًا عنها إلى السِّجن إلَّا أنَّها دقَّت الغُرفة الصَّحيحة... ربَّما لأنَّها الكاتِبة لم تحتَج إلى السُّؤال، لأنَّها كوكبٌ في مجرَّتِها العقليَة، لن تتوهَ بالطَّبع!
" مَن؟ "
" أنا الخادِمة سيريم، علِمت للتوِّ أنّك طلبتَني. "
" ادخلي. "
دفَعت البابَ بحذر، ثُمَّ توغَّلت إلى الدَّاخِل وبصرُها يزحفُ على الأرضيَّة لفرطِ الاحتِرام، لن تتحمَّل نوبةً عصبيَّة أُخرى مِنه، حتَّى وإن اختَفت جُروحها عقِب وقت قصير فهِي قد تألَّمت بشدّةٍ عندما كانت تُنقَشُ بجسدِها.
ما استَطاعَت مُقاومةَ فُضولِها حِيالَ ما يفعلُه، فاختَلست النَّظر إليه مِن فوقِ أهدابِها... كانَ مُستلقيًا على السَّرير وساعِده متَّكِئ على جبينِه بإرهاق، لكنَّه سُرعانَ ما استَقام.
" أرى أنَّك على خيرِ ما يُرام رغمَ أنَّ يدي ما تزالُ تُؤلِمني لفرطِ ما نزفته مِن طاقَة مِن أجلِ إركاعِك. "
ازدَردت رمقَها بخوف، ماذا لو طَلب أن تتعرَّى؟
وفي مِثل هذِه اللَّحظات لا يُؤلِّف ثغرُها سِوى الهراء.
" ذلِك لأنَّ جسدي صحيّ، أنا أتناول الخضراوات جميعَها، وأمارِس الرِّياضَة دونَما انقِطاع. "
حلَّقت عدستاها بسمائِه تتحرَّيانِ الطَّقس فيهما، ولكنَّ غمام الشكِّ الرَّمادي لم ينقشِع بعد، ومِن الإرباكِ تلعثمت:
" أقصِد لأنَّك كُنت رحيمًا معِي. "
دَنا إليها خُطوةً فاثنتين وفحّ بارتِياب:
" لا أذكُر أنِّي قد اغتَرفتُ لكِ مِن الرَّحمة شيئًا. "
" في الحقيقة جسدي كُلُّه يُؤلِمني، ولكنِّي شخصٌ لن يرفَّ له جفن إذا لم يُؤدّ مهامَه على أكملِ وجه. "
تجاوَزها ثُمَّ وقَف وراءَها مُشتِّتًا أعصابَها بصمتِه، خشِيَ أن ينتهِك حُرمَة جسدِها مُنساقًا خلفَ ما رآه في غُرفتِها، فيكتشِف بأنَّها قد كانت مجرَّد أوهامٍ صاغَها له الإرهاقُ.
قرّرَ التَّناسي في الوقتِ الرَّاهِن والتَّركيز على ما هُو أهمّ، شكوى رئيسةِ الخَدم الَّتي مسَّت ذاتَ الفتاة الَّتي جلَدها، يكادُ يجزِم أنَّها صانعةٌ للمشَاكل، ولكِن لماذا لم يرَها مِن قبل؟
" أخبَرتني رئيسةُ الخَدم أنَّك عامَلتِها بقلَّة أدب هذا اليوم، هل تتوقينَ إلى جُرعةٍ أُخرى مِن العذاب؟ "
التَفتت نحوَه وفي مُقلتيها طبقةٌ مهتزّةٌ مِن الهَلع.
" لا على الإطلاق، هِي الَّتي بدأت، سأفسِّر لك. "
مدَّ يدَه في الفَراغِ يمنحُها الإشارَة للمضيّ في ما تخطُّه، فاندَفع قُحافٌ مِن الكلِم، مِن حلقِها، وتراقَصت يداها بعشوائيَّة.
" أنا لستُ واشيةً ولا أطمَح لأن أكونَ كذلِك، ولكنَّها مَن اغترَّت بما تملِكه مِن سلطة، وأساءَت استِخدامَها، مَن هِي لتُهدِّدني بالطَّرد، في حينِ أنَّك صاحبُ القرار الوحيدِ في هذا القصر؟ كُلّ ما فعلتُه أنِّي وضَّحتُ لها مكانَتها، لا غير. "
كان يتفحص حركاتِ يديها العشوائية بينما تتحدث، وكأنها تحكي واقعة ما لأحد الأشخاص بنفس مرتبتها.
كما لاحظ أنها لا تعرف آداب الحديث، فتخرج عن السيطرة وتنظر له مباشرة أيضا، وهذا يجعلها مختلفة عن بقيَّة الخدم الذين يُطأطِئون رؤسهم ويتحدثون بنبرة محترمة.
حتى لهجتها مختلفة قليلا وهذا جعله يشك بأنها ليست من المنطقة.
تركيزه الشديد على تحركاتها جعله يتجاهل ثرثرتها دون إبداء رأيه حيالها.
"كيف هي علاقتُكِ مع الكُتب؟"
"ماذا؟"
أجابته بسرعة وبلاهة، فهو قاطعها بسؤالٍ عشوائي لتحسب له حسابا، ليس وكأنها لا تعرف الإجابة لكنها كانت متفاجئة.
"أنا أحب الكتب كثيرا."
اتَّجه نحو سريره بسكون مريب.
"سألتك عن علاقتك بالكتب لا ما تحبين وما تكرهين."
أليس نفس الشَّيء؟
رمشت مرتين قبل أن تتَّخذ قرارًا بالردّ، ولكنَّه سبقها قائلا:
"هل تعرفين طريقة تنظيمها، حسب الحروف والأرقام والسنوات، أنواعها وأشكالها و لوانها، وتنظيفها حتى تظل أوراقها جيدة!"
هزت رأسها بالإيجاب، ولكنَّه رفع حاجبه بانتظار إجابة لفظيَّة.
"أجل جلالتك أنا على علم بكل ما ذكرته."
بصفتها تحب الكتابة وكل ما يتعلق بالكتب، هي كانت تزور المكتبة كثيرا وتعلم جيدا كيف يتصرفون معها للحفاظ عليها.
"جيد، من اليوم فصاعدا سيكون عملكِ هو تنظيف المكتبة كل مساء، يمكنك المغادرة."
ظلت واقفة تحاول الاستيعاب، ثمَّ انحنت وهمَّت بالرحيل، هي لم تعتد على سير الأمور هنا بعد.
استدارت نحوَه فجأة.
"ماذا عن الصباح، إن نظفت المكتبة في المساء فماذا سأفعل في الصباح؟"
"هذا إن أنهيتِ التنظيف في المساء."
بينَها وبينَ نفسِها نعتته بالبَغيض، ثُمَّ أسهَبت في التّجوال بينَ تقاسيم وجهِه المِثاليَّة، غيرَ مُصدّقة أنَّها قُبالة كيان هي التي حاكته، بخيوطٍ مِن همومها المتينَة، ما هِي فيه أشبه بالخَيال!
وما كانَ ليغفل عن تدقيقها له، رغمَ أنَّه مِن المَمنوعات، بالأصحّ ما بادَرت به أيٌّ من نساء القصرِ أو رجاله، ولا حتَّى مُستشاريه بالاسم-مُذ أنَّه وعقله لا ثالِث لهما- قبل أن يشرَع في توبيخِها اجترَّت أذيالَ فضولها خارِج هذِه الغُرفة.
اتَّكأت على الحائِط تُعيلُ جسدَها المُتخاذِل، وطبطبَت على صدرِها بخفَّة، تعجزُ اللُّغة عن وصف الرُّعب الَّذي تبوحُ بِه مُقلتاه، كأنَّه ملكُ الموتِ يستلُّ سيفَ الويل لنحر أنفاسها.
بعدَ مدّة اتَّجهت إلى المَكتبة، كانت قدماها تتحرَّكان بتِلقائيَّة كأنَّهما على أُلفَة بالمَكان، ويا لِكِبرها، حتَّى أنَّها أكبَرُ مِن بني نسلِها أجمَعين، وحقيقةُ أنَّها المُكلَّفة الوحيدَة بترتيبِها هتَكت بها!
لم تدرِ أنَّه قد عنَى القِسمَ الجَنوبيَّ فحسب، حيثُ يمكُث غالبيَّة الأوقات، هُو البُقعةُ الوحيدَة الَّتي لا تطالُها أنامِل الخَدم، إذ يحبِّذ الحِفاظَ على حبِّه للقصص العاطفيَّة سرًّا، ومُذ أنَّها على اطِِّلاعٍ بِه كانت لُقمةً سائِغة لأوامره...
بعدَما فرَغت مِنه زحَفت نحوَ القسم الشَّرقيّ، وسامَرته لساعتين أُخريين، ما تزالُ تعلو السلَّم، وبيدها قِطعةُ قماشٍ لوَّثتها الأغبرة.
" ما الَّذي تفعلينَه عِندك؟ "
هتَفت بصدمة.
" جلالتك!! "
تعثَّرت كلِماتُها بالتوتُّر ولكنَّها سُرعان ما استقرّت.
" لقد أخبَرتني أن أنظِّف المَكتبة، وها أنا ذا طوع أوامِرك. "
دحرج عيناه ذاتَ اليمينِ بتبرُّم قبلَ أن يحطَّ على برِّها المُفعمِ بالتَّساؤُلات.
" هل أنتِ غبيَّة لتظنِّي أنِّي قد أوكِلك بتنظيفِ المكتبة كُلِّها؟ حتَّى ولو نزفتِ كامِل أنفاسِك يستحيلُ أن تُنجزيها لوحدِك. "
" لستُ غبيَّة، ولكنَّك شخصٌ لا يرحَم، وتنظيفُ المكتبة أقلُّ ما باستِطاعتِك إلقاؤُه. "
ما تفطَّنت لمَدى وقاحتِها أمامَ الملِك إلَّا بعدَ فواتِ الأوان، وبينَما هِي تُحاوِل إعادَة الكِتاب في يدِها إلى الرفِّ الَّذي يفوقُ طولَها مُضافٌ إليه الكُرسيّ بيدٍ مُرتعِشة وقَع الكِتابُ المُجاوِر له عليها، بُغيةَ تفاديِه تزحزحت بخُطوة، ولكنَّها تعثَّرت بأطرافِ فُستانِها الطَّويل، وحلَّقت في الهَواء، مطلقةً صيحةً مُستنجِدة.
في لحظات سقوطها القصيرة راوَدتها رُؤيَا غريبة، كانَ ثمة ثُعبانٌ يتلوَّى على فِراشٍ الملِك الأحمَر، اقتَدرت أن تُميِّزه مِن خِلالِ الزَّخارِف الَّتي تعتَريه، ما لبِث بيكهيون وأن استَلقى عليهِ جاهِلًا عمَّا ينتظِره، فالتفَّ حولَ عُنقه يخنقه، حينئذٍ شهَقت بفزع كأنَّها ابتُلِعت ولُفِظت خارِج اللَّاوعي فجأة.
ولحُسنِ الحظِّ أنَّ بيكهيون تغاضى عن صفاقتِها ولقفَها بينَ ذراعيه...
حينَما طال انتِظارُها للألَم فتحت جفنيها، ورأت وجهَ بيكهيون على مقربةٍ من وجهِها.
" أحدُهم يكيدُ لكَ. "
تمتمت قبل أن تفقِد وعيَها بثوانٍ.
-
نانا 🎤~
هاايي سويتتيييزززز، تأخرنا هالنرة ثاني صحح سوري😭
المهممزز أتمنى تكونو إستمتعتو بالفصل و أعطونا توقعاتكم للفصول الجاية🌚
في كثيير أحداث جاية أنتظرونا👺🌶
مرحبا بالفراشات الجميلة 😂
الكسل الربيعي بلش يصيبني انا ونانا تاخرنا 😂😂😂😂
شو رايكم بالفصل!
اكثر جزء عجبكم ومعجبكم!
بيكهيون!
سيريم!
مينا!
ما سر الرؤيا التي راودت سيريم!
اهي حقيقية ام لا!
ومن قد يكيد لبيكهيون!
الفصل القادم بعد
180 فوت
200 كومنت
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top