6| غريبٌ في المنزل.

لا يظن فيلكس أنه يعلم بالتحديد متى أدرك الشعور المتعلق بكونه غير مرغوبًا فيه. متى بالضبط حدث أن أدرك بأنه لم يكن مهمًا كفاية في هذه العائلة، وأنه ثقلٌ باغٍ لا غير.

الأمر يبدو وكأنه منذ الأزل، منذ أن بدأ وعيه باكتساب القدرة على تقفي المعاني التي تشبه كلمةً كالأزل. منذ أن أصبح قادرًا على أن يتتبع انتهاء الأيام وبزوغ الفجور، منذ أن أصبح يملك رؤيةً لخوافي الكلام ووضوح المشاعر فوق الوجوه.

في وقتٍ ما، أدرك أنه هناك، في المنزل ها هناك. الحوائط العالية، الأضواء المتدلية، الغرفُ المصفوفة، الممرات المفروشة، السقوفُ المدهونة، كل ذاك هناك، مع أفراد عائلته المألوفة. لكن الانتماء لم يكن هناك، لم يكن في أي بقعةٍ من الأرجاء.

متى بالضبط أخذ يحدق في التجمع اليومي لأفراد أسرته ويعلم أنه ليس عليه الاقتراب؟ لا يعلم. كيف أخذ يتجنب مقعده على المائدة الداكنة المنفرجة؟ لا يذكر. كيف أخذ يحزم رأيه بعدم مرافقتهم لأي رحلة شاطئ في سيارة الجيمس الوارفة الخاصة بجده وسحب ذاته إلى ظلال غرفته بوجوم بينما يراقبُ تذبذبهم في أرجاء المنزل لجمع المستلزمات؟ هو غير متأكد. ما هو بواثقٍ منه، هو أن هذا يبدو مستمرًا منذ زمنٍ بعيد، وما هو أيضًا بعالمه، أن تلك الخيارات هي الأفضل للجميع.

ولربما يلتوي قلبه في كل مرةٍ يشعر فيها أن ما يفعله هو الصواب، وأنه ما يرغب به الآخرون، أن هذا برمته هو المسار الأفضل للأحداث، وهو ما سيوفر الكثير من المشاعر المتورمة من السقوط والتدحرج بين أقدامهم بندمٍ وتيه.

لأنه لم يرغب بتقبل هذا، بالتمسك بفكرة أن ابتعاده عن دائرة أسرته هو الأفضل، لم يتطلع إلى رؤية كيف أصبح كل نفسُ هواءٍ أقل احتشادًا بالكهرباء القلقة, كيف أن كلُ شيءٍ أخذ يصبح أقل فتورًا, وكيف أن الحديث الذي يفتعله الجميع لا يبدو مغصوبًا كالعادة.

ليس وكأنه قطع وجوده فجأة, هو لم يختفي متراجعًا إلى الظلال كروحٍ عتيدة وحيدة, لكنه حلق في الأرجاء كالشبح الذي يقرر الجميع التعايش مع سكنه الطويل للممرات الضيقة, الغرف المنارة, والمطابخ الدبقة. كما أن الشبح الشاحب بذاته قرر تقبل إقرار الجميع بانبعاثه و التعامل مع تواجده الغير مرغوب لكن الحاضر.

ومع أسئلة كمنذ متى بدأ كل هذا, قد يتبادر للذهن سؤال كمثل, لماذا كل هذا في المقام الأول؟ لما الأمرُ برمته يستمر بالاحتراق رغم انحلاله إلى رمادٍ منذ وقتٍ طويل مضى؟ ما الذي يدفع الجميع لعدم الإتيان بأي حركة لجمع كل ما آل إلى هشيمٍ مسبقًا؟ من أي سببٍ بدأ كل هذا؟

ومجددًا, الكثير من الأسئلة, لكن ليس هناك أي إجابات. أو ربما هناك, في الواقع إنها الإجابات الوحيدة المعلقة فوق كل تفصيل منوط بهذا المنزل. لماذا يوجد هذا الشرخ الواسع الذي لا يندمل أبدًا, ويستمر بالتقهقر تزامنًا مع كُل انقلابٍ سمائي نهارًا ومساءً.

ومع أن الإجابات هناك, ومع أنه في فترة ما عندما كان أصغر سنًا, وأكثر اشتعالًا بالتطلع المتفجر لمعرفة سبب كل هذا, كان يتقفاها من الأرجاء وكأنه الليل الباحث عن أخر لمسات الضوء الخافت في أمسيات الشتاء الطويلة. إلا أنه مع مرور السنوات, ومع كل عامٍ يعدو فيه نحو المزيد والمزيد من عدم الفهم الجنوني للحياة, فهو أخذ يتخلى أكثر وأكثر عن محاولة الفهم, بل بات يحاول الأخذ بيد الإقرار هذه بكل استسلام. لأن الأمر كان ألين بتلك الطريقة, أو هذا ما يستمر بمحاولة الاقتناع به.

لأنه لم يسأل يومًا, ومهما أراد أن يرمي بكارثته المحترقة من التساؤلات نحو جديه وعماته وغيرهم, إلا أنه لم يتجرأ يومًا, لأنه لم يرغب بأن يدمر الأمر أكثر, ولأنه مهما فكر بعقبات ما سيحصل بعد انفجاره, فهو لم يتخيل أي تغيرٍ حقيقي سيحدث بصدق لينقذه من دوامة شعوره بالنبذ.

إنه عسير, لطالما سيكون عسيرًا على فتىً صغير فهم سبب وجود حلقة مفقودة في ديناميكا أسرته الوحيدة. الاختلاف الذي يشعر به والتبريرات الموجودة ولكن غير المقبولة.

لربما أكثر مرةٍ يذكر فيها شجنه المتعلق حيال الأمر بكلٍ حرفٍ يحويه وبكل لمسة تركها فوق شرايين قلبه, هي في ذاك العصر الذي كان فيه في الثانية عشر. وهو يذكر تلك الحادثة البسيطة بكل ما فيها لأنه يظن أنها كانت أول مرةٍ يعي فيها إلى أي مدىٍ كانت حياته الأسرية غريبة وغير مفهومة.

بعد المدرسة, قرر هو وبعض زملائه أخذ الطريق الطويل للشارع الواسع أمام مدرستهم وحتى البقعة الفارغة التي كانوا ينوون الذهاب للتزلج فيها. ظل زميله جايكوب الذي كان منتقلًا حديثًا إلى شعبتهم يتحدث عنها طول النهار منذ أن وصل إلى الفصل وبغضون بضع ساعات أصبح صديق الجميع في الصف. وعدهم بأنها مكانٌ لا يشغره شيء بعيد عن باقي أرجاء المدينة وسيكون حلبة تزلج ممتازة فارغة لا يعرف عنها أي من باقي المراهقين الأكبر سنًا والذين يستمرون بالسيطرة على باقي البقاع المناسبة للتسكع في الحي.

وبالفعل كانت, بين عجلات السيارات العملاقة, عربات التسوق الصدئة, و الأرض الترابية الجافة. كانت أرضٌ شاسعة مسدولة أمام عينيهم بكل مافيها من اتساع وفراغ.

وعلى طول فترة العصر, استمروا بالالتفاف في الأرجاء. هو لم يكن يملكُ لوح تزلجٍ حتى, لكن جيمي, أحدر رفاقه, عرض عليه أن يتبادلا الأدوار فوق اللوح. لقد تملكته الغبطة واستمتع كثيرًا بينما استمر في اللعب مروراً فوق دقائق العصر التي يكون غالبًا قد وصل فيها إلى المنزل في أي يومٍ عادي, ومع ذلك فهو لم يفكر بالأمر كثيرًا. ليس متأكدًا لما, لكنه لربما في تلك السن وفي تلك الأمسية بالذات لم يشعر بأهمية العودة بعد أو ما قد تعنيه. لكن على اليد الأخرى, فإن جيمي لم يكمل ساعة من اللعب قبل أن بدأ يسمح لعلامات القلق باكتساح تفاصيل وجهه المتغضنة بالطفولة. ظل يشرد ويحدق بالباقين بندم, كما أنه استمر بتفقد الساعة في معصم أحد الصبيان بين فينة وأخرى.

عندما سأله فيلكس عن الخطب وهو يعتلي اللوح بحذر ويحاولُ جاهدًا أن يتوازن عليه بينما يشقُ طريقه في دربٍ دائري, فإن جيمي قد زم شفتيه وحدق بالأرض. طال صمته بينما استمر بتفقد باقي الفتيان الغارقين حتى أخمص قدميهم بالمتعة, ويبدو مترددًا بشدة وإن كان يرغب بالحديث. لم يرغب فيلكس باستعجاله, لكنه سأله عن سبب استمراره بتفقد الوقت.

"لقد تأخر الوقت, ألا تظن؟"
تمتم بصوتٍ بعيد بالكاد سمعه فيلكس حتى عندما كان قد اقترب, وردًا على علامات التعجب التي تراقصت فوق عينيه فإن جيمي أردف:
"أعني نحن عادة نكون في المنزل بهذا الوقت, أليس كذلك؟ لم أخبر أمي حتى أنني سأذهب إلى أي مكان بعد المدرسة."
وبدا وكأن لسانه يرتعش بعار مع كل كلمة, كما لو أنه يندم على كونه تحدث. وهذا ما استوعبه فيلكس رغم أنه لم يفهمه. لا بد أن جيمي ظن بأن الأولاد الباقين كانوا سيلقون بعليقاتٍ قاسية ردًا على جبنه و طفوليته أو أيًا من ذاك القبيل.

ومع أن فيلكس لم يتوقع ما أفصح عنه جيمي من مخاوف, إلا أن خيوط التوتر التي كانت تتدلى من تقاسيم رفيقه كانت كفيلة لتعرقل متعته وتدفعه للتوقف عن الحركة متصنمًا فوق اللوح مرةً واحدة وبسرعة.

هو لم يفكر حتى لثانية بما سيحدث تباعية لكل هذا, لم يفكر بكونه عادةً يعود حالًا إلى المنزل بعد المدرسة. لم يتخيل تقاسيم وجه جدته الغاضب أو عمته قلقة, مزامنةً مع جيمي الذي هو متأكدٌ من أنه يرى صورة أمه تتلقلق أمام عينيه الآن بخوفٍ من ردة فعلها. بل نسي الأمر برمته مع أن وقتًا طويًلا مر بالفعل منذ موعد وصوله المعتاد إلى المنزل.

لم يقدم ردًا, بينما ترجل من فوق اللوح قبل أن يحمله ليسلمه إلى جيمي. وأشار له إلى ذات الطريق التي قدما منها سابقًا عندما قدما مع بقية الفتيان. بدأت أمواجٌُ من الراحة بالتلاطم فوق تعابير رفيقه عندما رأى أنه لني ينسل بعيدًا عن هذه الجميعة كالجبان, ولوحا لبعض الصبيان بينما سارا سويًا مبتعدين وجيمي يتأبط لوحه الثمين وذعره يزداد مع كل ثانية لكون أدركه لما فعل يغوص أكثر فأكثر في وجدانه.

عندما وصلا إلى المنزل, فإن ردة فعل والدة جيمي لم تكن سيئة بقدر ما توقعاها, لكن سيئة على أي حال. عندما حطت أقدامهما على الشارع الطويل المتصل حتى فناء منزله المسدول بالعشب الأخضر, فإن الوقت الذي كانا قد تأخرا فيه كان قد أكمل الساعتين. وقت طويل كفاية ليسبب مشكلة بطريقة ما.

لم تبدو غاضبة بقدر ما كانت مرعوبة, واقفةً أمام باب المنزل وهي تحمل مفاتيح سيارتها وهاتفها تخاطبُ أحدًا على ما يبدو والد جيمي. حالما رأت الجسدين الصغيرين يقتربان اكتفت بالهرع بنبس شيءٍ ما إلى الشخص في الجانب الآخر, قبل أن أقفلت الخط وخطت ناحهما شبه عادية.

دفنته داخل ذراعيها بسرعة. تصنم جيمي وكأنه لوحه الذي كان لا يزال يحمله ولم يعلم ما يتوجب عليه قوله. لم يستمر الحضن طويلًا على كلِ حال, إذ أنها ابتعدت لتحدق في عينيه. ومن هناك بدأت الدوامة العاصفة من الأسئلة المتضايقة والاعتذارات المستمرة مع جيمي عن أرض اللعب وعدم انتباهه للوقت وعدم امتلاكه النية لإقلاقها.

لطالما ذكر جيمي كون والدته امرأة قلقة, تخاف عليه كثيرًا. لربما هو لم يكن يتحدث بحرفية عن الأمر لكن المواقف التي كان يتحدث عنها جيمي, بل وحتى شخصيته المذعورة غالبًا كانت تفصح بشكلٍ ما عن كل ذلك. بل إن جيمي كان يملكُ حتى هاتفًا نقالًا خاصًا به كأحد الفتيان القلة في عمرهم, فقط لأن والدته تستمر بالاتصال متفقدةً أحواله في كل مرة يخرج فيها من المنزل لأي سببٍ كان.

حتى دون الرجوع إلى كل تلك التحفظات التي تتمسك بها والدته حول سلامته, فإن رؤية أي نوعٍ من الأشخاص هو جيمي, الفتى الذي يفكر مليًا قبل أي شيء متهور يقومون به بالمدرسة, أو أي لعبة عنيفة يختلقونها, فإن فيلكس يستطيع أن يرى بوضوح الأغصان العديدة لشيم والدته المتدلية منه.

بعد المزيد من التوبيخ, التفتت له والدة جيمي سائلة عما إذا كان هو أيضًا لم يخبر أسرته عن عدم قدومه في المعياد إلى المنزل, ولم تقتصر كثيرًا في تأنيبها له أيضًا قائلةً أنه لا بد أقلقهم حتى وصل بها الأمر إلى أن عرضت عليه أن توصله بما أن الوقت قد تأخر, حتى ولو كانت الشمس لا تزال تملك نصف ساعةٍ إلى أن تصل محجرها غربًا.

رفض فيلكس بتهذيب حينها مؤكدًا أن منزله غير بعيد, وودع جيمي قبل أن يسير على طول الشارع بعجل. فهو بعد التفكير بالأمر, بالفعل قد تأخر عن المنزل كما لم يفعل قبلًا. هل كانت جدته تجيء المنزل ذهابًا وإيابًا محدقةً بالساعة المعلقة على حائط المطبخ المرمري؟ هل كان جده يتصل بأحد مشرفي المدرسة ليسأل إذا كان فيلكس قد أفصح عن مكانٍ سيذهب إليه بعد المدرسة؟

لقد شعر فيلكس بتحديقات والدة جيمي على طول ظهره على امتداد الشارع الطويل أمام منزلهم الانيق وحتى أول التفافة. كان مستعدًا لأي توبيخ سيصله في المنزل حالما تحطُ قدمه على العشب في الفناء, لقد توقع كل ردة فعل, إلا أنه رغم كل توقعه, حدث مالم يتوقعه بتاتًا.

لم يوبخه أحد, لم تستجوبه جدته, لم يصرخ فيه جده, لم تسحبه عمته إلى زاوية لتأنبه, لم يحدث أيٌ مما تخيل. ومع أنه كان خائفًا من النظرات المرعوبة التي ستتدلى من الوجوه, لم يعلم أنه سيكون أكثر امتنانًا لكل ذلك مما كان ينتظره بالفعل في تلك الأمسية.

تفقد جدته له من فوق إناء المياه الأصفر الذي كانت منكبةً في سقاية نباتات الصيف الحلوة باستخدامه, لا يستطيع تذكر حتى كون الكثير من التعابير فوق وجهها، لكنه متأكد من أنه كانت هناك هزة رأس طفيفة الزاوية تدل على أي شيء, لربما اعتراف بوجوده فوق ذات الأرض, وكأنها انتظرت فقط لتتأكد أنه سيعود في النهاية وبتلك البساطة. ولربما تعبير ك'أنت هنا الآن؟'

لكنها تحدثت وبصوتٍ خفيض فوق رطوبة الليل والماء المتدلي من النباتات:
"لقد تأخرت."

جده الذي لم تكن سيارته أمام البيت يومها ولم يكن هو بذاته أيضًا فيه. عمته التي كانت تشاهد التلفاز في المطبخ وهاتفها معلق بين كتفها وأذنها منخرطةً في محادثةٍ بطيئة فوق خطه, تلاقت عيناهما لثانية يومها, لقد رأته, لم تتغير تعابيرها قدر أنملة, وأشارت برأسها ناح غرفة الجلوس, ثم عادت تكمل وصفها لكم أن السيدة والتر كانت تبدو غريبة بتنورتها الخضراء في محاضرة التفاضل والتكامل البارحة.

لا ذعر, لا خوف, لا أسئلة. صوتُ التلفاز صاخب كالطنين فوق هدوء وظلام الممر القرمزي, شعر بالقشعريرة مع امتزاج هواء جهاز التبريد المنسل كخيوطٍ نحيلة من الغرفة فوق جسده وخصلات مؤخرة شعره المبتلة بالعرق من اليوم الطويل. أمام مدخل غرفة الجلوس كانت حقيبةُ الظهر الخضراء وكيس الأحذية. فوق أحد الكنبات الكحلية في غرفة الجلوس والتي كانت على الحائط الأيمن والأقرب لشاشة التلفاز, كان هناك جسمٌ منفرج على طول الكنبة المتوسطة, وعلى طاولة القهوة التي تتوسط الغرفة المنظمة صينية يبدو أنها تحملُ طبق طعامٍ فارغ وكأس مياه, مغلفات حلوى, بينما هناك مكيسُ مارشميلو راقد على صدر المستلقي محدقًا بالتلفاز.

حينها وبتلك اللحظة لربما داهم فيلكس وأخيرًا الواقعُ بما حدث. لم يلتفت ثانية قبل أن استمرت قدماه بالسعي ناح الدرج والمشهد يغرق بوجومِ داخل صدره رويدًا. مع استمرار أقدامه بالسير, لحقه حفيفُ حركة في غرفة الجلوس. أحدهم يستقيم من مضجعه فوق الأريكة بعجل, ويلتفت برأسه بينما كيسُ المارشميلو تتناثر حباته فوق الأرض.

"فيلكس؟"
يلحقهُ صوتُ سام من بين الكلمات العالية المنبعثة من التلفاز وثرثرة عمته وعدم الفهم في المتخبط في عقله.

لكن فيلكس لا يلتفت, بل يكمل نحو الدرج, يصعدُ الدرج, ويلجُ غرفته المعتمة التي بدأت إنارة أضواء الشارع بالتسلل من بين فتحات الستارة لتضيء أرضها. وفوق ذاك النور, وظل حشرات العث عند النافذة, هل بكى؟ هو متأكد أنه فعل وأيضًا لم يفعل. هل استمرت نظرة والدة جيمي القلقة بالتهام وعيه باستمرار وكأنها كابوس لا ينفذ؟ بالتأكيد فعلت. هل تردد توبيخها المذعور مرارًا فوق أفكاره؟ هو لا يزالُ يذكر دفنه لرأسه أسفل وسادته للهرب منه.

ومن هناك لربما و من تلك النقطة, أول حفرة في الطريق كانت قد انفسخت. أو على الأقل كانت أول حفرة يراها بوضوح.

^^

هناك مكتبة صغيرة في غرفة جلوس يونغي. لم يتجرأ فيلكس على الاقتراب منها حتى طلب منه يونغي في يومٍ ما الذهاب إليها وإحضار كتاب طهو هو الوحيد فيها. وصف يونغي كونه يملك وجه امرأة للتوضيح بينما كان قد انتهى توًا من تقطيع صدور الدجاج ويبدو وكأنهُ يفكرُ بنظرياتٍ ثورية بينما يحدق بتركيز بمجموعة من التوابل التي كانت أكياسها مبعثرة فوق طاولة المطبخ.

هرع فيلكس إلى المكتبة وقد أخذه الأمر لحظاتٍ ليلمحها في زاوية الغرفة البعيدة ومغطاةً بملاءة زرقاء خفيفة على ما يبدو لحماية الكتب. كان الكتاب واضحًا لأنه لم يكن مصفوفًا بانتظام بل موضوعا أمام صف الكتب خلفه.

الطعام المريح الحديث, هذا ما كان مطبوعًا كعنوان فوق صورة امرأة مكتنزة تبتسم باتساع بينما مغرفةٌ تتدلى من بين أصابعها والبخار من الطبق التي تحمله أسفل المغرفة. أمسك فيلكس الكتاب السميك بحذر بينما عاد به إلى يونغي الذي أخذه بعجل قبل أن يفتحه على الفهرس ثم يطلب بعد ثوانٍ من الأقصر تناول علبة الزعتر من أحد الخزن. واستمر  بالتفكير بالعناوين التي رآها متصافة على الأرفف القصيرة وراء كتاب الطهو. لقد بدت مثيرة للاهتمام فعلًا.

كان يونغي قد عاد من عمله قرب وقت الغروب في ذاك اليوم لسببٍ ما, وقرر أنه سيطهو لهما العشاء بما أنهما مجتمعان سويًا لليلة. وعندما انتهى تحضير الطعام الذي استمر فيلكس بالشعور بمعدته تصرصر وكأنها أبوابٌ تبلغ من العمر عتيًا لرائحته, جلسا على المائدة الخشبية ليستمتعا بالوجبة مع عصير الفواكه الذي كان يونغي قد طلب منه مسبقًا إحضاره صبحًا من سوق البقالة ذاته في نهاية الحي.

بعد السؤال عما فعله الأصغر اليوم وشرحه لكونه قد نظف مروحة السقف في غرفته الجديدة التي واخيرًا أصبحت تبدو أقرب منها لغرفةٍ من مستودع عطن, أعاد يونغي فتح أفكار المكتبة التي تراكضت بعيدًا عن فيلكس حالما شم رائحة صدور الدجاج المقلاة فوق الزيت.

"نسيت إخبارك عنها, لكني أملكُ مجموعة متواضعة من الكتب إن كنت مهتمًا بتفقدها."
أشار يونغي بشوكته ناح غرفة الجلوس, مما أدى بغريزية أن يوجه الأصغر رأسه في ذات اتجاه الشوكة.

"شكرًا لك. تبدو مميزة. لقد رأيتُ اسم كازو إيشيغيرو؟"
باشر فيلكس بالرد بتهذيب, والحقيقة هي أنه ندم مكررًا في عقله أنه لربما كان قد اكتفى بالشكر فقط. بدى كلامه لأذنيه الخاصة مبتذلًا, و كأنه يبحث جاهدًا عن شيءٍ جيد كفاية ليدلقه على مسامع يونغي. ولكن تلك هي الحقيقة, هو لا يزال يشعرُ بأنه لا يملك من الكلام ما يكفي ليحصل على اهتمام الأكبر. أو على الأقل رضاه. الأمرُ ليس مقتصرًا على يونغي, لطالما كان لدى فيلكس ذاك الهاجس من كونه مروعًا مع الكلمات, ولا يملكُ أي شيءٍ جيد كفاية ليلين به الأجواء. وتلك المشكلة تستمر بالتضخم بين جدران منزل الأكبر. لأنه مرغم على الحديث, لا بل هو يرغب به بشدة, ليكون واضحًا بامتنانه ليونغي, ولأنهما يقضيان الكثير من الوقت سويًا. لكنه لا ينفك يشعر بأن كل محاولاته محرجة ومبتذلة كفاية وكأنه غير قادر على انتقاء كلماته.

إلا أن يونغي ابتسم, بخفة وهو يحرك شوكته ناظرًا ناح فيلكس الزام لشفتيه, أعاد اهتمامه إلى طعامه قبل أن يردف:
"أظن أن هناك اثنان من كتبه هناك. هل قرأت له من قبل؟"

ردود يونغي البسيطة التي تجعله يبدو وكأنه قبَصَ الأفكار المذعورة من بين يباب الفوضى الحاصل في رأسك, لا تلبث تستمر بجعل فيلكس يشعرُ بأنه مكشوف تمامًا أمامه. مكشوف قد تبدو كلمة مروعة, لكنها في تلك الحالات تبدو وكأنها كلُ ما يحتاجه, بل هي سببٌ آخر يجلعه يسعد حقًا بقضاء الوقت مع يونغي. فهو يعلم, يعلم كل ما يجب أن يُعلم في تلك اللحظة الراهنة.

"كان لدينا الطبعة الثانية من بقايا اليوم في مكتبة المدرسة, وقد قرأتها منذ عامٍ على ما أعتقد. إن أسلوب كتابته تفصيلي بشدة, لكنه ممتع, لقد أحببت الرواية."
تحدث بثبات هذه المرة, قبل أن امتدت يده ناح كأس العصير ليفرغ ربعه المتبقي. هذا ما يفعله, يلقي بما يرغب بقوله, ثم يشرب شيئًا, يعبث بأصابعه, يحدق في الحائط أو الأرضية أو السقف. يونغي ليس مرعبًا, لكن فيلكس هو فيلكس ومن الصعب تغيير ما يفعله.

"لم أكن أظن أن مراهقي هذه الأيام مهتمون بالكتب, على الأقل هذا النوع منها. ظننت أن الأمر متعلق فقط بالمقتصرة على تصنيف الشباب البالغين، أنت تعلم."
أضاف يونغي وهو يضع شوكته فوق طبقه بشكلٍ عامودي منمق, قبل أن يرشف باقي مشروبه مقلدًا فيلكس.

"لم أعد أقرأ كثيرًا مثل قبل. لم أكن قارئًا جديًا على كل حال قط في حياتي, لكنني قرأت كل الكتب في المكتبة الصغيرة وأظن أنها ربما قد تعجبك. لا تتردد بأن تطال أيًا منها, وليس عليك الاستئذان قبلًا."
أشار ناحه بالكأس الزجاجية وكأنه يحذره والبشاشة الغريبة العالمة التي دائمًا ما تتردد على وجهه موجودة هناك.

رد فيلكس بإيماءة حرجة وابتسامة هو أيضًا, عالمًا بالتأكيد ما يقصده يونغي بتهديده. يبدو أنه قد طفح كيلًا من الطريقة التي يستمر بها فيلكس بالاستئذان قبل فعل أي شيء, حتى وإن كان توظيب غرفة الجلوس أو استخدام آلة القهوة. لا ينفك يذكره بأنه لا يحتاج للاسئذان لشيء ولا يتوقف فيلكس عن النسيان, أو التناسي, قبل أن يجر أقدامه حيث يكون يونغي في المنزل ليسأل بخجل عما يرغب به. أو يعزف عن الفعل بالكامل إن كان يونغي خارجًا لعمله وينتظر حتى يعود.

أصر فيلكس بعد العشاء على أن يهتم بالصحون بنفسه, وحاول-بجل التهذيب الذي يمتلكه- أن يقنع يونغي بأنه يرغب بهذا حقًا خصوصًا وأن الأكبر لم ينل ولو نزير راحة منذ أن عاد إلى المنزل وتوجه حالًا إلى الموقد يقرر ما سيطهوه. وقد استمر يونغي بالرفض والطلب من فيلكس التوقف عن الحديث بتهذيب مبالغ به وابتسامته أقرب لقهقة. وكان على شفى إقناع فيلكس بالتوقف عندما طال المئزر الوردي ليضعه حول خاصرته وملابسه التي لم يغيرها بعد, إلا أن رنين نغمة الهاتف بين خزن المطبخ الراكدة أسفل الضوء النيوني الحاد المضاء لحلول الليل المعتم خارجًا قد أوقفه.

قد لاحظ فيلكس مؤخرًا أن يونغي يملك نغمتين مختلفتين لهاتفه, واحدة قصيرة لأغنية لا يعرفها فيلكس, يقوم يونغي بالرد عليها بدون عجل, أحيانًا عندما يكون مشغولًا حتى فهو يطلب من فيلكس قراءة اسم المتصل بصوتٍ عالٍ له. المرة الوحيدة التي قرأ بها فيلكس جهة الاتصال فقد كان روجر. والأخرى فهي أحد النغمات التي تكونُ موجودة على الهاتف بالأساس, آلية ومنتظمة وباردة. أما تلك, فإنها كفيلة بثوانٍ لجعل يونغي يستدعي هاتفه إلى كفته في غمضة عين. لا يأخذ الأمر عادة حتى رنة واحدة او اثنتين حتى يمسك الهاتف ليحدق مليا بالشاشة, قبل أن يجيب الخط و يسير بتؤدة إلى غرفته أو أحد زوايا المنزل ليجيب بصوتٍ فاتر خافت.

والنغمة التي ترددت بتزامنٍ مع ظلال الليل المتدلية كانت الثانية, الآلية المزعجة. لذا فإن يونغي تصلب قبل أن يكمل ربط مئزره بشكلٍ كامل مما تركه واسعًأ حول بدنه, ثم رفع هاتفه من على المنضدة بعجل قبل أن يملك فيلكس حتى فرصة لرؤية ومضة شاشة الهاتف.

حدق به لبرهة قبل أن يرمق فيلكس ويوجهه سبابته ناحه بينما استسلامٌ غاضب ظريف حاوط نبرته:
"سأتركك تهتم بها لهذه المرة فقط لأنه يبدو أمرًا مهمًا."
أشار بهاتفه.
" لا تثق بأنني سأتساهل هكذا ثانية!"

لم يمنع فيلكس الضحكة الهاربة من بين شفاهه بينما أومأ كرارًا, وراقب يونغي يغادر المطبخ والمئزر لا يزال فوق ملابسه. أتجه ناح المغسلة وبدأ بشطف الأواني جيدًا قبل أن يغسلها بحذر بالصابون العبق برائحة الليمون.

^^

بعد أن أخذت الحوائط تلمع بفتور إثر انتهائه من تنظيفها, تنفس الصعداء قبل أن يرمي الخرقة التي كان يستعملها للمسح في الدلو ترابي اللون. بهذا يكون وأخيرًا قد أنهى تنظيف الغرفة بالكامل, ويمكن وأخيرًا نقل حقيبته التي كانت لا تزال ترقد في أحد زوايا غرفة الجلوس كبيرةً و مهيبةً .

بعدما أعاد الدلو, وثب سريعًا إلى غرفة الجلوس وصوت أقدامه يتذبذب كالأمواج الباهتة فوق الدرجات. يونغي لم يكن في المنزل, خرج منذ ساعتين فقط, وقد ترك ورقة فوضوية فوق طاولة المطبخ مع حفنة من النقود وأشر ناحها خارجًا ليذكر فيلكس بها عندما يذهب إلى متجر البقالة لاحقًا.

كاد يشعر بتفتت عظام كتفيه أسفل حمالات حقيبته, كانت تجذبُ جسده بأسره إلى أسفل إلى حدٍ لا يفهم فيه كيف استطاع احتمالها كل تلك الساعات سائرًا فوق قدميه على أرصفة كانبرا. انتابه تحشرج بسيط ودافئ في معدته لتذكره كم يبدو هذا اليوم بعيدًا, بعيدًا بشدة. ومع أن الأيام لم تكن حافلة بأمورٍ مخلدة, إلا أنها كانت مبللة بالتفاصيل, الكثير من التفاصيل. مع أنها لم تكن أيامًا عديدة حتى.

لا بد أنه كان متعبًا بعد المسح, وكان يجب أن يكون أكثر حذرًا عند حمله للدلو سابقًا لأنه ترك الارضية مبتلة بشكل طفيف أدى به للانزلاق وفقد توازنه لوهلة تحت وطأة الأثقال المتعلقة به. تماسك بعدما اصطدمت ذراعه بقوة بمقبض الباب المعدني, وتشنج في أرضه لثوانٍ يشدُ حول يده التي تنبض بألم قبل أن يكمل طريقه.

نهاية أسند الحقيبة الثخينة قبال الحائط قرب المنضدة، وعزم على تفريغها في وقتٍ لاحق. حدة الشمس تسري نحو الفتور والاحمرار يلوح، عليه أن يسرع بالذهاب إلى متجر البقالة وابتياع كل ما طلبه يونغي قبل الغروب. ليس لأي سبب عدا عن كونه يظن أن يونغي قد يعود ليلًا.

لذا رمى قميصًا آخر فوق جذعه قبل أن يسحب الورقة ومفتاح البيت ليغلقه من خلفه ويطلق قدميه لمسيرة العشر خطوات.

لم يكن متجر البقالة فارغًا تمامًا، لكنه لم يكن كذلك مكتظ. هناك سيدة في ممر الخبز الصغير، ورجل يحاسب عند طاولة الكاشير.

جذب فيلكس سلته بخفة ثم بدأ التفافه في الأرجاء. بينما كان يتمشى تحت الإضاءة القبيحة للمكان، ومع شعور الوخز الناعم، حدق بذراعه، ليزم شفتيه عند ملاحظته للكدمة المتوردة هناك بظلالٍ قرمزية.

تبدو دميمة رغم أنه يعلم أنها ليست بذاك السوء ولم تكن تؤلم كفاية حتى، لكن الأوردة المتهشمة أسفل بشرته العسلية كانت تبدو سيئة كفاية لتوحي بأنها ناجمة عن ضربِ يدٍ عنيفة في قتالٍ ملحمي.

تحت أنفاس الهواء المتجمدة، انتقل بين الصفوف القصيرة الضيقة، جمع بحذر كل ما كان على القائمة، وقد كان فعلًا أخذ يستسهله مؤخرًا بعد مرتين من التجارب المربكة و المريرة.

بينما هو في قسم المعلبات ليلتقط بضع علبٍ من سلطة التونة التي كانت في خاتمة القائمة، حدق دون قصد بينما كان يراجع عناوين المنتجات نحو اليمين. ورأى ومضة من شيءٍ مألوف. طرف معطف دانيم يذكره ينسحب وراء الظلال المبهمة للمكان.

أكمل تفقد التونة، حسب السعر المجمل للمواد في عقله فقط تحسبًا، ثم حمل قدميه إلى المنضدة الأمامية للحساب. وعند المنضدة, كان هناك. الفتى ذي معطف الدانيم, يقفُ بصمت بينما يتفقد هاتفه ريثما يحسبُ الرجل ملول الملامح خلف المنضدة سعر مشترياته ويضعها في كيس.

اتخذ مطرحًا خلفه بالصف وقد لمح الشاي المثلج الذي وضع في كيس الفتى. وبينما أخذ يصفُ أغراضه بحذر مخرجًا إياها من السلة لينتظر، حدق في الكدمة المتفتحة تحت بشرته ثم تغاضى عن الأمر. عندما رفع عينيه لآخر مرة حاملًا خاتمة الأغراض في السلة, شعر بأنفاسه تتصلب كالجليد في رئتيه حالما التقت عيناه بالمقابل له.

كان الفتى يحدق به بانتباه, بل إنه يبدو كمن استقصد أن تتحامل نظراتهما لوقت طويل حالما يلتفت فيلكس. كانت عيناه المستديرة تكاد تستحلُ الولوج إلى روح فيلكس المضطرب الذي لم يفهم وبالتأكيد لم يسعد بالتواصل المفاجئ هذا مع غريبٍ لا يعرفه.

حينها أفصحت إحدى جوانب شفتيه عن ابتسامة, وحاجبٌ مرفوع قد لحق. قبل أن يعلق كيسه الأبيض في أحد معاصمه ثم يحشر كفتيه في جيبي معطفه المبهرج بشدة. وقبل أن يلتفت ليرحل من الباب الزجاجي, انحنى بجذعه بينما قدماه لا تزالان متصلبتان فوق الأرض حتى أخذ وجهه قربًا مربكًا من وجه فيلكس المتمرغ في عدم الفهم. لم يكن قريبًا حتى تكون انفاسه ملموسة, إلا أنه كاد يقسم بأنه يشعر بحرارتها فوق بشرته قبل أن نبس الغريب ب:
"سررت بمقابلتك."
ثم اعتدل وغادر دون أن يلتفت.

وتعبير ككون فليلكس قد بات تمثالًا في موقفه سيبدو غير كافٍ. إذ أن لا حركة، وبالكاد حتى أي أنفاس غادرت فاهه لثوانيٍ قبل أن تقاطع أفكاره الشاردة نحنحة الرجل الملول الذي يبدو باغضًا لحاجته للانتظار.

اعتذر عدة مرات بينما راقب حساب الأغراض. ودز باقي المال القليل في جيبه قبل أن يشكر الرجل لمرة أخيرة ويقطع الطريق حتى المخرج.

لم يغب الفتى عن باله. بدى يافعًا جدًا من تلك المقربة, في عمر فيلكس على أقصى حد. أقصر قليلًا ولديه عينان تلمعان باستدارة النجوم, وجنتين مكتنزتين متوردتين بفعل الحرارة التي كان يأججهها معطفه الدانيم الغير ضروري بتاتًًا.

في تلك الأمسية, تأخر يونغي أكثر من البارحة, ولكنه كان لا يزال يبدو مصرًا على طهو العشاء. لذا حاول فيلكس بشكل جيد تجاهل النوم المتسلق لتلابيب أهدابه إثر اقتراب ساعة نومه المعتادة. وقد تطاير كالغبار الناعم مع مرور الدقائق التي استمر بجوبان المطبخ فيها ملتقطًا كل ما يطلبه الأكبر ليضعه فوق اللازانيا.

فوق مائدة العشاء, سأله يونغي عن كيف أمضى يومه. لقد كان موجزًا, فهو كسجيته لم يملك الكثير من الكلمات لينسجها حول التفاصيل. تحدث عن انتهائه من التنظيف, والذهاب إلى المتجر, لكنه تردد لوهلة في التفكير إن كان عليه ذكر الحادثة مع الفتى الغريب الذي لا يزال يشك إن كان حقيقة أم وهمًا موجزًا حملته حرارة نهاية الظهيرة فوق عينيه. إلا أنه زاغ بعيدًا عن ذكره في آخر لحظة وتحدث بدلًا عن ذلك عن أول كتاب اقتطفه من مكتبة يونغي الصغيرة وقرأ أكثر من خمسين صفحةٍ منه.

أخذ يونغي يستمع بهدوء وهو ينهي طبق اللازانيا خاصته، والتي كانت رائعة إن كان من المهم ذكر طعمها. كانت هذه لربما ثاني مرة يتناولُ فيها فيلكس اللازانيا طول حياته، والمرة الأولى كانت في منزل أحد زملائه في حفلة عندما كان في المدرسة المتوسطة. ورغم أنه يذكر بأنها كانت مبهرة، إلا أنها رغم ذلك لم تكن قريبة من لذّة المفروشة أمامه. التي طهاها يونغي غنية بالطعم ومدججة بالخضار.

بعدما أنهى طبقه، أسند شوكته وأكمل كأس البيرة الصغير الذي سكبه لنفسه. كانت أول مرة يرى فيها الأكبر يتجرع الكحول، وعدا عن زجاجات النبيذ التي كانت مخزنة في أحد خزن المطبخ المعزولة، لم يكن هناك أي أثر لها في المنزل. أما هذه البيرة فقد أحضرها يونغي بنفسه عائدًا إلى المنزل في كيسٍ ورقي. وعلى ما يبدو فهو في مزاجٍ جيد جعله يبدو مستمتعًا بوجبته بالكامل بينما يستمر بترك وجهه يتراقص مع البشاشة بهناء ناح كل كلمة يقولها فيلكس.

"تازاكي عديم اللون إذًا؟ لم أظن أنك ستبدأ بها، خيار غير متوقع."
كان يرفع حاجبيه بعد أن عقدهما لفينة وكأنه يحاول استرجاع العنوان داخل عقله.

"لما كان غير متوقعٍ؟"
بزخت شجاعة فيلكس الصغيرة حينها لينبس أول ما كان فوق لسانه، ولتلك المرة، وربما أول مرة، لم يفكر كثيرًا بالأمر بعدها.

همهم يونغي بنفسٍ قصير، ثم أردف:
" كافكا على الشاطئ بدت كخيارٍ مرجح أكثر, تعلم؟ أعني أن القصة لربما بدت أكثر قربًا لك، فتىً يقرر الهرب من المنزل، هذه الرواية تبدو وكأنه كتبت إشادةً بك."
وكان يبدو على شفى قهقهة ختامًا.

ومع أن ذلك بدا غير مبررٍ، إلا أن فيلكس شعر بروابي وجنتيه تتموج بدفءٍ مفاجئ. وكأنه نسى كل ما حدث ويحدث وتذكر فجأة أي نوعٍ من الحياة يقودها الآن. هو فتىً أطلق قدميه للريح في رحلة لا يعرف عنها شيئًا، وهذا ترك نوعًا غريبًا من الأحاسيس ليتلوى في لُجة معدته، أحاسيس تشبه الضياع، لكن لذيذةً بشكلٍ غير معقول رغم غرابتها.

"ظننت أنني سأنجذب لقصة كافكا أولًا أنا أيضًا، لكنني وجدت نفسي منخرطًا بسرعة مع قصة تسوكورو تازاكي ورفاقه الأربعة العجيبين."
قال كل ما كان يجول خاطره ناح الأمر. هو يملك بالفعل فكرةً عامة عن قصة كافكا على الشاطئ، وكان قد قرأ بعض المراجعات لها قبلًا تركته برغبة جيدة لقراءتها. لكن الغلاف الأسود الذي أخذ يبرقُ تحت شمس ما بعد الظهيرة في غرفة الجلوس التي يتحاضنُ في جوانبها الظلام، وتمازج الألوان الجذاب تحت العنوان ' تسوكورو تازاكي عديم اللون وسنوات حجه ' جعلت من العصيب التغاضي عن الرغبة الملحة بوضع بنانك فوق الغلاف الأملس.

وقد كان ممتعًا, هادئًا لكن ممتعًا. كتب موراكامي تغرقُ كلماته فيها فوق صفحة بحر التفاصيل, الكثير والكثير من التفاصيل. التي تجعلُ القراءة يومًا يعيش داخل يومك وأحاسيسٍ تختبئ تحت سنا الشمس الغاربة لنهارك.

عندما أزالا الأطباق وانتهت في المغسلة, أدار يونغي بعض الموسيقى على حاسوبه المحمول عندما ابتعد لبرهة, قبل أن يلحق بفيلكس الذي كان يغلف باقي اللازانيا قبل وضعها بالثلاجة. عندما طبق الباب وقبل أن يلتفت, انسل إلى آذانه صوت موسيقى عبق قصير, ثم نبرة رخيمة لرجل يغني من أعماق صدره. وقد كان مألوفًا بشدة, وكأنها كل أغنية سمعها طول حياته القصيرة ولا يعرف اسمها. كل ما يتوقع سماعه في أفلامٍ قديمة تستمر قنوات التلفاز بعرضها مرارًا وتكرارًا لسنوات.

ومع أنه لم ينوي, إلا أن التعابير المشدوهة تلاصقت بوجهه حتى التفت, وحينما لاحظ يونغي علامات التعجب فوق رأس الأصغر اكتفى بالابتسام بطريقته اللينة لكن المرحة. ركز فيلكس نظره ناح شاشة الحاسوب, و مع أنه من كان من الصعب قراءة العنوان الصغير من تلك المسافة, إلا أن الغلاف الأحمر العتيق الموضوع كصورة عرض الفيديو وصورة سانتا كلوز الضاحكة كانت كفيلة بإعطائه فكرة عن ماهية هذا. ثم بعدها أخذت الكلمات التي ترن داخل طبلتي أذنه تصبح أوضح, وكأنها كلمات واقعية مفهومة لا صوت غناء جهوري لا حاجة لفهمه.

"دعها تثلج, دعها تثلج, و تثلج!"
نعمت نبرة المغني حتى اختفت لثوانٍ تحلُ عنها الموسيقى البهيجة.

"ظننت أنها ستناسب الأجواء."
تمتم يونغي وهو يشطف صينية اللازانيا الزجاجية من رغوة الصابون.

والحقيقة هي أنها بالفعل تناسب, بطريقة وديعة تحت عتمة الساعة العاشرة الزاحفة نحو منتصف الليل, وإنارة الشارع الباهتة في الرصيف أمام المنزل, وأضواء المطبخ النيونية المحتوية لكل شيء. مع الموسيقى، كل ذلك يتركك تعيش دور أنك شخصية رئيسية في فلمٍ كلاسيكي مليء بالاشتياق.

وبعدما حاول فيلكس أن يهز عدم الفهم من فوق أفكاره واقترب من المغسلة ليساعد يونغي بما تبقى, شزره الأكبر بطرف عينه وهو لا يزال بشوشًا, قبل أن يتحدث وهو يعطي الأطباق لفيلكس ليشطفها هو من الصابون هذه المرة:
"تبدو محتارًا. يبدو أنك نسيت بأن اليوم هو الثالث والعشرون من ديسمبر."

وحينها انقطع شيءٌ في عقله. وكأنه رباط مطاطي كان يقفلُ وعيًا لفكرةٍ ما. الزينة الحمراء اللامعة التي رآها في الشارع وإعلانات التخفيضات المختلفة في مواقع التواصل الاجتماعي. إن يوم الميلاد آتٍ. وقد نسي الأمر بالكامل.

"أوه."
تمتم وهو ينهي شطف آخر ما تبقى من الصحون قبل غسل يديه بينما يتأمل كلمات يونغي. لقد فقد حسابه للوقت والأيام بالكامل, ونسي أن شيئًا كالتاريخ موجود في منطق هذه الحياة بالأصل. لقد كانوا في نهاية ديسمبر وتخوم العام.

عندما التفت, كان يونغي قد أغلق الموسيقى. ثم حدق ناحه. حمل ناظريه للحظات وكأنه يفكر بقول شيء, وكونه يونغي, فإن الأمر لم يطل قبل أن تحدث:
"هناك كنيسة متوسطة في الحي القريب. أعني لو كنت مهتمًا بالذهاب عشية يوم الميلاد أو في الصباح."
شرح وقد أغلق الحاسوب, ثم ترك بشاشة تكتسح ملامحه الوقورة في نظر الأصغر.
"أنا لا أذهب عادة إلى الكنيسة, لكن أشعر بالحرية بالذهاب متى ما أردت, حسنًا؟"

وكان دور فيلكس ليبتسم باتساع, وشيءٌ ما دافئ ينكهل في صدره بامتنان لهذه اللحظة قبل أن يرد:
"حسنًا, شكرًا لك."

يونغي مراعٍ، مراعٍ بشدة. بطريقة غير مفهومة لكن واضحة كثيرًا. وكأنه رأى بطريقة ما كل المرات التي ذهب فيها فيلكس طول حياته إلى تجمعات منتصف الليل في الكنيسة في عشية يوم الميلاد, ودعاه ليشعر أن هذا يوم ميلاد طبيعي آخر حتى وإن كان مختلفًا بالكامل, حتى وإن كان فيلكس على شفى حفرةٍ من نسيان ديسمبر بأسره.

لذا لوح بخجل ملوح بالغبطة الرقيقة قبل أن يتجه إلى غرفته في الطابق العلوي عندما تمنى له يونغي ليلة سعيدة. 

__________________

أهلًا! وأخيرًا فصل. أعتذر على التأخير، الفصل طويل كتعويض!

مع اني كتبته من فترة إلا اني ما لقيت وقت كويس اخلصه وأنقحه إلا الآن إعذروني.

اليوم وانا اشوف القصة، وشفت عدد الكلمات، اكتشفت انها تقريبا وصلت ٢٣ الف كلمة. هذا وانا قايلة انها قصيرة بس مدري شصار .

واضح اني مستمتعة بزيادة مع يونغي وفيلكس وحياتهم الدافئة.

اتمنى تكونوا انتوا كمان مستمتعين :')

شكرًا على القراءة و دمتم بخير!💕

Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top