5| ذات يوم.

أول مرةٍ حاول فيها فيلكس لي الهرب من المنزل كانت في أمسية عصرٍ شتوية. كانت أيامه تمر من فوق عامه الرابع عشر في هذه الحياة, بعد يومٍ مدرسي حافل, بحقيبة المدرسة الثقيلة معلقة فوق أحد كتفيه, عشرين دولارًا في جيبه, و ولا أي خطة واضحة تتأرجح أمام ناظريه.

مع نسيم هواءٍ بارد كان يبعث الألم في أصابعه التي تتفرقع مع كل حركة حادة, ويترك أيضًا شعورًا دفينًا بالوجع فوق كتفيه المجهدين أساسًا بعد ذروة نموه التي تركت عضلاته لتكبر بوتيرة لم تسمح لبشرته أو مفاصله الطفولية باللحاق بها كفاية.

هناك حكّة دفينة في نهاية حلقه تنذرُ بالتهابٍ قريب مع الطريقة التي يقفُ بها رهينةً للجو مع ملابسه المدرسية الغير كافية ووشاحه الوفي الذي قرر جعله مرافقه الوحيد في رحلته من بين سائر ممتلكاته البسيطة.

في تلك اللحظة, بينما يرى الحافلة التي يستقلها عادة إلى المنزل تتهادى بعيدًا عن ناظريه خلف التفافة, و مع سقوط ظل الأشجار القصير بالكاد, على الرغم من اشتعال ضربات قلبه بين جوانب صدره الرماد, هناك وفي ذاك الأوان علم أنه إما الآن, وإما ليس في أي آن.

عليه أن يبتعد, إلى أي مكان, في أي بقعة من الأرض, حتى لو إلى نهاية هذا العالم المظلم. إلى أي مطرحٍ يجد فيه مكانًا بدوره له, إلى أي بقعة كافية لتحتويه.

وبما أنه بالكاد يمتلك ما يكفي لاستقلال القطار والذي يبعدُ كثيرًا على أي حال, قرر أخذ حافلة أخرى. إلى أين؟ هذا ما سيتوجب عليه معرفته لاحقًا.

وبتلك الطريقة بدأت رحلته التي إن كان سيحكم عليها الآن من وجهة نظره بعد كل تلك الأعوام, فإنه سيدعوها بالفارغة. ليس الأمر متعلقًا بالمعنى, بل بافتقاره لأي خطة.

ولكن بما أنه كان صبيًا مشتعلًا حتى أواصره بكل ما يعنيه الابتعاد عما يربطه, متقدًا بتلك النشوة العارمة لوضع يدك في نارٍ محترقة لا يمكنك التكهن بضررها, وثائرًا على كل ما كان يخنقه من وحدة متشعبة, فقد سار مطولًا حتى لم يعد بمقدوره التوقف.

حافلة وراء حافلة, كيسٌ بلاستيكي بقارورة مياه نصف فارغة ولوح حلوى لم يبقى إلافتاتٌ منه, وخوفه المجعد أيضًا, كل ذلك كان محتشدًا في الكيس المعلق حول معصمه.

أين سيذهب؟ هذا ما لا يستطيع استرجاع أيًا منه مهما حاول راهنًا. ما الذي سيفعله؟ هذا أيضًا لم يكن يحومُ حول وعيه. ما الذي يحاولُ وصوله؟ ذاك مجرد تفصيلٍ مهم آخر لا يذكره.

وقت العودة للمنزل انقضى بالفعل, الرطوبة تقل, الريح تصرصر بصقيعها, السماءُ الشذرية يتزلزل سقفها نحو السواد رويدًا رويدًا, وطريق فيلكس الطويل في سيدني العظيمة لا ينقضي. إلى أين؟ هذا هو السؤال, وهذه أيضًا الإجابة.

عند آخر محطة توقف كان بإمكانه تحمل البقاء في الحافلة عندها, عندما لم يبقى لديه أي مالٍ كافٍ لاستقلال أخرى, وبالطبع قلبٍ ممتلئ في هذه الليلة الطويلة والأكتاف الخفيفة بسبب أطنان الحرية النامية من بروزاتها. اتجه إلى محطة تعبئة وقود شاسعة على طرف طريقٍ سريع, حيث وقف للحظاتٍ طويلة بعيدًا عنها ليتأمل ملامحها التي ترتعش بأضوائها النونية تحت ستار السماء دامس الظلمة. شقٌ كابتسامة ارتاب حول شفتيه للمنظر الذي يبعثُ الدفء المرام والوحشة اللذيذة في صدره لهذا المكان الوحيد والمريب.

في منتصفها مطعمٌ على طراز داينر من تلك التي تشتهر بها الولايات المتحدة والذي يحدث أن وقع خطأً في أحد البقع على سيدني المترامية. يبدو قديمًا, أو أنه مصممٌ بتلك الطريقة, فارغًا إلا من بعض النادلات, أشخاصٍ يتناولون وجباتهم الدسمة على المنضدة الطويلة قبل أن يعودوا إلى شاحناتهم العملاقة, ربما إلى سياراتهم قبل أن يكملوا الطريق لمغادرة المقاطعة, والكثير من الصمت المحمل برائحة الجازولين التي تجعلُ خلايا عقله تتلوى بألم وقرف.

حاول ترك ملاحظة في نهاية عقله ليتذكر تفحص جميع من يخرجون ويغادرون لاحقًا بحذر ليرى من سيكون جيدًا كفاية ليمثل رفيق دربٍ ليقله معه في حافلته, سيارته, أو حتى فوق درجاته النارية, فقط ليكون نقطة وصله للخروج من سيدني, أو ربما الوصول إلى الطرف الآخر منها, متأملًا أن يكون ذاك الرفيق طيبًا ومتفهمًا كفاية لتكون أجرته مجرد شخص ليؤنسه على الطريق.

عندما فتح باب الداينر بكل تثاقل فإن بعض الأعين حملت جعبتها للتحديق فيه, دون اهتمام كبير. لا يبدو هذا مكانًا طبيعيًا كفاية ليأبه بمن يأتون, لربما يحضر الكثير من الغريبين إلى حد أن ظهور فتى صغير بملابس مدرسةٍ كاثوليكية ونمشٍ يغطي وجهه أمام الباب في مكان منقطعٍ كهذا لا يبدو كشيءٍ مثيرٍ للاهتمام كفاية.

في العادة, فإن مجرد شعوره بانسكاب وعي أحدهم عليه ولو لثوانٍ, سيكون كفيلًا بتركه يشعر بانصهار ركبتيه وترك قلبه ليتقافز بقلق أسفل عضلات صدره. إلا أنه بطريقة ما, ومع كل الـتصلب في عظامه من الزمهرير الذي حفر ذاته في نخاعها, لم يرتد له جفن بينما سار وحقيبته لا تزال على كتفه إلى آخر مقعدٍ جلدي واسع في المطعم في أقصى نهايته, بعيدًا عن تلك المشغولة والمنضدة الأمامية.

رمى حقيبته على المقعد المقابل له بعد أن سحب هاتفه. لم يكن أكثر رفقًا مع جسده عندما أحدث احتكاك معطف زيه الرسمي ضجة ناعمة ضد جلد المقعد الأحمر البارد بطريقة تبعثُ رعشةً مؤرقة فيك.

شغل هاتفه الذي كان مغلقًا منذ أن وطأت قدمه مدخل المدرسة. وتفقد ليرى إشارة عدم وجود شبكة إنترنت, مكالمة فائتة من جدته, واحدة من عمته, واثنتان من هيونجين, أو سام, كما كان مسجلًا في جهات اتصاله. تفقد الساعة, لقد كانت العاشرة مساءً. هو بكل تأكيد لم يشعر بمرور أيٍ من ذاك الوقت. لقد مرت كل ثانية في داخل روحه, ولم يشعر بأيٍ منها.

اكتفى بإعادة إغلاقه والانتظار بينما رأى نادلة شقراء شاحبة تسحبُ قلمها من الجيب الأمامي لزيها الرسمي الأبيض المخطط بالوردي وتتجه ناح طاولته.

لم يطل الأمر, قال أول ما وقعت عليه عيناه, في حضيض القائمة, والأقل سعرًا, طبقًا من البيض المقلي كشموسٍ صغيرة وقطعة من الخبز. و بالتأكيد لم يستطع طلب حتى مشروب غازي مع نصف الدولار المتبقي معه.

تفوحُ رائحة الزيت المهدرج الذي يشعره بالمرض من خلف المنضدة الرئيسية حيث يجلس أغلب الزوار من الرجال الضخام, الرجال الذين يبدون مريبين, الذين يبدون نصف سكارة بينما يتغزلُ واحدٌ منهم بنادلة ينحدرُ المللّ فوق ملامحها, وآخرين تتدلى السجائر من أصابعهم الخشنة.

يراقب فيلكس بينما ينتظر وجبته الصغيرة هذا المكان المرعب, المنقطع, والذي برغم كل ذلك, كان جميلًا بشدة. لم يأتي إلى مطعمٍ بطراز داينر كهذا من قبل, لم يعلم بوجود أحدها في استراليا حتى, خصوصًا عندما تكون إلى هذا الحد تشبه تلك التي يراها في الأفلام الأمريكية.

والآن بحسب كل ما يتقاطفُ في أرجاء عقله من ذكريات عشوائية عن هاته الأماكن من تلك الأفلام والبرامج المتفاوتة بالتواريخ, فإن الليلة قد تنتهي بعدة طرق قبل أن يقرر من يبدو شخصًا جيدًا كفاية ليحدثه عن رحلة طريقه ويطلب منه إقلاله. السيناريو الأول هو أن تبدأ نادلة عشوائية الغناء وينضم لها باقي الزوار في جوقة فوضوية لكن خلابة بينما يشكلون رقصة جماعية, أو أن يقف مختل من أحد المقاعد بينما كان يخفي رشاشًا تحت معطفه كل ذاك الوقت ويقوم بتفريغه في رؤوس الموجودين ليقتلهم جميعًا.

كلا المشهدين يبدوان مثيرين للاهتمام كفاية بالنسبة لفيلكس الذي بدأ يشعر ببعض وعيه يعود مع الدفء الذي عرف أخيرًا دربًا ضيقًا إلى بدنه.

عندما أحضرت له النادلة بيضه الدافئ, فإنه رغم كونه يظن أن لسانه قد تحول إلى صخرة ساحقة القدم يجرجرها داخل لسانه, إلا أنه لم ينسى شكرها بوضوح بصوته الذي بدا غريبا جدًا حتى لأذنيه الخاصة.

لا يظن أنه تنفس حتى كفاية بينما يبتلع بيضه فوق كل احتجاج كبتته معدته منذ ساعات ولم يعي ثورته إلا عندما استنشق رائحة الطعام الثقيلة بالزيت. أنهى ما تبقى من قارورة المياه في كيسه البلاستيكي عندما أفرغ صحنه , وتنهد طويلًا وبرضى عندما أبعد طبقه الفارغ إلى جانب الطاولة.

لا يستطيع بالضبط تذكر تسلسل الأحداث بدقة بعدها, لا يمكنه استرجاع وعيه عنها بوضوح حتى. لكنه يعلم أنه أسند ذراعيه على الطاولة أمامه, ثم ذابَ رأسه فوقها دون حذرٍ مطول. لربما تمتم لذاته بأنها مجرد راحة قصيرة قبل أن يستيقظ ليبدأ التحديق بوجوه رواد المطعم, أنه سيقوم بإغلاق عينه لثوانٍ بسيطة فقط, وأنه سيستقيم بعد عشر دقائق لا غير.

لكن الأمرُ بما فيه, هو أنه في المرة التالية التي فتح فيلكس فيها عيناه, كان ذلك بسبب شعوره بأحدٍ ما ينقرُ كتفه. مرة, إثنان, ثم صوتٌ رزين لرجل ما:
"بني, استيقظ."

عندما عادت قدرة عينيه على تفريق الألوان والصور, فإن أول ما قابله كان لونًا سماويًا داكن, شارات تلمعُ بفتور تحت ضوء المطعم المزرّق القبيح, ووجوهٍ متصلبة لكن فضولية. لقد كانت الشرطة.

لم يسأل بالضبط بالطبع عما حدث أو كيف حدث, بينما انصاع بهدوء مع كُل قوةٍ لا وجود لها في أطرافه, لسحب حقيبته وهاتفه, وكيسه البلاستيكي الذي رماه في طريق الخروج من المطعم مرافقًا الرجلين إلى سيارتهما المصفوفة خارجًا وجانبًا وكأنها كانت تخطط لبقاء أصحابها لفترة أطول.

حسنًا على الأقل لفترة أطول قبل أن يحدث على ما يبدو كونه أن الشرطيين حضرا من منطقة مراقبتهما القريبة إلى المطعم للحصول على وجبة, وعند دخولهما, انتابتهما الأسئلة, حول فتىً نائم بوجهٍ مدفون, بزيٍ مدرسي, وحقيبة أيضًا, في مطعمٍ بعيد, في وقتٍ مقارب لمنتصف الليل. وبطريقة ما, مشابه للمواصفات عن الحالة التي بلغتهما منذ ساعات من مكتب سيدني الرئيس عن حالة هروب لصبي بلغت عنها عائلته وطالبت الجهة المركزية جميع الشرطيين في سيدني الشرقية البقاء متأهبين لأنه لا يمكن أن يكون قد ابتعد كثيرًا حسب التخمينات.

لم يحتج حتى للإجابة سوى ب"نعم" قصيرة ومختصرة بعدما سألاه عما إذا كان فيلكس لي. هو واللعنة لا يمكنه حتى المجادلة لأن الأحرف محفورة فوق شارة اسمه الفضية المعلقة بمعطف زيه والتي تذكر الآن فقط أنه لم يخلعها.

هل كان بإمكانه أن يقاتل؟ أن يصرخ ويفتعلَ مشهدًا ملتفًا قد يؤول إلى أفعالٍ عنيفة؟ أم بمقدوره التحجج ومحاولة التملص بعدم رغبته بالعودة إلى حيث يعلم بكل تأكيد أنهم سيأخذونه؟ هل سيفيد أيٌ من ذلك؟ لم يعلم في الواقع, لذا لم يجد فيه ولو فتيلًا واحدًا ليشتعل بغضبه وضيقه, ليس بين كل الحشائش الذابلة النامية إجهادًا في صدره, ليس مع أجفانه التي تتدلى بألم وتصيح بتناغم مع كل عضلات جسده.

خارجًا من المكان, كان يستطيع معرفة أن جميع الأنظار معلقة من وراء كعبيه, قائدي الشاحنات, الرجال المريبين, والمدخنين. تلاقت عيناه بيعنا النادلة الشقراء بينما يكمل سيره, وقد كانت تحمل تعابيرًا غير مقروءة على وجهها. كان بمقدور فيلكس بكل سهولة تخليها وهي تجيب استفسارات الشرطيين عن الفتى النائم في نهاية المطعم والذي بالفعل يملك أعينًا داكنة, زي مدرسة كاثوليكية, والكثير من النمش كما لاحظت عندما قدمت له طلبه.

ليس بمقدور فيلكس تذكر أي كلمة أخرى مع الشرطيين, ما قالاه له في السيارة, وما أجابه, هذا إن كان تحدث بالأصل. ليس باستطاعته وضع أصابعه حول مشهدٍ ليعرضه في ذاكرته محفوف بجمل واضحة إلا عندما كان قد وصل إلى المخفر الأقرب لمنزله, حيث حضر جده, حدق في وجهه لبعض لحظاتٍ لا تحمل أي شيءٍ مرجو لفهمه أسفل صوت جهاز التدفئة المركزية في القسم, قبل أن يوقع الأوراق المطلوبة ويغادر كلاهما بتوصيلة عرضها أحد الشرطيين المتقدمين في السن الذين يملكون نوباتٍ متأخرة, ويبدو أنه قد لربما يعرف جده بطريقة ما من أيامٍ غير مذكورة.

في المنزل, لم يكن أحد مسيتقظًا أو على الأقل في المطبخ وغرفة الجلوس. ولا كلمة, ولا حتى أي التقاء بالعينين, قبل أن يحث خطاه دون النظر إلى الخلف ناح السلالم, بينما اتجه جده الذي لم يبدو أكثر اهتمامًا بخوض محادثة ليسكب لذاته كأس ماء.

في الطابق العلوي وبين الجدران الشبه متحاضنة للممر, كان سام يقفُ عند الحد الفاصل بين غرفته المضاءة بلونٍ برتقالي خافت, والظلمة على طول الممر التي يحفرُ وطؤُها الضوء المسدول من الدرج في الخلف. شعرٌ أشعث من حركة لا إرادية يجبرها النوم, أعينٌ نصف مغلقة, وتثاؤب مقطوع عندما لمح فيلكس الذي أخذ يمخر طريقه بصمت.

هناك شيءٌ ما يدور فوق رأسه, كلمات, سؤال. وبذات الوقت ولا أي شيء قد غادر شفاهه المكتنزة, مجرد تحديقٍ متأسف لا يستوفي أي معنى, قلق بالكاد موجود بحيث يمكن ملاحظته, وأي أمر آخر لا يمكن شرحه. ولم يلتفت فيلكس لأيٍ من ذلك. أكمل العاصفة الراكضة نحو غرفته, في نهاية الممر, يسارًا, و حتى النهاية.

في الأيام التالية, مع كل وهج جديد, مع كل أمسية وليلة, لم يتحدث أحد عن الأمر, ولو لمرة. لم يوقفه أحد من المنزل ليسأله عما فعل في تلك الليلة, كيف قرر الذهاب؟ أين؟ مع من؟ ما الذي فعله؟ والأهم من ذلك, لماذا؟ لم يتساءل أو يطرح أحد الموضوع, تحت السقفِ المنخفض ومن بين الجدران المكسوة بورق الجدران, لم يتذكر أحد كلماته عن تلك الحادثة.

وهذا ما تركه غاضبًا، وبشدة. جعله يشعر وكأنه يتفتت كرماد ورقةٍ عنفها جفافٌ ضانٍ وخانتها نيرانٍ قريبة. لماذا قد يفعلون هذا؟ إن كان مجرد إضافة, مجرد طرفٍ غير مرغوب فيه, مجرد فردٍ متواجد هناك بسببٍ أو بدونه. لما قد يبحثون عنه بل ويوكلون الشرطة حتى؟ ما الذي قد يقودهم لإعادته إلى هنا عندما كان وأخيرًا قد علم ما هو طعمُ الهواء في مكانٍ لا ينتمي إلى هذه الدوامة التي لا يكللها قطرة معنى. لما قد يوقفون ما هو جيدٌ له ولهم قبل أي أحدٍ آخر؟

لم يفهم يومًا, لم يعي ذلك أبدًا, أو على الأقل في أغلب الأشهر والأعوام التي تلت تلك الليلة.

ولكن على الأقل, فإن رغبته المتوهجة بالبحث, باستكشاف معنًا خلف كل شيء قد خفتت. وكأنها شمعةٌ مطوقة, مغلقة, لوقتٍ طويل جدًا. لإن الهستيريا التي قادته لفعل كل ما لم يتخيله يومًا, أخذت تتبدد بكل ما فيها لتسمح له بالعودة إلى وعيه بعيدًا عن كل ذكريات الحافلات التي أضاع عليها مصروف الشهر بأسره, قلبه الرقيق, والمطعم الموحش.

^^


إن الحياة مع يونغي, إن كان يمكن وصفها بكلمة وحيدة, غير واضحة أو كافية, فإنها ستقتنع بوقوفها عند كلمة ك'مريحة'.

تشبه السير في نهاية يومٍ ما بينما تتلاحقُ قطراتُ الودق مع الصقيع المتلاصق بالهواء, تحت سماءٍ رمادية, لا تقلقك رغم الأصوات البعيدة والمرتعشة لرعدٍ قريب الوفاق من الانفجار.

فقط لأنك على يقين لا تعلم أين يسكن, يضمنُ لك أنك ستعود إلى مكانٍ ما, تحت الرحاب لسقفٍ ما, لا كيف, ولا لماذا, لكن السقف هناك, لطالما كان هناك.

لدى يونغي شخصية هادئة متراخية, تشبه ذاك الظّل الناعم للسقف. ليست كأي شيء وجده عند أي أحد من قبل, مظلم جدًا, غامض جدًا, لكن مرحبٍ تمامًا.

والحقيقة هي أن الأيام مع يونغي, أخذت تصبح متمحورة حول كونها أيامًا فعلية, تبدأ, يحدث روتينٌ ما, وتنتهي, لتعاد الكرة. بتفاصيلٍ جديدة صغيرة لكل يوم. الغداء في ذلك اليوم هو كاربونارا إيطالية, مهمات جديدة موكولة, عودة الأكبر في ساعات متفاوتة من عمله, تحسنه في مصارعة النعاس صباحًا, ومحاولة فيلكس جاهدًا ليكون كافيًا في هذا المنزل.

عندما يعني أيامًا فعلية, فهو يقصد أن تكون هناك, أن يمر كل يوم, أحد, اثنين, ثلاثاء, وبطريقة ما, تشعر أنك لا تنتظرُ أي شيء. بل مستغرق تمامًا في اليوم هذا, في كل ما تفعل, باللحظة الراهنة بطريقة ما.

الأمر وكأنك في إجازة طويلة, كأن تعلم أنك تلبسُ أذنيك للنداء, للتساؤلات التي لا تزال راقدة في مكانٍ ما هناك. أن تستمتع بكل لحظة, بكل رشفة قهوة ووجبة, وتعلم أنه
هنا بين كل هذه الثواني الثمينة, القلق الذي يزداد حجمًا لكن يصبح أكثر مهارةً في الاختباء. وأنت تفعلها, تترك له حرية التواري خلف كل منضدة أو قطعة أثاث.

رءومٌ هي الطريقة التي تسير بها الساعات رائفةً بقلب فيلكس المجهد من التطلع لوقتٍ طويل, القلب الذي يلتفُ حول كل ما يحدث بسعادة ورضى عارمين.

الأيام تمضي بإنهاء تنظيفهما للغرفة وتفريغها بعد أن تدبر يونغي بطريقة ما الأمر. حيث أنه في ظهيرة ما يذوب الثلج في كؤوس الماء على عجل أكثر من المعتاد فيها, دارت شاحنة فوق عجلاتها العملاقة عند الشارع الذي بدا بعرض مسطرة في طريقها, حيث هناك فوق صندوقها العملاق كان مآل أغلب الخردوات التي أنزلها هو ويونغي مسبقًا أمام الباب. لا يعلم كيف تمضي المعاملات بالضبط, لكنه يظن بأنه رأى حفنة من النقود البسيطة يناولها الرجل ليونغي الذي كانت تعابيره شديدة الانضباط قبل أن يعود إلى شاحنته ويمضي إلى منزلٍ جديد لكل تلك الأغراض.

يونغي شخصٌ تعوم حول رأسه التساؤلات, ربما الشكوك, لكن ليس الأمر بطريقة سيئة إن كان هذا ما تظنه, الأمر فقط متمحور حول الأفكار التي يوحي بها, الصورة التي تتشكلُ في تخوم الأرض الضبابية لعقلك عن الطريقة التي تتخيلُ فيها الأشخاص داخل رأسك. يونغي يبدو باردًا, متصلبًا, لربما ضجرًا على الدوام, يتمنى لو ينتهي أي شيء بملل ليعود من حيث أتى. أو على الأقل هذا ما تدرأ به ملامحه في كل مرة يخطو داخل المنزل عائدًا من حيث كان, العمل غالبًا , أو يتكلم في الهاتف عن العمل أيضًا ربما, في الزاوية, بصوتٍ خافت. لكن ما يجدر الإشادة به, هي أن تلك التفاصيل الصغيرة من المشاعر المتناثرة فوق وجهه, تنكشط بعجل حالما يحيي فيلكس بينما يركل حذائه بهدوء أمام الباب, تنمسحُ تلك التعالبر وكأنها أثارٌ على الرمال الذهبية قرب ساحلٍ يداعبه المّد باستمرار, في كل مرة دون استثناء.

فيلكس الآن يدرك بطريقة ما, أو كون فرضية من نوعٍ ما, تنص على أن يونغي بالفعل يعامله بلطافة قد لا تكون مقدمة لأي أحد آخر خارج المنزل. ترحيب وئيد, صداقة ناعمة, ثقة غير مخططة, كل ذلك. يونغي يبدو بكل وضوح كشخص يستعسر عليه وصف أحاسيسه بسهولة, أو تمثيلها بحدة, لكنه يفعل بطريقة أو بأخرى, ويترك فيلكس بصرفٍ من المشاعر الأعجمية عن كل ما عرفه قبلًا.

فكرة أن هنالك أحدٌ ما, يهتمُ, يهديه الفكرة المتمركزة حول كونه موجودًا, بل وذا شأن, وإن كان ذلك الشأن فقط بكونه يساعد بالتنظيف ويملكُ مسؤوليات وله يدٌ في اختيار ما سيأكلانه, كل ذلكَ كان عبئًا ثقيلًا بالغبطة النقية.

ومع أن هنالك ألفُ تساؤلٍ, ألفُ استفسار, وعددٌ لا يحصى من الأفكار والارتقابات والمخاوف المتكدسة كصناديقٍ مغبرة فوق كل رفٍ لوعيه المحتار, إلا أن فيلكس راضٍ بشدة بكل هذا. بالمكان الذي وصل إليه, وبالأيام القليلة التي أمضاها في كانبرا عند يونغي.

^^

كارولين وروجر يستمران بالتردد على المنزل, هذا ما لم يشك فيه فيلكس منذ البداية وشبه توقعه, لم يبدو أنهما مجرد صديقين يحضران لتناول قدح قهوة, زجاجة بيرة في أمسية صيفية, ثم يرحلان. ربما يفعلان ذلك, ولكن مع أمورٍ أخرى كثيرة.

لم يحاول فيلكس حساب المرات التي تحضرُ فيها كارولين, لكنهُ أخذ يستطيعُ تكهن أنها هي دون أن يحتاج للتحديق في المدخل بعد الآن. صفعة الباب العنيفة, صوت ارتطام الكعبِ الثمين بالأرضية المغطاة بالسجاد, ودخولٌ دراماتيكي يمكنك استشعارُ تكرهبِ الهواء وتأينه فيه حول خصلات شعرها المتناثر في الأرجاء, الوجهُ المتورد والجبين المتعرق, الابتسامة الشاسعة التي يبدو وكأنها لا تحملُ همًا بين طياتها, واليد المعكوفة حول حقيبتها السوداء من ماركة لوي فيتون, أو في بعض الأحيان, لوحة جديدة.

لا يرتد طرفٌ ليونغي, لا يقوم حتى بالتدقيق أو بتغيير ملامحه بينما يرد التحية على التي تدخلُ جارةً وراءها قطيعًا وفيرًا من الكلمات الفتية و الغنية بالكثير من التفاصيل. والتي لا تتوقف عن دلقها أبدًا, والتي لا يستمع لها يونغي بانتباه دومًا خصوصًا عندما يكون منكبًا في عمله في حاسوبه, والأهم, التي يستمتع بها فيلكس جدًا.

أصدقاء جمعتهم أرضُ الجامعة, هذا ما استطاع تقفيه من بين حديثها عن أصل العلاقة بينها هي ويونغي وروجر. اثنان تخرجا, وهي التي تعمل على ما يبدو في بعض المعارض الفنية من وقت لآخر كما يظن لأن أغلب حكاياتها عن يومها تبدأ عادة بعبارة ك 'عندما كنت في المعرض صباحًا' و 'كان هناك تلك السيدة التي قابلتها في المعرض على جوانب حيِّ الشورلاين.'

تعمل في معارض على ما يبدو, وتكملُ الماجستير في تخصصها عن تاريخ الفن. هي من تستمر بتكديس تلك اللوحات التي تشتريها من محلاتٍ جانبية رخيصة تبيعُ نسخًا للوحاتٍ شهيرة, وتستمر بإحضارها إلى مطبخ يونغي لتعليقها. بينما تثرثر طويلًا دون انقطاع ريثما تضربُ مسمارًا جديدًا في الحائط عن اللوحة, اسمها الطويل, وتاريخها الأطول. ولا تتوقف عن تكرار أن هذا المكان هو الأفضل لأن شقتها ممتلئة بالفعل, ولأن الحائط في مطبخ يونغي هو هبةٌ مميزة تلونها الشمس أغلب النهار, ولأنه بتلك الطريقة يمكنها تأملها طويلًا بما أنها تمضي وقتًا كثيرًا هنا بالفعل.

بل إنها حتى أخبرته عن تلك اللوحة المنشودة. في الصباح التالي الذي لحق تلك الليلة التي حظى فيها بذلك الحلم الدافئ, الحلم الذي استيقظ منه رطبًا بعرقه ومشاعره المنصهرة كبركٍ ضحلة فوق وعيه ورغبته الغير مفهومة لشيءٍ ما. في ذلك الصباح وجد يونغي مستيقظًا بهالاته المزرقة, وابتسامته النحيلة التي تحملُ شيئًا مألوفًا, مألوفًا ككلمة شكرًا يعرفها أيُ أحد, وتوجه بها ناح فيلكس الذي رد بشاشته بخجل, على ما يبدو قاصدًا الشطائر التي تركها الأصغر مسبقًا له.

في ذاك الصباح حضرت كارولين مبكرًا حول وقت الفطور, واكتفت بالحديث بجملٍ قصيرة مع يونغي عن أمر متعلق بأستاذٍ في جامعتها. من تحت فقاقيع حديثهما, كان فيلكس يتناول طعامه تارة, ويحدق بتشتتٍ في شوكته تارة. كان لا يزالَ يشعرُ بتلك البركة الصغيرة داخل معدته, العائمة بدفء وقلق, الرطوبة الباقية من العرق أسفل قميص نومه الرقيق وعلى طول عموده الفقري, الأطراف الريشية التي تستمر بالارتعاش داخل صدره باشتياق غير مبرر لحلمه العجيب, والمزيج الوطيس بين كل تلك الأمور وتلامس قدميه مع أرضية المطبخ الرخامية الباردة.

وعندما أعاد بصره حينها للتحديق بلوحة زائري حلمه, يبدو أن كارولين قد لاحظته, لأن هناك شيءٌ ما التمع في عينيها, قبل أن تباشر بالسؤال عما إذا أعجبته اللوحة, ثم الاستمرار بشرح الكثير من الأمور عنها, والتي لن ينكر فيلكس استمتاعه بشدة بسماعها, حتى عندما ابتسم بتفاجؤ من الطريقة التي عاد فيها يونغي حالا إلى هاتفه بينما أكمل تجرع قهوته بعجل.

وقد علم فيلكس عددًا لا بأس به من الأمور والتي تذكرها حتى لعدة أيام بعدها. اللوحة تدعى رمزُ الحب; كيوبيد وسايكي. لفنانٍ أسباني يدعى فرانثيسكو غويا, وكما أخطأ تقديره, لا تنتمي لحقبة عصر النهضة, بل لبدايات القرن التاسع عشر.

لقد كان مشدوهًا بالطريقة التي تتذكر فيها كارولين كل تلك التفاصيل, بالأسلوب الذي تنقشُ به تلك المعرفة والأسماء الملتوية حرفًا حرفًا بشغفٍ لا ينضب ناح ما تقوم به. ذاك الشغف العارم, الرغبة الدفينة للإلمام, ومعالم الوجه الطروبة بكل ذاك الاهتمام ناح ما تفعل. كل هذا الحماس يجعل روح فيلكس تحترق بحماسٍ هو أيضًا لا يجد له مبررًا, لكن لطالما زاوله عندما ينخرطُ بشدة في عالمٍ شاسع لعاشق وفيّ لكل ما يفعله في هذه الحياة.

ويجدُ أنه من المريح وشديد اللطف منها كونها لم تسأله عن أي شيء مباشر يضع ضغطًا على نقطة ما إطلاقًا, لم تستفسر عن سبب وجوده الدائم في منزل يونغي, ولا أي أمرٍ آخر. وكأن كل هذا طبيعيٌ كفاية. وهذا ترك لها حرية التوهج في امتنان فيلكس أكثر.

ثم كانت هناك تلك التساؤلات الطفيفة, التي تهرع راكضة أسرع من الطريقة التي بها حضرت, والفضول البريء المحض. ما هو العمل الذي يزاوله يونغي؟

الشيء الوحيد الذي يعلمه هو أن يونغي متخرج, لكن في أي تخصص؟ ما هي وظيفته؟ وكيف تسيرُ بهذا النظام المبعثر الذي يجعله يحضر ويرحل في أوقاتٍ غير منتظمة أو مترابطة؟ ذلك كل ما لا يملكُ فيلكس ولو فكرةً صغيرةً عنه. وبالطبع, هو لن يسأل أبدًا.

ليس هناك سبب أو دافع لفعل ذلك, ليس هناك عائد سوى إرضاء فضول غير مطلوب ولا سيغير أي شيء, والأهم من ذلك, فإن يونغي لم يرغب بالحديث عنه أبدًا حتى الآن, لذا هم بالطبع لن يتحدثا عنه.

__________________________

الفصل إهداء ل viirmen
اللطيفة💛!

أيش رأيكم برحلة فيلكس الصغيرة في بداية القصة؟

هل عندكم تساؤلات عجيبة ناح شي غريب مثل كل شي ثاني في القصة؟

شكرًا على القراءة، كونوا بخير دومًا💕

Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top