4| قلبٌ محتاج.

فيلكس لا يذكرُ بالضبط متى حدث ذلك. لكنهُ تقريبًا في أول أشهرٍ لحقت سنته الأولى في الثانوية. كانت هناك تلك الفتاة في الرواق والتي يعلمُ أنها تدعى روزالين والتي كانت في سنتها الأخيرة. لا يعلمُ على وجه الخصوص لما كان يعرفُ اسمها, لكن في تلك النقطة من العام كان هو, وتقريبًا جميعُ من في المدرسة، يعرفون أسماء جميع طلاب السنة الثالثة لسبب ما. ربما لأنهم الأكبر سنًا أو شيئًا من ذاك القبيل. 

لكن على كل حال, كانت روزالين تجوبُ الأروقة في القسم الشرقي من المدرسة مرارًا وتكرارًا بوجهٍ ممتقع وعيناها تلاحقُ تقسيمات قطع الرخام في الأرضية. إلا أنه لاحقًا اكتشف أنها تبحثُ عن شيءٍ ما بعد سؤالها له عما إذا كان قد لمحَ شيئًا يبرق في الأرض أثناء سيره. لقد ضيعت أحد قطع حلقها الفضي في مكانٍ ما, هذا ما تمتمت به بعجل وعبوسٌ وضاح ممتدٌ من جبينها وحتى شفتيها. لم تدُر الفكرة كثيرًا في عقله قبل أن يجد أن عرض البحث معها قد فارق شفتيه. رغم أنها كانت نهاية الاستراحة وهو يملكُ حصة كيمياء كما يذكرُ من تفحصه للجدول اليومي, إلا أنه وجد نفسه يقرفصُ بينما يمشطُ الزوايا بعينيه حيث يظنُ أن الأقدام قد دفعت بالحلق كأفضل استنتاج.

 بطريقة ما أسرع مما توقع, استطاع لمح وميض باهت من خلف أحد حاويات القمامة السوداء قرب الزاوية كما شك. وعندما تفقد مبعدًا مغلف شطيرة ضلت طريقها بعيدًا عن الفوهة الكبيرة باستهتار, قبص بعجل على الحلق المستدير والصغير. أعلن أنه وجده من مكانه على الأرض ليعطي إشارة لروزالين التي تبعده عشرة أمتار في الجهة المقابلة للتوقف, ولم يجد أن لديه أي شيء آخر لقوله بينما سار بحذر ناح طالبة السنة الثالثة التي اتجهت بخطى وئيدة بدورها ناحه أيضًا. وضعه في كفتها, وقد وجد في داخله الرغبة الغير مهمة للشرح عن المكان والكيفية التي وجد فيها الضالة المنشودة.

 كانت كلماته لا تزالُ تنساب بين أسنانه عندما لاحظ انثناء ظلٍ ما فوقه. وقبل أن يعي ذلك وبسرعة جعلتهُ يتساءل إن كان الأمرُ برمته قد حدث فعلًا, باغته شعور طفيف لشبح شفاه مكتنزة وجافة فوق وجنته اليمنى. اختفى الشعور بذات السرعة التي حضر بها حتى بدا وكأنهُ رعشة يومية اعتيادية. أنبرت روزالين بكلمة شكر ممتنة قبل أن تومئ ناحه بسرعة وتسحب أقدامها ناح صديقتها التي كانت تنتظرُ عند أحد المقاعد الخشبية حيث كانت تبحثُ أسفله سلفًا.

عندما يسترجعُ فيلكس الموقف, فإنه يعلم أن ردة فعله على تلك القبلة البسيطة كان مبالغًا به، حتى وإن حاول التستر عن الأمر خارج دواخله الملتوية. فهو يعلمُ روزالين, من الثرثرات الكثيرة والقليلة والسريعة والطيدة التي تحملُها أروقة مدرستهم الشاسعة. وقد سمع على وجه الخصوص عن أصولها الفرنسية, وكل تلك الحكايات عن الطريقة التي كانت تقبلُ فيها خد جميع من تعرفهم عند الترحيب وغيرها من المواقف بكل عفوية لكونه شيء يتداولُ عن كونه اعتيادي تمامًا في ثقافتهم. حتى أن الأمر تحول إلى نكتة داخية يتقاطفُها بعضٌ ممن يعرفونها ولا يعرفونها مع بعض العبارات الساذجة بشدة في نظر فيلكس حين يقوم المتحدث بتشديد حرف الراء بلكنة فرنسية ركيكة. 

يعي أن الطريقة التي تضاربت بها ضرباتُ قلبه وانسل الدفء الثخين إلى وجنتيه كان غير اعتيادي أو حتى ضروري. لم يكُن أول شخصٍ تقبل خده, ولن يكون الأخير على ما يبدو. العديد من الفتيان والفتيات حصلوا على ترحيبها المعتاد في نقطة ما من العام الدراسي, والكثير من الأشخاص حول العالم على الأرجح يتلقون على الأقل قبلة خد واحدة كل يوم. هذا ما أخذَ يركضُ كأفكارٍ عشوائية جنونية داخل عقله في أحد تلك اللحظات عندما يجولُ الكثير بداخل رأسك ولكن لا يتعلقُ أي شيءٍ بوعيك. 

لكن الأمر, والحقيقة الفجائية, وذات الوهج المريرّ في ختامها عندما أدركها, هي أن تلك كانت أول قبلة خد يتلقاها في حياته. 

الحفيفُ العجول لتلك الشفاه من الفتاة الكبرى, والذي لم يستقر على وجنته لثانية كاملة حتى, كان أول قبلة تقابلُ بشرة وجنته, أو على الأقل القبلة الوحيدة التي يذكرها, مما يجعلُها منطقيًا الأولى. 

ولربما هذا هو السبب الذي ترك تخطي الأمر برمته أكثر صعوبة عليه. لربما هو ما جعله يعودُ إلى الفصل ومعدته لا تزالُ تتقلب ليتلقى تعليقًا من زميلِ له عن كون أذنيه تتوهج بحمرة مع نكتة عما إذا كان مصابًا بالحمى.

وفي الواقع, وهو ما تركه مشدوهًا حتى من نفسه, أنه لم يستطع نسيان الأمر لوقت طويل، بل حتى للآن. لا زالَ سيشعرُ بفراشات تتضاربُ بين جدران الجزء السفلي من معدته, وشعوُر سقوطٍ طفيف سيلاحقُ قلبه في كُل مرة سيتذكر وميض لمسة الشفاه تلك فوق وجنته. 

وللصدق, عندما يصارحُ ذاته بذلك, فإن مشاعره تلك تترك حزنًا وضيقًا من نوعٍ ما فيه, على الأقل بعد أن تتطاير أحاسيسُ الخجل والانبهار. لأنه لم يكن معجبًا بروزالين, لا بل هو لم يكُن يعرفها حتى، عدا عن اسمها وسنتها الدراسية. لذا تلك القبلة لم تعني لهُ شيئًا شخصيًا بذاتها أو من ذاك القبيل. لكنها لم تفشل إطلاقًا بترك شعور نشوة مرامة ودفءٍ غير اعتيادي في أعمق حفرة داخل صدره. فقط لكونها أول قبلة يتلاقاها, وأحد أندر وجوه التلامس الجسدي الذي اقتطع طريقه يومًا. 

وتلك القبلة البسيطة التي لم تعني أي شيء لروزالين, عنت الكثير له. وجعلته يدرك كم يطوق للتلامس الجسدي العفوي بتلك الطريقة, كم يتطلع لتعبير أحدٍ ما عن حبهم وتقديرهم ناحه بأشياء مشابهة للعبارات اللطيفة وقبل الخد السريعة أو حتى العميقة. وجعلته يفكرُ بشرودٍ أحيانًا وهو ينتظرُ حافلة المدرسة والتي تعيدُ له أي ذكريات متعلقة بمدرسته، يفكرُ عن أي موجٍ من المشاعر سيحتويه عندما يبادله أحد ما أمور أخرى أيضًا. كقبل الجبين مثلًا, أو الأحضان الدفينة المحتوية والتي تدوم لأكثر من تلك اللحظات التي يتشاركها مع بعض زملائه عندما يقومون بإنهاء مشروع صفي أو تسديد هدف في حصة الرياضة. هو تساءلَ لوقتٍ أطول مما سيعترفُ به متخيلًا بعمق تلك التصرفات.

فقط, وفقط لأنه غير معتادٍ أبدًا على تلقيها في المنزل قبلًا, ولا يظنُ أن أحدًا يتشوق لتقديمها له أيضًا.   

^^






ومع أن يونغي كان هو من أخبره بذاته أن يستخدم المطبخ متى ما شاء وكيفما شاء, فإن الحقيقة هي أن الفرصة, لحسن الحظ, لم تسنح له كفاية.

الصباحاتُ الموشحة بشمس الصباح الهادئة والرقيقة لبداية اليوم, أخذت تصبح ملونة بضجيج الأواني, رائحة الزبد المذاب الذي يحبُ يونغي استخدامه, وعبق القهوة السوداء. 

عندما استيقظ فيلكس في اليوم الذي تلا محادثة المطبخ, فإنه كان متأهبًا لتحضير طعامٍ بسيط لذاته. إلا أنه فوجئ عندما لحقته خطوات متثاقلة ليظهر يونغي من خلفه في المطبخ بأعينٍ مرقعة بالزرقة على البشرة أسفلها, شعرٍ مبعثر, وصوتٍ مخدوش من النوم, لكن ما يبدو كترحيبٍ واضح عندما كان يذهبُ لسحب المقلاة المعلقة وإخراج الزبدة.

وبتلك الطريقة فإن يونغي أخذ يستيقظ مبكرًا ويقوم بتحضير الفطور بينما يسأل فيلكس عن الطريقة التي سارت بها ليلته, معاكسًا كل ما قاله قبلًا عن تحضير الطعام وما إلى ذلك. 

لم يكن يبدو من الصعب رؤية كم كان يعاني ليلتقط وعيه بقدر الإمكان من الأرجاء ومحاولة البقاء متيقظًا بينما يحضر الطعام ويخبر فيلكس من أين عليه إحضار الأطباق بينما الأصغر يتولى مهمة تحضير المائدة. وهذا كان يشعر فيلكس بنوعٍ من الذنب, لكون يونغي أخذ يرغم نفسه على الاستيقاظ مبكرًا فقط ليحضر الفطور. لكنه كان يتناسى ذلك الثقل سريعًا حالما يحدق بدهشة ناح تثاؤبات يونغي التي لا تنتهي حتى يفرغ كوبين من القهوة, وبالطبع حينما يبدأ هو بالغوص في طعامه الساخن. 

فيلكس معتاد على الاستيقاظ مبكرًا, هذا شيء لا يمكنه تغييره في قريرة ذاته. منذ الأزل فهو يذكر سحبه لجسده فوق أطراف أصابعه كل صباح بعد إشراق الشمس بوقتٍ قصير لبدء يومه. لطالما كان لديه تلك العلاقة الوثيقة مع خط الأفق البرتقالي وتخومه الموشاة بلون البنفسج من وراء زجاج نافذته الصغيرة التي تتوسط الحائط الأزرق في غرفته. 

حينها عندما ترددُ الطيورُ مناشداتها الحادة فوق الأشجار, يكونُ الجو أكثر برودة, يتكثفُ الندى فوق النافذة في الشتاء, والأهم من ذلك يكون جده, جدته, هيونجين ,عمته, وجميع أفراد عائلته دون استثناء نيامًا قريري الأعين.

بعد الفطور يقوم هو بغسل الصحون. مع أن يونغي كان قد رفض الفكرة بداية وقال أن عليهما أن يتشاركاها, إلا أن فيلكس كان يصرُ قائلًا أنه سيفعلها, ويتجنب ذكر أشياء ككون هذا أقل ما يمكنه فعله خصوصًا وأن بدأ يتناوبُ بالركض وراء مشاعر حول كم يرغب أن يصبح ذو فائدة في هذا المنزل.

كانا قد بدءا مسبقًا بالفعل بتنظيف الغرفة في الأعلى. غرفة حوائطها متقاربة بشدة, يوجدُ بها سريرٌ زحف لونه إلى الرمادي, أرضٌ عليها طبقة مكللة من الغبار الكثيف, وعدد من المنازل البيضاء في الزوايا التي اجتهدت في صنعها عناكبٌ يبدو حجمها مقلقًا. 

ومع أن يونغي هو من أخبره بكل ما عليه فعله, وهو من قاد عملية التنظيف والذي أمضى وقتًا طويلًا في تأمل الغرفة محاولًا معرفة من أين سيبدأ وماذا سيرمي وما الذي سيتركه. إلا أنه بعد تنهيدة طويلة قال أن غسيل الشراشف القذرة على السرير بداية وفتح ستارة الغرفة ليغرقها الضوء لأول مرة منذ أشهر كان أفضل خيار. 

مجددًا لم يستطع فيلكس كبح التأنيب الذي انسل فوق قلبه لرؤية كم الفوضى التي كان عليهما التعامل معها, والعدد الضخم من الخردوات التي لا يعرف لا هو ولا يونغي حتى أين يجب رميها. إلا أنه لم ينبس بحرف بينما استمر بطلب إرشاد يونغي في كل خطوة يفعلها.

بعد وضع الشراشف المسودة في الغسيل, نفض المنازل المنسوجة في الزوايا ويده فوق رأسه بذعر, وأخذ كل علب الطعام المعلب الموجودة هنا إلى المطبخ ليرتبها يونغي في الخُزن على الرغم من أن بعضها كان منتهي الصلاحية بالفعل. كان لم يبقى إلا العدد الكبير من الخردوات التي ستترك المرء يتساءل بجدية عن سبب تواجدها في منزل كهذا لا يقطنه إلا شاب وحيد. 

"سيكون علينا إبقاء الأشياء لوقت أطول هنا, حتى أجد طريقة للتخلص منها في شاحنة تجميع أو من ذاك القبيل."
كان ذلك ما قاله يونغي بعدما دخل الغرفة  وهو يحمل بصعوبة دلوًا كبيرًا ومليئًا بالماء وعلى ما يبدو منظف عطر تكاثفت رائحته فوق الغبار الملتصق بالأثات القليل.

أكد فيلكس أنه سمع الأكبر بينما أخذ منه الممسحة التي لم يجادل يونغي طويلًا لبقائها, ليغمسها في الماء المنعش و يسمر عن أرجله بخفة ليبدأ المسح. كانت الأرض متمسكة بشدة بلونها الداكن إلى حد اضطراره لمسح كل بقعة مرتين على الأقل. لحسن الحظ لم تكن الغرفة أعرض من ستة أمتارٍ طولًا وعرضًا لذا أنهاها بسرعة مقبولة قبل أن يطلب من يونغي ممسحة قماشية خاصة لينظف الجدران بقدر ما تطاله يداه. 

في وقت ما مقارب للعصر, أنبر يونغي بكون هذا كافيًا لليوم بعد مكالمة قصيرة وردته وأنهاها خارج الغرفة. كما أنه وبعد أن اتجه إلى غرفته وعاد ببنطالٍ أسود ضيق وقميصٍ فضاض أبيض اللون, طلب من فيلكس رأيه عن مقدورته في الذهاب إلى متجر البقالة القريب وإحضار بعض الحاجيات للمنزل, كالبيض وبضع حبات من الليمون وأمور أخرى كان بالفعل قد كتبها على ورقة عندما عاد بخطٍ صعب القراءة وبالطبع لم يمانعه فيلكس الذي وافق بخجل على المهمة.

لذا وبعد أن غادر يونغي لما يبدو كعمله الذي لم يفهم فيلكس توقيته, وترك مبلغًا بسيطًا من المال على طاولة المطبخ وضعه الأصغر في أمان داخل جيب بنطاله الجينز قبل أن يخرج بدوره ويأخذ الطريق بخطٍ مستقيم إلى نهاية الشارع, عند التفافة, سار دون ميلان إلى الأمام وفي نهاية الطريق الثاني كان هناك, المتجر المتوسط والذي يبدو شبه فارغٍ إلا من الرجل الناعس خلف طاولة المحاسبة والذي يتفقد بملل مجلةً ما.

الامتنان هو ما واجه به فيلكس الهواء البارد من نظام التهوية الذي كان يعملُ كالضجيج الوحيد في المكان. قام بسحب سلةٍ حمراء وضع فيها بحذر كل طلبات يونغي التي كان من الصعب نوعًا إيجادها في هذا المكان الذي لم يكن معتادًا عليه بالمرة. 

ظنه بأنه كان المتسوق الوحيد تبدد وكأنه الغبار الذي أمضى كل فترة ما بعد الظهر بمسحه عندما لمح أحدًا ما يقفُ عند قسم المشروبات. 

جسد صغير نحيل ومعطف دانيم خفيف رغم أن الجو لا يحتاج كما يعرف أيُ عاقل. ومع أن فيلكس لم يرى وجه المتخشب ورأسه يغوص إلى أسفل محدقًا في هاتفه, إلا أنه لم يحتج الكثير من التكهن ليظن أنه مراهق من الطريقة التي كان يترك بها باب برادة المشروبات مفتوحًا بينما يحمل بأحد يديه كيسًا من الوجبات الخفيفة شديدة الحرورة وعلبة من الشاي المثلج بالخوخ. 

تظاهر بأنه لم يرى أحدًا حتى مع شعوره بالانزعاج من الطريقة التي لا يتحرك فيها الفتى من أمام الباب المفتوح على مصاريعه. وأكمل طريقه إلى الأقسام الأخرى محاولًا بجد إيجاد الغرضين المتبقيين في القائمة القصيرة. 

كانت مهمة البحث عن كل شيء في المكان دون وجود لافتات عما يحتويه كل قسم صعبة حتى وإن كان المتجر صغيرًا. ومع أنه كان بإمكانه السؤال, إلا أنه طبعًا, كونه فيلكس, لم يفعل واكتفى بالانغماس في شعور أنه يدورُ في دوامات. 

لمح الفتى الذي لم يرى وجهه بعد يتحرك إلى طاولة المحاسبة بينما هو بدوره اتجه إلى القسم الأمامي ليحصل على الخبز والذي كان الأخير في قائمته. 

استمر بالتحديق بحذر ولثوانٍ طويلة في كل الأنواع الموضوعة, واضطر لاستخدام يديه للبحث عندما لم يجد النوعية التي دونها يونغي حالًا. وبينما هو منخرط في ذلك راميًا ظهره للمدخل وطاولة المحاسبة, شعر بشيءٍ ما. وكأن هناك أعينًا معلقة بحبلٍ سميك ممتدة من على عنقه ومؤخرة رأسه. أحدهم يمركز عيناه عليه محدقًا. تجاهل الأمر بقدر استطاعته قبل أن يجد خبزه ويلتفت واضعًا إياه في السلة, وحينها رأى الفتى ذو معطف الدانيم يدفع الباب بقوة خارجًا من المكان. 

لم يعبه للأمر كثيرًا عندما وصل إلى طاولة الحساب وسلم الراكد خلفها بجمود ابتسامة ضعيفة قلقة متوافقة كثيرًا مع طبعه. ومع أنه كان يخشى أن يحدث هناك مشكلة مع أمر السعر, إلا أنه تنفس الصعداء عندما كانت النقود كافية بل وحتى أعاد له المحاسب ثلاثة دولارات مع الفاتورة.

عائدًا للمنزل بينما كلتا كفتيه مقبوضتان على جانبيه بعددٍ من الأكياس, شعورٌ أشبه بالضياع الفاتن احتل مكان الزفير في صدره. هو ذاته الذي انتابه في ذاك الصباح منذ أيامٍ قليلة أسفل محطة انتظار الحافلة المعدنية, وعندما وضع أول قدمٍ له في كانبرا. إحساسُ الرهبة الدفينة من المجهول, لكن الحماس الثخين للبدايات الجديدة. 

لم يعي أنه يبتسم بهدوء إلا عندما دخل منزل يونغي ووضع فردتي حذائه بترتيب على الجانب قبل أن يرفع رأسه ويحدق بانعكاسه في المرآة المرتفعة هناك. الأوضاع تمرُ بسلاسة تجتبى. حتى ولو كان لا يزال محتارًا بالطريقة التي التفت بها كلُ عقدة للأحداث وكيف وصل إلى هذه النقطة بالذات وإن كان أي شيء واقعيًا حتى, إلا أنه يتقبلُ جاهدًا كل هذا.

حاول ترتيب ما اشتراه في الأماكن المخصصة. حبات الليمون في درج الثلاجة, البيض على الرف هناك وأيضًا الخبز, وعندما احتار في بعض الأشياء كصلصة الصويا, تركها بأكياسها على المنضدة كي يتكفل بها يونغي حالما يعود. 

ومع أول خطوةٍ لسماء النهار ناح الانحساب المرتجف من الليل الدامس, مع أولِ نجمةٍ بالكاد ترى متعلقة من سراج السماء, قرر فيلكس تحضير العشاء. واحدًا بسيطًا, الشطائر. 

لم يكن يونغي قد عاد بعد حتى عندما أصبحت الثامنة مساءً, ولم يتصل حتى. مع أن فكرة كتلك تركت فيلكس يشعر بأنه ساذج خصوصًا وأن أولًا, يونغي ليس مضطرًا لتبرير مواعيد خروجه وحضوره لأي أحد خصوصًا لفيلكس, وثانيًا, لأنهما لم يملكا أرقام بعضهما حتى. 

لذا حرص على أن يبقي الأريكة, وسريره المؤقت أيضًا في غرفة الجلوس نظيفًا من أي فتات خبزٍ مراوغ, وعندما عاد للمطبخ وقبل شروعه بتنظيف الفوضى الصغيرة, أعد طبقًا محتشدًا بشطيرتين منظمتين وغطاهما جيدًا بالتغليف البلاستيكي. تررد طويلًا والتعبُ الضبابي لكل ما فعله اليوم من انكبابٍ في التنظيف والسير ينسلُ فوق كل مفصلٍ لجسده, وعقله بالفعل يرتخي مواجهًا النوم بطريقة أشبه للأحضان المرغمة. لكنه في النهاية قرر أنه سيفعلها عندما ذهب إلى واحدٍ من الأدراج وأحضر أحد الأوراق اللاصقة الملونة التي يبقيها يونغي هناك مع أقلام حبرٍ زرقاء و رصاصٍ غير مبرية. وحاول جعل خطه متوافقًا مع التنظيم بقدر الإمكان بينما يده تنزلق حول القلم كاتبًا:
"هذا العشاء لك, ليلة سعيدة."

لم يستطع كبح شعور الحرج الدافئ و العارم الذي اجتاح كل مستعمرة في قلبه وحتى الراقدة منها أسفل شوقٍ دفين للراحة. كل رعشة صغيرة فوق بنانه المنصهرة حول الهيكل المنحوت للقلم, وكل كلمة كانت هناك ولم يخرج إلا خمسٌ منها.

ثم اتجه للنوم, وهو شبه قلق من أنه أقفل باب المنزل دون علم الأكبر. بالطبع هذا هو الصحيح خصوَصًا وأنه رأى مسبقًا نسخة المفاتيح التي يبقيها يونغي في جيب بنطاله, لكنه كان ما يزال مشككًا. ومع ذلك اكتفى بطمأنة ذاته بينما يغوصُ رأسه كطفلٍ في رحم الراحة مكررًا لذاته أن نومه الرقيق سيكون كافيًا ليجعله عرضة لسماع أي ضجة ستحصل عند الباب لو أن يونغي عاد ولم يستطع دخول المنزل. 

^^



في تلك الليلة, راود فيلكس حلمٌ دافئ, مليء بالحرارة بالطريقة الغريبة التي لا تفهمها عندما ترتعش الفراشات الراقدة منذ سنواتٍ في أحشائك.

هناك, في حلمه, كانت المرأة الجميلة من اللوحة, عدا عن أن شعرها الأسود الأجعد اللامع كان يبدو وكأنه سخمُ المجرة وهناك نجومٌ تتراقصُ هناك فوق خصلاتها. وأيضًا هناك بقربها كيوبيد, دون سهامه لكن أجنحته تتلألأ فوق رأسه كما تفعلُ الحمرة حول تقاسيم وجهه. وهو يقطفها بين يديه, ويحدق فيها بذات النظرة الحالمة, ويزرعُ قبلاتٍ ناعمة تخلفُ توهجًا معمٍ للعيان فوق عينيها وعلى النجوم في المجرة المسكوبة بين ثنايا شعرها.

ومع أن فيلكس طرفٌ ثالث, إلا أن الدفء ذاته يحتويه هو, أو ربما لا يفعل. لربما الشعورُ الناعم فوق وجنتيه هو. شعرٌ بني يتدلى من مكانٍ ما, شفاه مكتنزة ناعمة رطبة فوق وجنته اليمنى, ثم اليسرى, ثم اليمنى مجددًا. 

وهناك ايضًا رائحة كولونيا يونغي, عبيرُ القهوة المحمصة. و روزالين التي لا تشبه روزالين التي يذكرها ولو مقدار أنملة. 

إنه مغمورٌ حتى أخمص قدميه في هذا الحلم.

_______________

فصل جديد!

المقطع اللطيف اللي حطيته شفته بالصدفة وانا اكتب الفصل الثاني؟ وكان حرفيًا أحلى صدفة ومناسب للقصة جدًا بطريقة ما🥺💛

شكرًا على القراءة💕

Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top