3| قطعةٌ إضافية.

متى وكيف, يحدثُ أن يدرك المرء بطريقة غير واضحة, أنه قطعة إضافية؟ كيف تحدق بوجوم ناح وجوهٍ تقابلك ويغنيك الاقتناع بأنك القطعة الإضافية الغير مخططة والمضافة إلى نمطٍ مثالي؟ هل يحدث هذا فجأة فتعلم حينها أنك مجرد تعكير للصورة الكبيرة؟ أم أنك من يزرع هذا الاعتقاد الذي لا يستهان به في عقلك؟

يدرك فيلكس جيدًا أنه قطعة أحجية إضافية لا تنتمي إلى المكان. أنه حتى ومع التقاسيم المتشابهة, الألوان المتجانسة, والأصل الواحد لذات العلبة, لا زال مجرد زيادة. وكأنه الجزء الذي لم يكن مخططًا له, ولم يستطع مهما حاول التمسك بتقاسيم الصورة ليكملها أن يفعل, أن يختتم ما هو بالفعلِ مكتملٌ.

فيلكس هو المقعد الإضافي على طاولة الطعام والذي كان غالبًا ما يشغله الفراغ في السنوات الماضية, إنه المساحة الإضافية في السيارة منذ توقف عن ركوبها, وهو أيضًا زوج الأحذية الوحيد على جانب الممر, بعيدًا عن الأزواج العديدة الباقية.

فيلكس هو القطعة الإضافية. هو يعلم, الجميع يعلم. ولكن لا أحد يعلن بذلك بين ممرات المنزل, لا شخص ليدلي بتلك الحقيقة, على الأقل بلسانه.

^^

كان كلُ ما تبقى من الشمس عندما وصلا إلى عتبة البيت الخشبية هو شبيهاتها الأشد بعدًا, النجوم الصغيرة التي تبدو كثقبٍ في السماء لضعفها, ونورُ قمرٍ لم يستطع تحديد مكانه أثناء السير.

لم يكن هناك شكٌ يراوده ناح التعرف الذي واجه به ما خالجه من سعادة متوهجة حالما لحق بيونغي الذي دخل المنزل وضرب حذائيه أمام المدخل قبل أن يتوجه إلى المطبخ وكأنه متأكد بأن فيلكس سيتكفل بإغلاق الباب بكل اعتيادية.

وعلى الرغم أنه مع كل الوقت الذي حفرت به حمالات حقيبته فوق كتفيه, فإنه كان شديد الحرص بإسنادها باتزان على الحائط الكموني في الممر أسفل مرآة مزخرفة معلقة. موضعها برفق كابحًا كل رغباته برميها بانتقام سخيف لكل عضلة تصرخُ في جسده.

عندما لحق بيونغي ناح المطبخ الذي كان يأجج كل إحساسٍ داخله بالدفء الغريب رغم حرارة الجو, وقف حائرًا بكُل مافيه مرةً أخرى عند المدخل. ينتظر أي إشارة من يونغي الذي كان منغمسًا في هاتفه وكأسُ ماءٍ نصفُ ممتلئ أمامه على المنضدة.

و للحظات بدا هذا كأمرٍ لا يمكن الإحاطة به, السكون الدامس فوق المنزل, بعيدًا عن صراصير الليل التي كانت قد بدأت جوقتها بحماس وهما يسيران عائدين, ارتعاشات الأضواء النيونية, وكلُ صوتٍ آخر صيفي على طول الشوارع التي ساراها بصمت غير مزعج بينهما. فيلكس مُثقل براحة غير معتادة بسبب هذا الهدوء.

"يمكنك استخدام الحمام في الطابق العلوي والاغتسال إن رغبت."
قطع الأكبر الصمت بأفضل طريقة بينما يطالُ الكأس أمامه ليفرغه. أخذ انتباهه إلى فيلكس الذي لم يترك مقامه أمام الباب وكأنه حارسُ حديقةٍ ملون.
"لا أشكُ بأنك تمكلكُ ملابس أخرى في حقيبتك الهائلة؟ وعلى أي حال إن لم تفعل لا تتردد بالسؤال."

ابتسم بحرج ثانية لذكر حقيبته ناح يونغي الذي عاد لتلك المزحة, وأومأ قبل أن يتحدث:
"أنت محق أملك بالفعل. أنا ممتن لعرضك."
ولو أن يونغي يعلم أنه لا يملكُ ملابسًا فقط في الحقيبة, بل ما يكفيه من الملتزمات الشخصية لوقت لا يستهان به فعلًا, وسيكونُ كافيًا لبدء حياة كاملة صغيرة و خاصة حتى لو انتهى به الأمر في صندوق كرتوني على حافة الطريق.

كانت رآحة حمام يونغي عارمة جدًا بنفس الكولونيا المركزة التي تلحقُ به كلما بدر عنه فعل, وظن فيلكس أن الانتعاش الذي تركته فيه بهيج عندما امتزجت مع رآحة الشامبو النعناعي وسائل استحمام الجسم بالعليق.

تأكد من أنه ترك الحمام بأفضل حال عندما غادره يحمل بتوهان ملابسه التي تحملت جسده كفاية منذ الفجر, ووضعها في سلة الغسيل البلاستيكية التي ظهرت من العدم حالما حط قدمه خارج إطار الباب وعلم أن يونغي كان يخبره بأين يتوجب عليه وضعها.

كانت ليلة تستمرُ بالتصاعد إلى حالة غريبة من الرضى والعجب. عندما عاد إلى المطبخ فإن يونغي كان بالفعل قد غادره وتطلب الأمر بعض الثواني من فيلكس ليلتقط الحفيف في غرف الجلوس حيث كان يونغي يرمي بعض الوسائد الملونة قرب بطانية رقيقة معكوفة بترتيب على الكنبة الكبيرة في المكان.

"لدي غرفة إضافية, قد تكون مررت بها أثناء ذهابك للاستحمام. ولكنك للأسف لا تسطيعُ استخدماهًا راهنًا لأنها مكتظة بالكثير من الخردوات وغيرها. كنتُ أعاملهُا كمخزن, لذا سيتوجب علينا تفريغها إن أردت استخدامها في أي وقتٍ قريب."
تحدث وهو يزيلُ بعضًا من الوسائد الملتصقة عند مسند الظهر الخاص بالكنبة ليفرد فيها اتساعًا إضافيًا, لم يرفع عينيه حتى لكن أصبح لدى فيلكس الذي يتجرع بحذر واقفًا المشهد اعتقاد طفولي بأن يونغي يستطيع سماع حركة الهواء حول الأشخاص.

ومع انتهاء يونغي فإنه قد تمنى له ليلة سعيدة أثناء عودته للمطبخ, ومع أن الوقت لم يكن يجاوز السابعة مساءً إلا أنه بطريقة سحرية يبدو قادرًا على معرفة كم الراحة التي يحتاجُ لها الأصغر.

إلا أن فيلكس لحق به بتردد إلى المطبخ في تلك الليلة, وزم شفتيه عندما كان يونغي قاد عاد للتحديق بهاتفه. لا يعلمُ إن كان فقط يصحُ له الحديث, ولكن مهما حاول لم يكن بمقدوره التغاضي عن الأمر.

"ماذا عن غسيل الصحون؟"
لم يكن حتى صوته واضحًا كفاية إلا أن الصمت الثخين في المنزل دعم كلامه بقوة كانت كفيلة بإعادة نظرات الأكبر الحادة ناحه.

الدهشة, هذا ما كانت توحي به عينا يونغي عندما رفع رأسه وهاتفه معلق بكفته. ولثانية يظن فيلكس بأن المقابل له لم يستطع التعرف على كلمات ك'غسيل' أو 'صحون' حتى. وكأنه نسي الأمر برمته. إلا أن يونغي موهوب, وبشدة عندما يتعلق الأمر بسحق أي شعورٍ لا يرغب به من على ملامحه. لأنه أومأ بعد لحظة بابتسامة بسيطة مغلقًا هاتفه ومستقيمًا قبل أن ينتحي المغسلة المكتظة في كل صوب.

لم يتردد فيلكس هذه المرة باللحاق به وهو يشعر براحة عارمة, لا يظن أنه كان بإمكانه فعل أي شيء آخر لو لم يتمكن من غسيل الصحون, ومع أن هذا يبدو شديد السخافة, لكن في عينيه يبدو أن انتهاء ليلته لم يكن منوطًا إلا برؤيته للأواني نظيفة.

على الرغم من أن الوقت كان قد تأخر بالفعل على إنقاذ مقلاة الصلصة التي بدت متحجرة بكل ما فيها, إلا أن يونغي رفع كتفيه بدون أي اهتمام تحت أنظاره وغمرها بالمياه واضعًا إياها جانبًا وقائلًا أنه سيغسلها بنفسه في اليوم التالي.

في تلك الليلة, وعلى الرغم من أن فيلكس كان يملك عددًا لا يحصى بكل ما فيه من تفرعات الأرقام من أفكار, ومع كل ما كان لا يزال عليه فعله, كتفقد هاتف الذي نسيه وربما شحنه, التخطيط لما سيتحدث عنه مع يونغي في اليوم التالي, وتجفيف يديه جديًا على الأقل بعد غسيل الصحون. إلا أن أيًا من ذلك سقط واحدًا تلو الآخر من فوق كاهليه عندما ترامى شعره فوق القماش الكتاني للوسادة السماوية. ولم يعي إلا انخراط أجفانه برقصة لم يوافق عليها حتى مع النوم فوق عينيه, رقصة لم تكن تملكُ موافقته لكن استحقت كل شكره عندما فقد وعيه بأسره إلى سباتٍ عميق.

^^

صباحًا, وعندما تفاقم شعورُ كتان الأريكة القاسي حول ذراعيه ومؤخرة عنقه, وحبات العرق الرقيقة التي تندى تحت خصلات غرته الطويلة في دلالة على نومه الذي وصل به العمق مغلبه في هذه الليلة العجيبة. رمش عينيه بعد ثوانٍ طويلة من التحديق الفارغ بالسقف الحليبي الداكن والذي لا ينيره إلا وهجُ شمسٍ ضعيف من خلف نافذة في زاوية الغرفة لا تمنعُ ستارتهُا الناعمة بعض الضوء من الهروب خلالها.

احتاج بعضًا من اللحظات غير القصيرة ليستعيد حبل أفكاره عن البارحة والذي تدلى بعيدًا عنه أثناء النوم, وحينها تنهد محملًا بالراحة الدفينة للذكرى والتصلب العميق في كتفيه وظهره الذي خلفته حقيبته العزيزة وهيكل الأريكة الخشبي أثناء تقلبه ليلًا.

استقام ببطء ليفرك عينيه المحترقة, وحدق في أرجاء الغرفة قبل أن يمركز اهتمامه إلى المدخل المفتوح على الممر ثم المطبخ الفارغ. يونغي لا يزال نائمًا إذًا.

توجه ببطء ناح حقيبته ليخرج هاتفه الذي قد كان مطفأً منذ مساء البارحة على ما يبدو, وحاول إيجاد مقبس كهرباء يوصله بشاحنه. بعدما فتحه, لم يجد أي مكالمات فائتة, كما توقع, فهو قد حظر جميع جهات اتصال أفراد عائلته. لم يكن هناك سوى رسالة نصية من صديقه ليو مكتوبٌ فيها 'هل وصلت؟'

صنع ملاحظة صغيرة في جانب عقله كي يحاول تذكر الإجابة على الرسالة لاحقًا, لكن للآن اكتفى بترك الهاتف البطيء أرضًا ليكتنل شحنه قبل أن يتوجه إلى المطبخ. كان يشعر بعطشٍ عظيم, وجوعٍ أعظم.

ساعةُ الحائط العالية تشيرُ إلى أنها قاربت من التاسعة صباحًا. لقد نام جيدًا بالفعل. تصنم للحظات يفكر قبل أن يستخدم كأسًا زجاجيًا نظيفًا من البارحة كان موضوعًا على الجانب بعدما انتهيا من غسل الصحون. في البداية خطط لفتح أحد الخزن التي قد تحمل بعض الكؤوس في الأرجاء لكنه تراجع سريعًا عندما اتجه إلى صنبور المياه وقام بسكب كأسٍ فاتر بل حتى شبه دافئ قبل أن يعود ليجلس في ذات مقعده من البارحة على المائدة. الماءُ لم يناسب رغبته كفاية لكنه لم يجد أي مبردة في الأرجاء, لذا اكتفى بتجرع أكثر من نصف الكأس الكبير بعجل.

الجوع يتقافزُ بين ممرات أحشائه بوجع، ويذكره بوجبته البعيدة من البارحة ويترجى أي شيءٍ ليسعفه به و يأكله.

ومهما حدق في الأرجاء، لا يظن أن بإمكانه فعل شيء، ليس بمقدوره. يونغي لا يزال نائمًا، ويشعرُ أنت سيكون من شديد الوقاحة بالنسبة له أن يلتف في أرجاء المطبخ ليعثر على طعام.

حسنًا, ربما لم يكن هذا وقاحةً لكنه لم يستطع فقط القيام بأي أمر عدا البقاء في مقعده والتحديق بخيوط الشمس الزبيدة المتناثرة من النافذة الشاسعة عند طرف المطبخ. الضوءُ ناعمٌ فوق مسطحات المائدة والخُزن الكريمية المصفوفة على طول المطبخ.

حاول بقدر الإمكان تجاهل تشنجات معدته الفارغة بينما أنهى كأس مياهه لينغمس مع آخر قطرة بعمق مع كُل فكرة ألبس لها أذنيه البارحة قبل أن يغط في النوم, وانتظرت بفارغ الصبر لتهرع أمام وعيه حالما ارتمى الصمت في أرجاء المكان عليه.

لكنه لم يستسلم, ليس بتلك السرعة. مدققًا في اللوحات متفاوتة الأحجام والتي تتصارع أمام عينيه فوق الحائط الطويل. ومع أنه رآها بشكلٍ جيد البارحة على مائدة الطعام, من فوق المحادثات ورائحة البارميزان المرشوش على طبق السباغيتي خاصته, إلا أنه شعر وأنه يرى أكثرها لأول مرة تحت ضوءٍ جديد, ربما تحت وهج الصباح والهواء الذي لا تشوبه الكلمات.

أبرز ما لفت انتباهه هو اللوحة مظلمة الجوانب لإمرأة يكللُ بدنها ثوبٌ أبيض دقيق, شعرٌ أسود مجعد ويدان لؤلؤيتان في الأرجاء. وعلى القرب منها رجلٌ يلفُ بدنه قطع قليلة من القماش على ظهره أجنحةٌ فيروزية وفوق وجهه تقاسيمٌ حالمة, طلته ذكرت فيلكس بكيوبيد الذي قرأوا عنه قبلًا في حصص الأدب, خصوصًا مع ما يبدو ككيس سهامٍ يحمله فوق ظهره.

تاه دون حيلة مع كل تقسيمٍ للفتاة الجميلة وكيوبيد المفتون, ارتكز دون تخطيط بوعيه فوق اللوحة التي تبدو وكأنها من عصر النهضة, هذا إن كان سيحكم عليها بخبرته الفنية البسيطة. لكن سرعان ما غلبته أفكاره المرتقبة, تلاصقت بكل إنشٍ سانح من بشرته, وسحبته متعلقة به وكأنهُ هاوية بعدها النهاية.

ما الذي سيخبره ليونغي حالما يسأله؟ بأي طريقةٍ سيبررُ موقفه ويسردُ حكايته؟ ما الذي قد يفعله؟ وهل يا ترى تغير موقفُ يونغي على مدار الليل وسيستيقظُ معكر المزاج ولا يرغبُ بأي مراهقٍ لا يعرفه كفاية في منزله؟

ثم مجددًا عاد الجزء البسيط والذي لا يرغب بالاعتراف به من وعيه والمعلق بينه وبين المنزل الذي غادر. لقد قام بحظر أرقام الجميع, لكن الأمر لن يأخذ كثيرًا ليحصلوا على أي هاتف آخر ويطرقوا رنات هاتفه. وكون أكثر من أربعٍ وعشرين ساعة قد مرت حتى الآن, وولا تنبيه صغير كان يلمعُ في شاشة هاتفه لمكالمة فائتة, فإن ذلك ترك شيئًا يشبُه بركة ضحلة من الفراغ لتتعفنَ خضراء في رحاب صدره. ليس حزنًا, ولا غضبًا, ليس أيًا من ذلك. مجرد فراغ لا يفهم بالضبط ماهيته.

ومع مرور الدقائق, الدقائق التي تبدو وكأنها لا تزعزع العقرب الطويل فوق الحائط إلا بشق الأنفس, استمر فيلكس بالسماح لأفكاره كي تقوده جيئةً وذهابا.

ومع استمرار أفكاره, قرر إحضار هاتفه ثانية والإجابة على رسالة ليو, تفقد أمور عشوائية يحفظها عن ظهر غيب في هاتفه, والاستمرار بشرب المياه من الصنبور والتي كانت يصبحُ طعمها الدافئ المعدني أكثر سوءًا مع كل جرعة.

كان عقربُ الساعة الصغير قد ابتعد عن العاشرة بنصف ساعة عندما ران على مسامع فيلكس صوت حفيفٍ قادم من الدرج خارج المطبخ. ثم جسدٌ نحيل لشاب يبدو وكأنه يترنح طريقه إلى مدخل المطبخ.

لم يكن بوسع فيلكس رؤية عيني يونغي بوضوح حتى أسفل سخم الشعر المدلوق فوق جبينه بينما هو يأخذ خطواته ببطء شديد ناح آلة تحضير القهوة الراقدة على أحد الطاولات وخطر لفيلكس من قبل فكرة أنها تبدو جميلة بشدة وباهظة أيضًا.

عندما التف فإنه تصنم للحظاتٍ عديدة وكأنه يفكر مليًا إن كان بمقدوره حتى إكمال الطريق إلى المائدة, رمش بعنف و أبعد شعره عن عينيه قبل أن يصب القليل من التركيز الراهن لديه على فيلكس الذي لم يبدر منه نفسٌ حتى. ثم كسر الجلبة بصوته الأجش فوق ضجيج آلة القهوة الناعم:
"أهلًا."

شعر فيلكس بكفيه يلتفان حول ركبه أسفل الطاولة قبل أن يومئ مجيبًا:
"صباح الخير."

أخرج يونغي هاتفه من جيب بنطاله الرياضي الفضفاض ليضعه على الخشب المكشوط قبل أن يكمل:
"هل أنت مستيقظ منذ وقتٍ طويل؟"

"لا, ليس بالفعل."
تمتم وهو يحاول جاهدًا ألا يظهر عجزه عن إبقاء عينيه معلقة مع الأكبر.

همهمة شبهُ مشككة ذابت من بين شفاه يونغي بينما استقام نحو الآلة يتفقدها, واستند على الرخام عندها لدقائق قصيرة ينتظر قبل أن يحملها ساكبًا كمية وفيرة في كوبٍ سحبه من خزانةٍ فوق رأسه.
"قهوة؟"
لم يلتفت حينما سأل بينما كان بالفعل يطال بيده كوبًا آخر.

"نعم, القليل فقط إذا سمحت."
أجاب فيلكس وهو يتملص جاهدًا من كون هذه فكرة غير جيدة ليقدمها إلى معدته الفارغة.

مجنٌ من السكون الموشح بعبير القهوة الحاد وخيوط الشمس التي يزدادُ وهجُها الأخاذ فوق الأثاث, هذا كان عليه الوضع عندما استغرق كلاهما في أكوابهما الخاصة ويونغي منغمس بعمق في هاتفه وإن كانت عيناه لا تزالُ نصف مغلقة.

"هل تناولت شيئًا ما؟"
هذا ما نبس به يونغي فجأة قاطعًا الصمت الطويل و شرود فيلكس الذي كان قد فقد تركيزه منذ دقيقة في بعض الشقوق الغريبة على أطراف مائدة الطعام والتي تبدو وكـأنها من مخالب حيوانٍ صغير.

تردد لوهلة قبل أن يحرك رأسه بدلالة على النفي. ولسبب ما كانت تلك خطوة كفيلة لتدفع يونغي للتحديق ناحه مطولًا ثانية, هذا قبل أن يتنهد فاركًا عينيه من أواخر النوم فوق أهدابه.
"ما كان عليك انتظاري حتى استيقظ."

عندما لم يبدر رد من فيلكس المشدوه فإن يونغي أكمل:
"استمع إلي فيلكس, أنا عادة لا أستيقظ إلا في وقتٍ متأخر مقارب للظهر, وغالبًا إن لم يكن دومًا, فإني أتخطى وجبة الإفطار. لذا ما كان عليك انتظاري أو حتى الظن بأنك تحتاج إلى إذني, حسنًا؟ طالما أنه تحت هذا السقف, فإن أي أحدٍ حرٌ كفاية ليتناول الطعام متى ما أراد وفعل أي شيء آخر. سواء كنت ستحضرُ طبقًا فرنسيًا معقدًا أو مجرد شطيرة, افعل ما تشاء و لا تنتظرني."

لم يسع فيلكس حينها العثور على رد, إن كان شكرًا, تبريرًا, أو حتى اعتذارًا لا يعلمُ سببه على الإطلاق لكنه كغيره التي يستمر باستخدامها طول الوقت. لذا اكتفى بالإيماء مجددًا, ومع أنه لنزير من اللحظات شعر بعقدة تحكمُ شأنها فيه, إلا أنها ارتخت بسرعة حالما أطلق يونغي همهمة راضية بشدة وبشاشة خفيفة عندما أخذ رشفةً طويلة من قهوته.

"إذًا, ماذا عن الآن؟ هل أنت موافقٌ على فطورٍ من تحضيري؟"
ومجددًا يطردُ يونغي الصمت برزانة بينما يضعُ جانبًا قهوته الفارغة حتى آخر قطرة. ثم يستقيم بثباتٍ أكثر ليسحب مقلاةً معلقة ويخرج من الثلاجة بيضتان كانتا وحيدتان قبلًا في العلبة الورقية, وكيسًا شفافًا يبدو ما بداخله كشيءٍ يشبه السجق.

"شكرًا لك."
تأكد بأن صوته كان بأكثر وضوحٍ يستطيع تمالكه الآن في غمرة امتنانه الغير مفهوم والسعادة العجيبة التي يجلبها انعكاسُ أيادي الشمس بحنو من على معدن المقلاة.

ومع تطاول خطوات النهار أكثر فأكثر داخل المطبخ مع كُل دقيقة يقتربُ فيها اليوم من ظهرٍ آخر, فإن رائحة الزبد الذائب والبيض المقلي فيه ارتفع بعجل في كُل صوب. ولم تكن سوى دقائق زمجرت فيها معدة فيلكس مطولًا وبقسوة انتقامًا لكل تجاهله السابق, قبل أن يرى يونغي يسكب محتويات المقلاة في طبقين مزخرفين ويضعهما على الطاولة. ثم عاد إلى آلة القهوة ليسكب لذاته كوبًا آخر ويحضر زجاجة كاتشب.

وأخذ مقعده بينما يمررُ له شوكةً:
"ها أنت ذا. فطور إنجليزي متكامل, عدا عن كونه ليس كذلك!"

لم يسع فيلكس سوى ترك ابتسامته لتتراقص بشكلٍ منطلق أكثر فوق وجهه على عبارة يونغي, وشكره مرة أخرى قبل أن يأخذ قضمة سريعة من السجق البراق في طبقه.

وقول شيء ككون طبخ يونغي جيد, فإن ذلك تقليل من قدره. فيلكس لا يزالُ يظنُ أن هذه أفضل وجبة يحظى بها منذ وقتٍ طويل يدًَا بيد مع الخاصة بعشاء بالبارحة.

"إذا رغبت, فإنه بإبمكانننا تفقد الغرفة الإضافية, إن كنت تنوي استخدامها فعلينا البدء برؤية كيف يمكننا جعلها قابلة للسكن البشري."
هذا كان ما قاله الأكبر عندما فرغ كلا طبقيهما وعاد يونغي إلى هاتفه بعدما عرض على فيلكس إعادة سكب بعض القهوة والذي قبله فيلكس دون تردد.

أمرٌ ما يجول في خواطره, حتى بعدما أعاد التحديق في اللوحات التي تبدو كثيرة بشدة الآن بالنسبة لمطبخٍ بسيط, لا تزال هناك تلك الرغبة الملحة في السؤال. وعلى الرغم من أنه لا يعرف إن كان هذا صائبًا كفاية, سؤال يونغي عما أصبح بديهيًا الآن, وغير موضوعٍ للشرح, أو أنهم فقط يتغاضون عن شرحه والبحث وراءه. يرغب بالسؤال فعلًا, لكنه يخشى أن يفسد أي شيء, كل شيء.

"عذرًا."
فعلها, هربته كلماته قبل أن يتمهل جيدًا, قبل أن يرتبها كفاية.
"كيف- آه, كيف علمت أنني هربت من المنزل؟"

حسنًا كان هذا أسوأ مما توقع حتى, فما قاله لم يكن حتى ما يريده. لم يكن ينوي سؤالًا يعلم ُإجابته مسبقًا. الحقيقة هي أن ما كان يدور برأسه من اسئلة مشابه ل 'هل حقًا لا بأس بكل هذا؟' و 'لماذا قبلت ببقائي بكل بساطة؟' إلا أن سؤاله الساذج ذاك هو الشكل الوحيد للطاعة التي انصاع لها لسانه.

نظرات معلقة, نظراتٌ لثوانٍ طويلة أخذها يونغي قبل أن يتحدث. لكن دون أن يكون بتركيزه على فيلكس, بل على نافذة المطبخ الواسعة, وكأنه يعلم كفاية عن كم عدم الراحة الذي سيجلبه التواصل النظري للسائل.
"أنا أعلم عن أي تعابير قد تكتسح وجه الهاربين من منازلهم فيلكس, أعلم بشكلٍ جيد تمامًا ومن خبرة ذات قصةٍ مضحكة تعود لطفولتي."

وانسدلت أساريره, وكأنه يرى عبر الزجاج المموج صورة لذكرى قديمة سانحة لناظريه هو فقط.

وهذا كان الأمر برمته, كل ما نبس به يونغي وبرره. لم يشرح كيف, أو مالذي رآه بالضبط فوق وجه فيلكس عند عتبة المنزل البارحة تحت الشمس الحارقة. لم يصف أي شيء ولم يتكلم حتى عن العائلة أو يسأل عن أي بررات. كانت تلك كلمات يونغي الوحيدة في ذاك الصباح. ولم يزد عليها أي أخرى مشابهة لها لباقي اليوم عندما أمضيا فترة طويلة بتفقد وتفريغ الغرفة المكتظة في الطابق العلوي.

كان ذاك هو كلُ ما لدى يونغي لقوله, وفيلكس ممتنٌ بشدة لذلك.

________________

الفصل إهداء ل MSUG93
لأني ممتنة لها جدًا على حبها الدائم ولأن حرفيًا ممكن اهديك الكتاب بأسره وما يكون كافي💛

شكرًا لوقتكم والقراءة💕

Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top