2| وحيدًا في كانبرا.

لدى أشعة الظهر وطأ خاص يتعشش فوق بشرتك, ثقيل وقبيح أكثر من أي وقت آخر في اليوم ستقارنها فيه, خصوصًا عندما لا يكون لديك سقف خاص تلوذ به بعيدًا عن وهجها, حتى وإن كانت بداية أيام الصيف لا غير.

كون المنزل الذي غادره فيلكس منذ بضع دقائق ليس الخاص بآل مين, تركه مذعورًا, وبشدة. لقد أتى إلى هذه المدينة الكبيرة معلقًا أمامه نبراسًا من بضع كلمات حفظها في مفكرته, عنوان بسيط سيكون نقطة البداية, والمعونة, وربما أيضًا النهاية, إلا أنه حاول التعلق بالفرص الحسنة الضعيفة بقدر الإمكان.

أما الآن, فلا حسن ولا دميم يقبعُ أمام ناظريه, لا فرصة ولا قسوة, ولا أي شيء. لأن العنوان لم يكن صحيحًا على الإطلاق بأي حال. وهذا يعني أنه يقف الآن وحيدًا على رصيفٍ اسمنتي قائظ لمدينة لا يعرفُ أيًا ممن فيها ولا يألفُ وجهًا بين طرقاتها.

حاول أن يستعيد طريقة التنفس الصحيحة التي يستمر معلم التربية الصحية متعب التقاسيم بإعادتها في بداية كل حصة فارغة أخرى, حاول بصدق أن يبقي أنفاسه لعشر ثوانٍ ٍكاملة حبيسة صدره الطري, إلا أنه يشكُ بأن أيًا من ذلك كان يهرعُ لمواساته, أو حتى التخفيف عنه. لأنه الآن بينما يسندُ ظهره المثقل على حائطٍ أصفر أسفل أحد المظلات الملونة لمقهى مفتوح صغير, فهو يصيح مفكرًا مرارًا بما الذي قد فعله بحق السماء؟!

قادمًا إلى كانبرا من بين كل المقاطعات الأخرى, بعنوانٍ فقط سمعه فوق طاولة العشاء في أمسية تبدو بعيدة بشدة الآن منذ أيام عديدة قد جرت, بدا كخطة جيدة, بل ربما الألمع من بين كل ما كان عابقًا بالمعنى أو يقطرُ سذاجة في البحر العائم من خواطره التي لا تنقضي. سيأتي إلى هنا, سيجدُ يونغي مين, وسيتمكنُ بالتأكيد من شرح الموقف وبدء حياة جديدة.

لديه من المال ما يكفي طعام ثلاث أيام إن اقتصد كفاية, لربما أقل إن استمر بالحاجة لسيارات الأجرة ووسائل النقل إن تبين أن العنوان يقبعُ بعيدًا كفاية في الأحضان الرحيبة لهذه المقاطعة, كان متأملًا بشدة أن الخطة ستسير بطريقة و بأخرى متعدية أي عقبة ستنهال فوق دربه الوليد, وأنه سيصلُ إلى المكان بطريقة أو بأخرى.

لكن الآن ماذا؟ العنوان ليس حتى قريبًا من الصحة, الذي يسكنُ هناك ليس أي من آل مين, ويستطيعُ دون التحديق مطو لًا تبين أن لا قطرة دم واحدة حتى تقعُ في خانة القرابة بينه وبين الرجل المضطرب الذي فتح الباب.

وفي لحظات كهذه, عندما يأخذُ الماء الفاتر لبحر ندمك بترك كُل ما تستمرُ بدفعه مرارًا إلى نهاية عقلك ليطفو, عندما يبدو كُل شكٍ ضئيل عظيمًا بينما يرفض الغوص عن السطح, حينما يبدو مستوى الندم قريبًا بحدٍ مقلق من فاهك المرتعش, مالذي تفعله حينها؟

عندما يسترجعُ مخططاته المجنونة في كل زاوية من ذكرياته الآن على طول الأشهر الماضية، فإنه كان بإمكانه تخطيط، بل وربما تنفيذ العديد من التوقعات الأخرى.

كان مثلًا يمكنه التوجه إلى ميلبورن، مدينة مكتظة ولكن تسنو بهدوء طباعها وقد تكون أرض فرصٍ خصبة لفتًا مثله، ينتظر أي حشدٍ بهي ليبتلعه ويصبح جزءًا منه، وحبذا لو كان أصحاب هذا الحشد رقيقي الطباع كما يعرف عن قانطي ميلبورن.

بإمكانه التوجه لأي مكان آخر تقريبًا، كان يستطيع وضع المزيد من الاحتمالات, العديد من المقاطعات التي لا تعد ولا تحصى، لربما كان بإمكانه حتى البقاء في حدود سيدني لكن الابتعاد عن الجبال وأي منطقة يعرفها فيها.

كان وكان ومهما أعاد تلك الكلمة الآن وهو يعبث بسحاب حقيبته المعدني، فإن ذلك لن يحدث أي تغيير. لقد اتخذ قرارًا خاطئًا والبقاء هنا لن يفيد.

حاول التفكير مرارًا، السكن في العاصمة ليس سيئًا بشدة، الأسعار مرتفعة، يمكنه العمل؟ نعم العواصم ممتلئة دومًا بفرص عمل. لكن العمل في ماذا الآن لا يملك أي مؤهلات، وإن كان يستطيع أن يبدأ كعامل نظافة في مكان حكومي حتى، أين سينام ويقطن حتى يصبح لديه ما يكفي ليملك مكانًا صغير بحجم علبة كبريت حتى كي يستأجره؟

هل يمكنه التوجه إلى أقرب مقاطعة من هنا، أيُ مدينة ستكون أرحم معاملة مع فتى يائس يبحثُ عن مكانٍ ينتمي إليه.

ماذا إن لم يكن هذا أيضًا فكرةً جيدة؟ هل سيكون تصرفًا أكثر حكمة محاولة تدبر وسيلة نقل بالنقود القليلة المتبقية للعودة إلى سيدني بأقل الخسائر الممكنة وتجنبًا للمخاطر المحتملة؟

لكنه أقسم في كينونة نفسه ألا يعود أبدًا إلى سيدني مهما حدث، أنه سيتدبر ذاته بطريقة أو بأخرى ولن يعود أدراجه إلى المنزل مهما بدا الطريقُ الراهن مجحفًا. هل لا يزالُ الالتزام بهذا العهد مهمًا الآن بعدما تبين أن لا فرصة تقفُ مساندةً له في هذا المكان؟

عاد للمحاولة غير المجدية بتنظيم تنفسه بينما يتوازن باستقامة فوق قدميه. سيعود إلى الشارع أمام محطة الحافلات، إلى الرجل الأشقر الذي الذي دله على الاتجاهات. بدا وكأنه لطيفٌ كفاية كي يضيع المزيد من الوقت في الاستماع إليه، لربما سيتفهمُ وجهة نظره ويساعده.

عندما أصبح أسفل وهج الشمس ثانية وفي قارعة الطريق, استطاع التقاط جسم ما يقترب ناحه بثبات, يتباطأ لثانية, ثم يعود حاثًا خطواته السريعة, حتى أصبح قريبًا كفاية ليتعرف فيلكس على البشرة القرمزية أسفل العينين والرأس ذي الشعر الرقيق.

"حمدًا للرب, لا تزال هنا!"
لهث الرجل السابق منذ ربع ساعة مضت, وهو ينحني مسندًا باستسلام كفيه حول ركبه يحاول بجهد استجماع أنفاسه.

"أوه."
هذا كل ما تمكن منه بينما يقترب دون تخطيط من الرجل وقد ثنى ظهره دون شعورٍ فقط من قصر أنفاس المقابل له.

أردت إخبارك, لقد تذكرت شيئًا ما."
أخذ صوت الرجل يرتفع وضوحًا بينما هو يعتدل ليفرد خلفه ظلًا طويلًا .
"كنت تسأل عن يونغي صحيح, الابن الوحيد لعائلة مين؟"

لم يترك فيلكس الكلام ليغرق بداخله أطول قبل أن يهز برأسه موافقًا حاثًا الآخر على الإكمال.

"حسنًا لقد تذكرت أمرًا ما للتو في الواقع. السيد مين وزوجته قد غادرا استراليا منذ بضعة أشهر. ويبدو أنهما لن يعودا في أي وقت قريب حسب ما أذكر سماعه."
بدأ بعجل ونظره لا يزال مرتكزًا بحدة على فيلكس التائه, وكأنه مع حديثه المستعر يفكر إن كان يثق به كفاية ليكمل.

أومأ فيلكس بتردد مرةً أخرى, هو بالفعل يعلم عن أمر السفر هذا, والحقيقة أن السفر هذا هو ما استدعى ذهاب جده بدوره إلى كانبرا منذ أسابيع كي يقابل السيدة مين وزوجها. والحقيقة أن الأمر ذاك برمته هو ما كان الملهم لوجهته الآن.

"لم أكن بكامل تركيزي حينها, وأعتقد أن الاسم قد غافلني, لا أظن أنني سمعت اسم يونغي كفاية كي أتذكره حالًا حينما طرقت سابقًا."
انخفض صوته بوضوح عند نهاية كلماته, وكأنه كان يشعر بخجل لا ينوي إظهاره اتجاه حالته الشبه مستيقظة عندما أطل عليه في أول مرة. لكنه تنحنح ليكمل:
"لكني تذكرت بعدها عندما فكرت مليًا باسم مين, وتذكرت الشاب الذي كان يقطن منزلي سابقًا قبل أن ينتقل."

"يونغي؟"
باشر هو مسدلًا سمعه أكثر.

"نعم هو يونغي ذاك, إن لم أكن مخطئًا فهو لربما ابنهما, لأن الشاب ذاك استمر بذكر كونه سيترك المنزل بينما يحدثني عنه عندما كنت أنوي استئجاره, لأن ليس هناك هدف من البقاء فيه بعد رحيل والديه وشيء من ذاك القبيل."
كانت سرعة كلماته تزداد وقد سارع عقل فيلكس بالركض في الأرجاء ليبني الصورة. والحقيقة أن كل ما كان يتوقعه حتى الآن من هذا الحديث لا يبدو جيدًا بشدة ليتسعيد هدوء قلبه.
"أنا لا أعرف آل مين, لكن الآن عند التفكير في الأمر مليًا فأنا غالب الظن في أنه ابنهما أو متعلق بهما, وأعرف أين يقطن ذاك اليونغي الآن وأظن أن هذا ما تبحث عنه؟"

"نعم! نعم هو بالضبط شكرًا لك!"
هرع بالاقتراب موسعًا عينيه متغاضيًا عن الطريقة الغير ضرورية التي شكر فيها الرجل.

"لقد حدث خطأ بتوصيل أحد الطرود منذ أسابيع طويلة, لقد أرسلوه إلى منزلي ظنًا أن العائلة لا تزال تقطن هناك واضطررت إلى أخذه بنفسي إلى منزله, بعد جهد اكتشفت أنه لم يبتعد كثرًا, على بعد ثلاثة شوارع فقط, في دونالدسون."
التفاصيلُ عديدة وتقتاتُ على صبره بشراهة, ولكنه لن يستعجل الرجل, خجله لن يسمح, وحماسه الممزوج بالذعر كذلك لن يسمح أيضًا.
"ولكن أعتذر صدقًا, ذاكرتي ليست جيدة بشدة, أظن أنك تعلم هذا حتى الآن. ما أعنيه أنني لست متأكدًا من رقم المنزل ولا أستطيع تذكره, لكن لدي شك وجيه بأنه 291 و 293 وما بينهما, هناك مجموعة من المنازل الصغيرة يقابلها على الطرف الآخر من الشارع بضعة أمتار من العشب المصفر نوعًا ما وعدد من الأشجار النحيلة واللافتات. أحد تلك المنازل هو ما تبحث عنه."

أنهى الرجل وصفه وهو يتنهد, لربما بإنهاكٍ من حديثه الذي لم ينقطع أو براحة من تحرير نفسه من تلك المعلومات بعدما تذكرها وكأنها لم تسمح له بالعودة إلى نومه. ثم عاد يحدق بفيلكس بتزمت وملامح تتغير بسرعة وكأنه يتفحصه من جديد.

"شكرًا لك, هذا كافٍ جدًا, لقد ساعدتني كفاية."
ضم كفتيه بفطرية في وضع امتنان ضعيف وملامحه تبتسم بقلق وإن لم تفعل شفتاه.

"هل تعرف آل مين إذًا؟"
تمتم الرجل هذه المرة بصوتٍ فاتر بينما فيلكس متأكد بأنه يمسح ملامحه بحذر.

"نعم, يكون يونغي قريبي وأنا هنا لزيارته."
رد بينما هناك كم هائل من الذعر قد انزاح عن صدره لمجرد معرفة أنه ليس وحيدًا كما ظن في هذه المدينة, على الأقل هذا أكبر ظنه. لقد استخدم المبرر الكاذب بكونه قادمًا لزيارة أقاربه والذي ادخره منذ أسابيعٍ مضت , و الذي لم يكن كاذبًا تمامًا في الواقع إلا أنه لا يستطيع شرح الوضع راهنًا. لا يستطيع شرح ما ليس متأكدًا منه هو حتى.

"حسنًا, أرجو أن تجده بسرعة."
لوح الرجل بيده بينما عاد الضجر الناعس إلى وجهه وكأنه باغته حالما أنهى دلق معلوماته.

"شكرًا لك, أنا ممتن بشدة."
حاول رفع صوته ليلحق بظهر الرجل الذي أعاد تلويح يده كرةً أخرى دون الالتفات.

باشر فيلكس حالما ابتعد الرجل أمتارًا عديدة ناح التفافٍ في نهاية الشارع, بأن يشد يديه حوله حقيبته ثانية ويبدأ السير في الاتجاه المعاكس مركزًا عينيه على الجوانب ليلتقط أي لافتات ممكنة.

على بعد ثلاثة شوارع إذًا, الطرق تصبح أكثر ضيقًا والمنازل أصغر كلما فارق تخوم أحد الشوارع, ثم ونهايةً, وأخيرًا, التقط بنظره اللافتة على أحد الأعمدة حيث كتب بوضوح 'دونالدسون'

رمًلً إلى سيرٍ سريع, طبعه الهش يتناثر بينما صبره يحترق مع كل ثانية, لقد جرب حظه كثيرًا طول اليوم وبالكاد يمكنه التمهل بعد. وعندما وصل إلى المنتصف حدق بانتباه على المنازل الثلاثة على يمينه المرقمة ب 291 و 292 و293.

"عشبٌ مصفر أمامه وأشجارٌ نحيلة."
تمتم مرددًا لذاته بينما يلتف برأسه ليحدق بالجهة المقابلة ناح المعلمين اللذين أكدا له وصوله.

رائع, واحدٍ من هاته الثلاثة. ولكن كيف سيعرف أيها؟

أولُ خاطرة متهورة اكتسحت تفكيره هي رنُ جرس كل منزلٍ على حدة وتلاوة الصلوات بخفوت كي يكون أول منزل هو الخاص بيونغي حتى لا يضطر للإكمال, وإن لم يكن سيضطر للاعتذار والشرح والانتقال بوجنتين متوردة إلى الباب التالي وإعادة نفس الأمر.

لكن بعدما هرعت الفكرة لثوانٍ إضافية جنونية في عقله, تمكن منطقه السليم من ردعها وأعاد بعض الرشد لبصيرته, وأدرك كم بدا أحمقًا بتفكريه بفعل ذلك. لديه عقل ليستخدمه ويحاول التوقع على الأقل. أقل الخسائر الممكنة, هذا ما يستمر بترديده وإفساده بكل طريقة ممكنة.

لذا استخدم تحليله المنطقي, أو حاول على الأقل. وبدأ فحص المنازل بتريث. جميعهم يشبهون بعضهم بذات التصميم الصارم في البداية, لكن مع المزيد من التدقيق فإنك ستلاحظ بعض التفاصيل المتباينة التي قد تدلُ عن كثيرٍ مما يقعُ خلف الأبواب الخشبية.

الأول على اليمين رقم 291 كان نظيف النوافذ الأمامية, هناك عدد من آنية الزهور والنباتات العطرية التي يظن أنها إكليل الجبل إن لم يخطئ, وهو متفاجئ بشدة لكونها تبدو بحالة جيدة جدًا ونضارة ممتازة رغمًا عن جو استراليا الحار بشدة مما ينم عن اهتمام دائم بها. هناك ممسحة أقدام خضراء أمام الباب أيضَا والتي تبدو مناسبة مع الجو الذي تفرضه النباتات القصيرة.

التالي, رقم 292 كان ملفتًا للنظر بسبب طلائه الذي يبدو حديثًا بشدة, لم تكن هناك أي نباتات, ولكن يستطيع رؤية التنظيم الشديد للمكان. هناك خزانة خشبية صغيرة أمام باب المنزل يسارًا بأحد أبوابها نصف مفتوحة ويمكن بصعوبة رؤية أنها تحمل بداخلها كم هائل من الأحذية المختلفة حجمًا وشكلًا ويبدو أن من بعضها أحذية أطفال, وهي مصفوفة بانتظام كبير هناك أيضًا. والتفصيل الواضح ذاك حول الأحذية تركه جاعلًا هذا المنزل الأقل احتمالًا حتى الآن.

رقم 293, كان الأبسط, بجميع المقاييس. طلاء ذابل الألوان ومتشقق قليلًا أسفلًا, لا نباتات ولا أي إضافات, لا خزانة لأحذية كبيرة مختلفة الألوان. ولكن كان هناك حذاء ذي كعبٍ عالٍ مرمي بإهمال أمام الباب الذي لم يكن عنده سجادة صغيرة. يبدو بسيطًا جدًا, وفراغًا كفاية أيضًا. وإن كان عليه تتبع الصورة النمطية لأي شاب يعيش وحيدًا, متغاضيًا بالطبع عن الحذاء النسائي الراقد هناك, فإن أغلب الظن أن هذا منزل يونغي.

يتمنى ذلك.

حاول الوثوق باستنتاجاته التي قد تكون عديمة المعنى بينما يضع حقيبته على جانب المنزل بعيدًا عن مرمى البصر ويدلك كتفيه. لا يستطيع بالضبط تكهن لما فعل ذلك, ما الذي دفع إلى وضعها بعيدًا, لكنه بدا الأمر الصائب. ربما حتى لا يبدو مكشوفًا تمامًا ومحملًا بالكثير. ربما كي لا يثير الشكوك, هو لا يعلم إن كان يمكن الوثوق بيونغي بعد حتى.

توجه إلى الواجهة الخشبية للمنزل ورن الجرس, ثم ابتعد بضع خطوات, مرةً أخرى, ينتظر. لقد انتظر كثيرًا حتى الآن, كم يرجو لو يحدث شيء يستحق انتظاره, ولو لمرةٍ واحدة فقط لا غير.

جلبة, كثيرٌ من الجلبة كانت تنسلُ وراء الباب, وبخفوت هناك صوتُ أقدامٍ تتحرك بعجل, ثم بصخب, فتح الباب الذي لم يكن مقفولًا حتى.

"لقد فتحته بالفعل أيها الأخرق! ابقى بمكانك ملتصقًا ببرنامجك اللعين."
صاح, أو صاحت بانزعاج التي فتحت الباب على وسعه دون حذر, لكن ليس ناحه, بل مديرةً رأسها إلى الداخل ناح أحدٍ ما ومن ورائها يصدح صوتٌ عالٍ من التلفاز لبرنامج ما بلغة لا يستطيع التأكد منها. حالما وجهت أنظارها ناحه افصح وجهها سريعًا عن ابتسامة لطيفة واثقة.

"أهلًا, من أنت؟"
سألت وهي تتفحصه ويبدو صوتها وكأنه لا يشبه أبدًا المتذمر الذي استخدمته منذ لحظاتٍ فقط.

تبًا, ليس يونغي ثانية. هل عليه الاعتذار بسرعة والانسحاب للمنزل السابق؟

"أ-أه, همم, هل يونغي مين يسكن هنا؟"
قرر السؤال قبل أن يعي قراره, و ندم على الطريقة التي ارتج بها صوته.

"يونغي؟ تبحث عن يونغي؟ نعم نعم يونغي هنا!"
تحدثت بعجل وقام هو لا شعوريًا بهز رأسه في كل مرةٍ كررت فيها اسم مراده.
" انتظر لحظة حسنًا؟ إنه أحمق يتظاهر بأنه لا يسمع جيدًا."

استمر بهز رأسه بضياع, ولن يكذب ليقول بأنه لم يكن مصدومًا بشدة من سير الأحداث, تلك التي تستمر بالحديث بسرعة مربكة وأريحية مريبة وكأنه رفيقٌ قديم, و حقيقة أن يونغي بالفعل هنا, هل يستطيعُ تصديق هذا الآن حتى؟ يبدو مستحيلًا.

"يونغي! تعال إلى هنا بسرعة! هناك فتىً يبحثُ عنك. واللعنة لما استمر أنا بفتح باب منزلك في كُل مرة آتي؟! ألا يملكُ أحدٌ أقدامًا غيري؟!"
لم يستطع إيقاف عينيه من التوسع عندما عادت لتصرخ إلى داخل المنزل, وقد شعر باختلال أنفاسه حالما سمع سير زوجٍ من الأقدام ثانية على الأرض من الداخل يبدو بعيدًا بشدة من مكانه على نهاية واجهة المنزل.

"قادم قادم! تتستمرين بالتذمر من كونك تفتحين الباب وأنتِ فقط من يستمر بالهرع إليه حالما تسمعين حفيف أنفاسٍ على الرصيف خارجًا. ليس ذنبي إن كنتِ تعشقين الزوار."
تذمر الصوت القادم بفتور, والذي كان هادئًا بشدة إلى حدٍ يكسر فيه رونق الهرج الذي يحصل داخل المنزل.

"أيها اللعين! لا أفعلُ هذا إلا لكوني أعلم أنك وأيًا من البقية أكسل من أن تقفوا على أقدامكم الهرمة وتفتحوا الباب!"
سددت في نهاية حديثها ضربة طفيفة ناح كتف الذي ظهر قربها على الباب بتعابيرٍ ضجرة, وترك أثرًا عميقًا من المشاعر الممتزجة بين الهلع والامتنان والقلق تلتف داخل أحشاء فيلكس الذي لم يتشتت انتباهه لثانية.
"هذا الفتى يبحثُ عنك, لو أنني لم أفتح له لكان انتظرك للأبد!"
تمتمت وهي تؤشر خارجًا ناح فيلكس ثم تبعد شعرها بانزعاج يبدو ظاهره كدعابة بينما تنسحب لتعود داخلة.

"حسنًا شكرًا لكِ على أي حال."
تنهد يونغي بينما يدير رأسه ناح المبتعدة. ثم رفع صوته فوق اللغة الأجنبية الغريبة التي تصدح:
"أخبري روجر بأن يخفض صوت التلفاز, لا استطيع سماع صوت أفكاري الخاصة بسبب المسلسل السخيف ذاك! وكم مرةً طلبت من ألا تتركي حذاءك أمام الباب؟"
تنهد وهو يدفع كعبها العالي بقدمه إلى الجانب.

ثم حدث ذلك, التف المدعو بيونغي وحدق ناحه بهدوء واستماتة, كأنه ينتظر, وتحدث قبل أن ينقضي أي وقتٍ في الانتظار:
"أهلًا, عذرًا على الجلبة. كنت تريدني؟"

ضاقت قصباته الرقيقة وكاد الهواء ينقضي من حماسه:
"نعم! كنت أ-أنا أبحث عنك, أدعى فيلكس, فيلكس لي."

"حسنًا يا فيلكس, كيف لي مساعدتك؟"
اقترب يونغي أكثر ووجهه لا يزال خاليًا من أي مشاعر متقدة كالمقابل له.

"ألم يبدو الاسم مألوفًا؟"
أردف وهو يظن أنه بالفعل يرتعش قليلًا ربما. عقدة تشكلت بين حاجبي يونغي. بالطبع هو لا يألف الاسم.
" أنا أكون آه, حفيد السيد هينري لي, فيلكس لي."

تمتم باسم جده بقلق من أن لا يكون كافيًا رغم أنه يجب أن يكون.

تناثرت العقدة في جبين يونغي لتتوسع عيناه بدهشة لم تكن رغم ذلك تبدو مكترثة بشدة, وزم شفتيه قبل أن يتحدث:
"ابن نواه أم أوليفر؟ أعتقد أن نواه هو من كان يملك طفلًا يدعى فيلكس, إن لم أكن مخطئًا؟"

لاحق شيءٌ بارد أشبه بشعور سقوط عنيف دواخل فيلكس لسماعه اسم والده, ولكنه حاول تمالك ذاته بينما يتحدث:
"أنت محق, أكون ابن نواه."

"أوه, أهلًا إذًا يا فيلكس, أظن أنها المرة الأولى التي أراك فيها منذ كنت في الثالثة ربما؟ لقد كبرت بسرعة فعلًا. ما الذي أحضرك إلى كانبرا؟"
كتف يونغي ذراعيه وهو يستمر بتحديقه الحذر ناح فيلكس, بل إنه يبدو وكأنه يحاول رسم بعض الملامح المتعجبة على وجهه مع أن هذا لم ينجح كفاية بين تقاسيمه المتزمتة.

في تلك الفينة القليلة, التف عقله حول الكثير من الاحتمالات, زحف على كل توقع وكل فكرة. ما الذي عليه قوله؟ أيكون من الجيد الوثوق بيونغي و إخباره بالحقيقة؟ أم هل عليه التريث قليلًا, وضع أصابعه في الماء الداكن ليتأكد من أمان السقوط والغوص؟

"قررت القدوم هنا مع بعض من رفاقي في رحلة صغيرة, و أ-أه قررت زيارتك بما أني سمعت أنك تقطن في كانبرا من جدي. أرجو أنني لم أزعجك."
وفيلكس يرتعش بكل ما فيه من الطريقة المرتبكة التي يتذبذب بها صوته. و أكثر ما يزيد قلقه هو النظرة الغير مبهورة على وجه يونغي لذكر فيلكس لاسم جده.

"تسرني رؤيتك. هل ترغب بالدخول أو أنك تنوي إكمال طريقك؟"
وللحظات قليلة. اعتقد فيلكس أن يونغي استطاع بطريقة ما قراءة افكاره, من وراء أنظاره القلقة, وقلبه المرتجف.

"نعم, أعتقد أن ذلك يسرني."
أومأ بعجل وهو يبتسم باتساع هذه المرة وبصدق. لا يزال صوته غير متزنًا لكنه يشعر ببعض الراحة الآن بما أنه يمكن وأخيرًا الدخول تحت سفقٍ يظله, ولا يعلم إلى أي أمدٍ سيبقى أسفله.

قاده يونغي بعدما أطبق الباب الخشبي إلى المطبخ الذي يبدو كأشسع غرفة في المنزل, ورغم ذلك لم يكن بذاك الاتساع. كانت الفتاة المسبقة تجلس على أحد الكراسي الخشبية وهي تتأمل بحذر أحد اللوحات المعلقة على الحائط المرمري للمطبخ.

من مدخل المطبخ يستطيع رؤية غرفة الجلوس على ما يبدو والأضواء فيها خافتة لا يشعُ فيها إلا إنارة حادة لشاشة تلفاز أمام كنبة شاسعة أحدٌ ما يجلس عليها بضيق بينما يسند ذقنه على كفيه ويحدق بحذر بالشاشة التي تبكي فيها إمرأة حسناء أمام عشيقها ويبرطم كلاهما بلغة غريبة يظن فيلكس أنها الإسبانية.

"يمكنك الجلوس هنا."
أشار له يونغي ناح طاولة المطبخ الخشبية حالما لمح أنه تصنم واقفًا بخجل في منتصف المطبخ. أومأ فيلكس ليجلس على الكرسي المقابل ليونغي وقرب الفتاة التي أعادت تركيزها إلى هاتفها هذه المرة.
"هل ترغب بشرب شيءٍ ما؟ ما رأيك بالشاي؟ أو القهوة المثلجة؟ المراهقون يحبون القهوة المثلجة حسبما أظن."

"لا داع- صدقًا لا داعي لأي شيء أنا بخير حقًا."
عارض بحياء وهو يلوح يداه لكن دون فائدة إذ أن يونغي غادر الطاولة حالما ألقى عرضه وتوجه نحو الثلاجة يحدقُ داخلها باحثًا.

عاد وهو يحمل علبة قهوة مثلجة معدنية بنكهة الفانيليا من تلك التي تباع بدولار استرالي واحد في محلات البقالة. ولم يستطع فيلكس إنكار اللعاب الذي أخذ يتجمع في نهاية فمه من رائحتها القوية حالما فتحها يونغي ومررها له من فوق الطاولة, كانت باردة جدًا وحلوة بشدة إلى حدٍ جلب نشوة عارمة إلى فيلكس الذي لا يزال يشعر بحبات العرق في نهاية عنقه وعلى الشعر القصير هناك.

"إذًا أخبرني يا فيلكس, كم أصبحت تبلغ من العمر الآن؟"
تمتم يونغي يتفقد هاتفه للحظات قبل أن يعيد نظراته الحادة ناحه. كان هناك كوب من القهوة السوداء الفاترة على الطاولة منذ دخلا, والذي يبدو أن يونغي تركه مسبقًا لأنه أخذ رشفة منه أيضًا.

"أنا في السابعة عشر."
جاوب وهو يحاولُ جاهدًا بأن يتجنب عينا يونغي بأن يشرب قليلًا من قهوته شديدة الحلاوة ثم يهرع لقراءة المكونات في جانب العلبة.

"رضيع! هذا لطيف! من يكون هذا الصغير يونغي؟"
شقت الفتاة ذات أطراف الشعر الشقراء صوتها العالي بين محادثتهما دون سابق إنذار. وأخذت تبتسم ناح فيلكس بينما ترمقه.

"إنه قريبي. من جانب بعيد تقريبًا لكنه كذلك. أتى إلى كانبرا في رحلةٍ مع رفاقه."
عاد يونغي ليأخذ نفسًا من قهوته بينما استمر بالتحديق ناح فيلكس من خلف كوبه الأخضر.

"قريبك هاه."
نبست الفتاة وهي تضيق عينهيا بتشكيك, قبل أن يختفى كلُ شكلٍ من المشاعر عن بكرة أبيه فوق وجهها ويعود التعبيرُ حاد التركيز ذاته عندما أعادت ناظريها إلى هاتفها.
"سررت بلقائك قريب يونغي الصغير."

أومأ ناحها بحيرة لكن بشاشة, تصرفاتها لا يمكن التكهن بها أبدًا.

"لقد مر وقتٌ طويلٌ بالفعل, يا إلهي."
أعاد يونغي تركيز فيلكس ناحه حالما تنهد نهاية كلماته الأخيرة, وقد ابتسم بطريقة تبدو مستسلمة لذكريات ما في عقله هو وحده.
" آخر مرةٍ رأيتك فيها كانت في جنازة والدك. لقد كنت في الثالثة حسبما أعتقد؟ لا أذكر كثيرًا من التفاصيل حيال جنازة نواه فأنا بذاتي كنت فقط في الثانية عشر حينها."

ورغم أنه لن ينكر بأن مبادلة يونغي النظرات كانت تصيبه لسببٍ ما بالقلق, إلا أنه لم يستطع إشاحة عينيه من الدرب الذي اتصلت فيه مع يونغي حالما أنهى الحديث عن جنازة والده. لا يعرف بالضبط كيف يصف ذلك, لكن كانت هناك شرارة باردة من شعور كالاعتذار بينهما, موجهة من يونغي وإليه. إعتذار على أي شيء؟

وبعد ذلك, مرت الساعات. لا يعلم تمامًا كيف, أو بأي طريقة, لكن حديثًا وراء حديث, سؤالًا وراء الآخر حول حياته وذاته ودراسته وغيرها, كانت تسحب وراء الآخر. لم يكن يونغي هو من يسأل غالبًا حتى, بل كانت الفتاة الصاخبة والشاب الآخر الطويل الذي حضر من غرفة الجلوس بعدما صدعت موسيقى ملأة بغيتارٍ حزين في ما يبدو شارة النهاية للمسلسل المكسكي الذي كان يتابعه طيلة ذاك الوقت.

وحتى عندما قاربت الساعة من الخامسة مساءً, فإنه كان لم يرفض أي من طلبات بقائه للعشاء المبكر الذي حضره يونغي عندما قام بتسخين بعضٍ من الكاري و الأرز التي كانت ترقد في الثلاجة من البارحة, وتحضير بعجل بعض الاسباغيتي بصلصة طماطم قام هو بتحضيرها ذاتيًا في المقلاة تحت أنظارهم بينما كانت الفتاة لا تزال تثرثر حيال اللوحات المعلقة في أرجاء المطبخ والتي علم فيلكس أنها نسخ مطبوعة للوحات شهيرة لم يتعرف على أكثرها, وأنها هي من أحضرتها إلى مطبخ يونغي أيضًا.

استمتع بالمحادثة التي دارت فوق مائدة العشاء حتى وإن لزم الصمت أثناءها, والتي كانت متشكلة كثيرًا من الفتاة التي بدأ فيلكس يرى بأنها جميلة بالفعل بطريقة غير معتادٍ عليها بالمرة, والشاب الطويل, وبعض من تعليقات يونغي الخافتة بينٍ حين وآخر.

كان طهو يونغي رائعًا بشدة, أو أنه فقط كان ممتننًا لمقدرته على تناول وجبة واحدة حقيقة منذ بداية اليوم أسفل سقفٍ منخفض. لقد أحب الكاري بشدة, و تمنى لو يستطيع تناوله ثانية, لو يحدث ذلك فقط.

عند الخامسة والنصف وبعدما كانت قد أزيلت الأطباق ورفض يونغي السماح له بالتطوع وغسلها كشكرٍ له على الطعام, وضعت في المغسلة قرب الأواني القذرة التي تصلب عليها الطعام على مدار النصف الساعة الماضية. التقطت الفتاة حقيبتها التي وجدتها بعد بحثٍ مطول والكثير من التذمر في الممر عندما قال يونغي أنه رآها ترميها هناك بإهمال عندما أتت. ولوحت هي والشاب الآخر ناح يونغي قبل أن يتوجها إلى الباب ويغادرا دون أن يلحق بهما, وكأنها يغادران ويدخلان مكانًا ينتمي لهما.

حينها باغتت فيلكس رغبة ملحة بمحاولة الرحيل أيضًا, شخصيته الخجولة المرتبكة بقيت نائمة بعمق طول فترة العصر وأثناء العشاء, لكنها بدأت بالاحتكاك مع دواخله بإجحاف حالما أدرك أنه لم يبقى سواه هو و يونغي للآن.

ورغم أن هذا يبدو كوقتٍ مناسب تمامًا , حالما أرخى الهدوء سدوله بطريقة فتاكة على المنزل, فإن هذا عليه أن يكون الموقف الوحيد المناسب له ليشرح, ليخبر يونغي, ويبحث عما يريد.

لكنه لم يقدر, مهما دارت العجلاتُ الصدئة لأفكاره المرتبكة داخل عقله, فأنه لا يقرر على كلمة واحدة ليطلق سراحها من بين شفاهه, ولا أي حرف, ولا أي كلمة دليلة, ولا حتى أي استنجاد.

ومع كُل محاولاته لتبرير ذاته وفعل أيٍ كان, لم يعي إلا ارتطام بعض من هواء الأمسيات الصيفية الدافئ الممتزج بوهج بقايا شمس الظهر, عندما وقف ويونغي مرافقٌ له خلفه أمام عتبة المنزل ثانية كما كان يفعل منذ ساعاتٍ تبدو وكأنها كانت بعيدةً جدًا في هذه اللحظة.

"أنت مصر على الرحيل؟ لما لا تبقى لمزيدٍ من الوقت؟ يمكننا التحدث قليلًا بعد عن العائلة وما إلى ذلك, أنت تعلم."
ارتمطت كلماتُ يونغي بجانب عنقه, والتف للنظر ناحه. هذه المرة حاول مطولًا النظر في تجويف عينيه, علّ يونغي يفهم ما يدور في خوالجه, عله يساعده بطريقة ما هو لا يعرف كيف يطلبها.

"لقد تأخر الوقت, علي العودة بالفعل."
ابتسم بضعف مجيبًا, وقد أدرك الدوامة التلقائية وغير المفهومة من التصرفات والأفعال التي دخلها دون إرادته. كل ما يقول يعاكس ما يفكر, وكل ما يبدر منه يخالف ما يريد.
"شكرًا على استضافتي, كان طهوك لذيذًا بشدة."

"لا تشكرني, لقد سعدت برؤيتك لأول مرة منذ أعوام طويلة, خصوصًا وأنني لم أتوقع ذلك إطلاقًا على الأخص اليوم."
بادله يونغي البشاشة الطفيفة, وكم يظن فيلكس أنه يبدو دون أي أفكار تنغص وجدانه حينما يبتسم.

"أعتذر عن الجلبة التي افتعلاها كارولين و روجر, إنهما صاخبان بالفعل, أعتقد أنك كنت مصدومًا, وجهك كان يخبر بالكثير حيال ذلك."
أردف و شبه ضحكة مداعبة لحقت زوايا شفاهه.

"لا لا! لا مشكلة أبدًا, في الواقع أظن أنهما كان لطيفين بشدة."
حاول التظاهر بأن الزخارف على جانب الباب هي أكثر أمر مشوق بالحياة محدقا ناحها. متجنبًا ما يبدو واضحًا بشدة للآن.

"حسنًا إذا. سررت بلقائك. كن حذرًا في عودتك واستمتع بوقتك في كانبرا."
أنبر يونغي مستقيما من مسند كتفه الأيمن على إطار الباب, ليضع كفيه بعجل داخل جيبي بنطاله.
"تعلم أنك تستطيع الاعتماد علي صحيح؟ في أي شيءٍ كان. أعني أثناء بقائك في كانبرا."

ولمرة ثانية, أعاد فيلكس وعيه ناح يونغي عند الباب, وقد كان يحدق به بصمت, وكأنه يبحث عن دليل ما بين تقاسيم فيلكس الذي لا يظن بأنه قادر على ترك أي فكرة سوية تدور في عقله بعد الآن. اكتفى فيلكس بالتمتمة وهو يحدق في السماء التي أخذت زرقتها تذوب:
"أنا أعلم. شكرًا لك."

اختفت ابتسامة يونغي للحظات, ولا يزال يمكن لفيلكس الشعور بنظراته المتفحصة والمنتظرة على جانب رأسه, لكنه كان قد أعاد إفراج أسارير وجهه عندما أدار فيلكس رأسه.
"عُد إلى المنزل سالمًا حسنًا؟ إلى اللقاء."
انتحى بكفه الأمام, وأخذها فيلكس بامتنان وحسرة. حسرة لأنه لا يستطيع شرح أي شيء.

"وداعًا, شكرًا لك يونغي."
أومأ لآخر مرة قبل أن ينزل من على الدرجات الصغيرة إلى الرصيف الاسمنتي, ويونغي لا يزال يطل عليه من موقفه عند الباب.

لما لا تقولُ شيئًا أيها الأحمق؟!

استمر صوتٌ في المدى, في أوحش دواخله بالصراخ فيه, بالسخط عليه.

إنه فرصتك الوحيدة هنا! تحدث!

لكنه استمر بالسير على طول الرصيف شاعرًا ببصر يونغي يلحق بظله, وكان ينتظر دون أن يدير رأسه أن يلج يونغي المنزل, كي يتمكن من العودة لحقيبته التي تنتظره منذ ساعات في زاوية مظلمة على جانب البيت.

اقتضب صدره عندما سمع النغم الرقيق لطبق الباب الخشبي في الأفق, واستدار متفحصًا ليرى الواجهة الفارغة, قبل أن يعود أدراجه بغضب عارم من ذاته ولسانه الذي يأبى الانصياع له مهما حاول.

عاد إلى الجانب المظلم, حمل حقيبته التي تركت بعضًا من مفاصله تصدر صوتًا لا يغتفر, وشد يديه حول حمالتها عائدًا للسير في نفس المسار للمرة الثالثة, وألقى نظرة أخيرة على المنزل وأضوائه الخافتة قبل أن يأخذ أول التفافة إلى شارعٍ جديد.

^^




خط الأفق يصهر آخر ظلال الأزرق, لونٌ قرمزي ينهالُ كالطلاء بين شقوقٍ وردية, الشمس تلوحُ بآخر أذرعها بحنو وكأنها لم تمضي اليوم بأسرع بلسع كُل شيء, والغيومُ ملساء وبالكاد واضحة بين المرج المفتعل.

حدق فيلكس بصمت بالغروب ويداه دبقة بلونٍ أبيض من بقايا المثلجات الذائبة على أصابعه. كان لا يزال هناك قطعة صغيرة من البسكويت التي ينوي تناولها بعد اختفاء الشمس. على كرسيٍ معدني رمادي في حديقة عامة ضئيلة قرب متجر البقالة الذي حصل منه على مثلجاته, وعلى بعد ثلاثة أو أربعة شوارع من منزل يونغي.

كان يشعرُ بتعبٍ عارم من كل السير, من كل المحادثات التي خاضها, ومن كل خيبات الأمل التي واجهها طول اليوم. لم يستطع حتى كبح ذاته من الحصول على المثلجات حالما لمح محل البقالة بعد سيره الطويل, متناسيًا أي تفصيل صغير من خطة الادخار التي فكر بها لأسابيع. متناسيًا وليس ناسيًا.

ولم يستطع ألا يترك جسده ينهار بأقدامه التي تنبض من أخمصها وحتى فخذيه من المشي الغير منقطع, وصدره الذي يشتعل عطشًا وخيبة. عليه العودة لابتياع الماء.

تنهد لمرة أخيرة ونظره لم يفارق السماء, يحتاج إلى مواساة, إلى أحد أو شيء ما ليخبره ما الذي عليه فعله. ومع المزيد من الوقت تطاير وعيه وعيناه لا تزال معلقة بالألوان المتمازجة في الأفق, والفكرة الكئيبة للعودة إلى سيدني عادت لتزوره وهي تلقم كل الحلاوة التي خلفتها المثلجات من لسانه وتترك مرورة مروعة هناك. ويظن أنه يرغب بالبكاء بشدة.

حتى أحس بدفئٍ إضافي غريب على جانبه, وتحرك المقعد, ليلتف و يفيق من شروده المؤلم وينظر دون اهتمام لمن يكون قد قرر مشاركة فتى بائس غريب الأطوار وحقيبته العملاقة المقعد الضيق.

"أرى أن المثلجات لا تعجبك؟ في العادة البسكويت هو أفضل جزء."
نبس الصوت الهادئ للذي جلس بقربه وهو يضع قدمًا فوق الأخرى ويحدق ناح الغروب في الأفق كما كان يفعل هو منذ ثوانٍ.

"لا إنها جيدة. ذابت بسرعة فقط."
تمتم قبل أن يفكر مليًا, ثم شعر بكُل نفسٍ يغادر رئتيه, وهو يرى ابتسامة يونغي التي لا تنم عن أي معنى واضح.
" آه, ما الذي-"

" أتيت لكانبرا وحيدًا صحيح؟"
عاد يونغي للحديث برزانة مقاطعًا إياه, واهتمامه لا يزال معلقًا باستمتاع بالأفق.
"لا ترغب بالعودة إلى سيدني, أليس كذلك؟"

وجفَ قلبُ فيلكس بعنف يظنه كافيًا ليشق صدره. ما الذي يحدث الآن؟ إنها اللحظة الفاصلة التي سعى لها, وكن لم يتوقعها أبدًا أن تحضر هكذا.

"أ-أنا, في الواقع أنا-"
بدأ صوته يتقطع بأسوأ طريقة, ثم اختفت كلماته وأنفاسه عن بالكامل لثوانٍ طويلة. ثم تحدث مرة أخرى عندما علم أن الصمت لن يفيد:
"كيف عرفت؟"

فارقت قهقهة قصيرة شفاه يونغي النحيلة:
"أنت كاذب مروع, هل أخبرك أحد بهذا مسبقًا؟"
هذه المرة سحب أنظاره ناح وجه فيلكس الذي تورد من قمتي أذنيه ومرورًا حتى وجنتيه حرجًا, ثم أشار بيده ناح الحقيبة العملاقة التي تفصل بينهما:
"ولقد رأيت حقيبتك عندما خرجت لرمي القمامة قبل العشاء, وكانت كفيلة بجعل كل شيء واضحًا."

"أوه."
نبس فيلكس وهو يحدق ناحها وجسده بأسره يشتعل.

"لكن صدقًا مالذي تحمله فيها؟ جثة؟! يمكن لأي أحد ملاحظة ضخامتها."
كانت أول مرةٍ يرى فيها فيلكس تعبيرًا غارقًا في المرح كذاك على وجه يونغي, ولو أنه لم يكن يشعر أنه سينصهر كمثلجاته من الإحراج راهنًا لظن أن الفرح يبدو مذهلًا على يونغي.

"لم أعلم أين يتوجب علي وضعها حسنًا؟"
بالكاد كان كلامه مسموعًا وهو يغطي جبينه وعينيه بيده التي لم تكن تحمل كوز المثلجات.

ضحك يونغي بهدوء مرةً أخرى وهو يحدق بالسماء التي لم تعد فيها أيٌ من بقايا النهار للآن, فقط لونٌ قرمزي طاغٍ.
"على كلٍ كنت أمزح بخصوص عدم السماح لك بغسل الصحون. أكثر ما أكرهه حيال الحياة هو غسل الأواني, لذا أتيت لأطلب منك العودة وغسلها معي."
اختفت أسنانه عندما توقفت ضحكته لكنه لا يزال مهتمًا بالليل الساقط.

"ماذ-"
بدأ فيلكس بعد ما يقارب الدقيقة من الهدوء غير المفهوم بينهما, والذي يبدو سخيفًا لكونه احتاج كل ذاك الوقت حتى يبدر عنه أي ردة فعل.

"لقد تأخر الوقت, إن تركنا مقلاة الصلصة المزيد من الساعات فإنه سيصبح من المستحيل تنظيفها, هيا أسرع لم يعد معنا متسع سانح من الوقت لإنقاذ أواني الطبخ الخاصة بي."
أعلن يونغي وهو يستقيم على قدميه بعجل ويتفقد هاتفه بينما يقطع الدرب مبتعدًا عن الكرسي وقاصدًا مخرجًا من الحديقة.

وليكون صادقًا, فإن فيلكس كان يشعر بغرابة عارمة, ولم يستطع فهم أي شيء. لكن بعدما أصبح ظل يونغي الذي كونه عمود الإنارة الطويل عند الرصيف, فإنه لم يقدر على ردع الابتسامة الممتنة والمشدوهة على شفتيه عندما وقف على قدميه وسحب حقيبته فوق كتفيه ثم أخذ يلحق الأكبر وعيناه متسعة.

__________________

أهلًا! فصل جديد!

يارب يكون كان ممتع بالنسبة لكم، طويل جدًا كان واستمتعت بكتابته فعلّا💛

القائمة الموسيقية للقصة موجودة في البورد عشان تتفقدوها.

كونوا بخير ويوم لطيف 💛

Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top