فرصة p3
ما سيأتي تالياً عبارة مشاركة في المرحلة الثالثة من مسابقة الفنتازيا التي يقيمها فريق النقد التابع لمشروع الربيع العربي الثقافي.
الفصل الأول بقلم @FonceStar
الفصل الثاني بقلم @lalice07
الفصل الأخير (الختامي) بقلمي. وأتمنى أن تكون مشاركتي على مستوى مشابه لما ابتدأته الكاتبتان قبلي من إبداع وتميز ✨
-
والآن أُبقيكم مع الفصل. استمتعوا ❤️
-
على سرير أرضي منخفض الارتفاع، واسع بقدر كافٍ لأن يتمدد الصبي آرجين ملتفاً حول جسده الضئيل.
جفناه مغلقان بشكل ينمّ عن السلام، ينعم بنوم هانئ بعد ما عاشه من أهوال عديدة في يوم واحد.
شقيقته تتوسد ذراعيه، غارقة في قميص خفيف يخص مالك المنزل.
تتنفس بوتيرة سريعة، تقبض كفيها الصغيرين بقوة غريبة بالنسبة إلى رضيعة مثلها.
عيناها نصف مغمضتان، تتجه بوجهها نحو السقف المزين برسومات تنبض بالحياة؛ تجعله أشبه بكنيسة مهيبة من عصر غابر.
-
منتصباً على قدميه النحيلتين سار القط نوار عبر الفضاء المظلم، حدقتاه تلمعان في المكان الخالي من أية أضواء أو ما يدل عليها.
بشدة يحتضن إلى صدره قارورة زجاجية مملوءة بسائل أبيض اللون، يتمايل في مشيته سعيداً بما ظفر.
متمسكاً بما يحمله قفز القط يترك الانحناء الضخم يجذبه بقوة رهيبة، رفقة بعض الشظايا السابحة بجواره، قادمة من مواضع بعيدة.
بسخرية رمق الأشياء التي جُذبت معه، والتي تمزّقت عن آخرها تتلاشى في الأفق العظيم.
«هل حسبتم ستعبرون الثقب أيضاً؟ فقط مثلي؟».
بينما يعبر النفق الذي يبدو وكأن لا نهاية له، قال يقهقه بجنون، وهل هو سوى مجنون عابر للأكوان؟.
برهات مضت، وعاد ليشد احتضانه للزجاجة قريباً من صدره المتصلّب بغرور، يخشى عليها من عامل الجذب الجشِع القابع في ذيل المسار.
في لحظة هو كان هنا، في هذا النفق العجيب.
وفي اللحظة التالية كان قد قُذِف بدافعة عظيمة، يطير بغير إرادة منه ولا تخطيط؛ أو حتى وعي، متجاوزاً مسافات شاسعة لا يدركها.
ليجد نفسه أخيراً مرمياً بإهمال، تحاوطه الأشجار من كل اتجاه.
على بعد بسيط منه تموضعت القارورة، حين رآها سمح لرئتيه بالقيام بعملهما أخيراً، يغلق عينيه، يكافئ ذاته ببعض الراحة التي يعلم أنه يستحقها.
-
على كرسي خشبي عتيق بقدر متانته، جلس آروس، تقابله منضدة مرتفعة تعلوها آلته الغريبة.
وكان رأسه قد انكب نحو الأسفل منذ بعض الوقت، يحدق في الأرضية اللامعة شارد الذهن.
أفكار كثيرة تملأ دماغه، تتلاطم فيما بينها ثائرة، تسبب له صداعاً مقيتاً.
هو يذكر بوضوح ما أخبرته به الآلة، قبل أن تصمت تماماً ترفض الإفصاح بأي شيئ إضافي من شأنه أن يرضي فضوله أو يساعده على قمع هذه الثورة المشتعلة في رأسه.
هو يذكره، ولكن مهما حاول، لا يسعه إدراكه..
«هل يعقل؟ أجيبيني! قلت أجيبيني!».
هو صرخ، ولكن لا مجيب.
في هذه الأثناء تناهى إلى سمعه صوت طرق يألفه تماماً.
ما بين أصابع قطه حالكة السواد، وبوابتهما الخشبية تناغم فريد، ما يزال فضوله لمعرفة السبب في هذا الانسجام يؤرقه أحياناً حتى بعد مضي كل هذه السنوات.
بسرعة ولكن مع مراعاة الخفة في المسير، وصل الرجل أخيراً حيث يتواجد قطه المبتسم يرفع القارورة عالياً يوجه آروس يخبره بلا كلمات أن «عدتُ منتصراً».
«كن هادئاً نوار. كن هادئاً. الصغيران نائمان».
نبّه الرجل صديقه ما أن شعر به يكاد يبدأ في ضجيجه اللامتناهي.
كسب تذمراً من القط، ولكن رجاءه نُفّذ على أكمل وجه، فبقي نوار صامتاً يستخدم حدقتيه العميقتين في إيصال ما يعتمره من حبور لإتمام مهمته.
التقط آروس الزجاجة المملوئة بحليب طازج يصلح كطعام للصغيرة النائمة في الداخل، يتجه نحو البراد يضعها هناك، ليخرج عبوّة مناسبة لأن تتحمل حرارة التسخين.
يلتفت أخيراً نحو القط الذي تبعه بحماس كل هذا الوقت محافظاً على هدوئه بشق الأنفس تقريباً.
«اجلس علينا التحدث بأمر ما».
قال آروس يتّخذ لنفسه مكاناً إلى جوار المنضدة الدائرية التي تتوسط الحجرة.
«ماذا هناك؟».
تساءل القط بجدية فور استشعاره لها في نبرة رفيقه.
«يبدو أن تواجد الصغيران هنا ليس مصادفة».
ثم تابع ما أن استحوذ على جلّ اهتمام المنصت: «الآلة أخبرتني بالكثير بالفعل.
أنت تعلم أنّها وسيلتي للتواصل مع مرشدي والرئيس المباشر لعملنا صحيح؟».
وحين تلقى ايماءة من نوار، أفصح آروس: «ساند، رئيسنا. هو ينوي التقاعد.
وبطريقة ما، هو علم بمقدرة مميزة لدى هذه الفتاة، يظنّ أنها ستكون مفيدة لعملنا. فأرشدنا إليها. لم يخبرني ماهية الميّزة حتى!».
حلّ الصّمت على المكان.
أخذ القط يحاول إدراك ما تُلي على مسامته للتو.
وغرق آروس في أفكاره مجدداً. ما المساعدة التي قد تقدّمها رضيعة لم تتم عامها الأول بعد؟!.
-
«مَن مات؟ ما هذا الصمت المريب؟».
هذا كان آرجين الذي استيقظ للتو من غفوته القصيرة.
اقترب من الجالسَين، يأخذ لنفسه موضعاً بجانب آروس، يدعك عينيه بنعاس، يبتسم محرجاً حين تذكّر أنّ عليه إلقاء التحية أولاً، يفعل ذلك بودّ.
«عند النظر في الأمر. أنتَ لم تخبرنا بأي شيء عن ماضيك رفقة شقيقتك. هل أنتما يتيمان بأي شكل؟».
تساءل آروس.
تأمّل مالكا المنزل المراهق وقد بان التوتر على محيّاه، ساعداه المتكآن ع الطاولة أمامه اقشعرّا بوضوح، كفّاه قُبضا بارتجاف.
اهتزاز قدماه النحيلتان لم يخفى على آروس الذي يراقبه مصالباً يديه إلى صدره، يحاول بجهد إخفاء أيّ تعبيرات قد ترهب الصبي المرتاع على يمينه.
غاص نوار في البحر كرزي اللون الذي يقطن محجريّ آرجين، عدستاه تنتقلان بين مُجالسَيه بلا هَدى، فكرة واحدة احتلّت دماغه.
استطاع القط وصاحبه سماع نجواه ‹هل يعلمان بأمرنا؟ هل سنعود لنكون وحيدَين مجدداً؟›.
«لا تقلق، نحن لن نحكم عليك. فقط، أحتاج لمعرفة أمر ما».
بلهجة رزينة تكلّم آروس، يربت على كتف الولد يتسبب بجفوله؛ ومن ثَمّ بسكونه.
«نحن من قبيلة صغيرة، أهلنا رحّالون، يمتهنون التمثيل في المهرجانات الدينية».
تحدّث آرجين يكسب اهتمام السامعَين.
«لم تهبني السماء هبة التمثيل ولكنّ القاطنون في الأعالي منحوني شيئاً ثميناً في المقابل؛ كتعويض.
سعدَ سكان قبيلتي بما أملكه ولا يقدر عليه سواي، فكان لي شأن عظيم بينهم».
أطلق المراهق لذاكرته العنان.
مركزّاً على تصريف الماضي، ينبّه المُنصتَين إلى حقيقة أنّ ما يعلماه للتو قد قضى وانتهى ولم يعد له وجود..
«كما تعرفان، لا يستطيع الوالدان التواصل مع طفلهما قبل بلوغه سناً تمكّنه من إدراك الحروف ومعانيها، فينطق.
ولذلك تضيع السنوات الأولى من عمر الأطفال هباء، فلا يشاركون في سير الحياة التي تحيط بهم، وإن تمكّنوا من النطق لتغيّر الكثير».
«لسنوات خلَت، كنت جسر التواصل ما بين أفرار قبيلتي، جميعهم.
بمقدرتي على فهم الرُّضّع _والأجنّة في بعض الحالات_ وحثّهم على فهمي في المقابل، لا أبالغ إن قلتُ إنّ سائر قبيلتي رأوني ككنز ثمين ظفروا به.
أنا ورفقتي عائلتي حظينا بمعاملة خاصة من القبيلة بأكملها، وتجاهل الجميع عجزي عن مشاركتهم عملهم الأهمّ، ألا وهو التمثيل».
تحمّس الصديقين للقصة، بدا وكأنهما غفلا عن أن منعطفاً خطيراً سيظهر في أي لحظة، هو ما أوصل الصّغيرَين إليهما في الدرجة الأولى..
«حين قدِمت أختي إلى الحياة تغيّر كل شيئ».
مطرقاً رأسه الضئيل نحو الخشب اللامع، قال المراهق مع لمحة من الحزن غلّفت صوته.
«حدث الأمر لأول مرة حين كانت بعمر الثلاثة أشهر، استيقظتُ من نومي لأراها وقد غرقَت في كابوس فظيع، انتشلتها منه بصعوبة بالغة».
«ما أن هدأت واستكانت بعد موجة من الذعر ضربتها وأخافتني، أخبرتني بما أُطلِعَت عليه».
جرعة الخوف التي تحدّث عنها المراهق، تمكّن نوار من لمسها في شحوب وجه الصّبي وفي عينيه.
«المشهد الأخير من حياة والدتنا، رأته الصغيرة بمفردها ومن دون رفيق»
«'دب ضخم مزّق جسدها، كانت تصرخ بألم ورهبة، ثم اختفى صوتها للأبد'. هذا ما أخبرتني به، راجية أن أُكذّب رؤياها، أو أن أقف حائلاً دون وقوعها على الأقل..
ولكنّي كنت قد تأخرت، حدثت الفاجعة وانقضَت.
أمّا عن النظرات التي حدجها والدنا بها، فقد حرقتني، فماذا عنها إذاً؟».
البحّة في صوته أنبأتْ المستمعَين إلى أنّ أثر ما باح به للتو لا يزال باقياً فيه، في روحه، وفي كل خلية صغيرة شكّلته.
«إذن أنت تقول إنّ أحلام شقيقتك تتحقق».
وجّه آروس سؤاله إلى الصبي الذي قد هدأ بعض الشيء، لون بشرته الطبيعي قد أنبأ بالعودة القريبة، ضربات قلبه خفتت قليلاً بالنسبة للإيقاع الصاخب الذي اتخذته قبلاً..
«بلى، هذا ما قُلته..
ذلك صحيح بشكل خاص فيما يتعلق بالأحداث المأساوية التي توشك على الوقوع».
بالتزامن من انبثاق الكلمات الأخيرة من فاه المراهق سمع الثلاثة الصوت الحاد المألوف الصادر عن الآلة المستقرة في الغرفة القريبة.
كانت تنادي مالكها، الوحيد الذي حظي بشرف فهمها.
نهض آروس يعلم أنّ أخباراً مُهمة قادمة إليه، أخباراً قد تغير مستقبلهم جميعهم مرة واحدة وإلى الأبد.
-
يبدو أنّ تأثير التردد الحاد لم يقتصر على الثلاثة في الخارج.
الرضيعة في الداخل أجهشت بالبكاء، بقوة وبإصرار، تنهك جسدها الجائع، ليهب نوار بمساعدة من شقيقتها يحضّران لها زجاجة الحليب التي عبر الأكوان مسبقاً طلباً لها..
مع يد أخيها الأكبر قريبة جداً من فمها يحمل الزجاجة، يربت بواسطة كف يده الثانية بلطف على معدتها الصغيرة، امتصت الفتاة الحلمة الاصطناعية بنهم تتجرع الغذاء على دفقات متتالية، عيناها الكرزية تبتسم تروي الكثير..
استلقى نوار على الطرف الأخر من السرير، سعيد جداً بما صنع. يشعر بأنه مفيد بطريقة عظيمة.
حين دلف آروس إلى الحجرة، وذلك بعد دقائق عديدة مضت، توجهت ثلاثة أزواج من الأعين نحوه.
زوجان مترقبان. مع زوج فضولي يشع حماسة.
«أخبرني ساند أنّ مَهمتنا الأولى قد بدأت بالفعل».
تحدث الرجل. يرتدي ملابس العمل المكونة من معطف طويل مع بنطال قماشي سميك.
خصلاته الثلجية تتلائم بغرابة مع نظاراته السميكة ذات الطبقة الزجاجية خمرية اللون.
ثم هو قال بينما يشير إلى الطّفلة مُشرقة المحيا والتي ما تزال تبتلع السّائل الدافئ بشراهة كمَن حُرم من الطّعام لشهور: «هل تصدّقون أن هذه الرضيعة المبتسمة هنا قد تم إجبارها للتو على مراقبة مشهد من شأنه أن يُروّع أعتى البشر؟».
-
بالاستناد إلى ما قالته كارليت، خرج قاطنوا المنزل بحثاً عن موقع الحادثة.
وإن ظننتَ بأي شكل أنّ أعقد مافي الأمر هو الحديث _بعباراته المفيدة والمُجمَلة_ الذي من المفترض أن يجري بين آرجين وشقيقته، فأنت مخطئ! نعم مخطئ.
في الحقيقة، أصعب نقطة هي محاولة استنباط معلومات صحيحة ودقيقة من بضعة كلمات عشوائية صادرة عن رضيعة لم تتعلم شيئاً عن هذا العالم بعد.
مَلكة التوصيف والسرد لدى كارليت ليست شيئاً مُبهِراً بكلّ تأكيد..
ولكن أسوء مافي المسألة، هو أنّها لم ترى شيئاً بعد، مثل حرفياً: لم ترى شيئاً..
إن أخبرتَ شاعراً متألقاً أن "الشيفاع هو كائن برمائي يعيش على سطح المريخ، يتغذى بشكل أساسي على الزهور القطبية المريخية. صِف جرو الشيفاع".
فماذا تتوقع أن يجيبك؟.
سيبتلع أوسمته الفخرية ويصمت.
هي معجزة بذاتها أن يتمكن المفكرين الثلاثة من التنبؤ _مع خطأ بسيط_ بالموقع الغريب حيث أشارت كارليت بحصيلة ضحلة في جعبتها؛ سواء أخذنا ذلك من الناحية اللغوية أم المعرفية..
-
من مسافة بعيدة استطاعت الآذان الثمانية للباحثين الأربعة التقاط النغمات المبهجة التي تتردد في المكان، تضفي طابعاً مشرقاً على البيئة المحيطة، تبعث شعوراً بالحبور؛ متمرد عصي على الكبح أو التورية..
بناء رَخامي مَهيب غير مألوف راقبوه بأعين جاحظة.
ساحة كبيرة محدودة أطرافها بأعمدة متينة، مثبت رفقة كل عمود سلم ذو درجات؛ الأخيرة كانت متفاوتة بالحجم والاتساع، وكذلك بالألوان التي وُجِدت لُتذكِّر الرائي بقاع عميق لمحيط لم يراه يوماً..
الأعمدة المتعددة مُلبّسة بورق زينة تعلوه الأصداف التي خالها الجميع من جمالها حيّة، لكأنّها انتُزعت للتو من أعماق البحر، وكأنّ عاصفة هوجاء هَبّتْ على يمّ عُرفَ بهيجانه؛ فقُذف بها بعيداً عن منزلها لتجد نفسها هنا في مكان أصرّ مُنشؤوه على جَعْله مألوفاً لها فتعيش بذلك لحظاتها الأخيرة من دون ألم قاس إضافي لتتكبّده..
خلعوا أحذيتهم في المكان المخصص إلى جوار العمود حيث يقفون، يشخصون بأبصارهم عالياً نحو المكان الذي تعمّه البهجة والسرور، وهو المكان الذي خرجوا من منزلهم بحثاً عنه.
استقل الأربعة السلم، يصلون إلى وجهتهم التي كانت عبارة عن سطح مستوٍ مغطى بمفرش من عشب اصطناعي، ما أن وطأته أقدامهم الحافية حتى تضاءل في أنفسهم اليقين بشأن طبيعته الأصلية.
السطح كان واسعاً، ولكن هذا لا يغفر لصانعيه عمّا ارتكبوه من خطأ فادح، إذ كانت الحواف خالية من أي حواجز من مَهامها أن تردع خطراً محتمل.
أمامهم استقر مقعد ملكي في غطاء قماشي أحمر قاتم، يعلوه زوجين يعتمراه الفرح والأمل في هيئة بذلتين مُبهرتين بالتصميم بلون ثلجيّ نقيّ من أي شائبة قد تُعكِّر صفائه.
بصفين أفقيَين على جانبي العروسَين توزّع الحضور، كانوا أشخاص مختلفين بالهيئة، بالعمر، وبالهالة التي تحيط كل منهم.
ولكنّهم جميعاً اشتركوا بشيئ واحد، وسَمَهم وربطهم: السعادة الحقيقية المتولّدة عن حب صادق أغدقوه بكرم على المتحابَين، يتعاونون من خلال اتفاق ضمني-قلبي على جعل هذا اليوم مميزاً وجديراً بأن يُخلَّد في الذاكرة وفي الوجدان.
الصف على مستوى العروس المزدانة بداخل ثوبها البسيط الأبيض، تألّف من نساء شابَهْنها في أسلوب اللباس وفي الإشراقة التي طُبِعت على وجوههن حتى لتظننها مرتبطة أبداً بها بواسطة تعويذة متينة البنيان نَظَمتها ساحرة خبيرة.
أمّا الخط المرافق للعريس فقد تكوّن من رجال تقاسموا الوسامة والظرافة مناصفةً، غير أنّهم تجنّبوا بمهارة شفيرَ الحد الذي قد يتسبب في تخطّيهم الرجل الذي يحتفلون به، فيسرقون بعضاً من بهائه ربما بغير إرادة أو تخطيط.
‹لن أسمح للحزن المقيت أن يرمي شباكه في هذا البحر. على جثتي!›.
عاهد آروس نفسه. يومئ بتأكيد مراراً، يتّخذ لنفسه موضعاً في صفّ الرجال، ليتبعه الاثنين.
نوار بملامحه المبتهجة التي أذهلت الحضور.
وآرجين معه كارليت يضحكان باستمتاع بينما يتأرجحان بلطف بالتزامن مع النغمات التي تعمّ أرجاء المكان تُجمّله.
في الوسط انتشرت جوقة من الأطفال، يتقافزون مع الألحان، بعضهم يرقصون بحركات عشوائية مفتقرة إلى أي ترتيب جمالي؛ ولكنّ هذا لم يخطف من سحرها شيئاً يُذكر على أية حال..
ذات القطعة طُبعت لتلائم جميع الصغار من صبيان وفتيات، أفارول من دون أكمام يغطّي منتصف الفخذ بلون أزرق سماوي، مع كنزة سوداء بنصف أكمام تحته.
قاربهم آرجين بالنحلات النشيطة التي ما مَلّ يوماً من مداعبتها في المواطئ البعيدة، حيث تنمو زهور مُلفتة بهية مقاومةً رغم رقّتها _وربما لرقّتها_ حرّ الأدغال.
فجأة أخذت كارليت تلوح بيديها تفتعل صخباً تحاول لفت الانتباه.
تتبع الثلاثة ما تشير إليه الرضيعة، لتقع أعينهم على فتاة صغيرة لا تتعدى قامتها نصف متر، كانت تبدو متألقة ومتفرّدة، حتى حقيقة أنّ ما ترتديه شاركها به عشرة أطفال آخرين _على الأقل_ لم تُحدث أي فارق.
شعرها حالك السواد بخصلاته الحريرية تَلائمَ مع القطعة التحتية التي تُطابقه باللون، كان بمثابة العنصر المُتمم للوحة الفنية عالية الجودة التي مثّلتها.
راقبها الأربعة تتنقل بين الحضور، تذهب لمَن يدعوها، تشاركه رقصة من طرف واحد فاعل أو قفزات عديدة مرحة أو حتى قهقهات ظريفة تشعّ أملاً.
في لحظة تعالت الصّرخات من كل مكان تطغى على صوت الموسيقى المُشغّل في الخلفية، جميع العيون جاحظة مرماها نقطة واحدة.
على بعد إنشات من الحافة تمركز ثلاثة أفراد، أحدهم مراهق يحتضن بين يديه طفلة تبكي بجنون هلعة.
قط غريب الهيئة موضع جسده إلى جانب الصبي يتمتم بصوت لم يتجاوز مداه الحافة، حيث يقف رفقة الشقيقَين بجانبه، مذعوراً متصلّباً يكاد يتحجّر من فرط جموده.
وأخيراً رجل غير مألوف المظهر، ببنية تشدّ الأنظار حتى في أفظع المواقف، يمدّ يديه في الهواء يسحب الطفلة المقلوبة رأساً على عقب تواجه المَنية بكل وضوح، تتهيأ للقاء المجهول مدهوشة، سحبها بعزيمة ولكن بلطف ما أمكنه ذلك يحاول أن يُهدّئ من روعها.
بصبر انتظرها إلى أن استقرّت بين ساعديه الصلبَين المُلتفّين بكُمّي المعطف وقد ارتفعا بمقدار شبرين خلال الوقت الذي استغرقه التقاط الصّغيرة.
احتضنها بشدّة يرفعها بوضعيتها المقلوبة ذاتها، يسقط لتستقبل الأرض العشبية ظهره والفتاة فوقه مغمضة العينين بعد أن أخذت الرهبة منها مأخذاً.
قلبها يطرق بجنون استطاع آروس سماعه.
وفي داخله، بين أضلاعه استكان قلبه مطمئناً، هو نجح، هو بلغ غايته، هم حققوا هذه المَهمة.
وفي نقطة بعيدة من عقله، ثبّت تذكيراً بوجوب شكر آرجين وشقيقته، وضرورة الاستعداد النهائي لإشراكهما
في العمل فعلياً بدءاً من اليوم، وإلى أجل غير مُسمّى.
حاجز من الصّمت الثّقيل غلّف المكان، إن تناسينا الموسيقى وبكاء الطفلة..
بأي حال، ولبرهات عديدة، غرق الجميع في الهدوء المَهيب الذي أُلحقَ بالموقف، غرقوا إلى الحدّ الذي أبعدهم عن الواقع تماماً.
-
بينما شُغِل الجميع بالصّدمة، طالعت الفتاة الأربعة المحيطين بها بعينيها الزمرديتَين المُزركشتَين بامتنان صادق نقي استطاع جميعهم التماسه والشعور به في قلوبهم، أرواحهم، وحتى في أبعد خلية من أجسادهم..
«كنتُ أعلم أنّ الأبطال الخارقون حقيقيون! سأخبر آدم، سيحب هذا! نعم سيحبه!».
صاحت الصّغيرة، السعادة تكاد تقفز من عينيها المُتلألئتَين وربما حينها قد تستحيل من فورها طيوراً ملوّنة تتراقص في الأرجاء. كان هذا ما فكر به نوار في هذه اللحظة.
دعك آروس خصلاته الثلجية يثرثر: «نأسف لهذا يا صغيرة، ولكننا لسنا أبطالاً ولسنا خارقين بأي شكل».
حسن. أظنّ أنّ الفتاة لم تستمع لما قاله. لأنها تساءلت مع ملامح جدية تعتلي وجهها الناعم: «أوه! أنتم فريق كيف لم ألحظ ذلك! ما هو لقبكم؟».
عندما لاحظت الحيرة على وجوه المُستَمعين تابعت بلطف تتقمّص شخصية معلم عبقري يشتهر بفضل أسلوبه السلس في الشرح: «ااه أنا أتساءل عن اسم فريقكم. تعلمون؟ المنتقمون. الفتيات الخارقات. أبطال المدينة. وأنتم ما هو لقبكم؟».
ناظر الثلاثة بعضهم البعض بحيرة، وبطرف أعينهم لمحوا الأحياء الذي كانوا قد سقطوا في وهن ناجم عن صدمة قاسية قبل لحظات قليلة فقط ويبدو أنّهم أوشكوا على أن يستعيدوا وعيهم.
تجهّز الأربعة للرحيل، وحتى كارليت صمتت تستنشق دموعها كأنها تعلم أن هذه المهمة قد أُنجزت على أكمل وجه، وحان وقت العودة إلى المنزل.
كان آرجين منهمك في مسح وجه شقيقته من السوائل الناتجة عن بكائها المتواصل والجنوني السابق بواسطة منديل ورقي خفيف حصل عليه من طاولة قريبة.
فجأة هو التفت نحو الفتاة التي ما تزال واقفة بوجه بشوش تنتظر الإجابة.
ليقول: «بإمكانك دعوتنا ب خالقي الفرص».
يتسبب بجعلها تقفز بمرح تردد الاسم عدة مرات تحاول أن تعتاد على نطقه.
ما أن انتهت من جولة النطق والتكرار كان الأربعة _وقد أصبحوا فريقاً منذ الآن_ قد اختفوا من المكان.
وتحلّق حولها الحضور، بعضهم لم يستفق من صدمته كلّياً، وآخرون أخذوا يلاطفوها يطمئنون عن حالها.
_نهاية الفصل_
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top