روح باهتة _ قصة قصيرة _

تحذير : المحتوى مؤلم، حساس، وغير مناسب للأطفال. 

-

Zein POV

خرجتُ من منزلي صباحاً بحماسة ما فتئت تغمرني هذا العام في أيام الاثنين من كلّ أسبوع.

بدأ الأمر منذ ستة أشهر، تلقّت مساعدتي بريداً إلكترونياً ينصّ على طلب استلام حالة مَرضيّة لإحدى السّيدات، تضمّنت الرّسالة معلومات شحيحة عن المريضة؛ من قبيل اسمها، عمرها، مكان سكنها، حالتها الاجتماعية.. وهي معلومات غير مفيدة بطبيعة الحال..

تقرّر الموعد الأول في يوم قريب. سبقَتْه جلسة اعتياديّة دوريّة مع مراهق يعاني بسبب مشاكل أسرية.

عندما فرغتُ من مريضي الصّغير، طلبتُ لنفسي كوباً من القهوة، وأعلمتُ مساعدتي بإمكانية عقد الجلسة حالاً.


طُرق الباب ودخلت سيدة قصيرة بشعر بلاتيني منسدل تصادمت أطرافه المستوية والمقصوصة بعناية مع نهاية عنقها الطّويل، يفصله عن قبة القميص السّوداء المقلّمة عدة سنتيمترات.

مع كل نبضة يحدُثها شريانها الأخضر البارز عبقت العيادة برائحة عطرها المركّزة والحادة.


ببطئ أخذت تخطو نحوي معتمدة على عصا معدنية فضية اللّون مزوّدة بحساسات.

حاولت التحدث بأي شيئ بهدف مساعدتها في تقدير اتجاهي، ونظراً للابتسامة المعبّرة التي رسمَتها بشفتيها الدقيقتَين الملوّنتَين بأحمر قانٍ، أظنّها أدركت نواياي. 

في النهاية، هي توقّفت أمام مكتبي، مدّت يمناها فصافحتها برسمية. ثم جلستُ وأرشدتُها نحو كرسي مقابل لخاصّتي.


أسندت ظهرها المنتصب إلى لوح الخشب المُبطّن بالاسفنج، صالبت ساقيها المغطاتين بجوارب طويلة شفافة تعلوهما تنورة رسمية سوداء تخفي الرّكبتين.

 وضعت نظاراتها العاتمة أمامها على الطّاولة المرتفعة الزّجاجية، وأخذت تدعك عينيها المغمضتَين، فيما تركَّز بصرها نحو نقطة ما من محيطي استدلّت عليها من اتجاه صوتي. 

قالت من دون مقدمات: «أنا أرجو مساعدتك أيتها الطّبيبة». 

حثثتها على الاكمال، فتابعتْ: «في الحقيقة، وقع اختيارنا عليكِ بالتّحديد لسبب، ولم يكن اختياراً اعتباطيّاً». 

حسن. بحكم عملي، يتوجّب عليّ سماع الكثير من الأحاديث الغريبة وتلقّي معلومات عشوائية لا حصر لها، ولكن لمَ جُذبتُ نحو كلامها وكأنّه الحقيقة المحضة منذ البداية؟ هذا ما لم أعلمه حتى اليوم..

تصرّفتُ بطبيعية محاولةً استغلال انفتاحها هذا معي: «ولكن، مَن تقصدين ب 'نحن'؟»

تجاهلتني مكملةً وعيناها ما تزال شاخصة في النّقطة ذاتها: «قبل نحو شهر، صادف ابني حساب يخصّك على أحد مواقع التّواصل الاجتماعيّ. جذبه الوَسم الذي ذيّلتِ به منشوراتك ‹نصدق النّاجيات›. وبمرور الأيام أصبح محيطاً بالنشاطات الكثيرة التي تقومين بها في سبيل مساعدة النّاجيات من الاعتداءات والعنف القائم على النوع الاجتماعي».

حسنٌ. لنشاطي الشخصي هدفين، أحدهما: الأخذ بيد النّاجيات نحو برّ الأمان، أما الثاني فيتمثّل بتشجيع غارقات جدد على طلب النجاة. 

في لحظة فقدتُ تركيزي برمّته فسألتها إعادة ما قالته.

 في النّهاية، فهمتُ أنّها تنشد مساعدتي دوناً عن جميع الأطباء المتمرّسين، بالرّغم من أنّي غريبة أجنبية، وفي مكان ما لن تعيننا اللّغة ومفرداتها في تحقيق غايتنا.

نطق لسانها بما سيبقى عالقاً في ذهني لوقت لا أعلمه: «لن يفهمني إلّا مَن ذاق معاناتي، فما بالك بالقدرة على مساعدتي وشفائي؟».

«أرجوك أن تسمعيني. لا أطلب سوا ذلك. أنا أُنشد العلاج نعم، ولكن لامرأة بعمري لا يفيد العلاج بقدر أذن تصغي إلى آلامي الدّفينة». 

هذا ذكّرني بموقف مشابه عشته مسبقاً. عندما طلبتُ الإصغاء والتّصديق من طبيبي كبديل مؤقت عن العلاج. 

رغبتُ يوماً بالكشف عن لثام ماضيّ الأليم. كنت مغمورة بحب عائلي عظيم، ورغم ذلك لم أقدر على البوح أمامهم، نحن لا نحتاج مواساة.. فما بالك بمواساة ممَّن تمزّق نياط قلبه علينا!. 

أدركتُ أن هذا السّيدة هنا تملك مَن تخشى على قلوبهم من الألم إن هم قُدّر لهم أن يحيطوا علماً بما عذّبها من مآسي. 

طلبتُ إلى مساعدتي أن تعيد للسّيدة أشياء كانت قد أودعتها لديها قبل الدّخول تبعاً للقواعد المهنية. أرجئتُ كلّ المواعيد القادمة. وجلسنا متجاورتَين نستحضر الذّكريات القاسية.

أخذَتْ نفساً عميقاً وبدا جسدها السّاكن كمرآة لروحها المتأذية «في طفولتي كنت أسكن مع عائلتي في منزل صغير بالقرب من نهر ضيّق رائق. على الضّفة الأخرى يقبع منزل جميل بطلاء أصفر فاقع، حسبته ينتطر الرّبيع على مدار السّنة بشوق، حيث ستملأ الأزهار المتفتحة فراغ وحدته».

مال رأسها إلى كتفي، وعلمتُ أنّ روحي تتوق لمشاركتها آلامها. بقيتُ صامتة عازمة على تلقي أياً كان ما ستبوح به.

«في إحدى الصّباحات الخريفيّة، وبينما كنت ألهو حول المنزل رفقة شقيقي الوحيد والذي يصغرني بعام واحد. لمحنا صبياً صغيراً يبدو مقارباً لسنّينا غير أنه أقصر منا بعض الشيئ، كان يقف على الضفة الأخرى ويلوح بيده بترحيب، تلفّتنا في الأرجاء ولم نجد أثراً لإنسان قريب، كان يقصدنا! بادلناه التلويح، بلهفة، وأخيراً سنفارق وحدتنا!.. رفعنا أيدينا الصّغيرة عالياً نحو السّماء واستمرينا في التّلويح طويلاً دون كلل أو ملل»..

رأسها ما يزال يستريح فوق كتفي، هي ملتصقة بي تماماً، ولكنها غادرت المكان، استقلت قطار الزمن وانغمست في ذكرياتها الخاصة.

«بقينا على هذه الحال طويلاً، ربما لشهر! شهرين! لا أعلم.. في كل صباح نقف متقابلين مع الصغير المجهول، يفصلنا نهر، طوّرنا ما يشبه لغة. أقسم إننا تواصلنا وفهم كل منا ما يرمي إليه الآخر. فمثلاً، عندما يرغب صديقنا في مشاهدة مسرحية صامتة كنا نؤديها له راجيَين استمتاعه. وعلمنا غريزياً أنّه يسامر الوحدة، فقط مثلنا».

«بطبيعة الحال، شاركنا المشاعر والقصص عن صداقتنا الحديثة مع عائلتنا. ربما كانت هذه بداية اللعنة».

تصلّب جسدها لكأن نوافذ القطار أعتمت فجأة، وثقُلت ذرات الهواء.

«في العيد، جهّزنا والدي ورافقنا لزيارة صديقنا المجهول! وما يزال هذا اليوم هو الأفضل في حياتي بأكملها حتى بعد مرور عشرات السنوات».

«هناك استقبلنا صديقنا ووالده بحفاوة بالغة. عرفنا أنّ اسمه ‹جون›، وأنّهما فقدا والدته المريضة حديثاً. كان يكبرني بعام، ويكبر أخي بعامين، ولكنّ جسده الصّغير والظّريف جذبنا لحمايته».

«عندما روينا لوالدينا وجدّتنا ما يتعرّض له صديقنا الحبيب من قسوة في التعامل من قبل والده السيئ، شجّعونا على التقرب منه أكثر وأن نكون ملجأه الآمن».

«قضينا معظم الوقت معه. وبذلك استطاع الابتعاد عن مرأى والده قليلاً.. وعلمتُ لاحقاً أن عائلتنا ضغطت على الرّجل لكي يبعد شروره عن الطّفل».


قصّت عليّ ما عاشته في الماضي خلال ثلاثة أشهر بمعدل جلستين كل أسبوع.

تحسّنت معاملة الرجل لابنه بشكل ملحوظ، بغضون بضعة شهور أصبح أقل عصبية، انحسر تناوله للكحول حتى كاد أن ينعدم تقريباً، وقلل من خروجه وابتعاده عن المنزل. 

وبذلك منح للصغير بيئة أسرية أفضل، واكتسب لنفسه أصدقاء إذ سرعان ما وثق به سكان القرية بمَن فيهم والديّ كاترين وشقيقها.

أعلن الرجل عن رغبته في مساعدة الأطفال في تعلّم العزف على آلة البيانو. 

في البداية، كان تلاميذه هم طفله جون ذو السّابعة، والأخوين كاترين وتوني. ولكن وبمرور الوقت، فاق العدد عشرة أطفال، تتراوح أعمارهم بين الخامسة والعاشرة، جميعهم من الفتيات ما عدا توني وجون.


في ليلة ما، وردتني رسالة نصية من السيدة كاترين، اقترحت عليّ أن تكون الجلسة القادمة في منزلها.

 وافقتُ. وفي الموعد المحدد اتبعت خارطة جوجل وإرشادات السيدة للوصول إلى المنزل الواقع في وسط المدينة بالقرب من متحف شهير، تحيط بالمبنى المكون من إحدى عشرة طابق حديقة غنّاء تسكنها بعض الحيوانات الأليفة والطيور نهاريّة النّشاط.

أمام الباب الحديدي للمبنى أوقفتُ درّاجتي الهوائية، ركنتها في المكان المخصص، وراسلت خليلي أُنبئهُ بوصولي إلى وجهتي، فتمنّى لي التوفيق.

أخذتُ نفساً عميقاً، وأجريت اتصالاً صوتياً مع السيدة، التي هرعت لاستقبالي مع رجل يماثلها في الطول والسنّ تقريباً، ومراهق وسيم بجسد رياضي يفوقهما طولاً.

لم تصطحب عصاها هذه المرة، كانت تستند إلى الرجل بثقة مفرطة، وبقي الشاب يحوم حولها كظلّها. ولكنّها استخدمتها في المنزل عند ابتعادها عن الذكرين لقضاء بعض الحاجيات.

مَن يناظرهم كل على حدة في هذه اللحظة، سيصلهم معاً كعائلة دون أدنى معرفة، هناك تناغم بين ابتساماتهم، أساليب تحدّثهم، وحتى روائحهم اللّطيفة المنعشة!. ومَن يدقّق قليلاً، سيعلم يقيناً أنّ ذكريات قاسية تخامر أرواحهم الليّنة.

«زين عزيزتي، زوجي هنا وطفلي كلاهما متشوقان للتعرف إليكِ، طوال الأشهر السّابقة حدّثتهما عنكِ كثيراً للحدّ الذي تطلّعا للقائك ورؤية سحرك على أرض الواقع». قهقهتْ بلطف وشاركتها. حسناً أنا أيضاً متشوقة لمعرفة مَن ملأت محبّتهما قلب صديقتي الكبير العطوف.

ظهر المراهق وبيده كأس ماء دافئ، وكان قد حمل مَهمة تخليصي من معطفي الثقيل وتعليقه في مكان ما من المنزل.

أخذتُ منه الماء وتجرّعته بعطش. ثم أعدتُ الكأس فارغة. فلتذهب اللباقة إلى الجحيم! ثلاثون دقيقة من القيادة المتواصلة جعلت خلاياي تتوق للقليل من الماء المنعش.

دخلنا غرفة بأثاث وإضاءة مريحَين. جارى الرّجل الخطوات البطيئة لزوجته وأجلسها على أريكة ناصعة البياض، ثمّ أرشدني إلى أريكة مجاورة.

ولحق بابنه معلناً «كوني حرة في منزلك رجاء. تحدّثا بينما أنتهي وجويل من إعداد العشاء».

ثم غادر مغلقاً الباب الخشبي خمريّ اللّون خلفه بلطف.

التفتتُ نحو كاترين الصامتة على غير عادتها. ووجدتها وقد احتل التوتر جسدها، وشحب وجهها قليلاً عمّا كان عليه منذ بعض الوقت.

استقمت من موضعي وخطوت نحوها بهدوء ولكن ليس بصمت تماماً. وهذا أتاح لها الفرصة لتنتبه لي.

عندما جلستُ بجانبها أخيراً وضممتُ كفّها المجعّد الدّافئ، أغمضتْ عينيها ببعض الرّاحة واستندت بظهرها إلى ظهر الأريكة المريح مبقيةً على يدها بداخل خاصّتي. وانتظرتها لتبدأ الكلام. 

«حدّثتكِ سابقاً عن شعور عدم الرّاحة الذي لازمني طالما كان الجار والد جون في الجوار».

بدأت يدها بالتعرّق. وحافظتُ على صمتي.

«عندما أخبرتُ توني بما أشعر به، اقترح أن يجلس هو بجانبه في ساعات الدروس، فأبتعد أنا. كانت مجموعتي مكونة من توني، فتاة اسمها سارة، فتاة أخرى باسم جورجيت، وأنا. تبادلتُ الأماكن مع الجميع ولكن مهما فعلت ومهما ابتعدت، بقيت عيناه تلاطمني بأشعة حارقة خفية ولكنّها مؤلمة، ثاقبة ولكنها لا تخلّف أي أثر».

«بالنسبة لطفلين وحيدين كنحن، شكّلت هذه الدروس فرصة ذهبية، أخفيتُ وأخي ما نحس به عن عائلتنا قلقاً من انتزاع سعادتنا الحديثة النامية».

«بوضوح، كان لدى ذلك الرّجل هدف محدد، أنا. من بين أربعة خيارات، عيناه الآثمة انتقتني. هذا ولّد لدي إحساساً عميقاً بالغيرة، تسائلتُ لماذا كان عليّ أن أحتمل هذا دوناً عن ثلاثتهم؟». بصوت عالٍ طرحت سؤالها، وهي مَن عهدتها هادئة. 

«رغم دونية هذا التفكير. لم أجد بداً من مخالجته. كنت خائفة، وحيدة، وجلّ ما تراود إلى ذهني حينها هو أن شيئاً ما يسكنني تسبب بهذا. شيئ ترفّعت عنه أجساد الثلاثة الآخرين. لذا نعم شعرت بالغيرة». تحشرج صوتها. حاولت تهدئتها. ربّت ظهرها برفق وناولتها بعض الماء.

بمرور عدة لحظات، هدأت نسبياً وشرعت في استكمال قصتها: «في البداية، فضّلتُ عدم الإفصاح عمّا بداخلي لعائلتي. ولكن وفي نقطة ما، وجدتُ نفسي غير قادرة على مصارحتهم. في ليلة ما من تلك الفترة العصيبة نسج عقلي حلماً قاسياً، لن أنساه ما حييت. ظلمتُ جدّتي بتفكيري ذاك. إذ إنّها لاحقاً ستقف في ظهري وتمدّني بالشّجاعة، بالثقة، وبالأمل. أما في منامي، فلعبت دور شرير حقيقي وأنا متأسفة لها على ذلك حقاً، حتى يومنا هذا وإلى أن أغادر حيث تنعم هي الآن سأبقى مدينة لها باعتذار».

«في الحلم، كنت أتوسّد أحضان والدي _وهو شيئ لم يكن بمقدوري فعله في تلك الفترة، ذُعرت حينها من الجميع بمَن فيهم والدايّ_. ولكن عالم الأحلام مختلف بطبيعة الحال، بجوارنا تحلّق كلّ من جدتي وشقيقي ووالدتي حول طاولة صغيرة يأكلون المكسرات، وصوت التلفاز يصدح عالياً ببرنامج كرتوني ما. قفزتُ فجأة، وهممت في لفت انتباههم إليّ، وفور تحقق مبتغاي، أخبرتهم بالنّظرات الغريبة، شاركتهم مشاعري السّقيمة، وأعلنت إفلاسي من أي ذرة تحمّل متبقية».

«بكى والدايّ بضعف. وانتصبت جدتي واقفة، جذبت شقيقي من يده، موضعَتْه أمامها وسألته بنبرة لطيفة بينما تَحدجني بنظرات قاسية مكذّبة ومؤنبة في آن: "هل حدث هذا لكَ أيضاً يا حفيدي العزيز؟". في الحلم، هز توني رأسه سلباً. فتابعت جدتي تحقيقاتها: "وماذا عن سارة وجورجيت؟" نفى مجدداً. وتوصّلت جدتي إلى استنتاجها: "تذكري. ماذا زرعتِ كي تحصدي هذا؟". استفقت مرعوبة، حول السرير توزّع والداي وجدّتي، وبجانبي جلس توني، بيده كوب مياه، ويده الأخرى مشغولة بالمسح على شعري المسدول بحنان. عندما حاولت جدتي الاقتراب مني، أبعدتها وصرخت بقوة أخافتها. ولكنها انسحبت بهدوء إلى الغرفة المجاورة لكي تصلي من أجليّ».

أسندت رأسها إلى كتفي، كما اعتدنا عندما تتأزّم الأحداث، الإحساس بخصلاتها النّاعمة على بشرة عنقي الباردة جعل الأمر أكثر واقعية بطريقة ما، هنا بجانبي تجلس امرأة بروح معذّبة (وإن كانت مَن تجالسني في هذه اللّحظة هي الطّفلة القابعة بداخلها)، عذابها مضى منذ زمن طويل، عشرات السنوات على وجه الدّقة، ولكنّ الألم ما يزال حياً كذا تبعاته.

«كان يوم سبت ربيعي، حوالي السّاعة التاسعة صباحاً، أودعتنا والدتي أمام الباب بعد أن تبادلت التحية وبعض العبارات الودودة رفقة والد جون. خلال ذلك وقفتُ مع توني بجوار قدميها، نستمع إلى أحاديثهما الاعتيادية تماماً، وتداعب آذاننا نغمات غير مضبوطة يفتعلها الطّفل في الدّاخل. السيد ميشيل كان شيطاناً حقيقياً، هو طوّع عينيه بحيث يطلقان نظرات مختلفة تماماً بحسب الشهود المتواجدين، وهي أبداً لم تخيفني بحضور أحد والداي أو أي شخص بالغ عموماً، بينما أحرقتني في أوقات أخرى».

«فور مغادرة والدتنا، اصطحبنا السيد ميشيل حيث ينتظرنا جون بمفرده، لم تأتِ الفتاتان لسبب ما. علمنا لاحقاً أن الرّجل أنبأ عائلتيهما بأن الدرس لهذا اليوم ملغى».

«بعد مرور بعض الوقت، ادعى الرجل العطش، أرسلني لكي أجلب له المياه من المطبخ، بالتأكيد جررتُ توني معي ولحق بنا جون. ما تلا ذلك مشوش ويستحيل عليّ استحضاره بالكامل مهما حاولت. في لحظة وجدت نفسي في المطبخ مع الرجل بمفردنا، وكان جون وتوني قد رحلا؛ أخبراني لاحقاً أنّهما قصدا محل بقالة قريب بطلب من الرجل».


End of Zein POV


-


1986 

عصفت السّموات بريح عاتية، قوية، صاخبة، قاسية، وبلحظات تحوّل النّهار الرّبيعي اللّطيف إلى يوم آخر شرس واكفهرّ وجه السماء غاضباً.


في قرية صغيرة اهتزّ منزل صغير يسكن بجانب النهر الذي شارك عناصر الطّبيعة الأخرى في غضبها وجنونها العنيف، فتلاطمت تياراته محدثة أصوات مؤلمة لا يدركها أهل الأرض بل أهل السماء هم فقط مَن يعلمون كُنهها، مثلها كمثل ما حلّ بالرّياح من خُبل غريب.

اهتزّت جدران المنزل لما وقع في إحدى حجراته، لما رأته صغيرة لم تتجاوز السّادسة وسيجعلها زاهدة عن رؤية شعاع الضّوء لسنوات طويلة لاحقة.

هي الآن أصبحت ضحية أخرى إضافية، حُفِر اسمها للأبد جنباً إلى جنب مع سيل أسماء وألقاب الضّحايا. 

ربما لن يعلم أحد في العالم ما أحسّت به، كما لن تشعر بدورها بمَن خاضوا تجارب مماثلة أو مشابهة، ولكنّ روحها ارتبطت بهم جميعاً عبر رابط متين عصيّ على الكسر.

انفصل جزء منها بلا رجعة. وانجرف مع التيار. حمله السيل العظيم مع أجزاء أخرى لضحايا من أعمار مختلفة، أجناس مختلفة، أعراق مختلفة، مستويات وعي وقوة مختلفة. 

فقدوا جميعهم أجزاء قُطعت منهم بأصعب وأشنع طريقة، مخلّفة ورائعا ذكريات قلسية، ووسم من شأنه أن يؤلف بينهم إلى الأبدية. 

وسم أم ندبة، سمّه ما شئت. ولكن في المرة القادمة، عندما تصادف ناجياً من عنف جنسي، تأكد أنه مرتبط بغيره من الناجين برابط يفوق أقوى الروابط المعروفة قوّة، ذلك أنّهم موسومين جميعهم بندبة الإله ايروس، تلك الندبة التي سُلّطت بوجهها الآخر كلعنة أبدية على المعتدين المارقين.






-

أدار جون الصّغير قفل الباب دالفاً إلى قلب المنزل مع صديقه.

هالهما السّكون المخيم على المكان، قصدا المطبخ محمّلين بحقائب كثيرة تطلّب البحث عنها وقتاً وجهداً بالغَين.

أسقط توني الحقائب البلاستيكية من يديه عند رؤيته لشقيقته وقد جثت بجوار الرّجل الكبير، بجوارها عصا التنظيف مرمية بإهمال، تغطّيها الدّماء، والرجل بجانبها مغشي عليه، مغطّى بستائر المطبخ وقد انتُزعت بعنف عن مفاصلها.

التفتت الفتاة بوجه جامد جُفّت عليه الدموع المالحة. زحفَت نحو الصغيرَين بسرعة وثبات، كانت تحاول الكلام ولكن مهما تكبّدت العناء لم يحرِ ثغرها عن أي كلمة مفهومة.

أخيراً، هي وصلت حيث يقف توني. وكان جون قد هلع إلى موضع والده يتفقّده.

تعلّقت بقدميّ شقيقها المتوجّل من الموقف بأكمله. تلعثمت: «حاول خلع ثيابه. أاخافني. صرخ بي. رأيت رأيت. ولكن لن ترى لا تقلق. رميت الستائر جميعها عليه. لن يراه أحد بعد الآن. خبئني توني أنا خائفة». 

أجهشتْ بالبكاء. وعانقها الطّفل يشاركها البكاء.

رنّ الهاتف فأجاب جون. كانت المتصلة هي جدة الطفلَين. طالبها جون بالقدوم بصوت مرتجف.

مع وصول الجدة بدأ الرجل باستعادة وعيه.

صاحت الطفلة بهستيرية: «ثبّتا السّتائر عليه أرجوكما ثبّتاها».

هرع الطّفلان لتنفيذ مطلبها وطمئنتها. بأيدي مرتجفة دفعا الأغطية ضاغطَين إياها ضدّ جسد الرجل الساكن أصلاً.

 أخذت عيناه تجوب الأرجاء بحثاً عن الطفلة ولكنّ كاترين حصرت جسدها في ركن بعيد عن مرمى ناظريه هلعة.

اقتحمت الجدة المنزل. بتوزيع أنظارها حول الأطفال والرجل والمشهد بأكمله لم تفهم ما جرى كلياً.

 ولكنّها علمت غريزياً أن حفيدتها بحاجة إليها في هذه اللّحظة.

اندفعت نحوها لتغمر جسدها الضّئيل بحنان. وأمضت الدّقائق التالية في تهدئة الصّغيرة هامسة لها بكلمات نجحت في تسكينها.

ثمّ هي خرجت والطفلة متأكدة من إقفال جميع المنافد. وأرسلت الطفلين في طلب العون من الشرطي في المركز التابع للقرية.

عدة دقائق معدودة سبقت ظهور سيارة شرطة تقلّ عنصرين وجون وتوني.

تكفّل الشرطيان بالرجل. واصطحبت الجدة الأطفال إلى المنزل على الضّفة الأخرى.


في الأيام التالية، أحاطت روح السيدة المسنة حفيدتها بالحنان والمحبة اللازمين، واحتفظت بقواها الجسدية للعناية بالصغيرة وردع كل ما قد يسبب ألماً لقلبها المتألم.

في الحقيقة، تعاضدت العائلة بأكملها لرعاية الطفلة، غير قادرين على إزاحة شعور بالذنب والمسؤولية أخذ ينمو ببطئ وثبات في أفئدتهم.

مقابل كل دمعة ذرفتها الصّغيرة، ارتجفت أبدانهم حزناً.

مع كل شرود واسترجاع للذكريات المؤلمة، ضاقت صدورهم بأرواحهم وبالهواء في آن.

تجاسرت الكوابيس المتوحشة في زيارة طفلتهم بغير دعوة، وإزاء عجزهم عن إيقافها عاشوا ما هو أسوأ منها بمراحل.

-

حكم القاضي بخمس عشرة سنة سجن للمعتدي.

 وبانتقال جون إلى مركز رعاية في المدينة المجاورة.

عاده الأب والأم دورياً في عدة أيام على مدار الأسبوع، ورافقهما الطفلان في بعض الأحيان.

في المرة الأولى التي لمحته فيها بعد غياب. حضنت كاترين الطفل الوحيد، وانهارا على الأرضية يبكيان كأن لا غد، يشهقان ليعودا ويتعانقان أقوى، وأدرك الجميع أنّ رابطاً خفياً تولّد بينهما وأخذ ينمو مع مرور الأيام من شأنه أن يصلهما معاً إلى الأبد.

كل ما تراه كاترين حولها يذّكرها بالحادثة المشؤومة، وكدفاع ذاتي، منعها دماغها عن الرؤية، بالنسبة للمكفوفين فأعينهم تعمل بشكل طبيعي في الأحلام، أما هي فباتت عمياء في كلي الحالتين.

وعندما تبين لها أن هذا الحل المؤقت ناجع، درّبت كاترين نفسها على الاستمرار به، واليوم، هي تعيش بمفردها في قوقعة فارغة، تواجه العالم مع أحبائها ولكنها لن تستغني عن قوقعتها الحامية.

بعمر العشرين غادرت القرية مع جون وتوني. تاركين ورائهم أب وأم متقاعدَين حديثاً وضريح جدة مُحبة.


في البداية، عاش الثلاثة معاً، يدرسون ويعملون في الصباح، ويمضون باقي اليوم سوياً فقط كعائلة صغيرة.

في لحظة ما _وإن جاءت متأخرة_ علم الصديقان أن علاقتهما في الداخل مختلفة عمّا تبدو عليه، وأن قلبيهما يتوقان لبعضهما. تكلّل هذا بزواج سعيد.

بعد الزّفاف بأيام، انطلق توني في طريقه وحيداً، معاهداً باتصال دائم مع الزّوجين. 

في رحلته، تعرّف توني إلى الطّفل اليتيم جويل ذو الثانية عشرة، وحين التقى الزوجان بالطفل لم يستطيعا إلا أن يدعواه لأن يصبح فرداً من عائلتهما الصغيرة، وبذلك أصبح جويل طفلهما بالتبني.


اليوم، تخطّت كاترين ما عاشته وأرّقَ روحها طويلاً، ولكنّها بحاجة لأن تركّب قطع الأحجيات المتفرّقة في ذاكرتها. على دماغها أن يواجه الموقف عوضاً عن المضيّ في الهروب وحجب الواقع.


-

Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top