الشّاهدة الصّامتة (قصة قصيرة)

قبسٌ من إلهام قد حلّ في عينٍ معتمة، فتعجّل الكون في فِكر المُستبصرة وسرعان ما انصرفت عليها شهورٌ لم تكد ترَ خلالها حدثًا واضحًا واحدًا، حتى توقفت بها العَجلة الزّمنيّة المدفوعة في قاعة احتفالات صاخبة، يترأسها الإمبراطور متوّج بإكليل من الغار تيمنًا بعمر مديد كان هِبةً خُصّت بها النبتة المبارَكة، على جانبيه اصطفت نساءُ البلاط الأرفع شأنًا مكنوزاتٍ في أوشحة يوحي بذخُها بمدى ثراء مالك المكان ومدى كرمه أيضًا.

تنقل طيف المُستبصرة بين الحضور، فرأت أزواجًا من النبلاء يرقصون بوقار على إيقاعٍ رتيبٍ ينساب عن قيثارات مذهّبة تحملها جوقة من العازفين المَلكيين ذائعيّ الصيت، فلمّا تعرّفت على أوصاف بعضهم أدركَت أنّها لم تبتعد كثيرًا عن حاضرها.

وفي مقتبل أحد الأبواب لفتَها تجمّعٌ أثار فيها الفضول ورجَت أن تحصل هناك على مبتغاها، تخطَّت الرّاقصين ونفذَت عبر بعضهم حتى بلغت مقصدها، حيث التفّ حشدٌ من النّاس حول طفلَين أشقرَين حسَنَي المظهر، ومن وسط الهمس المشوّش مختلف المصادر التقطت أذنها عبارة مفهومة «حال الذّهب بينهما وبين النّار الغاشمة فلم يشوّه جمالهما خدشٌ واحد! ومع ذلك، لم يُسمح لهما بكشف المستور، فأُلجمَ لسانيهما عن النّطق في مقابل معجزة النجاة التي ترونها».

أحسّت بدنوّ أجل رحلتها القصيرة، فاجتازت الولدين والمتفرجين قاصدةً رجلين يتحدثان وغمامة شاحبة تحيط بهما، انبرى الأول يقول مستنكرًا: «يا لهذه الفاجعة المقرفة! لن نستطيع تذوّق عنب بومبي هذا العام. أدعو أن يحلوا هذه المسألة في العام القادم».

وبينما تجذبها العجلة مجددًا خُيّل إليها أنّها سمعت خاطرة عابرة في رأس الرجل الآخر سيصلك عنب بومبي يومًا ما... ولكن مَن يعيد إليّ صديقي؟

-

«ماذا رأيتِ؟». هبَّ السّؤال السّابق بصوت زبونها النزق على شعلة الإلهام الواهنة فأتمّ إخمادها، وارتسمَ خطٌّ زمنيّ جديد في موضعٍ ما من جلدها المترهل؛ شاهدٌ على رؤية أُخرى عاشتها خلال عمرها الطّويل.

راحت تقصُّ عليه فحوى الرّؤية مستعينةً ببعض الاستعارات المجازيّة للتّقليل من واقعيّة ما جرى، في خضمّ ذلك أخذَت تتحسس الأيقونة البرونزيّة بأناملها المتشققة وعبثًا حاولتْ غربلة الهواء الذي تستنشقه لتخلّصه من آثار دماء أفاعيها العزيزة.

«أحتاجُ شيئًا أقوى، أحتاجُ نبوءة عظيمة من شأنها أن تٌطرِب آذان المستمعين وأن تملأ نفوسهم فخرًا». نطقَ ثم ألقى أمامها صُرةً جلدية صامتة لكثرة ما حُشر فيها من قطع معدنية.

فتحت العرّافة قفصها وأخرجت المزيد من الأفاعي، التفّت إحداها على يدها فاقشعرّ الجلد تحتها، أحسّت بحشرجة بسيطة في صوتها حينما نادَت على مساعدها ليستهلّ المهمة بالنّيابة عنها، وسوّفت ملحوظة لوقت لاحق؛ عليها أن تحصل على أفاعٍ غريبة لغرض تقدمة القرابين، وتحرر هؤلاء، أو قد تحتفظ بهم بعيدًا عن المَذبح.

مدّت العرّافة ساعديها البرونزيين فوق الأضاحي المدماة وجرَت على لسانها بصوت أقرب للهمس عبارات غريبة بلغة غير مألوفة تكرر فيها اسم سابازيوس؛ إله معبدها، وربما تكون هذه اللّغة قديمة بقِدَمه ذاته.

في الحقيقة، هي لا تفهم حرفًا مما تقول وإنّما تحفظهم نقلًا عن معلّمتها الرّاحلة، وجرّبت أن تستغني عنهم غير أنّ ذلك أضرّ بصورتها كقارئة ومستشرفة للمستقبل، فوجدت النّاس يفضلون زيفهم المألوف ويستخدمونه كتعويذة طاردة لأيّ بادرة صدق حديثة العهد لا يألفونها.

راحت تُفتّش في الأحشاء الباردة بحثًا عن مَنفَذ مناسب تثق أن حدسها سيقودها إليه، وتخطت إشارات عديدة أحسّت أنّها تحمل في مضامينها ما تُقبَض له القلوب.

في ماضيها المبكر، قبل أن يغيب النور عن عينيها، كان الاستطلاع أكثر صعوبة، وهذا يخالف ما يتوقعه النّاس بشأن الأمر، ذلك أنّ القراءة التقليدية تتطلب الكثير من المهارات والمعارف، أما الرؤى فهي مَزايا تتجلى في النّوادر فقط، وحتى هؤلاء، قلة منهم تستطيع التمنّع ضد الجنون المرافق للمزايا العظيمة، هذه المناعة هي ما يظنها العوام مهارة يصعب بلوغها، ولكنّها تعلم أنّها وليدة الحظ الجيد كما الرؤى تمامًا...

ارتجف جسدها ما أن لامست أناملها الجذوة المنشودة التي أدركت شعلة الإلهام الميتة فيها فأنعشتها، وللمرة الثانية لهذا اليوم حصل طالب النبوءة مع المساعِد ومجموعة صغيرة من العرّافين الهواة كانت تفترش الرّصيف المقابل، على مشهد مرهب ليتأملوه.

مدّت بيريا يديها أمام اليدين المعدنيتين الخارجتين من صلب المَذبح، خصلاتها المبعثرة حملت بعض القطرات القرمزية الجافة، وخُيّل للجميع أنّ حرارة رهيبة تنبعث عنها، بدا جليًّا أنّها لا تكترث لحُرمة الصّمت المخيمة على جميع الكائنات الحية ما عداها، صرخَتْ فاقشعرَّت الأبدان، وارتجلَت ترنيمات منمّقة لسابازيوس تستجرّ منها عطفه وعنايته في رحلتها القادمة، ثمّ أجالت عينيها البيضاوين في جميع الاتجاهات وأحسّ مَن واجهوها أنّها تراهم حقًّا، قبل أن ترتعش بقوّة مستقبلةً بارقة مخفية اخترقت صدرها المُرحِّب فسَقَطت مغشيًّا عليها وعيناها لا تزالان مفتوحتين تثقبان الهواء.

لمّا تحرر المتفرجون من سلطان المشهد انشغل بعضهم في أحاديث جانبية، فيما واصل البعض الآخر مراقبتها بتمعُّن محاولين تتبع تحركاتها لاستنباط ما يجري في ذلك العالم البعيد الذي انتقاها دونهم لسبب يجهلونه...

ألِفَت العرّافة العجوز ذاتها في مدرج بومبي الذي شغلت مقاعده كثيرًا في طفولتها الأولى مع والديها، ثم مع معلّمتها في وقت لاحق، وأخيرًا مع مساعديها ومريديها، إما لمتابعة المباريات المشوّقة في الاحتفالات الدينية أو المناسبات الشخصية كالوفيات وغيرها، أو لحضور الاجتماعات المَدنية بين الحين والآخر.

نورٌ باهرٌ سطع من مكانٍ ما أمامها تسبب بذعرها، وتواصلت الومضات حتى قفزت بصدمة وتلفتت حولها فأدركت أنّ النور موجَّه نحو رجل يقف خلفها، كان يشغل مقعدًا في صفّ الحكام رغم أنّه لا يبدو كواحد منهم.

الآن فقط تنبّهت إلى تخرّب أجزاء من المكان، لقد سمعت عن انحدار الأحوال في السنوات السابقة ولم تره، ولكن أين حكام بومبي من هذا؟ وأين مواطنوها؟

هرول الرّجل نزولًا ثم تجاوزها قاصدًا المجسم المشع فحرّكه يمينًا وتراجع ببطء موازيًا له حتى استقرّ أخيرًا في نقطة من ما المسرح، تمامًا حيث انهارت جثة مصارع ضخم ما تزال صورته عالقة في ذهنها حتى بعد عشرات السنوات من وقوعها، كان أول قتيل تراه أبدًا...

هنا ابتسم الرّجل الغريب مستقبلًا الوميض اللاّمع. وهنا صرخ المصارع للمرة الأخيرة من الألم، أو من الهزيمة.

سارت في محاذاة الأبنية الإسمنتية والحجرية المحترق بعضها، تعجّبت من تفشّي الهدوء في الأزقّة والسّاحات العامة التي كانت مرتعًا للضجيج فيما مضى، وأحسّت بروحٍ غير مألوفة تعمّ المكان مبتلعةً الكلمات الأجنبية التي تخرج للهواء بين الفينة والأخرى من ألسنة أناس غريبيّ المظاهر والملابس؛ غرابة أدركت العرّافة بفطرتها أنّ المدينة تحتاج أكثر من بضعة عقود من السّنين حتى تكتسبها.

تبعت بعض المجموعات فوصلت إلى أماكن مشيّدة بدَت بعيدة عن سطوة الروح إيّاها؛ بل إنّها أحسَّت بالألفة هنا، في هذه الغرف المسكونة بتماثيل حجرية تشبه - إلى حدٍ ما- ما كانه شعبها يومًا، وتساءلت بيريا، هل عزَم النّاس مع تقدّم الزّمن إلى تخليد ذِكرى أسلافهم عبر قولبتهم في الحجر مع متعلقاتهم، وعرضها في هذه المسارح المغلقة، عتيقة الهواء، ثقيلة الحضور؟

تابعت تجولها في المدينة متنقلة من مجموعة إلى أخرى، ثمّ جذبها ثنائي يقفان أمام أحد الجدران ويحاولان تهجئة ما خطته أيادي شعبها فوقه، اقتربت من الجدار وانبرت تصحح لهما حينما أدركت أنّها ما تزال مجيدة للقراءة، ذلك قبل أن تتذكر حقيقة أنّ زيارتها هذه تتضمن الروح فقط وليس الجسد...

ملّ الثنائي من منافسة التهجئة، فنزلا السّلم الحجري بحذر، مبتعدَين عن الجدار وعن التاريخ، لحقتْ بهما، وعند كلّ مكان يمرّون به كانت الحيرة تتفاقم في رأسها، وربما كان الحزن أحيانًا هو ما يتملكها وليس الحيرة، والإشفاق في أحيانٍ أخرى، إشفاق على حياة تعزّ عليها، على حياة تمثّل لها كل شيء، ولا تعني لهؤلاء سوى حفنة من التماثيل والفخاريات والأقبية...

شيئًا فشيئًا أخذَت معالم المدينة تتغير أمامها حتى وصلت في النهاية إلى مدينة ثانية لا تشبه ما عرفته يومًا، ولا سكانها اللذين يطوفون بها على عجلة من أمرهم يشبهون مَن عرفتهم، دخلَ الثنائي منزلًا ملوّنًا برسومات غريبة، كان متلائمًا مع جيرانه.

ولم تجد على بواباتهم أي من رموز الحماية التي استخدمها شعبها لزمن طويل، ألم يعودوا بحاجةٍ إليها؟ ستتحفظ على هذه النبوءة، لن تجد مَن يصدّقها على أية حال...

إذًا، لقد جمعوا تاريخهم في مسرح صغير يطلون عليه بين الحين والآخر، ويسمحون لباقي الشعوب بذلك أيضًا.

لقد تعلّم شعبها التّمثيل وقدّره، ولكن هل حدث وأن تنبأتْ عرافةٌ ما بأنّ حيواتهم ستغدو عروضًا للترفيه واستشراف الماضي؟

ابتسمت بيريا إذ جالت في فِكرها خاطرةٌ ممتعةٌ، على أيامها كانوا يستمتعون باستطلاع المستقبل، أما الآن فإنّهم يفضّلون زيارة الماضي!

أفاقتها من شرودها سلسلةٌ من القهقهات آتية من مكانٍ قريب، التفتت فوجدت بعض الأطفال يلعبون وتعمهم البهجة، غمرها إحساسٌ قويٌّ مفاده أنّ أجل زيارتها قد حان، فاقتربت منهم ولكم تعجبّت حينما تعرّفت على طفلين منهم، لقد عاد الصّغيران النّاجيان للحياة مجددًا، ولم يعد هناك ما يستوجب منهما ستره والتكتم عليه...

شهقت بيريا وراحت تعبّ الهواء غير عابئةٍ بنثرات الدماء التي يحملها في جزيئاته، لمّا تشبّع صدرها بالهواء المألوف ابتسمت بوسع منصتةً للضجيج المحمّل بابتهالات البحّارة وشتائم السّكارى، وأما صيحات المحاربين المنبعثة من أروقة مدرستهم القريبة فقد أكسبته الواقعية.

سيظلّ الميناء والمدرسة والأسواق صامدين في مواجهة أهوال الزّمن، ولكن في مقابل النجاة سيصمتون للأبد ولن يُسمح لهم بكشف المستور. لن يكون بمستطاع الزائرين سوى تحليل المعطيات ومحاولة ترجيح الحقيقة من بين عدة احتمالات ممكنة، وربما لن يبلغوها مطلقًا...

»بشِّر شعبك أنّ هذه المدينة مقدّرٌ لها الصّمود، مقدّرٌ لها أن تقف شاهدة صامتة على حياةٍ جرَت على أرضها. ها هنا حيث نعيش ونعمل ونلهو، سيتجول النّاس معجبين بآثارنا، معبّرين عنها بلغات لا نعرفها، وموثقينها بطرق لن نقدّر على تخيلها، حتى إنّهم سيحاولون تهجئة حروفنا... هل تفهم معنى ذلك؟«

انتشى طالبُ النّبوءة بما سمعه، وتحت تأثير الفخر أخرج المزيد من النّقود ورماها أمام العرّافة المشغولة بمحاولة توقع ماهية الثمن الذي دفعته المدينة مقابل صمودها...

_ النهاية _




هامش

القصة مستوحاة من رواية بومبي للكاتب روبرت هاريس، مستوحاة وليست مقتبسة.

كل رواية مؤثّرة تترك بي بعض الأفكار تسيطر عليّ من خلالها، وقد وجدت أخيرًا الطريق المختصر للتخلص من سلطان هذه الرّوايات المتمّلكة ~

متشوقة لمعرفة آرائكم عن القصة هنا، أو في بوت الأسئلة السرية.

وإن أحببتم كتاباتي ساعدوني في توجيه بوصلة العالم نحوها 🖤

-

Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top