حضن يدوم (قصة قصيرة)

سكنت الطيور إلى أعشاشها تأخذ إجازة اضطرارية عن هوايتها الأزلية: الحوم، وكذا فعلت الطيور الجارحات في منازلهنّ بعيداً في أقاصي الجبال، بينما هربت الحيوانات الصغيرة منها والكبيرة ترتجي ملاجئ آمنة تقيها عصف الرياح وغضب السماء. 

في وسط هذه المعمعة وبداخل كهف عميق، مظلم سوى من ومضات متتالية تنيره بها شحنات السحب المثقلة بالثلوج والأمطار، هناك رقد مراهق قد بلغ منذ بعض الوقت بدليل الشعيرات المتفرقات ما بين وجهه الشاحب وسائر بدنه المغطّى بغطاء سميك كان أثقل من أن يحتمله بجسده الضئيل والضعيف هذا؛ ولكن للبرد أحكامه الجائرة أحياناً.

رموش الصبي قد أُسدلت تعباً، وعلى النقيض من هوانه الظاهر كانت حواسه متيقظة تماماً، يترقب هجوماً أو أكثر في أي لحظة، ولا يزيده مرور الساعات سوى همّاً يضاف إلى أفكاره المشتتة فيؤجّج قلقه غير المبرر ويدفعه لتوثيق تشبّثه بكلبه الوفي الملتصق به بشدّة يستمدان الدفئ من الفرو الثقيل المنظَّف حديثاً، يكتفيان بتبادل شهقات الرهبة والنباح الخافت كوسيلة بدائية للتواصل يستلهمان عبرها البعض من سكينة لا يملكاها.

نحن لا نعلم ما يدور في دماغ الحيوان، ولكنّ سهام الفتى بلا شك كانت مصوّبة باتجاه الماضي، تحديداً قبل عامين أو نحو ذلك أنّى افترق عن والدته للمرة الأولى على الإطلاق.

لمحات ضبابية هي كل ما يستطيع استحضاره من تلك الحياة البعيدة حتى ليكاد يظنّها محض وهم لا أثر له، صبينا لا يعرف للسعادة اسماً ولا للحزن، ولكنّه يدرك معناهما جيداً، فقد عاش الحبور في كنف امرأة ولدته واحتضنته صغيراً، كما تلبّسهُ الشّقاء حينما فارقته.

لمّا يزل مشهد هجرها له يبعث في نفسه شعوراً مقيتاً بالصّقيع، مشهداً مأساوياً لا يملّ من تكرار نفسه وبخاصة في الليالي الظلماء المخيفة هذه.

عميقاً في صميمه، قد قرنَ المراهق ما بين برد الهجران وبرد الشتاء، وكرههما بالقدر ذاته أيضاً.

صاعقة قوية لطمت بقعةً ما، دويّها أفجع المخلوقين الخائفين، تأهّبا للفرار وبان ذلك في توسّع أعينهما واستعداد قوائمهما -رغم ارتجافها- لبدء عدو سريع قد برعا فيه نظراً لتجارب عديدة أُقحما فيها بلا قرار أو تخطيط، ولكنّهما عادا فخمدا مجدداً يدركان بفطرتهما أنّ لا مكان أوفر أمناً مما ينعمان به هاهنا دوناً عن الكثير من قرائنهما المرعوبين.

استكانت الغيوم لوهلة استغلّها الصديقان في تبادل التعزية عبر النظرات، في ذلك الزمن تربع التحديق والتمحيص على عرش سبل التواصل بين البشر وسائر شركائهم في العيش.

بذكر العين، هذا العضو الصغير احتل في السابق مكانة جسر الترابط المتين ما بين الأم ونجلها، بواسطته تعلّم الفتى الكثير عن الحياة والمشاعر مباشرةً عبر عدسة ملوّنة بالعطف -أو أنّها كانت كذلك- لطالما ارتبطت في ذهنه بصورة قرص الشّمس المشرق مولِّد الدفئ، دفئ يفتقده باستماتة في مثل هذه اللّحظات الحالكة ولكنّه لا يأمل عودته.
مرة أخرى، لقد أصبح بالغاً أخيراً، وعلى أوهام الطفولة أن تنجلي؛ ولو نصفها على الأقل...

في ذلك النّهار المشؤوم، ولّت شمسه مبكراً.

ما يزال قادراً على استحضار الصورة غير المألوفة للمرأة التي أنجبته، الدموع المتجمّعة في عينيه لم تنجح في ثنيها عن إحكام يديها حول كتفيه بقوّة مبالغ بها نسبة لضئله وضعفه، محاولةً بذلك أن تحثّه على خلق عزيمة لم يكن ليحتاجها في زمن الإشراق، أما اليوم وقد قررت الأفول فإنه من دون هذه العزيمة لن يستطيع إكمال ما فُرض عليه من عناء...

قبل الرحيل كانت قد استخدمت كل مهاراتها في التواصل وكل ما طوّراه على مدار الأعوام الفائتة ضمن أبجدية العيون في إيضاح موقفها وما هي مجبرة على فعله آسفةً ومكسورة الفؤاد، ضاعت جهودها أدراج الرياح فلم يكن بمقدور الطفل الضعيف أن يفهم لأي ذنب سيترك وحيداً في العراء؟.

ولكن نظرة واحدة دقيقة في الإمعان لأخويه الموضوعين حديثاً كانت كفيلة في طيّ هذه الصفحة إلى الأبد، فما حاجتها بعالة ثقيلة في الترحال، عندما مُنحت مشروعين ناجحين من شأنهما -مع البعض من عناية كانت ماهرة في فنّ تقديمها- أن يدرأا عنها أهوال المستقبل؟.

حمّلت المرأة الرّضيعين البكّائين ممتلئي الجسد وقويّي الصّوت لشريكها الجديد -أبوهما- ثم التفتت إليه واحتضنته للمرة الأخيرة تأمل أن يزوّده هذا بجرعة من أمان كافية لعدة أيام عصيبة قادمة.

خرّ أرضاً يراقبها ترحل مع عائلتها الحديثة مشوّش الرؤية -أكثر من المعتاد- بفعل الدموع، وقد بحّ صوته من الصّراخ، يفكر أن كيف سينجو اليوم حينما ينقطع نفسه جواء الركض هرباً من الوحوش الضخمة مخيفة الهيأة والزمجرات؟.

ذلك حينما سمع حمحمة قادمة من قريب، فأخذ يلتفت في كل الجهات بحثاً عن المصدر، سبب آخر لتفضيلها أخويه عليه، هو فكّر...

على أيّة حال، أخذه الطّفل الغريب في حضن جانبي يبتغي منه إبداء مواساته الصّادقة إزاء ما شهده من قسوة كبيرة عليه ليطيقها، فكيف إذاً بهذا الصغير الضّعيف؟.

تلك الليلة نام الطفل في مكان غير مألوف، إلى جوار شريكي حياة سيكونا خير بديلين عن شريكته الأولى. لفترة من الزمن على الأقل...

مرّة أخرى، توجّب على الطفل الضعيف أن يختبئ في الظلام منتظراً الماء والطعام ليتم جلبهما له بلا مقابل، ولكنه تشارك مهمة الانتظار مع فرد آخر هذه المرة: جرو ظريف لا يجيد سوى النباح، ولكنّه وبغرابة يعرف كيف يخرس تماماً خلال الأوقات الحرجة التي لا تسمح باللهو وقلة الانتباه.

الحياة مع الشريكين الجديدين مختلفة تماماً عن الحياة قبلهما...

رغم فارق السنّ الكبير نوعاً ما، إلّا أنّ شريكه هذا تفوّق على والدته في القوة وفي المهارات، كان الأمر واضحاً ولم يتعب الفتى ذاته في الاستغراب...

قاتل رفيقه الجديد ضدّ كل ما يعترض طريقهم من حيوانات وبشر على السّواء، ولكنّه كان يميل إلى اختيار الهرب في كثير من الأحيان؛ لطالما سهّل هذا من عناء العيش والترحال.

لسبب مجهول قد انتقى الطّفل القوي لذاته شريكين ضعيفين وحمّل نفسه عبئ حمايتهما، فآواهما معه إلى جحوره الآمنة المتعاقبة عبر المسار، وأطعمهما بكرم بالغ ما تعب شخصياً في اصطياده أو قطافه، ولم يطلب منهما مقابلاً، في حين أنّه كان شاكراً لهما حسن إيناسه وطمأنته في لحظات الخوف، وكذا تعزيز واقعه أثناء نوبات الشرود والإمعان في الخيال، وبشكل خاص كان ممتناً لهما عظيم وفائهما وولائهما رغم المغريات؛ وحتى في قلب الشحّ والجفاف!.

-

توالت الأيام وانقضت الشهور، كبر الشركاء عبر اتجاهات مختلفة.

أوغل الطفل القوي في قوته، بينما غالى الضعيف في ضعفه، وكان هذا متوقعاً بطريقة ما...

اشتدّ عود الأول وتحوّل جسده إلى البلوغ بمعدل أسرع من قرينه، فخشن صوته وبرز ساعداه تشجّعهما واجبات ما فرّط يوماً في إحداها، بدءاً من جمع الحجارة والأخشاب نهاية بمصارعة أعتى الوحوش. ولكنه ما يزال يفضل خيار الهرب إن وجده.

أمعن الطّفل الآخر في هوانه واستكانته.
بعد كل شيء، قد جُبل جسده على هذه الشاكلة...

ولكنه أبداً لم يستسلم لواقعه المرير، تدرّب يومياً رفقة الكلب هشّ العظام على يد معلّمهما الذي لا يحمل سلاح التدريب إلا بعد أن ينتشل من قلبه آخر ذرة من رأفة قد تعيقه في بلوغ مأربه النبيل.

ربما لم يكن نبيلاً؟ بصراحة لستُ أدري. فلا أجرؤ على تأطير مأربه البدائي هذا ضمن أي إطار نعرفه مهما كان...

على أية حال، تعلّم الكائنان الضعيفان بأقسى الطرق وأكثرها تعقيداً كيف يهاجمان، ومتى يهربان.

تركز تدريب الصغير البشري على استخدام السلاح، توصل الطفل القوي بواسطة تفكيره البسيط إلى حقيقة بسيطة مفادها أنّ جسداً هزيلاً يحتاج بلا شكّ إلا معين حادّ وفتّاك في المعارك.

بطريقة ما، تحوّلت الأدوات الحادة المعمول بها كسلاح أمام المعلم إلى وسيلة للتعبير في غيابه.

ما أن رأى مَن كان ذات يوم طفلاً قوياً في جسده الجسارة والإقدام حتى قرر الاستيطان وتخليص نفسه وشريكيه من همّ الترحال وتبديل الجحور كما يبدلان الفراء والأعشاب الساترة للأبدان.

منذ الصباح انقضّ على دبّ مريض يعيش وحيداً في كهف مظلم وعميق، فانتزع منه منزله، جلده، لحمه، وحتى ما يدفئه في الشتاء.

اليوم فقط أصبح بمستطاعه أن يطيل الغياب بلا خوف على شريكيه من غدر العراء، راح يوغل في الغابات قاطعاً السّهول والوديان، حتى إنّه قد جرّب تسلّق القمم والهضاب!.

كان هذا التغيير إيجابي له ولأنيسيه اللّطيفين على حدّ سواء.

الآن أصبحت الغنائم وفيرة وصار بمقدوره أن يكافئ نفسه بأيام وليال فيها يرتاح، وفي بعضها كان يلتقي بمَن يميل إليهم جسده وقلبه فيعزز أواصر العلاقات ويكتسب الخبرة في الحياة.

وحين يعود إلى الكهف المظلم كان ينيره ويدفئه أخيراً بنار لمّا يجرؤ الفتى الضّعيف على إضرامها بعد، ثم يتفقد المؤن والطعام، وبعد إشباع البطون كانوا يعمَدون إلى النهر فيه يستحمّون، وبعد إنعاش الأجساد يسكنون إلى منزلهم وبهدوء هم يسهرون، وبالعيون والهمهمات وبعض النباح يتواصلون.

وقد ساعد ما حفرته أنامل الفتى الهزيل على جسم البيت في تمتين الصّلة وإيقادها في أوقات الخبو والانطفاء، رسومات بسيطة جزيلة المعاني خلقت جسر تواصل جديد بين البشريَين الشريكين، عجز القوي بينهما عن إيصال أفكاره عبر الجدران ولكنّه تمكن من فهم جلّ ما حكاه شريكه بلا كلمات.

-

تعرّف الفتى القوي إلى جميلة تضاهيه قوّة وجسارة ودهاء، سرعان ما تطلع إليها شريكة محتملة قد تساعده في تعزيز وجوده في هذا العالم القاسي ونصره ضدّ مكر الأقدار.

ناظرته الفتاة من ذات المنظار، ومن جملة ما شدّها فيه كان تمهّله في أوقات سيخسر فيها لو سلّم ذاته إلى خطيئة التسرع والاندفاع.

ولكنّها حملت عليه مأخذاً أنّها لو وافقت على هذا الارتباط ستصبح شريكة من بين الشركاء، وهي لن تقبل بهذا كخيار.

رغم أنّها لم تستطيع إيضاح ما تخشاه ولا حتى إطلاعه على موقفها الأكيد من عرضه وما فيه من إغراء، إلّا أنّ هذه النقطة لم تشكل ما ظنّته سيطرأ من حاجز وجدار، ببساطة ودون عناء أو تخطيط هي استطاعت جذب حجر رهانها الجديد، فراح يركن إليها بالساعات مساعدة إياها في مواجهة الحياة، فقط كما تنبأت بغريزتها أنّه سيفعل، ولم يطلب في المقابل ما قد تعجز عن تلبيته أو إشباعه، بل إنّ ما أخذه قد اقتصر على ما قدّمته له ببالغ الكرم والعطاء.

حينما فطن الفتى حبيس الكهف إلى هذه المستجدات، راح يتحدّى ذاته ويغالي في الأفعال، تجاسر على خوفه فأوقد النار وعليها طهى اللحوم وباستخدامها شحذ المزيد من الأسلحة بنية إبهار معلمّه وشريكه الذي شرع مؤخراً بالابتعاد، وكان للفتى الضعيف تجربة أليمة في هذا الاتجاه...

تصرفاته هذه جنباً إلى جنب مع ما بدأ في إيضاحه فوق الجدران قد نجحت في الإعلان عمّا يكتنف دماغه من تشاؤم وتخوّفات.

أشفق المعلم على تلميذه الواعد قليل الحيلة. بيد أنّه كان بحاجة إلى الاستقرار!
وشيء ما بداخله قد صبا إلى كائن صغير من صلبه يستطيع منحه حناناً لم يحظى به، توفير الحماية له، وصقله حتى يغدو نسخة أكثر صلابة ومهارة منه...
وهو يعلم أنّ هذه الأحلام لن تتحقق ما دام شريكاه تحت كنفه يقاسمانه حياته وينتظران منه ما عوّدعهما عليه خلال ما فات من سنين.

حرص الشاب المعلِّم على جعل مشهد الوداع هذا أخفّ وطأة على روح شريكه الذي كبر بغفلة منه، ربما حدث ذلك أثناء إحدى غارات الصيد؟ أو في واحدة من اللقاءات المطوّلة التي خاضها بكثرة مؤخراً؟ هذا ليس مهماً الآن...

شريكه الضّعيف قد نما ليصبح شاباً يافعاً لطيف المعشر.
بالنظر إليه الآن، هو استطاع أن يدرك حاجة شريكه المستمرة والأزلية -كما يبدو- إلى حماية لن تكون مسؤوليته بعد اليوم.

غادر الشّاب القوي شريكيه الأولين إلى غير ما رجعة، واهباً إياهما مأوى آمن لا يقاسمهما في فيئه أحد، جلوداً وفراء قطع أميالاً متعرجة حاملاً إياها بكدّ لا نظير له محتملاً ثقلها كرمى لذكريات خفيفة جمعته بهما، مأونة كافية لأن يعيشا حياة بذات مستوى ماضيهم المشترك، ولكن أهم ما منحهما إياه على الإطلاق كان تدريبهما وإعانتهما في اكتشاف ما يكمن في صميم كلا منهما من قوة نقية لا بد أن تساعدهما في حياتهما القادمة.

في النهاية، كان هاجراه متشابهان بطريقة ما، فكر الصبي.
كلاهما ودّعاه بحضن، أما الأول فقد افتقد الإحساس به منذ زمن بعيد لا يكاد يذكره...
َأما الثاني فما يزال ينعم به حتى هذه اللحظة، حضن شريكه تمثل في هذا الفراء الدافئ، في هذا الكهف، وفي هذا الصديق الوفي!.

-

_النهاية_

Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top