٤-شاطئ النهاية.


سيرانُ دموع حارة على انحناءاتِ وجنتيهِ المتورِدة, يدًا بيد معَ قطراتِ المطرِ الرقيقة خارِجَ حائِطِ المنزِل, في رقصة ودية على السماء صاخِبة على قلبِه.

فوضُ أنفاسِ مَن رافقتهُ الغُرفة يطِنُ في أذنيهِ, سارعَ ببشرةِ يديهِ التي تحُكُهُ مِن خشونةِ السجادِ يمسحُ العبراتِ بعيدًا قبلَ أن تراها, وفي وقتٍ بعيدٍ قليلًا مِن أن يكونَ مثاليًا, التفتتَ مِن مجلِسِها على الأرضِ لتنظُرَ إليه, لَم تُبصِر الدموعَ لكِن رأت بقاياها على أهدابِهِ وغشاءِ مُقلتيه.

بدَت مُستاءة, بشِدة, وكأنها شهدَت على موتِ مئةِ بشري.

"تِلك."
اختنقَت بوتيرةِ أنفاسِها, ثم عانَت لتُكمِل.
"النيران, مِن أين تأتي؟ إنها في عقلِك أنت, تستمِرُ باقتِحامِ ذكرياتِك."

رفضَ أن يراها بينما تسيرُ كلماتُها باتجاهِه, تأملَ الشمعة النِصف راحِلة بينما هيكلُها يذوبُ في الإناءِ الزُجاجي المحيطِ بِها, كيف لهُ أن يجيبَ تساؤلاتِها؟ عِندما هو يقينًا لا يعلمُ كيفَ لتِلكَ النيران أن تعُكِرَ إحياءَ الصورِ مرتين, تِلك النيران لَم تكُن جُزءًا داخِل أرفُفِ ذاكِرتِهِ, كيف لها أن تكون؟

"أنا صِدقًا لا أعرِف."
تعكَرَ صوتُهُ بالشهقةِ التي حبسَ سابِقًا, لكِنهُ وقفَ مُستمِرًا بتجنُبِ عينيها.
"لا يهُم على أيةِ حال, هيا لنُكمِل."

"لا, نحنُ لَن نستمِر."
ارتفعَت عَن مَجلِسِها على الأرضِ مُقطبَةَ الوجهِ.

"م-ماذا؟"
هرعَ وأخيرًا بعينيهِ عليها.

"لن نُكمِل, أنا أسِفة."
بدَت مُرتجة المشاعِر تمامًا, وكأن أحدهُم قامَ بالعبثِ بصناديقٍ سرية داخِلها, صناديقٍ لا يجِبُ على أحدٍ لمسُها.

"لا يُمكنُنا فقط التوقُف!"
صاحَ وكانَ صوتُهُ هادِئًا مِن وقعِ الجوِ الماطِرِ خارِجًا.

"بلى سنفعَل, هذا قراري أنا! ثم أن هذا بالضبطِ ما جعلني أتوقفُ عن هذا العملِ!"
صرحَت مؤشِرة إلى وجهِهِ, إلى عينيهِ, والتي فقط الأنَ أدرَك مازالَت مُحمرة وعلى وشكِ الفيضانِ بالدموعِ مُجددًا.
"إن هذهِ حماقة, سنتوقفُ عنها الأن."

"لا, لا يُمكِنُنا!"
انتحَبَ يخطو بعبثٍ إلى قُربِها.
"علينا الإكمال, لَم يبقى سوى صورة واحِدة!"

"لا!"
حفظَت ذِراعها بعيدًا عَن يديهِ التي حاولَت التشبُثَ بِها.

"أرجوكِ, إنها الأخيرة, إنها حتى الأهَم."
فقَدَ صوتُهُ العلو المُناسِب عِند الكلِماتِ الخاتِمة, وكأنَ الألمَ ابتلعَ أحرُفَه.

أصابِعُهُ ملساء على كُمِ سُترتِها الرمادية كالسماءِ اليومَ, أعيُنِهِ تعيسة وزوايا شفتيهِ مسحوبة إلى الأسفلِ تمامًا, كيفَ لها أن تشرحَ أنها ترفُضُ لمصلحتِهِ هو؟ كيفَ لها أن تُخبِرَهُ أن رغمًا عن كُل الألمِ التي سببتها ذكرياتُهُ لها, هو المتضرِرُ الأولُ والأخير, هو مَن يبتلِعُ السُم الذي تُقدِمُهُ لهُ في طبقٍ صدئٍ تمامًا.

ولكِنهُ قد استطاعَ سابِقًا أن يطرُقَ على بابِ سِجنِها ويستدرِج عاطفتها ليجعلها تقومُ بالفعلِ مرة أخرى, بعد سنواتٍ مِن الامتناعِ والهرَب, هو استطاع, لأسبابٍ كثيرة لم تُرِدِ الـتأمُلَ فيها مليًا.

وإن كانَت قد أعادَت إحياءَ صورتينِ على أيةِ حالٍ, إن كانَت قد سمحَت لهُ أن يعيشَ تِلك الذكرياتَ مرة أخرى, ما الذي يمنعُها الأن؟ هي فقَط ستبعثِرُ أجزاءَ قلبِهِ المُحطمة أصلًا لَن تكِسِرَ شيئًا, لذا لَن توقِف كُل الأمرَ ببساطة, قد حذرتهُ مُسبقًا ولكِنهُ سلمها أشلاءَهُ دونَ تفكير, لابُد مِن أنهُ يائسٌ بالكامِل.

"حسنًا, فقَط لننتهي بسُرعة."
أبعدَت ذراعها بعُنفٍ غيرِ مؤذٍ بعيدًا عن منالِه.

أنارَ وجهُهُ في خفوتٍ تام, ابتسامة تحمِلُ أقصى ما يُمكنُكَ إظهارُهُ مِن امتنانٍ عِندما تكونُ مُحطمًا بكُلِ المعاني المُوجودة, أومأ دونَ إدراكٍ, انتشَلَ صورةَ ميلادِهِ الحادي عَشَر مِن الأرضِ, وضعها مقلوبةً على طاوِلة القهوة قُربَ أختِها وانتشَلَ الأخيرة.

لَم يتفحصها قبلَ وضعِها في يديها حتى, أمسكَت بِها دونَ خيارٍ, مشَت بعينيها على التفاصيلِ المُبعثرة لأخوينِ في مُقتبلِ العمرِ مع رجُلٍ وامرأة في الأربعينيات, جميعًا تكتفوا وابتسموا باتساعٍ نحوها واقفينَ على رمالٍ لامِعة.

للمرة الثالِثة, اقتربَت مِنه, أحاطَت مِعصمَه حامِلةً الصورة, رفعَت كفها إلى عينيهِ, وقبلَ أن تحجِزَ النورَ بعيدًا, تمنَت بكامِلِ رجاءِها أن لا تُضطرَ إلى رؤيتِهِ يتلوى في اللهيبِ ثانية.

اكتملَ فِعلُها وتمامًا كالمراتِ الماضية غرقَ في إحساسٍ عالٍ مِن عدمِ الشعورِ التام, قبلَ أن يغزو حواسَهُ قدرٌ كبير مِن التركيزِ العشوائي, فتحَ عينيهِ عِندما أحسَ بحباتِ الرِمالِ الناعِمة على بشرةِ قدميهِ.

شاطئٌ تناثَرَ رقمٌ بسيط مِن البشرِ على أرجائِه, رياحٌ بارِدة لعبَت مَع أقمشَةِ المِظلاتِ الملونَة, سياراتٌ مُصطفة بفراغاتٍ عديدة على أطرافِ الشاطئِ.

هذِهِ الذِكرى, إنها محفورة بمسمارٍ على قلبِه, يعرِفُ كُل ما سيحدُث بالدقيقة, استدارَ يرى سيارةً بيضاء, السيارة ذاتَها, الشيء الوحيد الذي لَم يتغيَر طوالَ الأعوامِ الماضية, تُقبِلُ مِن الطريقِ المؤدي إلى الشاطِئ, ثم تصطفُ باتِزانٍ عِند طرفِ المكانِ.

عندما انفتحتِ الأبوابُ خرُج القابِعونَ داخِل المعدنِ, كانَ أولَ مِن وطأ بقدمِهِ على الأرضِ هو, بل هو ذاتُ العشرينَ عامًا على وجهٍ أدق, هذهِ المرة لَم يبدوا مُختلفًا تمامًا عن مظهرِهِ الحالي, فبعدَ كُل شيءٍ, هذهِ الذكرى لَم يمضِ عليها سوى عامٍ وبضعةِ أشهُر.

لحِقَهُ كِلا والداهِ اللذانِ كانَ الزمَنُ قَد وأخيرًا ترَكَ أثارَ زيارتِهِ المُستمِرة على وجهِيهِما, وخاتِمًا جيهون, الذي طالَ, عرُضَ، وأصبَحَ في السادِسة عشرة, مُراهِقٌ كامِلٌ الأن, لكِن بملامِح طفولية لا تزالُ مُتربِعة على وجهِه.

"الجو ليسَ حارًا! هذا أكثَر مِن رائِع!"
صاحَ هو نافِضًا كِلتا ذِراعيهِ مواجِهًا لسيرِ الهواءِ الذي انحنى على أطرافِ جسدِهِ مُستِمِرًا في الطريقِ مِن خلفِه.

"بالطبعِ لن يكونَ حارًا, نحنُ في فبراير! من يتجِهُ إلى الشاطئِ في مُنصِف الشتاء بحقِ السماء!"
تذمَرَ جيهون مُعاونًا والدتهُم في تثبيتِ المقاعِدِ الُمزركشة جيدًا على أغطيةِ الرِمالِ الملساء.

"هذا أفضَل مِن الصيف بمراحِل عديدة."
أجابَ حامِلًا سلةَ الأطعِمة البُنية القاسية أخِذًا إياها لمكانِ مجلِسِهِم.

"جونغكوك, الشواطئ صُمِمَت ليزورَها الناسُ في الصيفِ عندما تكونُ الشمسُ حادة والمياهُ دافِئة, لا أصَدِقُ أنكَ أقنعتنا للذهابِ إلى هُنا في هذا الوقتِ مِن العام! هذا ليسَ مكانًا يُزارُ في الشِتاء!"
ارتمى على أحدِ المقاعِدِ مُدليًا ذِراعيهِ ضجرًا, أمسَكَ بهاتِفِهِ يتفقدُهُ بعبوس.

"أنتَ مُمِل, وتَتصرَفُ وكأنكَ في الستين."
بيديهِ أمسَكَ بقبضة مِنَ الرِمال, انسابَ بعضُها بنينَ أنامِلِهِ والباقي رمى بِها على وجهِ الأصغَر قبلَ أن يُقهقِهَ.

شهَقَ جيهون عندما اصطدمَت الذخيرة على رأسِهِ مُتغلغِلة في خُصُلاتِ شعرِهِ وملامِسة لجفنيهِ ووجنتيه, تصلبَ في مكانِهِ موسعًا عينيهِ, قبلَ أن يرتفِعَ بجِذعِهِ راميًا الهاتِفَ خلفهُ على قُماشِ المقعد.

"سأنالُ مِنك!"
صرخَ قاطِعًا المسافة بينهُما جريًا, لَم يجِد سبيلًا للإمساكِ بهِ حينما أخذَ هو يهرُبُ بعيدًا وصوتُ ضحكِهِ يملأ الهواءَ بينهُما.

"طبعًا ستفعَل بتِلك الأقدامِ القصيرة!"
سخِرَ نفاقًا، لَم تكُن أقدامُ أخيهِ قصيرة بتاتًا, كانَ على وشكِ أن يصِلَ طولَهُ رغمَ فارِقِ الأعوامِ بينهُما.

"فقَط انتبِها!"
رفعَت والدتُهُ بصوتِها مُحذِرة وارتطمَت كلِماتُها بظهريهِما المُبتعدين.

أخذَ هربَهُ بعيدًا نحو حافةِ المياه, الخيطِ بينَ اليابِسِ والبحرِ, في أملِ أن لا يلحقَهُ الأصغَر, وكانَ شِبهَ مُحقٍ حينما تجمدَت حركةُ أخيهِ عِندَ الطرفِ, إنشاتٍ بعيدًا عنِ الماء.

"ماذا؟ هَل أنتَ خائِف؟"
نادى ثانِيًا الأطرافَ السُفلية لِبنطالِهِ, مُبتعِدًا نحو الأمانِ بصورةٍ أكبَر حتى ما ارتفعَتِ المياهُ فوقَ كعبيه.

"أنا مَن يتصرفُ وكأنهُ بالستين؟ من يرتدي معطفًا أسودَ متوجِهًا إلى الشاطِئ!"
خاضَ جيهون محاولَة التهرُبِ بعيدًا عن فِكرةِ رفضِهِ الاقتِرابَ مِن المياه.

"الأسود هو لوني المُفضَل, وأنا على الأقَلِ لا أخشى البحر!"
أخرجَ طرفَ لسانِهِ مُستفِزًا.

توقَفَ جيهون عن المجابهةِ, وانطلقَ إلى المياهِ دونَ تفكيرٍ قاصِدًا إياه, حاولَ الفِرارَ لكِن الأصغرَ تقدمَهُ بخطوة وأمسكُهُ مِن طرفِ سُترتِهِ, استمرَ مُحاوِلًا الهربَ بدلَ المواجهة, ودونَ قصدٍ سبَبَ في فقدِ الأصغرِ لتوازِنِهِ عندما بقي على تشبُثِهِ العنيدِ بهِ, ليُطلِقَ سراحَ سوادِ الُسترةِ ويسقُطَ جالِسًا في الماء الذي أحاطهُما.

"إنهُ بارِدٌ كالثلج!"
تذمرَ مُنتفِضًا مِن موقِعِهِ قافِزًا دونَ أمَلٍ كي يبعثَ بِبعضِ الدفءِ إلى أطرافِ بدنِهِ المُبللة, بينما انفجَرَ هو على الأصغرِ بالضحِكِ.

انقضَ أخوهُ عليهِ ثانية, لكِن هذهِ المرة رمى بذراعيهِ الشاحبينِ على كامِلِ جسدِهِ, حاولَ استخدامَ القوة الناتِجة عَن فارِقِ العُمرِ بينهُما كي ينفُذَ بعيدًا, ولكِن في ظِلِ صعوبةِ الحركة وثخونتِها بينَ المياهِ أسفلهُما, كانَ دورَهُ ليفقِدَ وقوفَهُ المُتزِنَ على قدميهِ ليرتمي نحو الأسفلِ, ساحِبًا أخاهُ برفقتِهِ.

هذهِ المرة غُطيا تمامًا بالمياهِ, غُرِّقا هي الكلمة الصحيحة, تكونَت فُقاعاتُ هواءٍ عديدة حولهُما, بعدَ لحظاتٍ حاولَ بصعوبة الارتفاعَ حامِلًا جسدَ أخيه،ِ مُختنِقًا بضحكِهِ الذي أدى إلى ابتلاعِهِ ما لا يقِلُ عِن نصفِ لترٍ مِن المياهِ التي ولدَت حِكة مالِحة على جِدارِ حلقِهِ لَم يأبه بِها شديدًا.

"أحمَق!"
خرجَت الكلِماتُ مِن شفتي جيهون في زحامِ الفوضى القابِعة على وجهِهِ مِن شعرٍ مُبلل.

"أنتَ تبدو كروكسي عِندما تستحِم!"
صرّحَ مُستمِرًا في نوبةِ ضحكِهِ.

هو لَم يكُن يمزَح, الطريقة التي تبعثرَ بِها شعرُ جيهون الطويل على عينيهِ وجبهتِهِ جعلتهُ يبدو تمامًا كَكلبِ جارهِم السيد بيون، على الأقلِ في كُلِ مرةٍ يُقرِرُ بِها إعطاءَ روكسي حمامًا لتنظيفِ فروِها البُني الناعِم.

"حقًا؟ وأنتَ تبدو كأرنَبٍ مُصابٍ بالزُكام!"
رفعَ أطرافَ شعرِهِ بعيدًا عَن قُطرِ نظرِهِ قبلَ أن يسخَر.

"كيف لكَ أن تُحدِثَ أخاكَ الأكبرَ بِتِلكَ الطريقة!"
أنبَ مازِحًا قبلَ أن يضرِبَ على المياهِ أمامَهُ لتتبَعثرَ على وجهِ أخيه.

كانَ ذلِك بمثابةِ رفعِ شارةِ المعركةِ بشموخ, ليبدأ كلاهُما برمي المياهِ بعشوائية في الأرجاءِ، كلاهُما يسعيانِ إلى فوزٍ لا وجودَ له, كلاهُما مُستغرقينِ بالضحِكِ.

"حسنًا, مزحتُما كفاية."
تدخلَ صوتَ والدتِهِ مِن ورائِهِم، توقفوا عِن فِعلِهِم وزفرَ هو الماءَ خارِجَ فمِهِ بينما راقبها تُقبِلُ ناحهُم.
"تعالا لتأكُلا, لم يُحضِر والدكُما الشطائِر عبثًا."

سبقهُ جيهون إلى الرِمال قُربَ والدتهِم, ارتفعَ هو بتوانٍ مُثقلًا بملابسِهِ, رُبما كانَ ارتداءُ سترة جلدية إلى الشاطئِ فِكرة غيرَ صائِبة بالفعلِ.

جلسَ على طرفِ جيهون محاولًا تجفيفَ يديهِ بتحريكِهما بعُنفٍ مرارًا قبلَ إمساكِهِ الطعامِ, كانَت يداهُ ماتزالُ مُبتلة عندما بدأ بالأكلِ مِما رطبَ الخُبزَ وجعلهُ طريًا بصورة مُزعِجة ولكنهُ لَم يهتَم.

"أينَ أبي؟ ألن يأكُل؟"
حشرَتِ الكلِماتُ طريقها بينَ الطعامِ الممضوغِ داخِل فمِهِ, الشجارُ المائي جعلهُ جائِعًا إلى درجة تمنى فيها لو يتوقفُ عنِ التنفُسِ ليبتلِعَ طعامَهُ بوتيرةٍ عجِلة أكثَر.

"لقَد تناولَ حِصتهُ بالفعلِ, هو يبحث عنِ الكاميرا في السيارة."
أجابَت مُستغرِقة بتثبيتِ خُصَلِ شعرِ جيهونِ المُبعثرة بعيدًا عن وجهِهِ كي لا تمتزِجَ مع قِطَعِ الدجاجِ المُتبلة.

"الجو بارِدٌ بشِدة."
ارتجفَ جيهون بعدَ انتهائِهِ مِن الأكلِ بينما أحتضنَ كِلتا ساقيهِ نحوَ صدرِه.

"لا يزالُ أفضلَ مِن الصيف."
أصرَ أخِذًا القضمة الأولى مِن شطيرتِهِ الثانية, منذُ أن اًصبحَ في التاسِعة عشرة ازدادَ شعورُهُ الدائِم بالجوعِ وأصبحَ يتناولُ الضِعفَ مِن كُل شيءٍ.

لَم يجادِلهُ أخوهُ على هذهِ النُقطة مرةً ثانية, بل اكتفى بالصمتِ مُركِزًا أعيُنهُ المحفوفة برموشٍ كثيفة نحو الأفُقِ, مُستغرِقًا بالأكلِ فعلَ هو ذاتَ الشيءِ وانضمَت أمُهُ أيضًا.

في لوحة مِن لونٍ برتقاليٍ باهِت تشبثت في أطرافِهِ أطيافٌ مِن الأحمرِ دونَ حاجزٍ فاصِل, غرقَتِ الشمسُ بعيدًا نحو ما بدا نهاية البحرِ المديد, ببُطءٍ شديد يجعلكَ تظنُ أنها لا تصدِرُ أي حركةٍ, لكِنها كانَت تختفي فِعلًا, بهاءٌ طاغٍ أشعرُ أنهُ بعيدٌ عنها بأقدامٍ قليلة فقط, لَم تبدو كنجمٍ في هذِهِ اللحظة, بدَت كجُزءٍ وحيد مِن سماءِ الأرضِ فقَط دونَ باقي الكواكِب.

قريبًا انضمَ إليهِم والدُهُ يحتضِنُ الكاميرا على صدرِه, ألقى صمتٌ بديع أوصالهُ الخفية عليهِم بينما جلسوا يتأملونَ, ما لَم يعرِفوا أنهُم جميعًا فعلوا ذلِك لفترة ما عداه, بعدَ دقائِقٍ سحبَ هو نظَرَهُ نحو يمينِهِ, إلى وجوهِهِم.

مازالَ طعمُ الكاري مِن الدجاجِ حيًا جِدًا على لسانِهِ مُغطيًا على فتورِ ملوحةِ ماءِ البحرِ السابِقة, كانَت البشرةَ القليلة المكشوفة مِن جسدِهِ بارِدة تمامًا مِن الهواءِ الذي يضرِبُ بسطحِ البحرِ وبِهِ, ومعَ كُل ذلِك ورفقتِهِم لهُ، كان فرِحًا بشكلٍ كامِل.

هذِهِ أحدى اللحظاتِ القليلة مِن حياةِ الأنسانِ التي, بصورة غير مُخططة إطلاقًا, يكونُ قادِرًا فيها على إدراكِ أشياءٍ يغفلُ عنها كُل يومٍ, أشياءٍ فعلًا عظيمة بالحجمِ والمعنى, تصغُرُ في ناظرَيكَ مع مرورِ الوقتِ, حتى يزورَك امتنانُها دونَ دعوةٍ فجأة, ليذكِركَ أن هذهِ الأمورَ لا تزالُ موجودة, كانَت دومًا, وهي تنتظِرُ تقدِيرَكَ السابِق الذي غفِلتَ عن تقديمِهِ لوقتٍ طويل.

قَد تغيرَ بصورةٍ ملحوظة في الأعوامِ السابِقة, مازالَ خجولًا, لكِنهُ استعادَ كثيرًا مِن ثقتِهِ, اكتشَفَ أنَ ليسَ الجميعَ أشرارٌ كزُملائِه وقتَ الطفولة، أصبحَ لديهِ أصدقاء, والأهمُ مِن ذلِك جميعًا, قد أصبحَ سعيدًا.

ولكِنهُ أدركَ بعدَ كُلِ شيءٍ أن عائِلتهُ هي لُبنةُ الأساسِ.

لا طالما كانَت.

لا طالما ستكون.

هو شاكرٌ لوجودِهِم, أكثرَ مِن كُلِ المراتِ التي عبرَ فيها عن ذلِك, وكُلِ المراتِ التي لن يُعبِرَ فيها.

"لنأخُذ صورة."
كسرَ والدَهُ الصمتَ واقِفًا عِندما كانَت الشمسُ على أبوابِ الرحيلِ التام.

"هل أخذُها أنا؟"
تطوعَ مُحدِقًا بهِ.

"لا, سأطلبُ مِن أحدِهِم."
رفضَ متوجِهًا نحو رجُلٍ جلسَ على بُعدِ أمتارٍ مِنهُم, خاضَ مُحادثة لَم يستطيعوا سماعها معَ الغريبِ, قبلَ أن يعودَ كلاهُما إليهم.

وقفوا جميعًا مُتكاتِفين, الرِمالُ البارِدة مِن تحتِهِم, هواءُ الشـتاءِ يرقصُ مع شعرِهِم, والشمسُ الراحِلة مِن ورائِهِم.

وقفَ هو ينظرُ إلى نهايةِ الذِكرى على بُعدِ أمتارٍ.

"ابتسِموا!"
طلبَ الرجُلُ قبلَ أن يُطيعَ أربعتُهُم.

ضوءُ الكاميرا المُنير, صوتُها الخافِت, ثم تبخُرُ كُل شيءٍ مرةً أخرى.

قبعَ في ظلامٍ أشبهَ بالفراغ, ثم لِلمرة الثالِثة, وجدَ نفسهُ في ذاتِ الغُرفة المُشتعِلة.

لَم يكُن يريدُ لِلذِكرى أن تنتهي, أرادَ التشبُثَ بها نحو الأزَل, أرادَ أن يستمِرَ وجودُهُم في ناظريهِ, ولكنهُم اختفوا, وعادَ إلى تِلكَ الغُرفة المُحترِقة, وأرادَ الصُراخَ بسببِ ذلِك.

كانَت النيرانُ أشدَ حرارة مِن المراتِ السابِقة, حتى كونِها شِبهَ مؤلِمة, تمنى أن يصيحَ، أرادَ البكاءَ وطلبَ البقاءِ في تِلكَ الذكرى, لكِن لا صوت كانَ قادِرًا على قسرِ لسانِهِ والخروجَ مِن فمِهِ, ولا حتى نفسٍ واحِد.

أثينا هُناك أيضًا, فارِغة تمامًا, وكأنها لا ترى أيًا مِما يحدُث, ولا حتى النيرانَ التي تلهفُ بجميعِ بدنِها إلى شعرِها, رجا أن يصِلَ إليها كي يتوسَلَ لتُخرِجَهُ مِن هُنا, لكِنهُ متحجرٌ تمامًا, عالقٌ عِند موضعِهِ, قادِرٌ فقط على التلوي بذعُر.

"جونغكوك! ساعِدنا!"
صوتُ الصراخِ السابِقِ أصبحَ كلماتٍ مفهومة, كلماتٍ لَم يُرِد معرفةَ معناها, مازالَ صوتًا حادًا بشِدة إلى درجة التعذيبِ.

سيفقِدُ عقلَهُ في رغبةِ الذهابِ وراءَ الصياح, يريدُ إنقاذهُم, يريدُ حمايتهُم, أو حتى الرحيلَ برفقتِهِم, لكنهُ غيرُ قادرٍ بتاتًا, هو مشلولٌ عَن كُلِ فعلٍ ما عدا الهلَع.

استمرَت الاستغاثاتُ واستمرَت إلى وقتٍ مديد, وهو يحاولُ دونَ فائِدة ويتألم, يريدُ بشدة أن ينتهي كُلُ شيء, تمنى لو لَم يولَد يومًا.

أغلقَ عينيهِ, تكورَ على نفسِهِ, واستمرَ الصُراخ.

ثم صمَتَ كُلُ شيءٍ تمامًا, اصطدمَت رُكبتاهُ المُجهدة بالسجادةِ الخشِنة البائِسة, واستطاعَ استِنشاقَ الشمعةِ التي اشعرتهُ هذهِ المرة بالغثيانِ الحاد.

كانَ يبكي, بقوة غير معهودة وبطريقة ليسَ قادِرًا على التحكُمِ بها.

بعينيهِ رأى أثينا التي كانَت على ساقيها قابِعة دونَ حولٍ ولا قوة أمامَه.

كانَت هي تبكي أيضًا.

___________________

إهداء إلى ICEsugax_ كشكر على دعمها في الفصل السابق 💞

شكرا على القراءة، لا تنسوا التعليق والتصويت 💕

Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top