٩- حكايات الكهل.
عبثت خطواته في الطريقِ العائد إلى غرفته, يداه محملة بعدد من الرسائلِ لم يعدّها.
لا يبدو أن أي شيءٍ بعد الآن راضحٌ في النور, كلُ صغيرٍ وكبيرٍ مستترٌ في العتمة, لا يقوى على فرضِ قوانين على عقله يكبلهُ فيها بالواقع ليسترجع أحداث اليوم, كلُ ما يمكنُ لهُ إدراكه هو هرعُ قدميه إلى غرفته دون سبيلٍ لرشود.
الوجفُ في صدره يؤول بهِ إلى الهلاك. الضيقُ واللهفةُ في آنٍ يتناحران فوق أصابعه المعلقة بالورق, ويكاد لا يطيق الانتظار ليفتح دربًا للهرب من المجهول, وقبل أن يفكر قاد بنانه برقة ليفتح الورق الهش.
"لربما يكون هذا الجنونُ بعينه الذي أنوي تقديمه لك,
لكن عليك الوثوقُ بي.
نحنُ العاقلان الوحيدان في هذه الأرضِ الملتوية.
نحنُ الحياة الوحيدة في هذا الضياع وإن كنا محطمين لمرحلة ما بعد الإصلاح.
أتثقُ بي وتتركُ خلفك كل شيءٍ آخر؟"
كانت ذاتُ الخطِ الدميم والذي أضحى مألوفًا لناظريه الآن هو المخطوط في داخل أولِ ورقة.
عضت على دواخله مرّةُ فكرة أن ما وجد الآن ليس سوى تكملة, تكملة لامتداد دائرة لا تنقضي ولا تنضمر.
ولكن عليه الإكمال, أيقفُ عن محاولة خلق منطق في جوقة اللا منطق العظمى هذه؟
"أنتَ تفزعني.
أنا أثقُ بك, لا أملكُ سواك على أي حال.
لكن فرائصي ترتعد لمعرفة الجنون المتربص في نواياك,
إلى أين تنوي أن تقودنا؟"
هو نفسه ذات الخط المرافق دائمًا والذي لا يبدو إلا راضحًا للإجابة, خائفًا, مشتتًا, وضائعًا كرفيقه الأبشع.
"جنوني هو الملاذ الوحيد, وطيشي هو السقفُ المديد.
ويؤسفني اتهامك بهذا لكنك لا ترى ما أرى, ولا تحضرُ ما يدورُ فيّ من حروب مع الواقع.
وإن كنتَ مختارًا للاستسلام فأن لا أرضح له ولو طرفة عين.
وإن كان الحزنُ أعماك, فإن الغيظ يموجُ في فؤادي.
ثق بي واترك الأرض التي تغرقك بدل أن تحملَ قدميك."
الخطُ الأقبح ثانية.
"رغمَ إعادتي مرارًا لهذا إلا أنك لا تنوي استلامه.
أنا بالفعل لا أملكُ ما يربطني بعد رحيله بهذه الأرض.
لا أملكُ إلا هذا البحر الذي يهوى تعذيبي بقدر ولهاني به وخوفي منه.
لا أملكُ أي شيءٍ تايهيونغ."
الرجفة التي احتضنت أصابعه كانت طفيفة, لكن أصغر الأمور قد يكون أهولها في بعض الأحيان.
تايهيونغ؟ رسائلُ أحد الطرفين كانت موجهة إلى تايهيونغ والأخرى منه؟ الفتى الطائش الذي يبدو وكأن نفور العالم أجمع منكبٌ في كيانه؟
إذًا الجنون جلّه في رسائل الإغواء تلك عائدٌ له, ومن يكون المتلقي الراضح للحزن و صاحب كلمات من يبدو كرفيقه إذًا؟
"بما أن لا صغيرة ولا كبيرة تردعك, رافقني.
عند نهاية الدرب,
وقرب مفنى الشمس
وعند بداية بؤسي
وقرب مقصلة ترحي
رافقني، عسى أن نهرب سويًا.
ولكن تذكر، عليك أن تتخلص من هذه الرسائل قبل همة الرحيل. فلا يمكننا أن نترك وراءنا أي أثرٍ يُبصر. علينا أن نمحو وجودنا الذي ما رغبنا بوجوده هنا يومًا، والتخلص من أي شيء قد يقود والدي إليّ.
قبل منتصف الليل بساعتين حيث يخيم الموت على هذه الدنيا، وقرب متجر فتى الأنغام الراحل، قابلني، سأكون في عزم انتظاري جيمين."
لم يستشعر مليًا الطريقة التي سقطت بها الورقة من بين تقاسيم أصابعه، كيف لامست الأرض مصدرةً حفيفًا هزيلًا وكيف احتضن كفيه إلى صدره وكأنه اقتقدهما.
كيف لكل هذا أن يضرب كمنطقٍ محض عندما قبل ثوانٍ لم يخطر حتى كاحتمال؟ كيف لما ما كان واضحًا جدًا ارتباطُه ألا يخطر على باله؟
الرسائل التي كانت تؤنس ضياع ليلاليه الفائتة أجمعين كانت منسوبة لمن كانا يؤنسان ساعات نهاراته ذاتها.
ولكم بدا من المنطق إيجاده لتلك الرسائل في ذات المطرح الذي لا طالما ارتبط به جيمين ذو العيون المعلقة بالبحر.
وكالعادة، لا يذكر تسلسل الأحداث بعد الاكتشاف المهول الغارق في هاوية صنعتها ساعات ذاك اليوم العجيب، لكنه غادر الغرفة كرةً أخرى.
وسار بأرجله الملتاعة للمنطق ناح ذات الأرض التي فارق مصعوقًا، حيث تبادل أطراف الحديث مع ذاك الكهلِ الرثّ.
ويبدو أن الساعتين الماضية لم تنجح في زعزعة بدنه، فلم يتغير مكانه عن الكرسي البلاستيكي أمام متجره المكنف بالفوضى.
لم يكُن يعي عواقب ما يفعل ولا يأبه, وكأن دأبه بالحذر والتفكير لعددٍ لا يحصى من المرات بما سيقدم عليه قد انطفأ.
"أرى بأنك عدت."
حلق بعينيه الغائرتين ناحه حالما استشعر وجوده.
"لدي طلب."
أكمل اقترابه حتى أصبح الفاصل بينهما بعض الخطوات.
"لك ما تشاء طالما كان في مقدوري تقديمه."
حثه على الإكمال معيدًا إراحة يديه على ركبه.
"هل تعلمُ من أين يمكن لي استعارة سيارة؟ فقط لبعض الوقت لا أكثر."
لطالما سيكون متعجبًا من الطريقة التي كانت فيها جميع معالمه ثابتة في تلك اللحظة على غير عادته.
امتد تحديق العجوز ناحه لوقتٍ لا يقاس, ليس طويلًا, لكن فقط مجهولًا. يحدق بطريقة ما وكأنه يعرفه, رغم أن كلاهما يعلم أن القدر لم يجري بخطط لقائهما إلا اليوم.
"على بعد مبنيين من هنا في الاتجاه المعاكس, متجر صغير للأواني الزجاجية, عند دخولك وعلى العلاقة على اليمين, مفتاح للسيارة المصفوفة على يمين المكان خارجًا. سيارة قديمة لكن كلي ظنٌ أنها لا تزال تعمل."
لم ينطق بشكرٍ, لسبب ما شعر بأن هذا ليس لازمًا. ليس عن طريق الكلمات على الأقل. اكتفى بالإيماء, واستدار ضاربًا أقدامه في الدرب الذي وصفه دليله.
حصل على المفتاح المقرون بالوصف الدقيق, وأشغل السيارة التي سعلت هواءها لما بدا أول مرة منذ أعوام. وسار في الطريق.
مفكرًا بكلمات تايهيونغ من رسالته إلى جيمين, تمكن من التكهن بمكانٍ قد يكون ما قصد بكلامه. بداية بؤسه, ومقصلة ترحه. ما يرى في عقله يبدو شبه معقول.
لذا توجه نحو النهاية والبداية, ليس محطة القطار, مكان في الاتجاه المعاكس تمامًا, المكان المضاد, دون رجفة مصاحبة ليديه الحديثة وغير الخبيرة بالقيادة.
سارت به السيارة, ووصل هناك, حيث توقع, وكما أصابت تكهناته عندما تعدى لافتة "مرحبًا إلى أركاديا" ببضعة أمتار, قابله على شرق الطريق عندما ترجل من مكانه سيارة قديمة أخرى, مفتوحة البابين, مغبرة كما لو أن القذارة خليلتها لوحيدة.
على بعد نصف متر من هاوية بسورٍ قصير, هاوية يتصاعد منها صوت وأنفاس البحر في تناغمٍ هائج. سار حتى أحد أبواب السيارة, رأى حذاءً أزرق مألوفًا مرمي, وفردته على بعد مترين راقدة إنشاتٍ فقط بعيدًا عن سور الحافة.
أكمل المشي نحو الفردة, ثم ناح السور الذي لم يصل حتى ركبتيه, ورمى بأنظاره ناح البحر الذي بدا عميقًا جدًا من هذه النقطة. وغاص قلبه حالًا غارقًا في أضلاعه الغارقة بالصقيع بدورها.
انتابه دوارٌ شديد, تراجع حتى وصل السيارة التي أحضرته, وقبل أن يدرك تعرقل بالا شيء, وسقط جالسًا على الرمل البني في ظل السيارة. احتضن ركبه دافنًا وجهه دون أي لماظة عزمٍ باقية فيه.
ولا يعلم إن كانت تلك رؤيا, حلمًا، أم ذكرى ما. لكنه رأى الأمر كله. جيمين الذي وصل في حضن الظلام ناح المتجر, وجهه المضطرب وملامحه اليانعة المرتبكة تقابل خاصة تايهيونغ الذي حتى هو كانت الرهبة متناثرة على تفاصيله المتجهمة. ركوبهما السيارة التي كان جيمين قادرًا على رؤية الذنب المتقطر من يدي تايهيونغ لسرقتها من والده لكن لم يستجمع شجاعته للسؤال أو الإنكار. ويديه هو الآخر التي كانت لا تزال حبات الرمال مرصوفة تحت أظافره فيها بسبب دفنه للرسائل آنفًا.
وكلُ السواد الذي لحق هذا.
رفع الذي كان يحتضن قدميه رأسه نهاية, ولا يعرفُ كيف, ولكنه قد كان وقتًا قريبًا للغروب. لذا وقف رغمًا عن كل التساؤلات, كلِ الضياع, وجميع المجهول. توجه إلى السيارة خاصته ليعود أدراجه. لقد وجد ما حزّر, وليته لم يجد, لأنه لم يكسب ما يرضيه.
عندما عاد إلى مركز المدينة, نزل وأعاد مفتاح السيارة إلى حيثُ وجده. وعندما خرج, ليس متأكدًا لما في تلك اللحظة بأم عينها كان قادرًا عل هذا، ولكنه لاحظ الملصقات الورقية الكثيرة على الواجهة الزجاجية. وبين جميع تلك الإعلانات الذابلة, رأى ملصقين, واحدٌ بصورة لتايهيونغ لا يبدو أنه يبتسم فيها. وأخرى لجيمين كان يبدو أصغر سنًا داخلها, لكنها تشبهه كثيرًا على أي حال, وسعادة تتلألأ كوهجٍ من عينيه رغم اقتصار الصورة كصاحبتها على الرمادي.
مرر أنامله على طول وجه تايهيونغ وحتى شعره, شاعرًا بالفراغ في مكانٍ ما.
"لقد انفطر قلبُ والده بعد تركه المنزل."
تحدث صوتٌ تعب من خلفه, ولم يلتفت ليرى العجوز الذي أخذ موقفًا على جنبه.
"قد يبدو هذا صعب التصديق. لكنه بالفعل قد أحس بالندم. وبحث في طبعٍ جنوني عنه في جميع المدن والقرى القريبة. هو حتى لم يكن قادرًا على استعادة سيارته التي أخذها الفتى في ليلة هروبه، وتركها هناك محملة بالخواء لا أكثر دون دليلٍ يقود نحو الفقيد. لربما من المحزن الإقرار بهذا, لكنه كان نادمًا. على كلِ المرات التي عزم فيها على قمعِ ابنه, على جميع الساعات التي حبسهُ فيها داخل ذلك المطعم ليقود حياةً هو شَكلَ لهُ بدل إعطائه فرصة تشكيلها. لكن من المؤسف أننا لا ندركُ اخطاءنا إلا في وقتٍ لا يعود بنفع. لقد استشعر ندمه على البعد بينه وبين ابنه المتمرد عندما وصلا نقطة لا عودة فيها. لكن بطريقة ما لم يستمر بؤسه لفترة طويلة, لقد فارق الحياة تاركًا ذاك المطعم المشؤوم للزمن والرمال."
"لقد كان الفتى أشجع من قرينه الذي لم يقوى على مغادرة المتجر المعلق بمنكبيه. لم يتمكن يونغي من الرحيل وترك والدته وإخوته الصغار لأن لا ضوءًا متعلق بالمستقبل كان يبدو راضحًا للثبات. ومع تسلط عمه السكير الذي كان يدعي الاهتمام بشؤونهم بعد رحيل والده, والطريقة التي كان يسخر فيها من الشيء الوحيد الذي كان للفتى التحكم به, موسيقاه. لا بد أن غبشة الظلمة في محيطه أصبحت دامسة إلى حدٍ جعل الجميع دون استثناء غير متأثرين عندما وجدوه معلقًا من سقف المتجر في أحد الصباحات. كان يبدو وكأن إيجاده مقطوع الأنفاس في ذلك اليوم بديهية ما بطريقة أو بأخرى. وحتى هو سارت الحياة من بعده واستطاعت والدته ترك المدينة برفقة إخوته بعد التخلص من سلطة عمه, لقد رحلوا ويبدوا هذا قاسيًا جدًا للتفكير به."
لم يتهدل صوت العجوز واستمر دون كلال ساردًا, وكأن الزمن عفا عنه لبعض الوقت في تلك اللحظة.
"ماذا عنه؟"
شعر بحلقه المزوّق بالجفاف بينما يسأل وأصابعه الآن على اسم جيمين في الصورة الثانية.
"لقد كان سعيدًا حتى وقتٍ طويل في الماضي. كان الأبن الوحيد لوالده الصياد ضخم الجثة وكبير القلب الذي كان يصطحبه كل يوم في رحلات صيده لكل صباح. تغير كل شيءٍ عندما أصيب والده بالتهاب رئوي وفارق الحياة. لربما أقسى جزء من قصة الفتى هي رغبة والده, الذي كانت وصيته أن يتم وضع جثمانه في مياه البحر الذي يهوى عند رحيله, قائلًا أن أمنيته الوحيدة أن يعود إلى الكيان الذي لا طالما اعتنى به. أنا أعلمُ يقينًا أنها تلك اللحظة الذي رأيت فيه انطفاء عيني الفتى وهو يرى الأمواج تبتلع والده بشطط."
كلمة وراء كلمة, أكمل سرده.
"لقد كان الفرق بينه وبين تايهيونغ هائلًا, لكن هنا ومن هذا المنظور وبعد كل تلك السنوات, أظن أنني فهمت رحيله برفقته. كلا الضياع والخوف منه, يمكنهما خلق الكثير من العزم للهرب."
انتهى الكهل من كلامه , وها هو يستشعر عينيه المعلقة به من الجانب.
"شكرًا لك."
اكتفى بتمتمة ذلك بينما يعيد يده إلى جانبه بعد كل ذلك الفراق. أحنى برأسه عدة مرات دون تفكير. واستدار.
سار ناح ساعات نهاية اليوم المعلقة بخيوط الشمس الغاربة, واستعاد وعيه الخطوات التي تعيده إلى غرفته في النّزل.
____________________
هل وصل شعور جونغكوك المضني بالضياع؟
إهداء إلى اللطيفة
Rlaliln
كشكر على حبها الكبير ❤
شكرًا على القراءة💕
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top