٧-أسفل الطاولة.
عندما انكسر الضوء على قزحتيه في اليوم التالي عامَ في خوالجه شعورٌ أيسرُ شأناً من البارحة.
كان الضياعُ لا يزالُ متناثراً في سهولِ فكره, لكن غيوم الشجو بدأت بالانقشاع. وهذا كان كافياً ليمده بالعزم ليقف ويأثرَ بخيارَ مغادرة الغرفة.
لذا نثرَ بعض قطرات الماء على وجهه, غيّرَ قميصه, ولم يأبه كثيراً بخصلِ شعره التي أصبحت متهافتة بملمسٍ ريشي هش. قبلَ أن يحشر قدميه في حذائه الذي أخذ يتوسع مؤخراً, ويفارقَ الدفء الذي خلقه تواجدُه في الغرفة.
حلًت وجهتُه في مسار خطواته دون تفكير. المطعمُ كالعادة. لسببٍ ما لم يكُن قادراً حتى على توجيهِ عينيه يساراً ناح البحرِ. لربما لا يزالُ مؤمناً بتداعي كُلِ شيءٍ لحظة وضعِ بصره فوقه. لربما أفاق حينها في رحاب الأمواج, عند قاع المياه, قبيل عنفوان حتفه.
لم يحرك لسانهُ كثيراً في الأجواء المغبرة لمطعم تايهيونغ. من يدري لربما كان يسدي لكليهما معروفاً فحتى الأسمر لم يبدو وكأنُ يرحبُ بأبهى أيامِ عمره.
ولقلة الخيارات السائرة أمامه. لم يعنى بعقله إلا خيار واحد, ليس بخيارٍ حتى. زيارة متجر الصيد مرة أخرى . وطلب مقطوعة موسيقية ثانية لكونه قد استمع لصاحبة المرة الآنفة كثيراً حتى أصبح يشعرُ بخدوشِ القرص تراقصُ النغمَ قرب أذنيه.
ابتلع بضع أنفاسٍ قبل أن يدفع بالباب الزجاجي. الصمتُ المدقع في المكان أشبه بقطع أذنيك قبل المسيرة. تتبع تراقص التفاصيل بعينيه. رغمًا عن تنوعِ الألوان في الأنحاء, المكانُ يبدو موحشاً, لربما هي هالة في الأرجاء. لا يستطيع تفسير ما يراه في المكان من ضيق, لكنه لم يكن مطرحاً حيثُ يشعرُ بتمام الأمان.
كان الفتى الشاحبُ كالرّقِ واقفاً في ذاتِ مطرحه مواسيًا الفراغ في عينيه بتعليقها على شيءٍ أمامه بل حتى تحته. لم يأبه الشاحب بالنظر ناحه. مما أدى لتعرقله بخطواته أثناء اقترابه. لطالما سيزالُ عاجزاً عن التصرف عندما لا يشعر بالترحيب من جهةٍ ما.
"آه, اهلاً."
اعتصر وسطاه وسبابته في كف يده اليسرى.
"أ-أريد شراء مقطوعة أخرى."
"حسناً إذاً."
نبس رافعاً نظره. الطريقة التي كانت فيها غبشة عينيه تحدق ناحه أثلجت صدره.
"هل تريدها مشابهة للسابقة؟"
"حبذا لو."
قام بتحريك بدنه أجمع دون قصد أثناء موافقته. لم يستطع سوى عدم فهم التوتر الذي كان يسببه الفتى له. لقد كان نوعًا من المشاعر المألوفة بطريقة قد لا يعّرفها بكونها حسنة.
لم يكلف الموازي له أي عناء آخر للحديث قبل أن يسير إلى بابٍ في زاوية المتجر ويختفي خلفه. تنهد هو معيداً عينيه إلى المطرح الذي ترك شاغراً.
حاوط بعينيه جميع التفاصيل عند الطاولة الواسعة والعتيقة للمتجر. لم يعلم ما الذي سيجعل الآخر يحدق ناحها بذاك التركيز.
لم يكن هناك سوى الكثير من الفوضى, ولفت انتباهه بعضٌ من برادة الخشب أسفل الطاولة. نوع من الخشب الذي ينقشع عن طريق حكه بسطحٍ حاد. والعديد من الأوراق التي دونت عليها عمليات حسابية تبدو خاصة بالمتجر, رسومات دميمة, والعديد العديد من النوتات الموسيقية المكتوبة بخط اليد.
كان فضولهُ سطحياً بالعالم الصغير المنثور هذا,. حتى لاحظ أمراً دقَ على أبواب فضوله بصدق تام هذه المرة.
في خاتمة إحدى الأوراق التي بدت كمؤلفة موسيقية, تم التوقيع عليها بخط صغير ويميناً عند القاع بحرفين.
م.ي
ولم يستطع شرح سبب كون حرفين قد راوداه بعصفٍ في ذاكرته. لما هذا الإحساس بمعرفتهما؟
لاحظ تكرر التوقيع هذا بضع مرات على مصفوفات موسيقية أخرى. وبذات الضآلة والإبهام.
يكادُ يقسم أن ما حدث تالياً كان دون معنى. لكنه سيفضل دعوته بالمريب.
"م.ي"
حرك لها لسانه.
"مين يونغي؟"
أكملَت عنهُ ذاته, وكأن نقاش الوعي هذا أصبح مآل عقله وقلبه دونه كطرفٍ ثالث.
لكن مين يونغي؟
ما الذي ينبعثُ من هذا؟
المقبرة؟
لا تزال صورة ماتعة تزعق في ذاكرته للقبر الوحيد المجلل بالرمال. هل لهذا ربط عقله الحرفين بتلك الحسرى؟
شعر بألمٍ ناتج عن ضياع يتصاعد في عقله. ازدادت رجيف قلبه بشدة لا تُفقه, واهتاجت أنفاسُه.
لم يستطِع الوقوف هناك بعد الآن, لذا جرَ عرّات جسده ونفسه ناح الباب, قبل أن يغادر المتجر دون تأني.
م.ي
مين يونغي.
____________________
عندما دنا صباحُ يومٍ آخر, فعل ما لم يكُن قادراً على الوضع في الإدراك دوافعه.
لم يتأنى في تقليب الفكرة قبل أن يسمع صوت انسدال خطواته فوق الأرض الحجرية المغبرة. لا يزالُ زمهريرُ الأجواء في سجيته. لا يرفأ بحال أو بعقلٍ يخالجه المحال.
قبّلَ الارتجافُ شفاهه حالما تصاعدُ أوار الجهدِ إلى بدنه عند الوصول. من المربك كيف أنه لم يلحظ بُعد المكان إلا ألآن محدقاً بالخطِ اليدوي الدميم للعنوان. ومجرد التحديق كان كفيلاً بإعادة ذات وحشة البارحة, بنفسِ تفاصيلها دون تشويه.
دفع الباب بعد إعادة عادته في التوسل للأنفاس بإسعافِه, صنعَ شقاً وانتقل من ظلِ الغيومِ إلى ظلال السقف الخشبي.
منذَ بضع ِسنواتٍ من الآن, لو كان توقع أي حياةٍ كهذه, كيف سيؤول به الحال إلى مدينة حيث لا يألفُ فيها دربًا و لا يعزو عليهِ وجهاً, لما صدق. لما آمن أن طفلاً ضائعًا مثله قد ترمي به السبل إلى مدينة كهذه.
قابلته كتلة من الأسمالِ البالية والبؤس. كان الشاب واقفًا في ذات مقامه من البارحة, رثًا جداً.
ازدرد ريقه والهلعُ متمسكٌ بتلابيب تفاصيله. الملامح المكفهرة للشاب دبت الرعب في قلبه كما لم يفعل من قبل. لم ينبس طرفٌ بكلمة ولا تجلت نوايا, لكن الأمر برمته بقي مرعبًا.
"أهلًا."
دفع بحروفه على أية حال ليكسر مسيرة الخوف.
"لقد عدتُ لآخذ المقطوعة. اضطررت للرحيل بفظاظة البارحة. أعتذر."
"لا عليك, سأحضرها."
أجاب.
يكادُ هو لا يصدق كم لنبرة ان تناسب صاحبها. من يبدو كجثةٍ متحركة صوتُه يحركُ في الوجدان ذكرى الفناء والعناء.
أحنى برأسه بينما يخطو للأمام. الاقترابُ سمح لعينيه بملاحظة تفاصيل الواقف أكثر. وخصوصًا أظافر اليدين المبسوطة على الطاولة. يدين بأظافر قذرة متكسرة ودماءٍ متخثرة في عدة بقعٍ وأطراف.
لم يتأنى صاحبُ المحل كثيرًا قبل أن يسلك ذات مسار البارحة ويختفي عن أنظار من ازداد التوجسُ في فكره. كلُ تفصيلٍ لهذا المكان أصبحَ دون تفسيرٍ أو سابق إنذار لغزًا. واحدًا يهيجُ رغبته الطفولية في الهرب أكثر من الاستكشاف.
ثم حدث ما لم يكن رغبته, ولكن في ذات الوقت خطته منذ اقتحم الضوء عينيه في هذا الصباح.
مسح بخطواته المسافة حتى الجهة الأخرى من الطاولة الخشبية الواسعة, وكفعلٍ غريزي, استند على ركبتيه فوق الأرض المجللة بالغبار وبرادة الخشب الفوضوية. بينما يحشرُ رأسه في التجويف الواسع حيثُ يمكن لشخصٍ غض البنية الاختباء.
وقد ارتعدت فرائصه لما رأى.
تحت الطاولة وهناك, بقُع عالمٌ آخر لمن يسعى, ولكن لن يريدَ أحدٌ أن يرى.
استطاعت الصورُ المنذرة للأظافر المتكسرة, الدماء, والخشب المنثور في الأرجاء الالتحام اخيراً لخلق معنى بائسٍ واحد.
هناك من قام بحفر عشرات وعشرات العبارات رغمًا عن أظافره الهشة فوق البسوط الخشبية . جميعها تجميعٌ لكلمات تكاد لا تفقه, وما فُقه منها أذعره حتى مغصه.
عمي الوغدُ ذاك هو السبب.
كانَ هناك خط نحيل طويل وجاف كطلاء عند نهاية الجملة لدماء قرمزية تشربها الخشب, حلولًا مكان نقطة ختام جملة.
أريد الهرب.
ما الذي أفعله هنا؟
لما علي التخلي عن كل شيءٍ لأجلهم؟
هل علي تحطيمُ جدارية الجحيم هذا بيدي؟ أمقدرٌ لي إنهاء كُل شيء؟
أتكسرني ألحاني وأنغامي التي لم أهوى إلا خلقها؟
أنا أكرههم.
أنا أكرهني.
أريد أن أنتهي.
م.ي مصيره الفناء.
وجيف قلبه يكاد يفتت الضلوع التي تحتويه, انبثقت الرعشة في أدمّ صورها على أطرافه, ولم يعد الواقع قادراً على إسعافه.
من حيثُ لا يدري زادت إنغاص حاله بريق في ذاكرته للرسائل التي قرأها في غرفته, فتى الأنغام.
تحركت شفاهُه مع الكلمات التي كانت خيالات حال كاتبها تبعث القشعريرة في بدنه. ثم بعدها, هلكت سائرُ التعابير قبل القدرة على وصف ما حدث.
ليس متأكداً إن كانت شرايين عنقه تجمدت تحت الأصابع الثلجية التي أحكمت القبض عليها بغتةُ من الخلف, أم أن الألم فلَجَ صدغه عندما ألصقه أحدهم, أو بالأحرى هشمه على الأرض.
لا يستطيع الجزم, وما يعسرُ عليه وصفه أكثر هو كيف آل به الوضع للارتماء على ظهره في الجهة المعاكسة, بينما تقابله عينا ما لم يستطع إلا القسم بكونه شيطانًا منسلًا من جحيمٍ سحيق.
كان من يظنُ أنه من الآمن الآن مناداته بيونغي, يعتليه. بينما يداه الجلفة القارسة كأطراف الموت تحكم القبض على عنقه بوحشية.
لم يكن مقصده تثبيته فقط. علم وصوت صرير أسنان الشاحب يبقر أذنيه.
أخذ ينتفض كحيوانٍ جريح وهو يشعر باللحم والشرايين جميعها تنسحق فوق فقرات عنقه. كانت حركاته الهلعة حادة لكنها أخذت تتلاشى كهبوب الريح ربما لفرط الخوف الذي كان يشعر به وانخفاض منسوب الأكسجين السريع من رئتيه.
هو لا يفهم ما الذي كان يحدث, ولم يستطع حتى العويل بسؤال إذ لم يكن قادرًا على مفارقة شفتيه إلا نشيج لا يفقه لم يكن كفيلاً بتحريك وجدان الذي يزدادُ إحكام أنامله فوق حياته.
تحوّرَ الاستسلام على أطرافه بينما وجه المعتلي له متجهم غارق في الغيّ والظلام. رؤيته تصبح ضبابية مع فزع كل ثانية بعيدًا عن مناله. ولم يعد يرشدُ دربًا يدلُه على ما يحدث راهنًا.
الفزعُ يلقمه كله. كان خاشيًا لإغلاق عينيه مخافة ألا تشاء الأقدار لهُ فتحهما ثانية.
اسطوانة موسيقية.
فتى الأنغام.
أظافر مهشمة.
دماء متصلبة.
استنجاد.
أنظار مفرغة من الحياة.
ثم احتوته عتمة شبيهة بليلةٍ ظلماء.
_________________
آسفة على التأخير المبالغ فيه لكن حتى مع انتهاء الفصل ما كان عندي أنترنت لفترة ليست بقصيرة.
الحياة تأخذ جانب لطيف مؤخرًا، وأؤكد أن هذا شي عائد لتقبلي لها أكثر من تغيرها بنفسها.
يمكن هذا هو الطريق عشان تصير أيامكم أجمل؟ تتقبلونها؟💛
شكراً على القراءة💕
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top