٦- لربما كنا جميعًا عُميان.

صقيعٌ جارح الأطراف, سوادٌ صلب, وأنفاس مختلة, كلُ ذلك احتشد في صدره وفوق رئتيه.

لا يعلمُ على وجه التمام كيف تسارع حلُ المعضلة, ولا كيف انسلَ الضوءُ بين جفنيه. كيف شعر باندفاع الدماء في عروقه, أو حتى كيف انتصب ظهره بفزع. لكن جميع ذلك هو ما حدث قبل أن يرمي برأسه عنيفاً إلى الخلف ليشهق, ثم يستقيم جالساً في مكانه, بأذرعٍ واهنة تبحث عن القوة الكافية لدعمه, وكفين مطبقين على أسطح ملساء.

ملأ المكان حوله تسارعُ أنفاسه الخائفة. الهواء بالكادِ يستقرُ لثانية في قصباته قبل أن يهرب خارجاً في عجل, شعرَ بالاختناق إثرَ ذلك, مما جعلَ صوت أنفاسه أشبه بنغم أسطوانة مكسورة لأغنية بغيضة.

حدق بعينه في الأرجاء, لتتجلى صورة واضحة ببطء في رأسه بعد انمساح التشويش. وما رأى قطع خيط الشهيق والزفير القصير المتدلي من شفتيه.

لقد كان في غرفته في النّزُل.

أطبق جفنيه مراراً عسى أن يكونَ في خيالٍ أخاذ. لكن رغم عدد المرات التي فعل فيها ذلك, لم يتزعزع الأثاثُ العتيق من مكانه, ولم يبتلع الفراغُ الجدران. لقد كان بالفعلِ بين الحوائط الأربعة التي دفع ثمناً لها, راقداً على سريره.

رمى بقدميه بسرعة, وسارع برمي رأسه في الأرجاء لاحقاً. جميعُ التفاصيل صلبة كالواقع.

تآكلت الأصوات في حلقه من فرطِ الإنكار, بل حتى جرفه الذعر! كيف لهُ أن يكون هنا؟ ألم يكُن البارحة قد قطعت أنفاسهُ محاولاتها في الجريان وشعر بزمهرير المياه يبتلع دواخله؟

كيف وصل إلى غرفته؟ لما هو راقدٌ حياً على سريره؟ ألم تنهم بوجوده أمواجٌ ضارية البارحة؟

هرولَ دون إدراكٍ ناح المرآة النحيلة المعلقة فوق المغسلة, وحدق بوجهه. كانَ اعتيادياً تاماً عدى عن هالاتِ مطاردة النوم الداكنة أسفل عينيه. لم يكُن يتسمُ بشفافية تجعلهُ يعتقد أنهُ أصبحَ شبحاً تائهاً.

أخذ يمررُ بشرة كفيه على ملابسه, ذاتُها التي كان فيها البارحة. كانت جافة تماماً بجفاء, ولم ينحدر تحت مساماته حتى ملمس لأي حبة رمال.

هل كان جميعُ ذلك حلماً؟

جيمين المستنجد بين يديه, الشفاه المرتجفة, الماء الأسود, والشياطين التي سحبته من قدميه, جميعها كانت مناماً ؟

جيمين! نقرَ الاسمُ روحه. الفتى الذي ضاع من مناله بين الأمواج! هل هو حقاً بخير؟

هرع رامياً خطواته للريح وغادر غرفته مسرعاً دون تفكير. لم يراجع حتى بعناء ترتيب هندامه الذي يجعلهُ يبدو وكأنهُ شخصٌ قدّ لذاته حياتاً من الكدر.

مخرجٌ خشبي، أرض مرصوفة بحجارة مكسورة، ومبانٍ عفى عليها الزمن وعافها. أقدامٌ تهرول محصورة في بنطالٍ أسود، وصرير الهواء في طبلاتِ أذن الشاب.

انسحابُ الطوبِ الرمادي, وتقاطع خيوط الرمال الصفراء في الأرض أسفل قدميه, كلُ ذلك كان مقدمةً قبل أن يطوف به صوت البحر أخيراً.

شهيقٌ وتطلُع. يدور برأسه في الأرجاء. كيف آل الحال بهِ من إجازة إلى بحثٍ مستمر في الأنحاء؟

أخذ الأمرُ ما غالب الدقيقتين طولاً ليعتاد نظرهُ ظلال الزرقة في الفضاء. وما زاد عن دقيقة أخرى ليتوسد رخاء مرآه جسدٌ ذي عودٍ رقيق.

تداخلُ خيوط الهواء مع خصلاتِ الشعر الملساء برهنَ وصول رغبته ناح منالها. على الرمال وكما جرت العادة, جسدٌ تماسك في نسيجِ الوجود اعتماداً على وجوده ذاته. أرجلٌ نحيلة تحتضنُها أذرعًا أنحل. وركبٌ أسندت وجهاُ محملاُ بملامح يفتقر للقدرة على مصارحة الواقع بها. ماذا تكون؟

جيمين هو ذاك. على أرضه ذاتها, ملكاً لما بنى من أرضٍ خصبة بالوحدة. هي تلك, الوحدة.

العيونُ التي تطالع البحر بلا كلال, والتعابيرُ التي فيها من الضياع ما يشيب لهولها الولدان, والتطلعُ لما لا يوجد يقضّ وجود الأحلام. جميع ذلك سيجعلك تؤمن أنه أكثر الأشخاص وحدة على الإطلاق.

فلج صداعٌ نابعٌ من مخبأ الفراغ رأسه. كان كلُ شيءٍ دون معنى يرجى. لم يطبع على الرمال حتى خطوة ناح فتى كابوس البارحة. اكتفى بالصورة الهادئة له في وعيه, قبل أن يولي رأسه ناحاً آخر ويمضي في طريقٍ خالف الذي ركضه سابقاً.

دزّ راحتيه في أقمشة جيوبه غير الناعمة, وسار بنظرٍ يواجه الأرض لا الطريق. لما حتى هو محملٌ بهواء في تلك الحفرة الهائلة داخله الآن, ألا يجبُ أن يكون عارماً بغبطة أن جميع ذلك كان حلماً لا يُطال؟

لم يخطط لهذا واقعاً, لكن جذوة الجوع الملتهبة في حلقه قادته إلى هنا, إلى المطعم الخاص بتايهونغ والذي يكرر دوماً ذكر كونه أسيراً فيه تحت إمرة والده. ولحسن الحظ كان الباب المغبر لليوم يتحركُ مع الزخم الذي بذله في دفعه.

"تبدو في حالٍ من العار نسبُ كلمة مروعٍ إليه."
بادر تايهيونغ حديثه حالما وطأ الأرض القذرة للمكان.

لم يكلف لسانهُ حركةً للرد أو الترحيب. فاكتفى بإغلاق الباب قبل أن يحدق أكثر بالأسمر. هذه ليست المرة الأولى, ولكنه لا يزال يشعر بذهنه يسدِر لمظهر تايهيونغ العجيب.

الخصلُ الشقراء العشوائية في شعره الداكن والتي لم تكن تجعلهُ إلا متهدلاً بالفوضى. الثقوب غير المتنظمة في أذنه والتي تتدلى منها أقراطً باهتة الألوان. الأكسسوارات العديدة على ذراعيه النحيلين تبدو قمعية, وملابسه التي تبدو شاذة جداً لموجات العادة والعُرف للمدينة. إذ كان جميع من قابلهم يرتدون ملابساً تطابق البساطة دون أطياف ألوانٍ حية, لكن هو كان يرتدي بنطال جينزٍ مجعد, وقمصاناً بصورٍ صارخة, ولليوم كان رامياً فوق الطبقة القطنية على صدره قميصاً أحمر مهترئ بأزرارٍ غير متحاضنة.

وكأن أصغر تفصيلٍ فيه يصرخ بالثورة, يصيحُ بالتمرد, ويعزُمُ على تحطيمِ كُلِ ما يتعرقل في طريقه. وكأنه يسعى لإخبار أي عينٍ ترى بأنه لا ينتسب إلى هذا المكان, أو إلى هذه المدينةِ ككل. كان كبقعةِ الألوان القمئة التي تلطخُ ثوباً ناصع البياض, أو واحداً بهيم السواد, كلا التشبيهين سواء.

ولم تزعزع تصرفاته ولو مقدرا أنملة من الحكم الذي قد تبنيه في عقلك, فكر وهو يتتبع قدميه الطويلة التي رمى فوق المنضدة بينما يتصفحُ الأوراق المتلاصقة بين كفتيه لمجلة بصورٍ مختلطة لسيارات ونساءٍ بملابس خليعة.

رمى بالثقل المتواري بين مفاصله على الكرسي المفتقر للظهر, أمام قدمي الأسمر.

"تريدُ الطعام؟"
أنبر دون طرحِ اهتمامٍ برفع مقلتيه عن الورق الملون.

عادل وزنَ سؤاله بهمهمة طويلة. لسببٍ ما لم يكن على مقدرة للشعور بالكلمات تصعد من حلقه حتى وإن دفعها. أصبح يمضي أيامه هذه يتحدث دون انقطاع, لكن داخل جمجمته. ليس وكأن هذا لم يكُن غير اعتيادي. أمضى سنواتٍ من عمره لا يتحدث إلا لمماً, وكأن عصفوراً ابتلع لسانه بنهم. أو هذا ما كانت عائلته تكرر دوماً على مسامعه.

خلقَ تايهيونغ ضجة لا يستهانُ بها معتدلاً قبل أن يختفي عن أنظاره. ليعود بعدها بطعامٍ من نوعٍ ما لم يستأثر بفرصة التفكير به, وشايٍ مدلوق في كأسٍ زجاجي.

لقم ما يسدُ به رمقه على عجل تابعاً إياه بالمشروب الدافئ. تحت أنظار السكون, بينما أكمل المتمرد الموازي له قراءة مجلته دون بريق اهتمام.

يبدو الوقتُ كدربٍ ضيق, يسهلُ مضيه في حينٍ وآخر.

عندما عاد إلى غرفته في النُزُل ذاك المساء, لم يملك الكثير ليفعله, كان يستشعرُ فراغاً دميماً في مكانٍ فيه, أمراً ناقصاً, شعوراً مألوفاً لكن غير قادرٍ على استحضاره.

أخذ يقرأ من الرسائل الغامضة التي لا تزالُ محتوياتها تؤرقه أكثر من هشاشة أطرافها. ليس من السهل شرح الأفكار التي تراودك عندما يقع بين يديك ما كان في يومٍ مشاعراً لشخصٍ لا تعلم أين يكون أو متى كان.

الأسطوانة الموسيقية السائرة خلفه بصوتها المتهدج هي الأكثرُ حيوية في محيطه. أقدامه متدلية من مضجعه على السرير, بينما يحاول القراءة دون جدية عارمة بسبب التعب غير المفسر الذي يرقدُ قربه كمؤنس.

تمنطقُ الشجو لعقلي في كلِ مرةٍ أذكرُ فيها مآله لا يحتمل.

يبدو كلُ شيءٍ خاطئًا ولكن دون تغيير!

أكادُ أؤمن أن لو رحيلهُ بتلك الطريقة في أي بقعةٍ أخرى من العالم لكان أقام الدنيا ولم يقعدها, لكنهُ هنا مضى وكأنهُ سقوطُ لوحٍ خشبي رطب بعد المطر!

لما كلُ تفصيلٍ واجمٌ إلى هذا الحد في هذه المدينة؟

لما يبدو وكأن الجميعَ هنا خائفون من مقاطعة الصوت الرمادي للحياة؟

كان هذا محتوى لرسالة بالكاد اقترب معنى حروفها من عينيه.

جميعُ ما سطرت يصفُ ما اعتراني من أفكار بتفاصيلٍ حادة.

لكن جُزءًا مني يطرحُ اعتقادًا مفزعاً.

أحسُ وكأن حزني الخاص أعماني عن رؤية أي كمدٍ آخر.

وكأن لدي تأنيباً يلحُ علي و يذكرني بأنه لربما كانت لي فرصة للتغيير ولكنني ضيعتها, ألا يخالجك الأمر ذاته؟

حتى وإن لم يكُن فتى الأنغام ذاك ممن قد أعزمُ معرفتهم, لربما كان لي ولو مقدارُ ذرة من التغيير؟

لربما كان لجميعنا فرصة, لكننا انصعنا لتمثيلية العمى عند مقابلتها.

وهذه واحدة أخرى, خطٌ أفضل من سابقتها, لكن لا تقلُ غروراً بفحواها.

لربما أغمض عينيه, قد يكون هذا آخر ما فعل بعد أن غشاهُ النوم ليرمي الرسائل جانباً.


___________________

إهداء إلى nunary
كشكر على انتظارها وحبها💓

كتبت نهاية الفصل وأنا على شفير النوم لذا هو محمل بأفكار مبعثرة.

كيف هي أيامكم؟☀

شكراً على القراءة 💕

Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top