٣-صبيٌ وبحر.
صباحَ اليومِ التالي حيثُ على بقعِ الأرض البعيدة من الوطنِ ارتفعت الشمسُ في بعدٍ قصيّ لم يكن لأركاديا نصيبٌ يذكرُ منه, استيقظَ ولوعةُ بردٍ قاسٍ تولدُ رجوفَ هواءٍ بدلَ أنفاسٍ معتادة في جوفِه.
سارعَ بتغيير ما ارتدى إلى لباسِ البارحة رتيب الطلة, وازدرى مراراً المغسلة الصدِئة التي أفرجت عليهِ ماءً جمدَ أطرافِ أنامِلِه إلى حدٍ فلَجَ روحه, وسارعَ بقطعِ السلالمِ العتيقة إلى البوابة وخارجَ النُزُل إذ أن النومَ اليومَ أطال الزيارةَ على بدنِهِ لثلاثين دقيقة إضافية.
كادَ يقسِمُ أن الهواءَ حاولَ مهاجمةَ وجهِهِ بغتة لينهشَه, ولم يستشعِر مخططه إلا عندما زمَ شفتيهِ وأحس بهما تتشققانِ كأوراقِ شجرٍ جافة, لربما كانَ من السذاجة اعتقادُه أنهُ سيتمكن من التمسكِ بخيطِ الصحةِ طويلاً هنا دون ملابِس بثقلٍ كافٍ, هو لم يكُن يخطط ليعود أدراجَهُ مريضاً إلى رحابةِ قلبِ أمِهِ الرؤوف.
أخذَ حذاؤه يغرقُ في الرمالِ الناعمة قربَ المطعم الذي ينتحي, كأن الجاذبية تعتلي التوقعات, أخذَ قطعُ خمسةِ أمتارٍ وقتاً طابقَ قطع عشرة, لكنهَ وصلَ نهاية وأخذ يهزُ قدميهِ محاولاً طردَ الحباتِ التي حشرت نفسهاَ ضيقاً بين قاعِ خُفِه وجواربِه.
دفعَ الزجاجَ بقوةٍ متذكراً تجنُبَ المقبضِ اللئيم, لكن البابَ مع كُل القسرِ لم يتزعزع ولو لأنِشٍ برحابة آذناً بالدخول, بل وقف بجسارة مقاتلاً حتى الرياح. أبعدَ يديه متوجساً حيرة, ثم قوسهما برقة مسنداً رأسه فوقهما يحدُ نظره ليحدِق إلى الداخل. كان المكان خاوياً, أو هذا ما أقرَ بهِ مع صعوبة النظر عبر الزجاج المغبر, كان قذراً بشدة, أحقاً لم يلحظ الأوساخَ اللزجة البارحة؟
بأملٍ معطوب الأطراف حاولَ لمرةٍ أخيرة أن يلحظَ شعراً بنياً ناعماً أو أي تواجدٍ بشري على الأطلاق, لكن كل ما وازاهُ من وراءِ الزجاجِ كان خامداً كجثة مهملة.
زفرَ والأرضُ تضيقُ به, هاهُنا في هذهِ اللحظة قد فقدَ المألوفَ الوحيد َمن الأمكنة في هذه المدينة ويداه تتجمدان, دونَ نسيانِ بطنِهِ الخاوية التي أمضّت عليه الجوع منذُ مباشرته الحركة خارجَ السرير.
عادَ أدراجه إلى الطريق المرصوفِ بهمةٍ مثبطة, رامياُ بذاتِهِ في قارعةِ طريقِ البحثِ ثانية, هو لم يكن يمانعُ صدقاً, لو أن هناك فقط متجرُ بقالة قريبٌ الآن يبتاعُ به شيئاً يخمدُ به براكينَ الجوعِ في أحشائه فيكمل المسيرة دون تذمر.
سأل بعضًا من المارةِ القلة, جميعاً ممن كانوا على الأغلبِ كهولاً أو ممن تعدوا الأربعين, سؤالٌ, جوابٌ, والعديدِ من اللدغاتِ في بطنه. ها هو ذا نهاية أمام متجرٍ قد تصفُهُ متواضعاً للدلالة على الاحترام, وإن كنت صادقاً تبغضُ المجاملة لوصفتَهُ بحقيقته, مروع.
شعرَ بأنفاسِه تصبحُ محصورةً صاخبة بينَ الرفوفِ الأربعة الوحيدة في المكانَ, لكن ابتاعَ ما راقه بعجلٍ ودفع, على الأقلِ كانت أسعارُهُم اعتيادية تقاربُ البخس.
خرجَ ليأخذه البردُ في كنفهِ ثانية شديداً. أخذَ يأكلُ مما ابتاعَ وفقدَ القدرةَ على الانتظارَ فسمحَ لشراهته بالتقدم. واظبَ على السيرِ حتى انهى طعامه وتوقفت معدَتُهُ عن النحيب شجباً لتفريطه بها.
باغتهُ فجأةً صوتُ البحرِ, دونَ إنذارٍ وبطريقة شابهت تشكُل حلمٍ في طياتِ العقل. هو جازمٌ أن الصوتَ كانَ موجوداً منذُ الصباح, لكن لم تسنحُ له الفرصة بسماعهِ اليوم سوى الآن, ربما كان الأمرُ يتطلبِ إرضاءَ أحدِ حواسه لينعمَ بالبقية, ما كان ليسمعَ الأمواج العاتية إلا بعدَ زجره لجوعه.
مشى حتى انقضت الاحجارُ المرصوفة بعشوائية وبانت انحناءاتُ الرمال, تقدمَ إلى أن لاحت لهُ الأمواج, لم تكُن مرحبة إطلاقاً, يعلوها هواءٌ متثلج, وتطالُ اليابسة بفتورٍ وحذر, ولكن ملامحهُ انسدلَت مقابلةً إياها, الأمرُ شبيهٌ برؤية حبيبٍ لا يطيق النظر في وجهك بعدَ سنينٍ طوال.
قطعت خطواتُهُ العديد من المسافات, إلى ان استقرَ بأقدامه على ما قاربَ نهاية الرمال. بثباتٍ تام, وكأنهُ يقف منتظراً أن يرحبَ بهِ البحرُ بذاتِ الشوقِ الذي أثقلَ كاهله لوقتٍ مديد.
بعدَ إغلاقِهِ عينيه للحظات مُغرقاً وعيهُ بهيبةِ الكيانِ العظيم القابعِ أمامه, تنفسَ بهدوءٍ بضعَ مرات, قبل أن يفرق جفنيه ثانية ويحدق بالأرجاءِ مستكشفاً بديع الصمت والبرد من حوله.
عندما توجهت عيناهُ يميناً, لاحظَ وجوداً عداه, رمشَ لمرتين أو ثلاثة قبل أن يغوصَ إدراكُ كونِ أحدٍ ما يشاطرهُ الرمال المغرية ولَجَةَ الهواء.
بأقدامٍ مثنية مُحتضنة قريباً من صدرهِ , وشعرٍ يتهافت مع الريح, وأعينٍ مُرتكزة على حركةِ أنامله فوق الرمال دونَ تنظيم. كانَ فتى هو الذي قربه, ما لم يفهم هو عجزهُ التام سابقاً عن ملاحظتِه بينما كان يحثُ المسيرةَ إلى هنا, ربما لصغرِ حجمه من جهة وشدةِ تسرعِهِ هو من جهةٍ أخرى.
روادهُ ارتباكٌ عجيب, وكأنه يواجه بحقيقة مبهمة, لم يكُن عليه الانزعاج فهذا البحرُ لم يكُن ملكَه دون البقية! لكن مشاعراً هفافة كهذِه كانت دوماً ما تكدرُ عليه العديد من الأمور وإن كانت ساذجة.
حاول تجاهلَ الوجودِ وتركيز نظره على الأفقِ ملياً, وإن كان الفضولُ يعصِرُ أطرافه دون أي رغبة بالحديث. لم يكن هو ممن يبدؤون الكلام مع الغير, أمضى جُل عمرِه في الخلفِ وراءَ الستار يستمعُ للآخرين وإن لم يكُن يمانعُ حديثهم معه, هو فقط لم يكُن ليبادرَ بالشجاعة ولو لمرة.
"لستَ من هنا, صحيح؟"
صوتٌ وكأنهُ ليس بذلك, كان هادِئاً جداً وخافتاً إلى حدٍ ظن أنه لم يكُن سوى خيالٍ اختلقهُ عقله.
"ماذا؟"
أطلقَ كلماته بعدَ عشر ثوانٍ على الأقل من السكون والمحاولة اليائسة لإدراك كون الحديث موجهاً إليه.
"قلتُ أنك لست من هنا, لست من هذه المدينة."
خافتَ الفتى إلى الرمالِ وكأنهُ يحدثهُا هي القابعة في مستعمراتٍ تحت أقدامِه.
"ن-نعم, لست كذلك, أنت محق."
تلعثم متقدماً بضعَ خطواتٍ ناحه عسى أن يصبح من الأسهلِ شدُ القبضةِ على كلماتِ الآخر.
كانَ الذي يعبثُ بالرمالِ طري العود نحيل البدن, شعرهُ الناعم يعبثُ بهِ الهواء دون حياء وجسدُهُ شاحب تحت الملابس الرقيقة التي واراهُ بها. استشعرَ بالبردِ يكتنزُ نصيباً من عظامِه وينخرُ فيها بمجردِ النظرِ إليه.
ارتمى صمتٌ مضمخ بين الاثنين, وهذا اشعرهُ بالاختناق. لو أنهما لم يتحدثا لكان هذا أفضل, هو الآن منسحقٌ تحت ضغط فكرة توجب قوله لشيءٍ ما إذ أنهُ دوره, ورغم ذلك لم يقدر على النبس بحرف, بل ربما تطايرت من عقله شتى الأفكار حتى الطريقة الصحيحة للتنفس.
"هل أنتَ حزين؟"
قدّ الآخر صوتهُ من السكون وقد تركَ الرمال رافعاً رأسه يتأمل الأفق.
"حزين؟!"
انبرَ مجيباً في استنكار.
"لما قد أكون كذلك؟ هل أبدو حزيناً؟"
"لا أعلم."
تمتمَ يسحب ُقدميه بشدةٍ أكثر وكأنهُ يرجو اختفاءهما بين أضلاعِه.
"لكن عادة لا يصاحبُ البحرَ إلا من كان يرجو الخلاص من صُحبةِ شجنه."
"لا أظنُ أنني حزين."
ابهرتهُ الطريقة التي انسلت بها الكلمات من فمه في خضمّ هذا الحديث المريب.
"أعني أنني لا أعلم, لا أذكرُ آخر مرة خالجني فيها شعورٍ بسيط كالحزن, ربما عندما كنتُ طفلاً."
"أتظنُ الحزنَ بسيطاً؟"
وإن كانت كلماتُه ستبدو ممتعضة إن قالها أيُ أحدٍ أخر, إلا أنها فارقت فمهُ رقيقة دونَ حدة أو حتى شعور.
"نعم, هو شعورٍ وحيد كان يكدرُ علينا أنفسنا قبلاً لأمورٍ متفرقة , أما الأن في هذا السن, فمن المستحيل أن يضرب في قلبك شعورٍ واحد, عليه أن يحضر مع ما لا يعدُ من الأمور الأخرى مما يجعلُ من الصعب القدرة على وصفِه بكلمة واحدة كالحزن."
لم يفقه ما يقول وبذاتِ الوقت آمن به, لو باسلَ قروناً يصفُّ فيها أنقى الكلماتِ وأدقها في آلافِ الجمل لما تمكنَ من الإلمام ولو بنسبة ضئيلة بالمشاعر التي يودُ التفوه بها. كانتَ مشاعرُه هي المبهمَ الأعظم فيه.
"لا أعلم, لكن منذُ أن جرفهُ البحر بعيداً وأنا أعودُ هنا دوماً, وأعتقد أنني قد أصفُ نفسي بالحزن, فلا أعلم أي مصطلحٍ آخر قد يصفُ ذاك الشعور."
شقت بعدَ الأحرف ابتسامة مكاناً على الشفاهِ الممتلِئة بتحفظ, واستمرَ يتأملُ البحر.
كلاهما أعرضَ عن الحديث بعد هذا, وحاولَ هو تأملَ الأفق الأزرق أمامه, لكن صعُب عليهِ إبقاءُ عينيه في مكانٍ واحد, فحركهما في الأرجاء حتى على الرمال, وهناك رأى أمراً ما.
قُرب اقدامِ الفتى الصغيرة وعلى الرمال الندية, كانت خمسةُ أحرفٍ محفورة بنعومة لا بدَ أن أصابعهُ هي التي كونتها سابقاً.
"جيمين."
قرأها برأسٍ مطأطأ.
"أهذا اسمُك؟"
هزَ رأسه بشرودٍ دونَ أن يغير مسار نظره.
"وقد كتبته على الرمال عسى أن يجرفَهُ البحر هو أيضاً."
عالمٌ انطوى بين الأمواجِ القاسية, عالمٌ بدا وكأن لا أحداً قد أبصرَه سوى جيمين وجميع تركيزِه مصبوبٌ عليه.
لا يظنُ أنهما تحدثا بعدَ هذا, أو ربما فعلا, لكنَهُ فقد ذاكرة تلك المحادثة. لا يعلمُ تحديداً متى عادَ أدراجهُ إلى النزُلِ و تركَ البحرَ أبدي الامتداد من ورائه, ولكنه جازمٌ من أنهُ فعل بعد أن طالَت الأمواجُ بغتةً اسمَ الصبي نهاية, وانسحقتَ الأحرفُ تحتَ رفقِ المياه ثم عادت أدراجها تاركةً الرمالَ ملساء لا يشوبها شائب.
وكأن الاسم لم يكُن يوماً.
_______________________________
فصل بعد وقت طويل!
إهداء إلى -Reema- 💓
شكراً على القراءة, لا تنسوا التعليق والتصويت💕
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top