٢-مكتظٌ بالصمت.
أبعدَ الستائِرَ الشذرية المنسدلة على النافِذة, أحسَ بالصقيعِ كشظايا يتسلقُ بشرتَهُ بلمحٍ من بصر, كان البردَ بأوج جسارتِهِ يحاولُ اختراقَ حُرمَةَ الغُرفة, التي لم تكُن تتسِم بدفءٍ يذكر على أيةِ حالٍ.
ضمَ كفيهِ لثانية يوازِنُ حرارتهما قُربَ وجهِه, ثمَ أبعدهُما يزفِرُ بتهدج كأثرٍ للبرودة المستوطنة في المكان. في هذا النُزُلِ القديم آثرَ البقاء, و دونَ تلفيقٍ, هذا النزُلُ لم يكُن سوى خيارك الوحيد عندما تفكِرُ يوماً بجرِ بدنِكَ إلى هذهِ المدينة الضامرة. عندما وصلَ القطار بهِ إلى هنا, و كمعلومةٍ غير ضرورية, وصلَ هنا بعدَ أن غادَرَ جميعُ الراكبين الستة في محطاتٍ قبلَ وجهَتِه. كانَ من السهلِ عليه استبصارُ طريقِهِ خارج محطةِ القطار, ومن السهلِ أكثرَ ملاحظةُ النزُلِ من الأفق, فقد كانَ يشخصُ باختلافٍ عن المباني المحيطة بهِ, وكأنهُ تِلك القصة الملونة بين صحفٍ رماية وسوداء. بتفاصيلٍ أجنبية أكثر, وشقوقٍ أقلَ بكثيرِ في طلائه, كانَ أطولَ ببضعِ أمتارٍ أيضاً, ورغمَ اختلافِهِ عن باقي مباني المدينة, إلا أنكَ ستدركُ بأن كل هذا لم يكُن سوى مظهرٍ فارغ حالما تطأ بقدمِك أرض المكان وتكتشِف اختلال مصداقيته.
كانَ موظفُ الاستقبالِ يحملُ في جوفِهِ ضجراً عظيماً ونبرة صوتٍ جافة ستشعرُك بانكَ أحمقٌ تائه حتى لو بلغتَ من النباغة القمم, السلالمُ تحدِثُ صريراً في كلِ مرة تركِزُ وزنَكَ عليها وكأنها ستهوي بِكَ من الإجهاد في أي لحظة, لا يوجدُ مصعدٌ, وأثاثُ الغرفِ الرتيب عليه بعضُ الغبارِ المتراكم وكأنَ احدهُم لم ينظِفهُ من أشهر, بدا هذا منطقياً إذ لم يكُن هناك أيُ نزلاءٍ يأتونَ هنا عادة, وكختامٍ لكلِ تِلك المميزاتِ الآسرة للبّ, لم يكُن هناك تدفئة مركزية, لذا سيكونُ عليكَ التكورُ على نفسك طول الليل حتى لا تستيقِظ نهاراً والسقمُ يثقِلُ كاهلَك.
ومع جميعِ تلكَ الأمور التي لا تمتُ إلى صلةٍ بأي شيءٍ متعلق بإجازة, هو كانَ راضياً تمامًا, لم يزعِجهُ الصرير أو خدمة الغرفِ السيئة أو حتى لسعاتُ الألمِ على يديه عندما اضطر لحملِ حقيبتِهِ إلى الطابِقِ الثالث. جميعُ ذلِك لم يكدِر برودةَ خوالجِهِ ولو ثانية, بل كانَ مقراً من أن كُل هذا جزءٌ ضئيل من الصورة الكبيرة, من بحثِهِ المجهول ذاك.
في التاسعة صباحاً وبعدَ أن كانَ قد أمضى ساعة كاملة مستيقظاً في غرفتِه, قررَ مغادرةَ المكانَ للسيرِ في المدينة, وضعَ لباسهُ من البارحة على جسدِهِ ثانية ولكِن أضافَ معطفاً اسودَ كانَ أولَ ما امتثلَ في عينيه عندما فتحَ حقيبتهُ باحثاً. مغادراً من البابِ الأمامي للمكانَ لم يلقي تحية الصباح, لم يكُن هناكَ أحدٌ ليرد عليه على كلِ حالٍ. داعبَت خواطرَهُ فكرةِ السؤالِ عن موعدِ الفطور, هذا إن كان يقدمُ هنا, لكنهُ غيرَ رأيهُ نهاية. لم يكُن جوعُهُ مُلحاً إذ كان قد لقمَ كيساً من حلوى الموز والشكولاتة في غرفتِه حالمَا استيقظ, لذا وجدَ من الذكي تجنبُ إحراجِ نفسِهِ ثانية عند موظف الاستقبال. يمكِنُهُ الصمود حتى يجدَ مطعماً أو متجَرَ بقالة في مطرحٍ ما.
تجافى بخطواتِهِ عن محيطِ النُزُلِ المُنفِر. أحسَ بالزمهريرِ في الأرجاءِ يحشدُ لذاتِهِ مكاناً وافراً في صدره. من الأفقِ وكأنهُ أشبهُ بطيفٍ رقيق, تلاعبَ مع سمعِهِ صوتُ الامواج, فصلَ بينهُ وبينها بضعةُ أمتارٍ, عدَدٌ من المبانيِ المتزعزعة, و كمٌ لا بأس بهِ من النشوة. فرغمَ المسافة الفاصلة رأى في رأسهِ مدَ البحرِ يطولُ بأطرافِه أبعدَ الرمال, فتندى و تترطب, ثم ينسحبُ عائِداً جاراً معهُ جزءًا من شوقِه.
تحولت حركَة شفاهِه إلى أخرى لا إرادية كلما ابتعَد عن المألوف, قسوةَ الجو اشتدَ أثرها فأخذت ترتجف. أكملَ سيرهُ في خطٍ مستقيم يمعِنُ النظرَ فيما حولَه.
بعدَ دقائِقٍ اندثرَت بينهُ وبينَ الأرضِ المرصوفة التي يسير عليها, رأى قُطراً من أرض لم تمتلِئ بالبناء, بل لم يكُن هُناك في مرمى البصرِ سوى بناء واحد, تموضع بينَ الرمالِ الناعمة الممتدة في المدينة التي تعودُ للشاطئ, عجز عن التكهُن بماهيته, لكنه رأى عدداً من الملصقاتِ الملونة رثة الأطرافِ على الباب الزجاجي و التي كانت إعلاناتٍ عديدة وصوراً متفرقة لمختلف الأطعمة والأشربة.
انحنى سيرُهُ ناحَ التشتيتِ ثم لاحظَ الواجهة الضوئية المطفأة. دفعَ بكفِهِ الباب الزجاجي لكونِ اليد المعدنية باردة إلى حدٍ آلم بشرته. سبقهُ صوتُ جرسٍ بالدخولِ إلى المكان, ورحلَ ثانية عندما أغلقَ البابَ من ورائه.
كانَ المكانَ فارغاَ من أيِ بشرٍ ومكتظاً بالصمت, لم يبعثِر قصورَ السكونِ في المكانِ إلى صوتُ أنفاسِهِ الحارة المستنجِدة بالهواءِ للدفء. حلقَ بعينيهِ على المكان, شعر بالخيبة إذ بدا أنا لا أحدَ يملكُه أو يرتادُه. كادَ أن يعودَ أدراجَهُ رغمَ السخونة الملحة في الأرجاء, لم يرغب في أن يتطاولَ على ملكية أحدهِم.
قبلَ أن يحرِك قدمَهُ إنشاً, داعبَ حواسهُ بعثرةٌ وضجيج من زاوية في المكان, وقبلَ أن يهِم إلى تتبعها, ظهرَ من وراءِ بابٍ خلفَ الطاولة المديدة في المقدمة شخصٌ ما.
"عذراً لكِن هل هذا المكانُ مفتوحٌ للخدمة؟"
حدَ صوتَهُ عجلةٌ وارتباك.
"ألم يكُن البابُ مفتوحاً عندما دفعتَه؟ ما رأيُك؟"
كانَ الذي أجابَهُ فتى أسمرَ البشرة حاد تقاسيم الوجه, وقد كانَ صوتُهُ العميق يحومُ بينهما بسرعة.
"نعم!"
تفتَتَ صوتُهُ بعيداً في جوفِ الإحراج.
"أعتذر."
انسلَ من ارتباكِهِ وسار ناحَ أحدِ المقاعد الخشبية, كانَ الأوسط وجلسَ عليهِ ناصباً ظهرهُ إذ لم يكُن هناك ما يدعمُه من الخلف.
"لستَ من سكانِ المدينة صحيح؟"
بادرَ الفتى في الحديثِ ثانية وهو يتفقدُه من خصلاتِ شعرِه الشاخصة إلى حذائه الرياضي القديم، اكتفى بهزِ رأسِه مرتباكاً كرد.
"هل تقدمون الفطور هنا؟"
بدا أبلهاً بالكامل، لما لم يذكر أي طعامٍ فقط؟
"لدينا ما قد ينالُ على رضاك."
كانَ الفتى غير مهتمٍ إطلاقاً بمحاولة جعلِ حديثِهِ لطيفاً للسامعين. لم يتذمر مراقباً إياهُ يرحلُ من ذات البابِ الذي ولجَ منه آنفاً.
زفرَ بانخفاض واهتزت شفاهُه الجدباء لبضع مراتٍ أثناء ذلك. كانت حرارة بدنِهِ تحبو نحو الاعتدال، لكن البردَ لا يزالُ حاكماً على أضلاعه.
أكملَ مداعبته للمكانِ بعينيه، دونَ دلائل كان قادراً على الإدراك بكونِ المكان خالٍ من أي وجودٍ بشري باستثنائه هو وأسمر البشرة.
هل يا ترى كان يملِكُ المكان وحده؟ بدا صغيراً يوازيه السنَ أو يسبقُهُ ببعضِ الأعوام.
و كاستشعارٍ للمعني بوروده في طيات عقله، عادَ إلى المكان يحملُ كوباً مرمري اللون وصحناً. وضعهما أمامهُ وأطرافُهُ حركتها غير حذرة.
"حليبٌ وعسل مع قطعتين من كعك الزنجبيل."
شرحَ الفتى قبلَ أن يبادر هو بالسؤال.
"يبدو أنك تشعر بالبرد، هذا سيكون مناسباً."
"شكراً."
تمتم بروية، لم يناقش حتى كونه لم يعطه فرصة لاختيار ما يودُ تناوله. لم يكن ليحبذ أي نقاشٍ مع سكان هذه المدينة متأججة الغرابة.
باشرَ بارتشاف بعض الحليب، تهاوى قلبُهُ لذةً لحلاوة المشروب، وباشرَ الدفء بغزو كل مستعمرة للبردِ فيه.
"من أي مدينةٍ أتيت؟"
قطع المقابلُ لهُ الصمت بعد دقائق من جلوسِه وعبثِ أظافره بالعثراتِ الخشبية للطاولة.
"بوسان."
باشرت الحروف بالخروج بين قطع الكعك الطرية في فمه فتكسرت نوعاً وبدت ثقيلة عندما أكمل الكلمة.
"ولما بحقِ الإله قد تأتي من بوسان إلى هنا؟!"
شجبَ فعلته وقد ارتفعَ صوتُه بضيق.
"إجازة."
ابتلع الكعك.
"أريدُ أن أحظى ببعض الوقت لوحدي، ومدينة ضئيلة ساحلية كخاصتكُم هي كل ما رجوت."
"لا بد أن في عقلِك ضرَرٌ من نوعٍ ما."
لوحَ بيدِه وكأنهُ يبعدُ ذبابةً على مقربة من رأسه.
"لو سنحت لي الفرصة للخروجِ من هذا المكان لما ترددتُ ثانية."
رغبَ بالسؤال عن السبب الذي قد يمنعه من الخروج، لكنهُ لم يرغب في أن يكون متطفلاً، لذا اكتفى بإكمال طعامه بسكون.
بعدَ أن برقت أطباقُه إثر فراغها، دفعَ النقود التي قال الفتى أنها ثمنٌ لطعامه.
ودعهُ بنرة هينة قبلَ الاتجاه ناحَ الباب بهمة الخروج.
"مهلاً يا أنت!"
لحقَهُ الصوتُ المعتم. استدارَ بعجل.
"ما اسمُك؟"
"جونغكوك."
انكمشت يدهُ مراراً على الزجاج قبل أن يجيب.
"وأنا تايهيونغ."
تفاصيلُ وجهه خاوية.
"سررت بمعرفتك."
حنى رأسه بزاوية طفيفة قبل أن يخرُج.
أكملَ سيرهُ في المدينة، كان الرضى بفراغِ الوقت وانعدام الوجهة أمامه مثالياً مع شعورِه المؤنس بالشبع.
_______________________
إهداء إلى -ivCel
💓💓
أتمنى أنو الأحداث مو مملة, القصة حتظهر قريبا، وهي حتكون قصة قصيرة، وكمان أرجو أنو المشاعر عم توصل كاملة، احاول بجد أوصل كل شي صح ❤
الموسيقى اللي أرفقتها لما سمعتها حسيتها من جد تعبر عن جو القصة 💖💫
شكراً على القراءة، لا تنسوا التعليق والتصويت 💕
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top