١٠-خاتمة دون نهاية.
رملَ يحثُ المسيرة متخطيًا الحافة الفاصلة بين أرضِ القطار المهتزة والأخرى الخاصة بالمحطة. الأجواء رحيمة كنوعٍ من الترحيب عكس الذكرى الأخيرة لهُ عنها هنا, والمكان مكتظٌ بكمٍ هائل من الوجوه, عددٍ لم يقترن مع نظره منذُ مدة ليست بهينة.
ثوانٍ من تقليب عينيه يمنة ويسرى حتى تراءى لهُ جسدُ مقتضب البنية, وجهُ تلونَ برقة بعبق الزمن, وأعينٌ بأجفانٍ متهدلة تأسرُ أعينٌا دافئة, دافئة إلى حدٍ هدَجَ خوالجه ورفعَ في صدرِه نحيبًا مكبوتًا من الشوق.
"افتقدتُك صغيري."
همست والدتُه في عنقه عندما احتضنها على عجل. بطيشٍ دثرَ حقيبته على الأرض ورمى ذراعيهِ على كتفيها ثم ظهرها قاطعًا النور عن عينيه. حتى هي توسعت أنظارها من فعلِه الذي خالف طبعَهُ المتحفظ.
قادتهُ إلى سيارتها التي تركت خارج المحطة. وقد كانت لا تزالُ غير نظيفة وبذاتِ الخدش على الباب الأيمن الذي لم تصلحه بعد. دون تفكير وضع بدنهُ في المقاعد الخلفية بعد تثبيتِ حقيبته في الخلف. لم تناقش والدته أو حتى تذكر الأمر عندما أدارت المفاتيح مشغلةً المحرك. فكما كانت رحلةُ الذهاب قبلًا في المقاعد الخلفية, تفهمت رحلة العودة كذلك.
رانَ طيفُ الصمتِ للفترة البادئة من الرحلة, أخذ يعبثُ بأصابعِه عندما باغتها الفراغُ من حمل أي شيءٍ, وأعيُنُه تلاحقُ الأشجار المتسابقة مع السيارة بصبيانية خارجًا.
شغلت والدتهُ راديو السيارة عندما توقفت حركتهما عند إشارة مرور, راغَ إليه بوضوحٍ يشتد نغمٌ ما كلما رفعت والدتُه الصوت حتى ناسبها علوه. خمسُ ثوانٍ ربما هي كلُ ما أخذه الأمر ليألفه وتعصِفَ بهِ ذكراه.
"ذكريات الماضي, فريدريك شوبان."
تمتم و بالكادِ هناكَ أيُ صوتٍ يسنِدُ أحرفه, ولكن وبطريقة ما أمسكت والدتُه خيط الحديث الرقيق.
"تعرِفُها؟"
تساءَلت تحدق ناحه عبر المرآة فوق رأسِها.
"لا بد بأن هذه القناة معطلة فهذا كلُ ما يصدعُ منها طول اليوم. أتعلمُ أنني وضعتُ المسجل على هذه القناة أولَ مرة عندما أقللتُك إلى محطة القطارات؟ وهم لم يتوقفوا عن تشغيلها منذُ ذاك الحين."
كانّ دوره ليعلق انتباهه بها عبر المرآة, كانت هي قد أعادت نظرها إلى الطريق. لا يذكرُ بتاتًا سماعَ أي شيءٍ في دربِ البداية لرحلته عندما كان في هذه السيارة الضيقة.
"كنتُ أكسلَ من تغيير القناة منذُ ذاك الحين صدقًا."
استضحكت بخوت وهي تدورُ المقبض.
لم يردف بالمزيد رغم ما خالجه من استنكار, سحب تركيزه إلى السيارة. يبدو أن لا أحد احتلَ المقاعد الخلفية منذُ يوم أقلته إذ أن حتى الكتاب الذي ترك هناك لم يتحرك حتى ولا يزالُ مقلوبًا على وجهه.
ضيق عينيه على عمودِ الكتاب لتذكر محتوياته. كان مجموعة قصصية عن أمور متعددة, اتسمت جميعها بأحداثٍ نُسجت بميلودراما عالية وبؤسٍ لا يقاسُ بقلب. فراقٌ مرّ, قتلٌ بشع, انتحارٌ مروع, حياة محكومة بقرارات آخرين بسلطات عليا, والكثير من الأمور الكئيبة الأخرى مما ردعَ عنهُ نية أخذ الكتاب معه لإكمالهِ, فنبذه على مقعدِ السيارة دون أن يشفع لهُ حتى أسلوبُ الكتابة الرفيع.
آخرُ ما كان يريده في رحلتِه للترويه عن نفسه هو المزيدُ من الأسى.
"أنا متشوقة للسماع عن رحلتك!"
أنبرت كرةً اخرى ولا تزالُ جهودُ الابتسامة السابقة تدنو من شفتيها. وبعضُ التساؤل المشكوك منثورٌ هنا وهناك.
"أعني لقد بحثت عن تلك المدينة التي زرت, أركاديا؟ إن نطقتُها على أكمل وجه. حسنًا لم يلاقني واقعًا أي شيء مفهوم أو منطقي على الإطلاق, فأنا في أعالي الحماس لسماع كلِ التفاصيل منك!"
أخّذ يحنو براسه بطفافة رغم غرابة ما ذكرت, ولم يعبه إن ركزت على رده أم لا.
ثم الصمت, أخذ يتخثرُ كالسُّم في الزوايا,. يرجو لو أنه بوسعه وصفه بالمريح, لكنهُ يعلم من الطريقة التي تهرولُ بها عينا والدته كل بضعِ ثوانٍ إليه ثم تفزع هاربة, دليل على أنها تلجمُ مؤقتًا حديثًا ما, على الغالبِ لن ينال رضاه.
"إذًا عزيزي, أنا.."
ضربت أول خطوة لمرادها, رفعت عينيها مجددًا إلى المرآة المعلقة لبضع ثوانٍ, ومن الطريقة التي زمت بها شفتيها النحيلة, كان قادرًا للأسف على توقعِ ما تريد.
"لقد تحدثتُ مع والدك مرتين أو كذا عندما كنتَ بعيدًا."
كسرَ جسر نظراته ناحها عبر المرآة بسرعة عندما أكملت نسيج كلماتها, مما جعله يسمع تنهدها بوضوح.
"وهو يفتقدُك عزيزي."
كانت انسيابية نبرتها الآن أكثر لزاجة, وكأن كلماتها تعلقُ بعقله رغمًا عنه.
"ويرغبُ حقًا بمقابلتك."
"لا أرغبُ في الحديثِ عن هذا , وتعرفين ردي مسبقًا."
بالكادِ كان عناك أي مشاعر في حديثه وإن كانت أول مرة يتحدث بها بوضوح منذ ركوبه السيارة.
"لكن لا يمكنك تجاهلهُ طول حياتك صغيري!"
شدت قبضتيها حول المقود الداكن.
"اسمعني, ما حدث بيني وبين والدك قطع شوطًا يفوقُ الإصلاح, لكن الأمر مختلف بينكما. هو لا يزالُ والدك."
حدجها طويلًا بينما تركيزُها على الطريق, تقابلت عيناهما لمرةٍ يتيمة, ويبدو أنها استبصرت حجته التالية المعششة في ظلمات عقله .
"حتى أخوك لا علاقة لهُ بما بينك وبين والدك جونغكوك."
رأى عتاد الحزنِ القائم في عينيها لذكر سيرة أخيه مرةً ثانية.
"أمي توقفي أرجوك, لا أريدُ الحديث في هذا الآن."
رمى بذلك فوق الضيق المحتشد بصدره وأعاد عينيه خارج النافذة.
هو لا يستطيعُ التصديق أن والده قد عاد مؤخرًا إلى محاولة إرغامه على مقابلته ومجالسته, وكأن كلَ ما كان قبلًا قد اندثر كهشيمٍ خلفهُ الزمن. لم يكُن كذلك بتاتًا, لكنهُ حولَ جميعَ تفاصيلِ حياته ومراهقته إلى رملٍ تلقفه الريح.
هو حتى في حالٍ غير قادرٍ على تفهُم فيه إن كان السماحُ خيارًا يطالُ أم لا, السماحُ على ماذا بالضبط؟ على صرحٍ انقضَّ قبل أن يُقام حتى؟
وكيف ليسَ لأخيه علاقةٌ إن كانت كلُ طُرقِ الألمِ تقودُ إليه وبداية منه؟ لو لم يفعل والده ما فعل مع أخيه لربما اختلفَ كلُ شيءٍ.
هو حتى وإن كان يتمثلُ النسيان, قادرٌ على تذكُر تفاصيلٍ زاعقة لتلك الليلة, حيثُ تواجهت الرغبات, الخيبات, ولم تشفع أي قطرة دمِ قرابة.
والدُه شخصٌ قاسٍ عندما يتعلق الأمر بما يظنهُ الصواب, يتصرف دومًا وكأن نصائحه نبراسٌ من اتبعه لا يضِل. وقد كان يتوقعُ الكثير, لربما الكثيرَ لحدٍ مجحف منه وخصوصًا من أخيه الأكبر.
لذا عندما صارحه أخوه الذي لم يكُن يملكُ ألطف أسلوبٍ في الحياة, أنهُ لا ينوي ملاحقة حلم والده بأن يلتحق بجامعة مرموقة في سنته الثانوية الأخيرة, بل يرغبُ بالتفرغ لفرقةٍ صغيرة صنعها هو وبعض أصدقائه الصعاليك ذوي قصات شعرٍ غريبة, كان هذا كفيلًا جدًا لشبٍ نارٍ عاتية, كانت كشرارةٍ أحرقت أجسادهم التي تقطرُ زيتًا خلفه كلُ توتر الفترة السابقة.
لقد كان والدُه بالطبع غير متقَبلٍ, صرامته الجدباء وإيمانهُ التام بصوابِ كُلِ ما يفارق شفتيه, كانت متصادمة بشدة مع طيش أخيه الفذ وتطلُعاته العابقة بالخيال.
كانَ يحبُ أخاه بشدة ويهوى قضاء أي وقتٍ سانح معه رغم فارق الستة اعوامٍ بينهما. لذا كان مما عاثَ حزننًا في قلبه رؤيته لانزواء أخيه على نفسه لفترة طويلة عندما عاقبه والدُه بحرمانه الكثير من الأشياء عندما لم يعدل عن قراره وأفكاره.
ومن هناك بدأ كلُ شيءٍ متسم بالكلال السير نحو حتفه.
علاقةُ والديه أصبحت حتى أشد اضطرابًا, وكأن حتى الخيط الوحيد والذي هو وجوده هو وأخيه في الحياة و الذي يمسك طرفيها , بدأ يتمزق رويدًا حتى أصبحت خلافاتُهما لا تنتهي. ولم يعُد المنزِلُ وجهة والده لمعظم أوقات اليوم.
أضحت الوحدة تقضُّ مضجعه في أوقاتٍ عديدة, حتى داخل الجدرانِ التي ترعرع فيها. فلا أحد يبدو على اتصالٍ بنقطة تحويهم جميعًا.
كان يستمِرُ بملاحقة أخيه, يحاولُ إرواء أوارَ شوقه, حتى آل الأمرُ به ليكون إزعاجًا عارمًا يحاولُ ثني العتمة في حياة الأكبر.
في مساءٍ ما, تسلل إلى غرفة أخيه الذي عاد من الخارج وضرب كلًا من باب المنزل وباب غرفته بقوة رجت كيان البيت. لقد كان لديهُ قرارٌ صارم بمحاولة الحديث معه ولو عنى هذا تبادلَ جملةٍ واحدة كأقلِ حق.
لحظة وضع سطح يده على البابِ ودفع, تقاطعت مع أنفه رائحة نابية و كريهة. مزيج من الحزن ورائحة أثاث وملابس لم تقابل الشمس منذ أيام طويلة وعبق أنفاس شخص كان سكيرًا أو لا يزال.
كان المكانُ مظلمًا, وفي جوفِ غبشة العمى تلك استطاع رؤية جثة أخيه مرمية على السرير في فوضى وسائده وألحفته بأعينٍ مغلقة كما حزرَ لعدم انعكاسِ ضوء القمر المبتور خارجًا عليها.
"أخرج من هنا."
عرقله صوتُ الراقد قبل أن يكمل اقترابه. تشنجت أطرافه وكأن الموت المركون في الأطراف يزحفُ ناحه.
"أرجوك فقط استمع إلي."
عارض بخفوت صوته كلًا من طلب أخيه والفزع المتسلق في حلقه ذعرًا. لقد كان قلبه يعتصر اضلاعه في شجن رؤية المشهد أمامه.
"أحمل نفسك خارج المكان جونغكوك لا رغبة لي في تكرير كلامي."
الأطراف المستدقة بالحنق لصوت أخيه باءت بالفعل الآن تؤذيه.
"أرجوك فقط أنظر ناحي! أنا أفتقدك وأشعرُ بالأسى يفتكُ بوجودي في كل مرة تخنقني الساعات الغير عابقة بحضورك."
لم تحدث كلماته قدر أنملة من التغيير في هالة أخيه الخافتة, بل اكتفى الأكبر بسحب ذراعٍ ليرمي فوق عينيه.
"ألا يمكنك فقط التوقف والعدول عن طيشك؟ كل شيءٍ باء بالفعل مروعًا ولم يعد المنزلُ يطاق. أرجوك غير أسلوبك في التعاطي مع الأمور, أنت ترمي بكلِ وجودٍ لنا عرض الحائط."
أردف وقد تربعت رجفةٌ على شفتيه. هو يعلمُ أن كلماته آلت إلى القسوة, لكن نبراسَ أملٍ عتيقٍ فيه همس أن هذا قد يحدث أمرًا في الجثة أمامه.
"اللعنة! فالتغرب عن وجهي جونغكوك وتوقف عن التفوه بالهراء!"
دون إنذار انقلبت نبرة أخيه من واحدة مقفرة بالفراغ إلى أخرى لاذعة بالغضب.
"لن أتحرك من هنا."
زمَّ العزم على أطرافه.
"ستستمع إلي, وستغيَّرُ مما يحدثُ هنا."
"وما أدراك أنتَ بما يحدث واللعنة؟ ما الأرق الذي يسببه هذا في عقلك أيها الطفلُ المدلل؟"
باغته بدفقة من الصراخ حالما استقامَ من مضجعِ الموت السابق لينتحيه, وقبلَ أن يدرِكَ الأمر كان يشعرُ بتقاسيمِ ظهره متصلبة عرض الحائطِ الذي دفعه الأكبر عليه.
"أعلمُ أنك أناني حقير لا يفكر سوى بنفسه ولا يستطيعُ التعامُل مع أي معرقلٍ سوى بالصراخ و التصرف بجنون دون..."
لكن كلماته بُترت بعُنف إرفاقًا لما حدث تاليًا. لقد كن ذلك بمثابةِ كابوس لا طالما سينخرُ في كينونة ذاكرته.
لأن ما حدث انسحق سريعًا على وعيه, ولم يدركه إلا بعد لحظات عندما اكتملَ انطباقُ أنامل أخيه الطويلة فوق الفقرات المنصَّفة لعنقه, وشعرَ باحتكاك اللحم والعظام ريثما نفحَت على وجهِه أنفاسُ أخيه المقطرة بخمورٍ رخيصة.
"أنتُ لا تفهمُ ما تثرثرُ به! واللعنة لست سوى لعينٍ صغير يكررُ ما يقولون! لا تفقهُ شيئًا!"
كان الصريرُ الذي تنتجهُ أسنانه يوحي بأنها تكادُ تتحطم, الزخم في قبضته يزدادُ مع كُل كلمة, وعيناهُ تشتدُ ظلامًا وكأن شيطانًا رجيمًا هو الذ كان ينطُق بدلًا من أخيه الأكبر.
"أ-أنا آس-سف, تو-وقف أرجوك-ك!"
سلخت الحروفُ دربًا للخارج مع نزير الأنفاس التي بالكاد تنفذُ من فاهه. كان الوجيبُ في صدره احتلُ كُل كيانه لتوقف مسيرة الهواء الصحيحة إلى رئتيه, وقد كانت أقدامُه ترتجف كبيتٍ دون عمادٍ يرفعُه. لم يخالجهُ فزعٌ طول سنين عمره كذاك الذي نالَ منهُ تلك الليلة, ولم يظّنَ يومًا أنه سيخافُ ممن كان في ما مضى رؤيا لما ستمثلهُ الحياة في ناظره الفتَيّ.
لقد كانت تِلك بمثابة أكثر لحظة محملة بالكدر طوال سنوات حياته الثلاثة عشر كما كانت في تلك الليلة.
لا يعرِفُ إن كانت الدموع المتفصدة على أطراف عينيه عندما كان بالكاد قادرًا على التنفس, أم حركة أطرافه الغير إرادية بينما يُحدثُ ما يشبهُ النشيج هي التي ايقظت أخاه. لكن بعد ما بدا الدهر عندما اتسعت حدقتاه انتفض بعيدًا تاركًا الأصغر ليسقط أرضًا, أخذ يشدُ مقدمة شعره.
في خضّم السعال الحاد الذي جرفه بعد أن انحشرَ كمٌ هائل ومفاجئ من الهواء داخل رئتيه الصغيرة, جاهد الوقوف على قدميه والهرع خارج الغرفة بتفكيرٍ لم يقدهُ سوى الفزع. لم يستطع الالتفات حتى. أو النبسَ بحرفٍ بعدها لأي أحد.
لقد أصبَح كلُ شيءٍ صامتًا لما تلى تلك الحادثة, حتى هو فقد رغبته بالمحاولة, أو القدرة على التفكير برؤية وجه أخيه ثانية. ليس كرهًا, بل خوفًا خالصًا.
حتى حدث ما زرع الصدمة فيهم جميعًأ, وكان كمثابة انقطاع جميعِ الخيوط الرفيعة التي حاولوا باستخدامها جمعِ أعمدة الواقع الهزيلة, محاولة أخيه الانتحار.
هو لم يرى اللوحة الحزينة, ولكن في ليلة ما وبعد سماعهم لضجيج مؤرق من الطابق العلوي وهرع والدته لأعلى برفقة والده الذي كان توًا قد عاد من أحد الأماكنِ المعقوفة بالظلام الخاصة به, سمع أصوات نداء هادئة قبلًا, ثم دون مقدمات خلع قفل باب أخيه على ما يبدو عندما لم يفتح, ثم صراخ والدته الذي أذاب نياط قلبه, وكلُ بنيانٍ بعدها أصبح لا يُسكن.
على ما يبدو أن محاولة أخيه في شنقِ نفسه لم تتوافق مع الحبلِ الذي كانَ أرقَّ من أن يحملَ وزن شابٍ كامل, ولكن حتى مع فشله كانت هناك علاماتٌ قرمزية مروعة حول عنقه كما رآها في أثناء صدمته بعد قدوم الإسعاف لأخذ الأكبر لمعاينة حالته الصحية.
الكثيرُ تغيرَ كوجودٍ في عينيه, ولم يفطر قلبه أمرٌ قبلًا كما فعلَ نحيبُ والدته الملتهب في تلك الليلة على فلذة كبدها الذي كان على بُعد لحظاتٍ وقليلٍ من القدر غير السائر برضاه من سلب حياته بيديه. لقد كره والده كما لم يفعل قبلًا, وفي ذات الوقت كره ذاته أيضًا مستعيدًا شعور بنانِ أخيه المحكمة حول عنقه.
إن كانَ ما يعيشونه مؤخرًا من كدرٍ وبؤس حدود نهاية عهدٍ ما, فإن إقبال أخيه على قتل نفسه قد كان بداية لنهايةٍ أخرى, نهاية مغايرة وجديدة تمامًا, لأمورٍ لا تحصى.
وصلَ الأمرُ بالطلاق إلى والديه, ولم يطُل الوقتُ كثيرًا قبل أخبار اقتران والده بامرأة أخرى. أصبح أخوه يتلقى رعاية نفسية مشددة و تم الاقتراح عليه الابتعاد عن المنزل كي يتمكن من تناسي مريج الذكريات في المكان.
وبطريقة أو بأخرى, شراذمُ الأحداث تلك قادت الدنيا حتى لم تعُد الحياة إلا متمحورة حوله هو و والدته.
حتى هو تغير بعدها, لم يعُد يستطيعُ التعامل مع أي مشاعرٍ شديدة التعقيد بشكل مباشر. كان يكتفي بتخزينها في مكانٍ ما متسم بالرطوبة. لأن لا شيء باتَ مجرد شعورٍ صادق ووحيد. حتى تلك أصبحت معقدة ولها أوجهٌ عدة يتطلبُ كُل واحدٍ منها وقتًا للفهم والتعرف عليه.
وكان يرفضُ تلقي المساعدة التي كانت تنصحُ بها والدته عند مستشارين. هو لم يعاني من أي مشكلة كما يؤمن, هو فقط لا يريدُ التعامُل مع مشاكل أخرى.
عيشُ مراهقته بعد تلك التغييرات المأساوية في حياته كان صعبًا, علاقته مع أخيه لم تعُد يومًا كما كانت, والدُه لم يكُن في الجوار في كُل الأوقات ذات الأهمية. وقبل أن يُدرك ذلك, لم يعُد يهمه في الواقع أيُ شخصٍ بصدق سوى والدته.
كانت تلك هي الحياة بعدها, رتيبة ذات نُسقٍ واحد, يسيرُ حاملًا الجزء الغارق في الديجور منه والذي لم يقوى يومًا على مواجهته.
رحلتُه هذه لم تكُن إلا ترويهًا عن نفسه ورغبة في البحث عن أمرٍ ما, لربما نوعًا من الانفتاح على مشاعره. لكنهُ عاد مرتبكًا أكثر مما كان قبلًا.
"عزيزي ألا يمكنُك فقط المحاولة؟ ألا تفتقدُه؟"
كانت يدا والدته تنقبض وترتخي كل ثانيتين على المقود.
ألا يفتقدُه؟ حتى وإن أنكر بجفاء, وجزم بعنف. إلا أن عليه القول بطريقة ما و بلحن أفكارٍ يكاد لا يُسمع, أن هناك جزءًا منهُ, لا طالما انتابه الحنين لوالده في سنوات نشأته ومراهقته.
هو لم يكُن يكرهه قبلًا, وأحبه واقعًا لدوره الحاضر في بداية طفولته. لقد كان شخصًا جيدًا حتى وقت ما, وكان يستشعرُ الأبوة فيه. لكن يبدو أن الحياة التي كانوا يزاولونها عليها مقابلة الخاتمة والتغُير بطريقة ما. والجميعُ يتصرف بطرقٍ أنانية عندما يتعلق الأمرُ بالمجهول.
والدُه عاد لكونه يهتم الآن. هو غيرُ قادرٍ على قياس ذاك الاهتمام أو التكهن بمصداقيته, لكنه انتقاه مؤخرًا عندما عاد يحاولُ الاتصال به ومقابلته. لكن بالنسبة له هو الذي وبعد سنينٍ من البعد عن غبطة ذاك الشعور, لم يعد يستطيعُ القبول.
لطالما انتابه نوعٌ من النقص لتفرق أشلاء عائلته الصغيرة في الأرجاء, لكنهُ تعايش مع الأمر. وإن كان قد جرح ذاته مرارًا بتلك الرؤوس الحادة دون وعي, حتى تهدجت إصاباتُه وفقد الشعور فيها.
"عزيزي..."
زفرت والدته قبل أن تتحرك في مقعدها لافةً المقود. تهدلَ صوتها وبدا وكأن شرارة العطش التصقت بحلقها.
"أحيانًا أكثرُ من نحب, هم الأكثرُ مقدرة على تسبيب الضرر لنا."
داعب وجهه قدرٌ لا يقدر من الشجن, واستشعر الدموع العالقة في مؤخرة رأسه رافضةً المضيّ حفاظًا على صرامة موقفه.
"ولكن لا يعني هذا بالضرورة أنهم يكرهوننا."
بدت والدته هي الأخرى في أرقٍ خاصٍ بها.
"بل على العكس ربما."
لم يعُد يستطيعُ جمع الأطراف المتدلية لأفكاره وما يشعرُ به. كلُ شيءٍ يبدو محاطًا بمَجنٍ من الغيّ. تدافعت في عقله أفكارٌ عشوائية بعدها, مقتطفات من رحلته الحلو منها وشديد المرورة, المقطوعة الموسيقية لشوبان, الطرق الضيقة الفارغة للمدينة, ذكريات مشرقة وأخرى معتمة عن أبيه, الأبنية غير المستوية والفوضوية في أركاديا, أخوه المبتسم أثناء استماعه لموسيقى صاخبة في غرفته, متجر فتى الأنغام البائس ذو الطلاء البخس, أيام عامرة بالوحدة عندما كان في الإعدادية، البحر الداكن والعميق الذي ابتلعه هو وجيمين, الرسائل التي تهجو الكثير, والكهل الذي بعث فيه نوعًا من الغرابة والطمأنينة بطريقة ما.
الكثير والكثير لحدٍ بعث صداعًا فالجًا في رأسه. وضع يديه على صدغه مدلكًا, وأغلق عينيه لوهلة.
إنه فتىً يافع تائه بطبعٍ أبديّ, تائه كما لم يكُن قبلًا.
-تمت-
________________________________
توضيحات:
القصة من أغرب الأشياء التي كتبت دون منازع, والكثير فيها يبدو مبهمًا وغير مفهوم إلى الآن, لكنني سأوضح مبتغاها من وجهة نظري.
جونغكوك في التاسعة عشر من عمره, يافع بين المراهقة والرشود, كما وضحت هادئ قليل الكلام وكثير الكتمان. كما رأينا لديه ماضي مظلم وأقرب لكونه وحيد فقد فيه وجود والده في فترة نموه ومواجهته للعالم.
الأشخاص الذين قابلهم في رحلته انعكاس لشخصيته والجوانب منه التي لم يقدر يومًا على مواجهتها.
تايهيونغ يمثل الجانب المتمرد منه, الجانب الذي رفض الرضوخ للحياة التي يزاولها وكان يملكُ كيانًا عارمًا بالكره ناح أبيه. يريدُ الهرب دون التفات ومعبأ بمقت اتجاه حياته بتفاصيلها ظنًا منه أنها هي السبب في تعاسته.
جيمين هو الجانب الطفولي الذي بالفعل يفتقدُ والده. الجانب الذي عاش تيهًا قاسيًا لفقدان أبيه وانتظره لفترةٍ طويلة. هذا سبب كون جونغكوك شعرَ بضعف حاد ووجع مصحوب باهتمام شديد ناح جيمين. كونه يمثل روحه المزوقة بالفقدان.
يونغي يمثل جانب المشاعر المضطربة ناح أخيه والذي لم يقوى يومًا على إعادة النظر فيه.
وختامًا الكهل الذي تقاطعت سبله معه في نهاية الرحلة. يمثل الجانب الذي وأخيرًا لامس الرشود والوعي في شخصية جونغكوك. الجانب الذي أدركَ جميع ما يحدث وقاده برزانة نحو فهمٍ من نوعٍ ما.
سبب ذكر البحر بشكل كبير لأنه لا طالما كان بالنسبة لي وللكثيرين رمزًا للضياع. اللُجّة المظلمة من المشاعر المتكدسة التي لا يسع أحد سوى الغرق فيها من حينٍ لآخر.
والرسائل هي تضارب الجانبين الأساسيين فيه, تايهيونغ وجيمين, الجانب الساخط و والآخرالمكسور.
اسم أركاديا كترجمة يعني المكان الجميل المتناغم مع الطبيعة أو الملجأ الهادئ. واختيار الاسم كان سخرية منذ البداية. تم اختياره لمكان سيواجه فيه البطل جحيمًا من اللا منطق.
باختصار, كل هؤلاء الأشخاص لم يكونوا سوى صنع كفتيّ عقل جونغكوك. جميعهم تمثيل أفكاره التي كبتها لوقت طويل وكان أكثر ضعفًا من الحديث عنها أو مقابلتها.
أركاديا هي صنيع عقل جونغكوك. حاولت توضيح ذلك. حاولت جعل الوصف خانق للمكان ليبدو صغير وملتف وكأنه يسير في دوامات لكل يوم. الأبنية غير المتزنة والتي لا ترتبط ببعضها تجسيدًا لعقله, وبعض التفاصيل في هذا الفصل, كون والدته لم تجد أي معلومات عن المكان الذي اتجه إليه, كون لا أحد غادر القطار سواه في يوم وصوله إلى المدينة كما ذُكِر سابقًا, وكتاب القصص الذي كان يقرأه قبل الذهاب في رحلته.
كل ذلك صنع التجسيد الدرامي لخوالجه والذي واجهه.
لكن!
هذه وجهة نظري أنا لا غير.
هناك ثغرات في القصة وأسئلة دون إجابات مرافقة. كيف عرف اسم المقطوعة والتي أعطاه إياها يونغي وبالأصل سمعها في سيارة والدته إن كانت أول مرة يسمعها فيها؟ الذكريات في بداية الفصل الرابع تعود لمن؟ أين كان كل ذاك الوقت إذُا إن كانت الأحداث صنع عقله؟ وكيف استمرَ واجدًا قوت يومه؟
أسئلة هنا وهناك, تركتها مجوفة كمكانٍ سانح لصحوة خيالكم واستنتاجاتكم الخاصة.
قد لا توافقونني الرأي بتاتًا في تفسيري, قد تختلفون, والقصة ليست بنسق واضح لهذا السبب, ليفسرها كلٌ حسب إرادته.
رأي عام:
القصة أخذت وقتًا طويلًا في الكتابة, لكثيرٍ من الأسباب. من كوني مررت ببعض المواقف والظروف, إلى كوني خائفة من إنهائها وإفساد كل شيء.
لا يمكنني أبدًا القول أنني راضية عنها من صعيد شخصي, لكنني أنهيتها رغم تثاقلي وهذا يكفيني.
هذه أول مرة بصدق أجرب فيها الكتابة السريالية, ما فوق الواقع. أمور قد لا تتصل بمنطق مباشر ومحتضنة لمساحات شاسعة من التساؤلات. استخدم عادة أسلوبًا مقاربًا لكنها أول مرة فيها أصل إلى هذا الحد. لربما هذا تأثير كتب موراكامي من يدري؟
أتمنى ألا أخيب ظني إلى هذا الحد مستقبلًا.
وكختام, شكرًا لكم.
شكرًا لكل من اقتطع وقتًا لقراءتها أو حتى النظر إليها, هذا بالفعل يعني لي كل شيء. هذا بصدق جميعُ ما ابتغي من وجودي هنا.
أتمنى أنها أسعدتكم, ربما لامستكم, أو حتى أعجبتكم من ناحية السرد والكتابة. لربما هذه أمنية مبالغ بها, لكن أي تأثيرٍ صنعت فيكم يعني لي العالم وما فيه.
أرجو السماح على الأخطاء, النحوية والإملائية وغيرها من عدم اتساق أفكار وما إلى ذلك. لازلت المبتدئة التي لا طالما كنتُ.
دمتم بخير.
-ألستروميريا
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top