۲
«بحسب تقرير الطب الشرعي وقعت الوفاة حوالي السّاعة الثانية عشرة من مساء ليلة أمس، أثر نزيف حادّ ناتج عن طعن بأداة حادّة في أماكن متفرّقة من الرّقبة، تركّزت الضربات بشكل كثيف في الجهة الأماميّة من الحَنجرة»
لم يكد الشّرطي الشّاب أن ينهي ثرثرته حتى تناولت زميلته زمام الحديث عنه «ستة ثقوب من أصل عشرة وُجدت في هذه المنطقة، وهو أمر مطابق تماماً لحالتَيّ القتل السّابقتَين. تشترك الضّحايا جميعها بالثّقوب العشرة في المواقع نفسها. ستة ثقوب منفصلة تخترق الحنجرة عموديّاً، ثقبان ملتصقان يخترقان البصلة السّيسائيّة، ثقب تحت الأذن اليسرى، وثقب في الحبل الشّوكي»
«اء في الحقيقة؛ هناك عامل مشترك ثاني» قالت الشّرطية الشّابة تحاول مع زميلها أن يواكبا الخطوات السّريعة للمحقّق الذي يبدو عليه الملل.
ولكنّ مَن عرف وو رين فعلاً سيعلم أنّ أمارات الملل لطالما رافقته حتى في المواقف الحماسيّة الشّديدة.
إن كان عكس المصطلح المجازيّ 'كتاب مفتوح'، هو 'كتاب مغلق' فإن شخصيّة وو رين عبارة عن كتاب مختوم بالشّمع الأحمر.
سار الثّلاثة في مسرح الجريمة. يتنقلون بخفة وبسرعة، باحثين عن أي دليل محتمل، متجنّبين بمهارة أيّ تخريب للموقع قد يعيق التّحقيقات.
نظر المُحقق من خلال النافذة إلى حشد الصّحفيين في الأسفل، ينتظرون بصبر حصولهم على أيّة معلومة مهما كانت، معظمهم لا يهتمون بمصدر هذه المعلومة حتى..
لطالما حيّر الصّحفيون من النوع الأخير المحقق وو رين، وأوصلوه إلى حدوده دون تكبّد عناء حقيقي، سؤال واحد مبني على إشاعة سخيفة كان كفيلاً بإغضابه.
«مييَنغ. اصمتي قليلاً» تحدّث الرجل الذي يحمل شارة محقق مدينة 'نانجينغ›
عندما حلّ الصّمت على الغرفة سار وو رين بتجهّم باتجاه الباب الموارب، هناك حيث يقف رجل في مقتبل العمر نحيل وقصير نسبياً، ملابسه تشير إلى أنّه عامل نظافة تابع لفندق 'أنيما' ولكنّ آلة التّسجيل الرّقمية صغيرة الحجم التي يحملها بيمينه كانت كفيلة بفضح وظيفته للرجل الغاضب أمامه.
اختطف وو رين آلة التّسجيل، رماها أرضاً وهشّمها تحت حذائه الأسود اللاّمع متجاهلاً النّظرات الحانقة التي يصوّبها الإعلامي نحوه، أغلق الباب بهدوء وقفل عائداً إلى مرؤوسَيه المدهوشين.
بجانب طاولة الزّينة الضّخمة انحنى المحقق ليلتقط شيئاً ما، بعد تأمّل لبضع لحظات تبيّن له أنّه وتر منزوع من آلة موسيقيّة، لوى شفتيه ومرّره إلى الشرطي الواقف بجانبه، والذي تكفّل بمهمة تغليف القطعة الصغيرة في كيس بلاستيكي شفاف، واحتفظ به مع الأدلة الأخرى في صندوق أحمر قابل للإغلاق بإحكام.
«أخبريني مييَنغ. ما هو العامل المشترك الثّاني؟» تسائل وو رين بينما يتفقّد الجدران الزّرقاء للمرّة العاشرة ربّما.
تقدّمت الشّرطية الشّابة إليه بعد أن كانت مشغولة بالتعامل مع أشرطة الإغلاق المختومة بعلامة مركز نانجينغ والتي استُخدمت لحماية موقع الجريمة من الأيادي العابثة. ولكنّها تركت المَهمّة لزميلها حالياً وأدلت بآخر المستجدّات الواصلة منذ قليل من المركز: «كما توقّعنا. دخل الثلاثة إلى مركز نانجينغ للتحقيق الجنائي كمُتّهمين في قضايا مختلفة. آخرها كانت قبل نحو عامين ونصف. ولكنّهم جميعاً خرجوا نتيجة شُحّ الأدلّة. غير ذلك لا يربطهم أي شيء»
ضرب المحقق الجدار بجانبه بقوّة أجفلت الشرطيين. «هذه المعلومات غير مفيدة. حاولوا مجدداً»
قال الشّرطيان سوياً برسمية وتوتر: «عُلِم سيّدي»
ولكن المحقق تجاهلهما تماماً. وقف أمام النافذة وأخرج هاتفه من جيب سترته الدّاخلية ليجري اتصالاً.
عندما حصل على إجابة قطع وو رين الصّمت الثّقيل: «شرطي لينغ. أريد أسماء المحققين الذين تولّوا القضايا الثلاثة، مع وصف مختصر عنها. لديكَ وقت حتى وصولنا للمركز»
أعاد هاتفه إلى جيبه. والتفت إلى الشرطي الشاب يتحدث وقد استرجع هدوئه المعتاد: «هل انتهيتَ من التّقرير الخاصّ بأقوال الشّهود؟»
«بلى سيّدي. هاك التّقرير المطلوب.» في نهاية كلامه ناوله ملف متوسّط الثّخانة بغلاف أحمر باهت كان يحمله بيسراه طوال الوقت
أخذ المحقق الملفّ من شرطيّه المُساعد. وانتظر الاثنين بصبر إلى أن انتهيا من كلّ ما يودّان فعله، لينطلقوا في طريق العودة عازمين على حلّ القضيّة هذه المرّة.
بعناء تخطّوا الصّحفيين المتجمهرين عند كلّ مخارج الفندق. ووصلوا أخيراً إلى السّيارة التابعة للمركز والمركونة في الموقف الاحتياطي تحت المبنى.
اتخذ كلّ منهم مكانه في السّيارة.
مييَنغ تولّت مهمة القيادة لهذه الرّحلة القصيرة، كعادتها ركّزت الشابة كل تفكيرها فيما تفعله متجاهلة أي أفكار قد تغوي دماغها المُحلّل الفَتي، بجانبها جلس المُحقّق وو رين الذي استغلّ الوقت الحالي في الاطّلاع على الملفّ بين يديه، في المقعد الخلفي جلس الشرطي الشاب وانغ مشغولاً بهاتفه الخلويّ وبتأمّل الطّريق بين الحين والآخر.
تمازجت تيارات الهواء الاصطناعيّة الباردة المتسابقة في جوّ السّيارة مع الموجات الصّوتيّة الخارجة من الراديو والمتمثّلة في أنغام صادرة عن آلة العود.
أنّى يكن المحقق وو رين أنت ستسمع نَغَم العود يرافقه.
الجميع يعتقد أنّ مركز تحقيقات نانجينغ مترابط بطريقة ما مع هذه الآلة الموسيقية، في الماضي صاحبت نغماتها المحقق لو هان. أما اليوم؛ وبعد تقاعده فهي حظيت لنفسها برفيق وفي جديد.
ولكنّ قلّة مَن يدركون سرّ قرب وو رين من الآلة، أحبّ الشاب كل ما يحبّه قدوته الكبير لو هان، وبالفعل احتلّت الآلة الوترية العربيّة جزءاً من قلب محقق الأمّة الصّينيّة الأوّل؛ جنباً إلى جنب مع العشيقة السّمراء القهوة.
«مثل المرتين السّابقتين. أكّد الشّهود أنّهم سمعوا معزوفة خافتة الصّوت في وقت حدوث الجريمة. أعتقد أن هذا دليل مهمّ وعلينا استغلاله»
قال المُحقّق وو رين موجّهاً حديثه لا لأحد بالتّحديد، ولكن لمَن قد يودّ التّعبير عن رأيه من بين الاثنين.
قال الشرطي وانغ: «الوتر من موقع الجريمة الأخيرة مقطوع برتابة، وأظنّ أنّه تُرِك عمداً»
«لا أدري لمَ يذكّرني هذا برواية *جريمة عازف*»أدلت مييَنغ بدلوها، فقط لتحصل على نظرات ساخرة من زميلها ومنافسها الشاب.
وهي تجاهلت هذه النّظرات لتتابع: «في الرّواية التي أبدع بها محقق الأمة لو هان، يُغنّي القاتل لضحيته ويعزف لها قبل ارتكاب الجريمة، يعزف لمَن سيقتلهم بعد لحظات قليلة، ويستحيل أن يكمل جريمته دون فقرة العزف.» شرحت مييَنغ رغم أنها لم تُسأَل حقيقةً.
شيء واحد من الممكن له أن يُلهي هذه السّائقة حادّة التّركيز عن قيادتها، الروايات، هي دودة أدب حقيقية.
«حدّثيني أكثر عن طقوس القتل الخاصة بالشّخصيّة. لم يتسنّى لي قراءة الرّواية بعد.» طلب وو رين.
أوقفت الشرطية السّيارة على جانب الطّريق الخالي تقريباً من أيّ مركبة، كاسبةً بذلك انتحابة مستاءة من زميلها في الخلف، ثم التفتت إلى رئيسها تجيبه: «بمساعدة شبكة من الأصدقاء والأعداء، يدبّر العازف مواعيد مع ضحاياه، يتضمّن الموعد عشاء قصير وجولة من العزف، تنتهي الجولة دائماً بهدوء، وبعدها يأتي القتل»
«عودي للقيادة.» أمر المحقق الشرطية التي نفّذت من فورها
وهو بدوره أرجع تركيزه إلى أقوال الشّهود المُتضادة. بعضهم يقول إنه سمع معزوفة آلة وترية. بعضهم سمع ألحان صاردة عن بيانو. قليلون لم يسمعوا شيئاً أبداً..
«وانغ كاي» ما أن توقفت السيارة عن الحركة أمام مبنى المركز، حتى استدار المحقق في جلسته ليقابل الشرطي الغارق في أحد مواقع التواصل الاجتماعي وينتشله من غرقه
«حاضر سيدي» أجاب الشرطي. وبحركة سريعة أقفل هاتفه وخبئه في حقيبة يده الجلديّة منتظراً الأوامر
بينما يترجّل من السيارة طلب وو رين «أريد نسخة من رواية جريمة عازف على مكتبي بحلول _نظر إلى ساعة يده الفضيّة_ السّاعة الثانية مساءً»
«حاضر سيدي» كان وانغ كاي آخر مَن ترجّل من السّيارة. وهو فقط أخذ مكانه أمام المِقوَد متّجهاً إلى أقرب مكتبة.
-
دخل الاثنان إلى المركز المزدحم. وسارا في ممر طويل باتجاه مكتبهما المشترك بينما يُحييان مَن عرفاهم في طريقهما من محققين وعناصر شرطة ومحامين ونوّاب وبعض الإعلاميين ممن لم يغضب عليهم المحقق صعب المراس وو رين.
في المكتب وضعا أشيائهما الشّخصيّة وغادرا ليؤدّيا عملهما.
حملت مييَنغ الدّلائل الغير مهمة بمعظمها وتوجّهت إلى غرفة اجتماع الفريق المساعد في آخر الرّواق.
أما وو رين فقد أخذ طريقه إلى غرفة البحث حيث ينتظره الشرّطي لينغ ببعض المعلومات.
«إلى ماذا توصّلتم؟» قطع المحقّق التّحيات الرّسميّة بسؤاله المختصر
«توصلنا إلى بعض المعلومات الرتيبة. ولكن تبين لنا أن المسؤول عن القضايا الثلاثة هو المحقق المتقاعد لو هان» أجاب شاب مكتنز طويل في زيّ شرطة نانجينغ تشير لوحته الاسمية إلى أنّه المدعو 'لينغ'
هذا استدعى اهتمام وو رين. فالتفت إلى الشرطي المتكلّم ودقّق في الصفحة المعروضة على حاسوبه والتي تُظهر معلومات عن القضية الأولى.
«القضية مغلقة بسبب شحّ الأدلة. أُغلقت في العام ٢٠١٤ بعد ما يقارب عام من فتحها." اختصر وو رين المعلومات بصوت عالٍ ولكن الشّرطيين المتواجدين يدركان أنّه لا يوجّه الكلام لأحد بالتّحديد "امممم. هذه كانت أول قضية يعجز عنها المحقق لو هان»
باستخدام أزرار الأسهم في لوحة المفاتيح قلّب المحقق بالصّفحات وصولاً إلى ملفّ القضية الثانية.
ألقى نظرة سريعة على الكلمات المتراصّة ودقّق في الخاتمة ‹بعد إغلاقها الرسمي، أعيد فتح القضية أربع مرات خلال عامين. أُغلقت نهائياً في تموز ٢٠١٦›
انتقل إلى القضية الثّالثة وقرأ ببعض الارتباك وقد استدلّ إلى شيء «آخر قضية تولّاها المحقق لو هان. عندما عجز عنها أعلن تقاعده. أُغلقت بتاريخ أيلول ٢٠١٩»
تحدّث وو رين: «عجز لو هان عن خمسة قضايا من أصل ست وستين. أريد معلومات وافية عن القضيّتَين المُتبقّيتَين»
«حاضر سيدي.» أجاب الشرطيان معاً، وكان وو رين قد ألقى أمره وغادر دون انتظار ردّ.
-
1300 كلمة
-
رأيكم بالفصل؟
أي أسئلة؟
-
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top