٤

فصل جديد بمناسبة تأهل القصة للجولة الثانية ⭐️

بتمنى تنبهوني عن أي أخطاء من أي نوع ممكن تصادفكم أثناء القراءة ❤️

استمتعوا ❤️

-

صباح أحد ربيعيّ غائم جزئياً، وفي إحدى القرى الجَبليّة الصّغيرة، خيّم الصّمت على المنازل القليلة الموزّع معظمها بطريقة غير منتظمة.

اختلفت البيوت عن بعضها في التّصميم ولكنّها جميعاً اشتركت بالبساطة، مثلها كمثل سكان هذه البلدة، مهما تميّزوا خارجياً، فإنّهم في أعماقهم متشابهون، وكأنّ رباط خفي يؤلّف قلوبهم المُتسامحة اللّينة.

في جهة ما، قريباً من متجر القرية المتواضع والوحيد، اصطفّ منزلان صغيران متجاوران تقابلهما حديقة غنّاء، مَن يناظرهما في وقفتهما هذه، سيتبادر لذهنه، أنهما مغروسان في أعماق الأرض بترابط، تماماً كما أشجار الكرز بهيّة المظهر المُطلّة عليهما.

يبدو جلياً أن الوحشة التي تقتات على القرية حالياً، قد غفلت عن أحد هذين المنزلين، المنزل ذو الباب الحديديّ الأسود.

المظهر الخارجي للبيت الإسمنتيّ المَطلي بالخَمريّ القاني متناغم بشدة مع نظيره الدّاخلي، ليس فقط باللّونَين المشتركين، ولكن أيضاً بما يبعثه الجوّ الهادئ من سكينة يشوبها غموض مخيف، سكينة متناقضة متزعزعة هي، ولكنّها ما تزال تغمر الألباب بالاطمئنان.

الباب الضّخم متماثل الوجهَين الأملسَين يوجّه نحو غرفة المعيشة مباشرة، أحد جدرانها مصنوع من الزّجاج الصّلب، خلف الزجاج المزدوج شٌُيّد ممر حجري عريض يفصل المنزلين المتجاورَين.

بجانب النافذة الوحيدة في الغرفة، جلس لو على كرسي بدون ظهر متوسط الارتفاع بأقدام متحركة ملبّسة باسفنج طري.

أمامه طاولة صغيرة وقصيرة، دائرية الشّكل، ملوّنة بالخمريّ القاني ذاته، عارية من أي غطاء، حُفِرت في سطحها نقوش يدويّة الصّنع شرقية الهويّة.

يعلوها كوب معدنيّ كبير احتوى على قهوة مثلّجة، بجانبه كتاب مفتوح، تجاوز رقم الصّفحة متوسط عدد الصّفحات الإجماليّ.

كان غارقاً في أفكاره الخاصة، مغمض العينين، ساكناً ككل أجزاء محيطه.

بالنّظر إلى ملابسه الرسميّة، يستطيع أي كان التكهّن بأنّه يزامن السّاعة بالدّقيقة والثّانية انتظاراً لموعد مهمّ.

لأوّل مرة لهذا اليوم، تخافتت أصداء تكات السّاعة

وطغى عليها الصّوت المريح الصّادر عن أجراس الكنيسة الوحيدة في القرية.

استجاب لو للإشارة بأن أغلق الكتاب، ودفع الكوب جانباً بعد أن ارتشف منه رشفتين متتاليتَين، ثمّ حلّ تعاقد ساقيه المُغطّاتَين ببنطال قطني واسع أسود اللّون.

استقام بهدوء كمَن يعدّ خطواته بدقّة متّبعاً تعليمات هامّة حُفظت بعناية لمئات السّنوات في انتظار تنفيذها.

بواسطة جهاز التحكم الصّغير ناصع البياض أغلق لو السّتائر الرقيقة، حاجباً بذلك الضّوء والنّظرات الفضوليّة عن اختراق حاجزه الخاصّ وتعكير صفوه.

من خزانة معدنيّة حالكة السّواد مثبّتة على إحدى الجدران التقط لو وتريّته الحبيبة، احتضنها كأم التقت بطفلها أخيراً ولكنّها تكنّ مخاوف عن ابتعاده مجدداً.

حاملاً صديقه الخشبيّ سار المحقق المتقاعد باتجاه الجسر الحجريّ العريض.

وقف شارداً أمام الجدار وأخذ يناظر انعكاسه على الزّجاج المصقول اللامع، بداخل رأسه دارت الكثير من التّساؤلات عمّا يتوجّب عليه فعله بعد قليل، كان مدركاً أنٍ أفكاراً معينة تقاطرت إليه تباعاً منذ لحظات قليلة، ولكنّها تلاشت بالكامل الآن مخلّفةً ورائها مشاهد ضبابيّة زادته تشوّشاً فوق تشوّشه.

عانق العود الخشبي أقرب إلى صدره، أسدل أهدابه الفاتنة، وأفسح المجال لصديقه الأبانوسي أن يلامسه بحنان مرسلاً إليه موجات مهدّئة عبر القماش الخفيف.

في النهاية هو جذب العلبة الاسطوانية الحاوية على سائل مخصص لتنظيف الزّجاج من موقعها بجانب الجدار.

فقط ليعيدها إلى موضعها الأول ولكن بوضعية معاكسة، تسبب فعله بارتفاع اللوح البلّوريّ المقابل له، وبقي اللوح الآخر ثابتاً.

لأيّ عين خارجيّة، سيبدو الجدار ثابتاً دون أي تغييرات تُذكَر.

ببطئ، ارتفع الزّجاج وظهرت خلفه لوحة إلكترونية سوداء، ضغط لو على مكان ما منها باستخدام ريشة العزف، وانتظر قليلاً حتى أُضيئت اللّوحة وتوسّطها أربعة مربعات اختيار، ومجدداً نقر على إحداها بعد أن أمضى بضع لحظات في التفكير ومحاولة الاستذكار.

نتجت عن الحركة ومضات خافتة متتالة، وفي الأرضيّة اللاّمعة بجانب قدميه انسحبت قطعة رخام مساحتها عدّة إنشات مربّعة، تتسع لشخص بالغ غير نحيل بالضّرورة.

أسفرت الرّخامة عن مصعد كهربائي حجمه ملأ المكان بأكمله.

استقلّ لو المصعد حاملاً عوده الخشبي.

بين الصّفائح المعدنية المُصمَتة، وقف المحقق بسكون، سكون لم يصل إلى عينيه، إذ عبقا بالغضب الصّافي.

«هل افتقدتَني؟». سأل لو بنبرة هادئة فور إخفاضه لمستوى صوت الموسيقى الحادّة الصّاخبة المنبعث من خمسة مضخّمات صوت مثبّتة في أماكن مختلفة من الغرفة الفارغة نسبياً، بعيدة عن بعضها بحيث يسبب صداها ألماً حقيقياً للمستمع.

قال ذلك بينما يعيد جهاز التّحكم بالصّوت إلى موضعه بداخل المصعد.

من حلقة معدنيّة في السّقف تدلّى جسد واهن.

يبدو الرّجل المربوطة يديه معاً في أوائل الثّلاثينات، كانت الشّمس قد أكسبته سمرة خفيفة، وبخاصة وجهه البيضوي وعنقه الطّويل.

تدلّى رأسه للأسفل بإنهاك واضح، وفوقه شُدّت يديه بإحكام إلى الحلقة، طَبعت الأصفاد المعدنية الضّيّقة أثراً أحمراً بارزاً في مرفقيه البيضاوَين.

لم يلتفت وإنّما بقي ثابتاً كمَن سئمَ الحراك.

كان جسده بأكمله ثابتاً، حتى قدميه العاريتَين المرتفعتَين عن الأرض. بدا كعنصر جامد في صورة.

أخذ لو عدّة خطوات باتجاهه، مشى برتابة دلّت عليها القرعات المتزامنة النّاتجة عن تصادم حذائه مع الأرضيّة الخشبيّة.

كان المكان معتماً باستثناء البقع التي تواجد بها المحقق مع تقدّم الزّمن، إذ أُنيرت بخفوت بفعل المَصابيح الصّغيرة الملحومة بمهارة إلى جسم الآلة الموسيقيّة.

توقّف المحقق أمام ضحيّته أخيراً، حيث يقبع كرسي مطابق تماماً لذاك الذي يشغل حيّزاً بجوار النّافذة في الطّابق العلويّ.

جلس لو واضعاً برفقة صديقته الخشبيّة. وبذلك عاد السكون إلى الغرفة عدا عن الموسيقى الخافتة المنتشرة في الأرجاء.

بالنّظر إلى المشهد الجامد، تبدو هذه النّغمات وكأنها قادمة من عالم آخر. عالم أقلّ جموداً.

عندها فقط رفع الرّجل رأسه قليلاً، بحيث أصبح المحقق في مرمى نظر عينيه الزّرقاوَين الغائرتَين في محجرَين لوّنهما التّعب والافتقار إلى نوم طبيعيّ.

«أرجوك حرّرني».

صدرت العبارة عن السّجين. وكان جلياً أنّه لا يتوقّع ردّاً إيجابياً. إذ إنّه أخفضَ سقف توقّعاته في الطّلب التّالي: «فقط دع هذه الموسيقى اللّعينة تصمت. من فضلك»

ومجدداً، لم يتلقّى أي ردّ. فما كان منه إلا أن أخفض رأسه بيأس.

«ولماذا عليّ أن أُصمتها؟. ألم تكن المفضّلة لدى سيّدك الأرعن؟». تسائل لو مُلاطفاً بزيف.

ثم تابع بلهجة قاسية: «ألم تكن ذاتها ما نكّهتَ بها مشهد اعتدائك على مونا؟. ظننتُكَ تفضّلها بشكل خاصّ. هذا مؤسف، هل أخطأتُ التخمين؟».

«وماذا لدينا هنا؟ هل شُفيت جروحك النّتنة؟» سحب القدمَين الحافيتَين ببعض القوّة. وانتفضَ جسد الرّجل إثر فعلته.

حاول الرّجل تحرير قدميه من يديّ المحقق الحاقد، ودون أدنى عناء أخذ الأخير يغرس ريشته الحادّة في الأخاديد اللّحميّة سامحاً للدّماء القانية بالتفجّر خارج الخلايا المحطّمة.

«هل تتألم حقاً؟». قال لو مستمرّاً في تعميق الجروح القديمة.

«أذكر أنّك أبديتَ استغرابك من تألّم الطّفل عندما ارتكبتَ هذه الجريمة بحقّه؟»

«ااه. أنتَ عطبتَ ذاكرتي بالفعل». أنهى كلامه مُزيّفاً إيماءة مُتأسّفة.

ثمّ شرع في العزف، حاصلاً على ارتجافات من ضحيّته، ارتجافات مَن كان مُدركاً طبيعة الأحداث القادمة.

-

900 كلمة

وبهيك صار عدد كلمات النوفيلا 4600 كلمة لحد الآن


آرائكم؟

أي توقعات؟

أي أسئلة؟

-

Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top