الفصل الواحد والعشرون

كانت مدينة رافيلو الساحلية آية من الجمال، تقترب من السماء عند البحر، وتشتهر بالمنحوتات والأكل الساحلي الجيد كما أشار نايل. تمشَّى ثلاثتهم حتى مطعم كومبا كوزيمو المشهور بأكلاته البحرية الطيبة. طلبوا السلطعون والجمبري وأحد أنواع الأسماك التي رشحها نايل. جلسوا حول المنضدة الدائرية وكانت ميريت في المنتصف بين هاري ونايل. أنزل النادل زجاجة فاخرة من النبيذ الأحمر وأخبرهم أنها من السيدة الجالسة إلى الطاولة المجاورة للسيد نايل.

نظر ثلاثتهم ببلاهة إلى السيدة العشرينية التي أهدت نايل زجاجة نبيذ تقدر بخمسمائة دولار. كانت جميلة كأفروديت، باهرة تستطيع لفت الأنظار ببساطة كما لو كانت هاربة من العصور الرومانية القديمة. ابتسمت ابتسامة رقيقة إلى نايل المذهول، فنظر كل من هاري وميريت إليه.

«أقسم إنني لا أعرفها يا رفاق!» قال نايل حين شعر أنه في موضع اتهام.

 «يبدو لي أن تلك السيدة تعرفك جيدًا؛ لم ترفع عينيها عن تقاسيم وجهك» تحدثت ميريت بخبث ونظرة لعوب. 

«ليست مشكلتي. قد تفضلت مشكورة بإهدائنا نبيذًا رائعًا أعشقه، وتلك أرقى هدية قد تُهدى إلى رجل! فالنبيذ كالنساء، وهذا النبيذ كأرملة ثلاثينية رائعة الجمال لم تجد من يستحقها» قال نايل متفلسفًا بين  ذهول هاري وضحكات ميريت على رد فعل هاري.

«لقد فاتك نقاشنا الفلسفي في القطار، أظهر نايل هذا الجانب منه بالفعل، إنه عميق» قالت ميريت المنبهرة وهي توجه حديثها إلى هاري.

«جاءت معشوقتي» قال نايل حين أنزل النادل الطلبات بهدوء.

«أتُحب الطعام إلى هذا الحد؟» سألت ميريت.

«لنقل أن الطعام غذاء الروح، لذا أتفنن في اختيار أفضل غذاء لروحي وجسدي» أجابها.

«نايل، هل عضك شكسبير؟» قال هاري وضحكت ميريت على دعابته. لم يستطيعوا تبين رد فعل نايل إذ أتت تلك السيدة تمشي على استحياء تنظر إلى نايل.

«أريد أن أخبرك سبب إرسالي الهديةَ قبل أن أرحل، أعلم أنك لا تعرفني وتظن على الأرجح أني مجنونة.»

«بل يراك رقيقة» علق هاري فابتسمتْ بحياء وضحكت ميريت ضحكة مكتومة حين نظر نايل إلى هاري شزرًا.

«على أي حال… منذ سبع سنوات كنت قد تزوجت من حبيب عمري نيل، وقد عشنا خمس سنوات رائعة كما يُكتب في روايات الحب، لكنه توفيَ منذ عامين، لذا آتي إلى هذا المطعم كل أُسبوع؛ فقد كان يحب هذا المطعم كثيرًا، أمضي فيه ساعتين، فأستمع إلى موسيقاه الساحلية المفضلة ثم أنصرف. في العام الماضي، تحديدًا في أغسطس، رأيت شبح نيل... لقد كان فتى وسيمًا وأصغر سنًّا يأكل هنا، وقد أعاد لي ذكريات جميلة، وتمكنت من رؤية ملامح نيل قليلًا في وجهه فشردت فيه. كان وحيدًا مثلي ولكنه كان منهمكًا في الأكل، لقد كان أنت. أعطيتني فرصة أخرى لأتأملَ ملامح نيل، جعلتني سعيدة. رأيتك اليوم وقد قررت أن أهديك شيئًا غاليًا ثمن رؤيتي تقاسيم وجه نيل، شيئًا يعبر عن سعادتي بالذكريات التي يعيدها لي وجهك. أرجو أن تقبل الهدية وتعذرني، لم أقصد وضعك في هذا الموقف الغريب» أنهت السيدة كلامها، كانوا ينظرون إليها مذهولين، كأن ألسنتهم قد قطعت، لم يعرفوا كيف يردون على هذا الكلام العظيم.

«أنا آسف لخسارتك، وهديتك الرقيقة مقبولة» هذا ما استطاع نايل المشدوه الرد به، كان مربوط اللسان.

«ليلة سعيدة لك وحبيبتكَ وصديقك، اعذروني» قالت ثم انحنت انحناءة رقيقة وذهبت.

«أرملة ثلاثينية جميلة، أليس كذلك؟» سخر هاري من كلام نايل السابق عن النبيذ وأنهى مضايقته بغمزة.

«لا أستطيع الاستيعاب، ما هذا الحب!» قالت ميريت متجاهلة سخافة هاري وضحك نايل الخفيف.

«هل يمكنكِ حب أحدهم بجنون؟» قال نايل ناظرًا إلى عيني ميريت مباشرة، لا أحد سواهما يعلم ما الذي يشير إليه.

«أظن أن نيل قدم لها الكثير لتعشقهُ كل هذا العشق!» أجابت ميريت إجابة ملتوية وكان هاري كالبقرة التائهة.

«أنا أعشق السلطعون» قال هاري وقد أجهز على صحنه ثم نظر إلى نايل وميريت اللذين لم يلمسا صحنيهما حتى الآن.

«أنت وحش غريب» قالت ميريت وعبثت في شعره فضحك ثلاثتهم.

بعد عشر دقائق تقريبًا، فتح نايل زجاجة النبيذ وتحدث قليلًا عن صلات قديمة بينه وبين هاري، وأنه يشاركهم النبيذ في صحة صداقة جديدة، ثم سكب لكل من ميريت وهاري والتقط ثلاثتهم مقاطع لثلاث كؤوس تضرب بعضها بعضًا.

«ما أجمل هذه الأمسية!» قالت ميريت بصوت بطلة أحد الروايات القديمة.

«أمسية جميلة على شرف أميرتنا» داهمها نايل بصوت عميق جعل هاري يسقط أرضًا من الضحك.

«وهل لشهريار أن يخبرني ما المشكلة بينه وبين هذا الأحمق؟» قالت ميريت مشيرة إلى هاري الساقط أرضًا.

«لا يتحدث الفارس النبيل عن الماضي» أردف نايل وسحب يد هاري ليساعدَه في الوقوف. 

«ميريت يمكنها أن تعلم» قال هاري مهذبًا ملابسه.

«ميريت يجب أن تعلم، هيا!» ألحت ميريت على نايل.

«حسنا، كان هاري حبيب أختي الراحلة» قال نايل بهدوء شاردًا في الفراغ، لكنه لم ينظر إلى هاري.

«ثم ماذا؟» نظرت ميرت إلى هاري، كانت تظن أن من الوقاحة ترك نايل يكمل.

«توفيت في حادث سير، كنت من يقود السيارة» أخبرها هاري وملامح الصدمة اعتلت وجهها.

«آسفة لخسارتكم» قالت ميريت ونظرت بعيدًا لتستجمعَ أنفاسها وتحبس دموعها.

«عناق جماعي على شرف صداقة جديدة؟» عرضت ميريت.

«عناق جماعي» قال هاري وسحب ميرت ونايل في عناق.

«يا رفاق، أعشق جنونكم» أردف نايل.

***

في القطار، كان نايل نائمًا. ظلت ميريت تحدق إلى هاري، في رأسها الكثير من الأسئلة التي لا تعلم كيف تواجهه بها.

«كنت وغدًا» قال هاري ينظر إلى ميريت بهدوء.

«عفوًا؟» سألته ميريت رافعة أحد حاجبيها. عادة بشعة حاولت التخلص منها في أورورا لأنها خارجة عن العادات والتقاليد.

«كنت أعاملها ببرود، لم أكن حبيبًا جيدًا لآنجل» اعترف ثم أخذ شهيقًا عميقًا وزفره مع دمعة صغيرة أبعدها سريعًا.

«لم أكن أعلم أنها ستتركني دون أن تعاتبني» قال وبدأ صوته يتكسر.

«لا بأس هاري، جميعنا نمتلك ماضيًا قاسيًا» قالت ميريت وهي تحتضنه وتربت على شعره.

«لقد كانت اسمًا على مسمى، ملاكًا طاهرًا نزل من السماء وعاد إليها» أكمل حديثه بعد صمت.

«هاري، أريد أن أراها، هل تحتفظ بصور لها؟» تحدثت ميريت فجأة وحرك هاري رأسه نافيًا.

«عندي حسابها على الإنستجرام» قال ثم عبث في هاتفه.

مرر هاتفه إلى ميريت. كانت حقًّا كالملاك رغم أن ملامحها شقراء عادية، عينان سرقتا لون المحيط، ووجه تقاسيمه منمقة وجميلة مثل لوحة رسمها إله الجمال.

«هاري، نم؛ أنت تحتاج إلى الراحة» قالت ميريت لهاري وعبثت في شعره قليلًا ليسقط نائمًا فوق قدميها.

عندها فكرة، تريد تخليد ذكرى آنجل في رأس نايل الذي لم يستطع مسامحة هاري سوى الآن، وفي رأس هاري المذنب. فلتسكن روحها الطاهرة أعالي النعيم.

Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top