Christmas man
ونشوت طويل لكيم تيهيونغ.
كيم تيهيونغ= كيم ماتياس.
كومنت وفوت بليز❤️
___________
ملأت أصوات الأجراس التي تتميز بها أغنية عيد الميلاد كل ركن من أركان الفندق، إذ منحت الفندق جوًّا من الألفة والمرح، وقد انعكس ذلك على محيا كل نزيل في الفندق، كما أن جو ديسمبر البارد وندفات الثلج التي تغطي أسطح المباني والمنازل والأرصفة والشوارع أضاف روحًا فريدة للعيد، راقبت إيمّا العوائل السعيدة والأطفال الذين يلعبون في باحة الفندق وقد ملأت ضحكاتهم المكان وتنهدت بحزن عند رؤيتها الثنائيات يمرون من أمام الفندق عبر النافذة المطلة على الشارع، عملها كنادلة في مطعم الفندق جعلت من الليلة التي كان يجب أن تقضيها بسعادة أمام التلفاز قرب المدفأة مع ابنها بعيدة المنال، كما أشعرتها رؤية تلك السعادة على وجوه المارّة بالكآبة.
- إيمّا! إيمّا!
أتى صوتٌ حاد من الخلف يناديها، كان صوت مألوف جدًا، إذ يعود إلى رئيستها في العمل، التفتت لتواجه السيدة مورلي والتي بدت على محياها الصرامة كالعادة، قالت السيدة مارلي بنفاذ صبر شابه بعض الانزعاج:
- كنت تقفين في مكانكِ لعشر دقائق! أيًّا كان ما تفكرين به، فهذا ليس الوقت المناسب..
نادت باقي العاملين ليتجمعوا أمامها، ولمّا وقفوا صفًا واحدًا أمامها قالت وهي تتحرك رواحًا ومجيئًا:
- غدًا يومٌ مهم، ليس لأنه عيد أو لأن الفندق سيكتظ بالنزلاء، بل لأن حفيد السيد المدير قادم، وما لا تعرفونه، فالسيد المدير سيقوم غدًا بترك منصبه كمدير وسيحل محله السيد الشاب، وعليكم أن تكونوا على أتم الاستعداد، حتى يفتخر بالفندق الذي سيديره..
وتوقفت عند إيمّا وقالت أثناء ما شزرتها بطرف عينها:
- ولا أريد أية أخطاء..
أكملت تحركها مضيفة:
-لن أغفر أو المدير أي خطأ يقع غدًا، ما لأهمية الضيف لدى المدير، أفهمتم!
قال الجميع بصوت واحد:
- أجل!
أطلقت همهمة نابعة عن رضاها لردهم وقالت بحزم:
- انصرفوا!
تحرك الجميع الواحد تلو الآخر وبعد تحرك إيمّا لعدة خطوات قالت السيدة مورلي:
- إيمّا، اتبعيني.
نفذت إيمّا الأمر وتبعتها دون اعتراض، فهي تعلم جيدًا ما ستكون عاقبة اعتراضها لأوامر السيدة مورلي، بيد أن الفضول قد انتابها مما تريده وازداد فضولها بعد أن صعدتا المصعد وراقبت السيدة مورلي تضغط الزر المؤدي للطابق الذي يقع فيه مكاتب رؤساء الأقسام وبالطبع المدير، وتساءلت إن كانت السيدة مورلي تريد أخذها للمدير ليوبخها على تقصيرها منذ لحظات، أو ماذا ستفعل إن طردها المدير، وتذكرت إيمّا الفترة التي قضتها في العمل في الفندق، لم تكن طويلة، وقد حصلت عليها بشق الأنفس، إذ أنها لندن والحصول على وظيفة فيها في القرن الثاني والعشرون ومع تزايد السكان كمن يحصل على إبرة في كومة قش، بالنسبة لإيمّا فهذا العمل هو الإبرة التي تقتات من خلال دخلها هي وابنها.
عادت إيمّا من ذكرياتها إلى الواقع حيث أن باب المصعد قد فتح خرجتا منه ثم توجهتا نحو غرفة المدير، طرقت السيدة مورلي الباب وقبل أن يأذن المدير بالدخول التفتت إلى إيمّا ومن خلف عُييناتها الطبيّة فحصت مظهرها، ومما يبدو فإن مظهر إيمّا كان جيدًا إذ إنها لم تعلق عليه كما لم تبادر في إصلاحه، جاء صوت المدير من خلف الباب ليأذن لهن بالدخول ولمّا دخلتا بادرت إيمّا بإغلاق الباب، واقتربتا من المكتب حتى صارتا مواجهتان للمدير، قالت السيدة مورلي:
- إيمّا كما طلبت سيدي.
علت ملامح إيمّا التساؤلات، واستغربت مما سمعته فالمدير ذو الجسد البدين والشعر الحفيف الجالس أمامها نادرًا ما يستدعيها، ولمَ استدعاها عبر السيدة مورلي، فاتصال منه يكفي أم أنه كان يشك بقدومها إن استدعاها، إيًا كان السبب فهي لا تفهمه، قال المدير وقد أرخى جسده الثقيل على مسند الكرسي الخلفي وقال:
- آنسة إيمّا، تفضلي بالجلوس.
نظرت إيمّا إلى السيدة مورلي وقد بدا عليها التردد في فعل ذلك، ابتسم المدير وقال:
- سيدة مورلي، أرجو أن تستأنفي عملكِ، شكرًا لكِ.
أخبرت إيمّا نفسها بأنها طريقة لبقة في إخبار السيدة مورلي أن تخرج من دون أن يحرجها، لكن خروج السيدة مورلي من المكتب جعل الأمر يبدو أكثر ثقلًا على كاهلها، إذ إنها لا تعلم لمَ هي هنا، كرر المدير طلبه وأشار بيده إلى الأريكة المقابلة وقال:
- تفضلي بالجلوس آنسة إيمّا.
جلست إيمّا وقد أشبكت كلتا يداها معًا ووضعتهما في حجرها، وأخذت تنظر إلى مديرها منتظرة ما سيتفوه به، ابتسم المدير بخفة دون أن يظهر تجاعيد وجهه ثم قال:
- كما تعلمين غدًا هو عيد الكريسماس، ومما لا شك فيه فإن السيدة مورلي قد أخبرتكم أن حفيدي سيأخذ إدارة الفندق على عاتقه..
انتظرته إيمّا بفارغ الصبر أن ينتهي من المقدمات ويخبرها بالجزء الأهم، الجزء الذي يذكر دورها فيه، إذ قال:
- أريدكِ يا آنسة إيمّا أن تخدميه، بمعنى أصح أن تكوني الخادمة الخاصة به أثناء إقامته هنا..
صدمت إيمّا مما سمعته، وتفاجأت..لا بل هناك مشاعر مختلطة تجول في خاطرها، فغرت فاهها ثم تراجعت عما كانت ستقوله، لكنها قالت بعد تردد معترضة:
- هناك خدمة الغرف ألا تستطيع سيدي، أن تطلب ذلك من أية عاملة غيري؟ كما أنني نادلة في المطعم، وأنا ...
وبدت أنها تمادت في ردها إذ أن نبرة صوتها العالية واعتراضها لم يسرا المدير فحدّق فيها منزعجًا وقال مقاطعًا حديثها:
- آنسة إيمّا كان بإمكاني أن أوظفكِ دون سؤالكِ، أتعترضين على قراراتي؟
أطبقت فمها إذ أنها لا تستطيع إخباره أن ما تعترض عليه ليس قراره بل أن قبولها الأمر سيمنعها من قضاء بعض الوقت في العيد مع ابنها، وبما أنها أخفت عنهم حقيقة أن لها ابن عندما قدمت للوظيفة فهي لا تستطيع إخبارهم برغبتها في قضاء بعض الوقت معه، ستطرد ما أن يعلموا بذلك، لقد وجدت الوظيفة بعد عناء بالبحث، ولمّا قرأت أنهم يريدون عازبة ترددت لكنها عادت وقبلت في الأمر بعد أن تدهورت صحة ابنها حينذاك وبالرغم من أنها أرملة إلا أنهم لا يرغبون بتوظيف عاملة لديها ابناء، لم يكن عسيرًا عليها إخفاء الأمر إذ أن لا أحد من معارفها يعمل هنا، كما أنها لم تخبر أي أحد بذلك عدا جارتها سارة والتي تعتني بابنها في هذه الأثناء بينما هي تعمل، وقد كانت ممتنة لها إذ أنها امرأة طيبة ولطيفة ولم تشكو أبدًا من الاعتناء بابنها طوال هذه الفترة.
بلعت إيمّا ريقها وقالت بعد أن شعرت بأن مديرها قد هدأ:
- أعتذر عن انفعالي، سيدي، إلا أنني لدي خطط بعد ليلة عيد الميلاد، ولا يمكنني تأجيلها.
قال بصوت حازم:
- آنسة إيمّا، لستُ مجبرًا أن أوضح لكِ، لكن سأفعل لأنني أرى أن ذلك من حقك، ما لا تعرفيه أن الجناح لا يملك اتصالًا مع خدمة الغرف، إذ أنني أحب خدمة نفسي عند إقامتي هنا، لكن حفيدي ليس كذلك وليس لدي نية بإيصاله بخدمة الغرف بتاتًا، وأما السبب الذي دعاني لاختياركِ دونًا عن غيركِ، فلاختبارك..
صدمت إيمّا ووضعت يدها على فاهها المفغور، أكمل السيد جيمس كلامه تحت نظراتها المذهولة:
- وصلتني العديد من الشكاوى عليكِ، وها أنا أعطيكِ فرصة لتثبتي أنكِ تستحقين الاستمرار في العمل..
أنهى كلامه، ولم يبدو أن هناك ما تفعله، لذا استأذنت وخرجت من الغرفة، مشت إيمّا في الممر المؤدي إلى المصعد منكسة رأسها، وتشعر بالبؤس يعتريها، لقد خططت للعديد من الأشياء لتفعلها مع ابنها، بناء رجل ثلج، صنع كعكة والاحتفال بالعيد مع سارة وزوجها وابنائها الثلاثة، وفكّرت بذلك الضيف ولعنته داخلها ودعت بأن يقضي أيامًا تعيسة في العيد كما ستفعل هي بعيدة عن ابنها.
أمضت بقية اليوم في مزاج سيء، وكلما فكرت بما حدث لها تشعر بأن نار تنهش أحشائها، لدرجة أنها تمنت بأن تحدث معجزة تمنع حفيد المدير من المجيء أو يتم بسببها إغلاق الفندق لعدة أيام حتى يتسنى لها قضاء بعض الوقت مع ويلي.
في وقت الاستراحة وأثناء ما كانت ترتشف القهوة سريعة التحضير جذب انتباهها حديث بعض النادلات عن الزائر فقالت إحداهن:
- إن حفيد المدير رجل وسيم، وهو ابن ابنته، كما أن والده من أصول آسيوية، لقد رأيته ذات مرة عندما أقام هنا السنة الفائتة، وقد التقطت له صورة بهاتفي.
أجابنها البعض باهتمام واللاتي توظفن منذ عدة شهور قريبة مثل إيمّا بفضول:
- أرينا الصورة.
ابتسمت الأولى بعد أن شعرت بأهميتها ثم أخرجت هاتفها قالت:
- كم تعطينّي لأريكن الصورة.
لمّا سمعت إيمي ذلك شعرت بالفضول أيضًا لذلك الشخص الذي حرمها سعادتها، وزاد اهتمامها بحديثهن عندما أوشكت تلك النادلة على إظهار صورته إلا أن السيدة مورلي دخلت وقالت:
- كفاكن ثرثرة وعدن إلى عملكن، لقد انتهى وقت الاستراحة منذ دقيقتان.
عادت إيمّا إلى شقتها قبل أن ينتصف الليل، توجهت نحو شقة سارة لتأخذ ابنها وقد كان نائمًا عندما ناولته إياها، شكرت إيمّا سارة هامسة وابتسامة متعبة جرّاء العمل لوقت طويل، عندما ألقت إيمّا ابنها بلطف على السرير تحرك قليلًا لكنه عاد وغفى، راقبته يتنفس بانتظام كان النظر إليه فقط يجعلها تبتسم دون إرادتها، فهذا الملاك هو ما يجعلها تتحمل مشاق الحياة، مسدت شعره الأسود الكثيف برقة، خداه محمران إثر البرد ويداه الصغيرتان المضمومتان كان ملمسهما باردًا حين قبلتهما، أنفه صغير وشفتاه ورديتان وناعمتان، وفكّرت بأنه يشبه إلى حدٍ كبير والده.
غطته برفق ثم قبلت جبينه ووقفت متجهة نحو النافذة الصغيرة وتأكدت من إغلاقها، بعد ذلك أخذت حمامًا دافئًا واستلقت بجانب ابنها على السرير، وأخذت تراقب تحركاته القليلة الهادئة، وأخبرت نفسها بأنه يشبه والده حتمًا إذ أن الأخير كان ساكنًا في نومه، شاب عيناها العسليتان بعض الحزن، واعترفت بأنها لم تحب زوجها الحب الذي أحبها إياها، لقد تعرفا بعد أن انتقلت من لندن إلى ضواحيها، كان ابن جارتهم، كانت تحبه كصديق، لكنه فاجأها ذات يوم عارضًا عليها الزواج، كان والداها يحبانه كما يحبها والداه، فلم ترَ هناك مانع من ذلك، بعد أن تخلت عن حياتها وطموحاتها في لندن، لكنها وبالرغم من محاولاتها بأن تحبه إلا أنها لم تستطع حتى وفاته منذ أربعة سنوات في حادث سير مؤسف، لقد افتقدته وشعرت بالحزن لأنها لم تبادله حرارة الحب ذاتها، لكنه أهدى لها أجمل هدية قبل أن يرحل، وستحبه كما كان يحبها زوجها، وستعوضه وستكون له الأب والأم وستحرم نفسها كل شيء لإسعاده، فهذا ما كان سيفعله زوجها.
في اليوم التالي، استيقظت إيمّا بسبب ضرب خفيف على خدها، علمت أنه لابنها لذلك فتحت عيناها مبتسمة له، ثم حركته جانبًا بعد تقبيله، كانت الساعة السابعة صباحًا أي قبل موعد عملها بساعة، استحمت ثم جهزت الفطور لها ولابنها، بعد ذلك ارتدت ملابس رسمية استعدادًا للذهاب إلى العمل، وبعد خروجها من الشقة ممسكة بيد ابنها، توجهت إلى شقة سارة العزيزة وطرقت الباب، فتحت سارة الباب ورحبت بإيمّا ثم داعبت وجنة ويلي واستقبل الأخير المداعبة بسعادة، وبعدها ودعت إيمّا ابنها وسارة ملوحة بيدها لهما.
ركبت الحافلة، وأخذت تشاهد السجادة البيضاء التي صنعها الثلج على طول الطريق من مقعدها القريب من النافذة، ومرت الحافلة بشجرة كريسماس عملاقة مزينة بمصابيح ذات أضواء ملونة، انتبه لها جميع من بالحافلة والبعض أخذ يلتقط الصور لها، تنهدت إيمّا بحزن، إذ أنها وعدت ويلي العام الفائت بزيارة الشجرة والتقاط بعض الصور أمامها، إلا أن ذلك لن يحدث بسبب انشغالها، وتمنت لو أنها فكرت مليًا قبل أن تتخذ قرار العمل في مكانها الحالي، لكن كان عليها أن تعترف، كان سيكون الأمر مريرًا لولا وجود سارة في حياتها، المرأة التي رحبت بها منذ أول يوم انتقالها إلى الشقة بفطيرة كرز لذيذة ذات صنع منزلي، لم ترَ إيمّا في حياتها شعر حريري ذهبي كشعرها، ولا عينان دافئتان كعيناها الزرقاوتان كالبحر، وأعجبت كذلك بمحافظتها على شكل جسدها النحيف، كما أن زوجها توم رجل لطيف، إذ ساعدها عدة مرات على إصلاح ما يلزم إصلاحه في الشقة، ذو شعر بني داكن وعينان سوداوتان وجسد متناسق ذو بشرة برونزية، كان كلا الزوجان يستحقان بعضهما، وترى إيمّا أن كل واحد منهما يكمل الآخر.
دخلت إيمّا الفندق، وتوجهت بسرعة إلى المطعم وبالتحديد غرفة تبديل الملابس لتبدل ملابسها إلى الزيّ الرسمي كنادلة، سمعت بعض النادلات ممن يغيرن ملابسهن يتحدثن حول وصول حفيد المدير في الساعة العاشرة، وسيستقبله الموظفون أمام مدخل الفندق، وعبّرن عن حماستهن لرؤيته، على العكس من إيمّا التي كانت تنوي عدم استقباله، وستتحجج بأية حجة إذ ما رأتها إحداهن هناك.
طغى وصول حفيد المدير على الأجواء، حتى فكرت إيمّا بأن كل الموجودين نسوا أن اليوم هو الخامس والعشرين من شهر ديسمبر والذي يصادف الكريسماس، تخطت استقباله وكانت ترتب الطاولات عندما دخلن باقي النادلات وهن يثرثرن حول وسامته والحلة التي يرتديها والتي وصفتها إحداهن بأن ثمنها يعادل راتب ستة أشهر أو أكثر إذ أنها قد شاهدت ما يماثلها معروضة في واجهة إحدى متاجر أرقى العلامات التجارية للملابس، ونبست أخرى بأنه مثير ويخطف الأنفاس، لم تسألها أيٍّ منهن عن تغيبها، وأرجعت إيمّا ذلك بأنهن قد رأين ما يجعلهن ينسن أنفسهن وليس وجودها فقط، بالرغم من الضجيج الذي استولى على المكان تدريجيًا فقد كانت إيمّا تفكر بابنها أثناء ما كانت تستقبل زبائن المطعم كما أنها كادت أن تجتاز البعض منهم لشرودها لولا تنبيه النادلة الواقفة بجانبها لها.
كما أنها فكرت أيضًا بحفيد المدير، وما إن كان سيستدعيها لتباشر عملها كخادمة خاصة له، وتساءلت عن الوقت الذي سيستدعيها به، إنها تكره اضطرارها لفعل ذلك، إذ بعد انتشار الخبر بين زميلاتها في العمل أصبحن يزورنّها، كما أنهن بدأن يسخرن منها بسؤالهن عن ماهية الخدمات التي ستقدمها لحفيد المدير، تساءلت إيمّا حول ما يصيبهن بالغيرة منها إلا أنها بعد تفكير أوعزت ذلك إلى أنها ربما أفشلت خططهن بإغواء حفيد المدير وإيقاعه في شراكهن ليحصلن عليه، لكن من سيفكر بهذا في هذا القرن، كما أن الاقتراب من واحد من الأثرياء كالاقتراب من قرش، خاصة لنساء مثلها.
بعد ساعة، وبينما كانت إيمّا في المطبخ تضع بعض الصحون في المغسلة، دخلت نادلة وقالت:
- حفيد المدير هنا! إنه يريد تناول الغداء مع جده.
" وماذا يهم في ذلك؟" أخبرت إيمّا نفسها ذلك، وخرجت من المطبخ واتجهت خارجًا لتأخذ طلبات الزبائن، لمحت بينما تسير نحو إحدى الطاولات، الطاولة التي يجلس حولها الحفيد وجده، لكنها لم ترى وجهه، إذ كان يوليها ظهره، وبعد أخذ طلب الطاولة المقصودة ودخولها المطبخ لتعطي الطلبات لرئيس الطهاة، أعطاها أحد الطباخين صينية وقال:
- خذيها بحذر لطاولة رقم 95.
أخذتها بحذر كما قال لها وخرجت من المطبخ، عرفت بعد بحث قصير أن ذلك الرقم يشير إلى طاولة المدير وحفيده، توجهت نحوهم ولما وصلت أخذت تنزل الأطباف على الطاولة وترصهم واحدًا تلو الآخر، ولتركيزها الكامل في عملها لم تنتبه إلى تلك الأعين التي تستطلعها، ولمّا انتهت وأرادت الذهاب نبس حفيد المدير وقال:
- لقد مضى وقت طويل، إيميرالدا.
تدحرجت عيناها نحوه واتسعت لمّا عرفته، كيم ماتياس! زميلها في الجامعة، قال المدير وقد اعتلا ملامحه التساؤل:
- هل تعرفها، ماتياس؟
ابتسم ماتياس بسخرية وقال:
- كنّا زميلين في الدراسة.
ابتلعت إيمّا ريقها ورطبت شفاهها بلسانها ثم قالت:
- عن أذنكما.
ثم ذهبت مسرعة نحو المطبخ، دخلته وكأنها تهرب من حيوان مفترس، وراجعت ذاكرتها علّها أخطأته بشخصٍ آخر، لكن هيهات! من ذا الذي لا يميزه، لقد أصبح رجوليًا أكثر، وبشرته البرونزية أصبحت أغمق، وشعره العسلي الناعم صفف بعناية إلى الخلف مما أبرز عظام خديه وفكه وأنفه الحادين، وتساءلت لمَ عليها من بين كل الأماكن أن تقابله هنا؟ ولمَ هو بذات حفيد مديرها؟
قاطع شرودها حديث نادل معها، إذ حاول ذلك النادل تنبيهها بأنها تقف في الطريق لكنها لم تنبتبه إلا بعد فترة، ابتعدت عن الطريق وتحركت نحو الحمام المرفق بالمطبخ لتختلي بنفسها، ولمّا صارت وحدها، اتكأت على المغسلة بيديها، نظرت إلى انعكاسها في المرآة، " أما كان عليها مقابلته في مكان وشكل مختلفين؟" حادثت نفسها متسائلة، تمعنت بشكلها وكأنها ترى انعكاسها لأول مرة، إنها تبدو رثة ومتعبة، هناك هالات سوداء تحت عيناها لكثرة السهر مع ابنها وتعب العمل، لو كانت تعرف أن هناك لقاء لها مع ماتياس لاعتنت بشكلها أكثر ولأصبحت أكثر ثقة بنفسها، بدا أكثر شبابًا منها بالرغم من أنهما بنفس العمر، تلمست وجنتاها بأطراف أناملها الرفيعة، وانتبهت إلى أظافرها، إذ لم تكن مقلمة بشكل جيد، ومنها ما كسر، تنهدت بانزعاج، إذ أن وجوده بحد ذاتها يجعلها مدركة لذاتها أكثر، لكن لحظة! لقد نست أمر مهم، هي النادلة التي ستخدمه طوال فترة إقامته، عليها الإسراع بإخبار المدير بتغييرها حتى لو أدى ذلك إلى طردها أو إرسالها إلى مكان آخر، وسترحب بالفكرتين كلتيهما.
في وقت لاحق وبعد أن تسنى لها الذهاب إلى مكتب المدير لتحادثه، طرقت الباب طرقات هادئة، أذن لها المدير بالدخول، ولما دخلت لاحظت وجود ماتياس الساحق، وشعرت بنبضات قلبها تتلاحق، لم تعلم أكان ذلك من التوتر أم تأثير وجوده بحد ذاته، كان يقف أمام النافذة ويوليهم ظهره، يرتدي حلة من ثلاث قطع ويدس يديه بجيبي بنطاله ويزيح سترته بإهمال إلى الخلف، كانت الحلة ذات ألوان شتوية غامقة، تدرجت ألوانها من الأسود والرمادي والكحلي، وفكرت أنها ملابس لايستطيع غيره أن يظهرها بتلك الروعة.
واجهت المدير ولم يفصله عنها سوا المكتب، فركت راحتا يداها معًا، وقبل أن تتلفظ بشي زاغت عينيها نحو ماتياس، فهي لاتريد ان تخبر المدير برغبتها بترك تلك الوظيفة والسبب حفيده الواقف، قال المدير بعد أن تأخرت بالكلام:
- لقد أخبرت ماتياس بأنكِ ستخدميه طوال فترة إقامته، لقد سره ذلك ورحب به.
في تلك اللحظة التفت ماتياس وقد علت وجهه السخرية، إنها تعلم لمَ قال ذلك، رطبت شفاهها بلسانها وقالت وقد شبكت أناملها ببعض لكي لا يلاحظا ارتجافها من التوتر:
- أرجو منك يا سيدي المدير أن تعفيني من هذه المهمة.
وألقت نظرة سريعة نحو ماتياس الذي ابتسم بجانبية دون اكتراث، فهو يعلم أنه السبب بلاشك، تحت تعجب المدير من قرارها وما أن أراد التحدث تقدم ماتياس نحوها بخطوات ثابتة دون أن يخرج يديه من مكانهما وقاطع جده بعد إن قابلها وقال:
- أنت مطرودة آنسة إيميرالدا.
أعلت نظراتها له بعد ما كان كل ما تراه هو حذاءه الجلدي اللامع، قابلتا حدقتاه قاتمتا السواد، فرقت شفتيها لتعترض فسبقها قائلًا:
- لا نريد في فندقنا موظفة مهملة مثلكِ خسارتها مكسب لنا، عليها العديد من الشكاوي من الزبائن كما أنها غير متعاونة مع زملائها.
لم تكن تعلم أن الأخطاء التي قامت بها رغمًا عنها بسبب إعيائها وسهرها لأجل ابنها تودي بها إلى الطرد، استطرد ماتياس قائلًا:
- لقد منحكِ جدي فرصة، لكنني لست مثله، لن أعطي أمثالكِ من المتقاعسين الكسالى أية فرصة.
تلك الكلمات ثقبت قلبها كطعنة، ودون أن ترغب بذلك اغرورقت عيناها بالدموع، وقبل أن تسيل على خديها أخفضت رأسها وقالت:
- أنا آسفة، أرجو مسامحتي، سأكون بخدمتك في أي وقت سيد ماتياس.
زفر ماتياس بحنق وقلة صبر ثم قال:
- توجهي نحو الحسابات..
قاطعه جده قائلًا:
- لقد تراجعت عن قرارها ماتياس، لا داعي لطردها، إيميرالدا، اكملي عملكِ رجاءًا.
- نعم..
ثم ذهبت بعد أن خنقتها العبرة، لقد أرادت أن تشكره لكنها لم تستطع، توجهت نحو المطعم ثم إلى غرفة تبديل الملابس، وانفجرت باكية هناك، وتعالت شهقاتها تدريجيًا، وبعد فترة وبعد أن هدأت، تذكرت كلماته " لن أعطي أمثالكِ من المتقاعسين الكسالى أية فرصة"، استخدم عباراتها التي قالتها له مرة، إنها تتذكر جيدًا ذلك الموقف، لقد كانت إحدى أعضاء مجلس الطلبة في كلية السياحة والفندقة، وكانت طالبة مجتهدة ومتفوقة بين زملائها وتحصل على أعلى المراكز والدرجات وتفوز بالمسابقات العلمية، وكان ماتياس على العكس منها، كان مشاغب، لعوب وشعبي، كان ككل النماذج من الأثرياء التي رأتهم في حياتها، لا يهتمون ففي النهاية سينجحون دون عناء بسبب علاقاتهم.
حدث جدال بينهما ذات يوم عندما كانت تنزل أحد السلالم الداخلية وكان يسد طريقها بالجلوس على آخر درجتين هو وأصدقاءه، ولمّا طلبت منهم الابتعاد لتعبر لم يسمحوا لها، ولمّا غضبت منهم وبدأت بتوبيخهم لم يرقه الحال فأخذ الأوراق التي كانت تحملها وبعثرها كما أخذ دفتر ملاحظاتها وبدأ هو وأصدقاءه بتمريره لبعضهم، فنالها الغضب منهم، وبدأت بالصراخ لإعادته، بينما كانوا يستمتعون بذلك، وفي النهاية فتحه وألقى نظرة على ما كتبته، وابتسم بخبث ولمّا هرعت لأخذ دفترها أمسكها أحدهم، كان كل ما حدث في كفة وقراءته ما احتوى دفترها في كفة أخرى، لقد كتبت في آخر صفحة والتي ينوي قراءتها اسم الشخص الذي تحبه، ثم فتح فمه ساخرًا وقال:
- الآنسة إيميرالدا مارتن تحب..
وفي تلك اللحظة وقبل أن ينطق الاسم، أفلتت يدها بمعجزة ثم في لحظة خاطفة صفعته ودوى صوت الصفعة في أرجاء المكان وتحت أنظار أصدقاءه والطلاب الذين أدركت إيمّا وجودهم، تهامس البعض في دهشة والبعض الآخر فغر فاهه في صدمة، أخذت الدفتر أثناء صدمته وقالت:
- المتقاعسون الكسالى أمثالكم أنا أكرههم!
وذهبت راكضة دون حتى أن تجمع الأوراق المبعثرة على الأرض، وبعد ذلك اليوم بدأ يضايقها بالرغم من أنها كانت تتجاهله تمامًا، وفي أحد الأيام صرّح بعزيمة وبما يعتريه من غضب وبنبرة استحقار شابهت نظراته لها:
- اسمعي إيميرالدا مارتن، سأكون أفضل منكِ، وسأجعلكِ تبتلعين كلماتكِ.
نبس بذلك رافعًا سبابته متوعدًا، ثم رحل، وكان ذلك اليوم هو آخر يوم تراه فيه، وقيل أنه ذهب ليدرس في جامعة أهلية مرموقة ولا يدخلها سوا النبلاء والأثرياء والأمراء، وشاء القدر أن تلتقي به هنا، تحت إمرته، ولولا أنها تعلم أن الحصول على عمل صعب لتركت العمل هنا وابتعدت قدر الإمكان عنه، وعن نظراته المحتقرة لها، ويبدو أنه حقق ما قاله ذلك اليوم، لقد فكرت حينها أن شخص طائش مثله لن يستطيع الالتزام بوعده، ومما بدى فإنه فعل.
في وقت لاحق من اليوم استدعاها إلى جناحه، وعلمت حينها إيمّا أن ذلك بداية لعذابها، ابتلعت ريقها في توتر ثم طرقت الباب فتحت لها فتاة من خدمة الغرف الباب وخرجت من الجناح بعد ذلك، دخلت وجالت بعينيها حول المكان تستكشفه كان مكان يليق بماتياس الحالي، أيقظها من شرودها سيره وجلوسه على إحدى الأرائك في الصالة أمام المدفأة، تقدمت نحوه وقابلته، كان يرتدي ملابس مريحة بلوز صوفي بيج مع سروال بني، ويضع ساقًا فوق الأخرى، وحمل بين يديه جريدة صب كل تركيزه على قراءة محتوياتها من الأخبار التي تهمه.
انتظرت قوله شيء، لكنه لم يفعل، فرقت شفتاها وقالت بعد تردد:
- أتأمرني بشيء، سيد ماتياس؟
كرر ماقالته ولم يبعد عينيه عن الجريد:
- سيد ماتياس!
اطلق ضحكة هازئة خفيفة ثم قال:
- نطقتيها بشكل طبيعي.
عقدت حاجباها، وزمت شفاهها بغيظ، وأخفضت رأسها وقالت:
- إن لم تردني بش..
قاطعها وقد ذهبت النبرة المازحة وحل محلها صوت رخيم آمر قائلًا:
- لن تذهبي إلى أيّ مكان، حتى انتهاء ساعات عملكِ، فعملكِ هو خدمتي، وخدمتي فقط.
أشبكت يداها معًا، وفكرت أنه ربما عقاب إلهي ما، قالت بعد صمت:
- أتأمرني بشيء؟
قال وقد بدا غير مهتم:
- حاليًا لا، لكن حتى آمركِ بشيء، ابقي هناك.
وبلعت العصة التي كادت أن تخرج، أيعني أن عليها أن تظل واقفة في مكانها حتى يأمر هو بغير ذلك، هل اشتراني من سوق للعبيد أم ماذا؟ تحاملت على نفسها وتذكرت ابنها كلما لاحت فكرة الاستقالة في افق عقلها، ومرة فترة ليست بطويلة حتى قال:
- أحضري لي قهوة، إيميرالدا.
ودون أن تنظر له أو تنبس بشيء، ذهبت حيث المطبخ، وأثناء ما كانت تعد القهوة سقطت حبات من دموعها، كان ملمسها على وجنتيها الباردتين دافئًا، بعد أن هدأت زفرت بعمق ثم مسحت أثار الدموع وسكبت القهوة في الفنجان ووضعته في صينية حملتها وهمّت بالخروج، لكن رؤيته متكئًا يقف عن الباب أفزعتها وتراجعت إلى الخلف واهتزت الصينية وانسكبت بعض القهوة من الفنجان على الصينية ثم على اصبعها الابهام، شعرت بالاحتراق فوضعت الصينية على المنضدة وقالت:
- سيد ماتياس! ما الذي تفعله هناك؟
كانت حدقتاه مسمرتان على إبهامها الذي حرق، والذي أخفته وراء ظهرها، كان يضع يديه في جيبي البنطال ويتكئ على إطار الباب ويضع كاحلًا فوق الآخر بارتياح منتعلًا خفًا، ابتلعت ريقها وقالت:
- أرجوك، إرجع مكانك وسأحضر لك القهوة هناك.
قال وقد شابت نبرته البرود:
- ما الذي حدث لكِ؟ أنت تشبهين كل شيء إلا إيميرالدا!
أرادت أن تتحدث لكنه أوقفها قائلًا:
- لا تهتمي! اجلبي القهوة.
ذهب عن المكان، وتساءلت إيميرالدا إن كان سؤاله عن اهتمام أم سخرية، مرّت عدة أيام كان على إيمّا أن تتحمل ضغط العمل تحت إمرته، وأمام حدقتاه المملؤتان بالسخرية عليها، كان في كل مرة ينظر لها وكأنه يخبرها بالفرق مابينهما، وكيف بات ناجحًا لكنها العكس من ذلك، وكم تمنت معجزة لتخلصها من هذا الموقف، بالإضافة إلى نظراته، فلسانه كان الأسوأ، وطلباته التي لا تحصى والتي لا يستطيع أثنان عملها، لكنها تعلم أنه ينتقم منها لما حدث قبل عشر سنوات.
وقبل يوم من رأس السنة الجديدة، وعندما انتهت ساعات عملها وقبل أن تذهب من الجناح، ذهبت له، كان يجلس عند بار الجناح، يسكب لنفسه شرابا في كأس كان يحمله، كان المكان مظلمًا، واحتوى جوًّا خطيرًا كحضوره، خصلات ناصيته التي اعتاد على رفعها كانن ينسدلن على جبهته بإهمال وزاد ذلك من خطورته، اقتربت منه وقالت:
- سأذهب سيد ماتياس، أتأمر بشيء قبل ذهابي؟
نظر لها بعينين ناعستين وثملتين، نظراته كانت تزجرها، ولم تتحمل إيمّا البقاء وتحملها فقالت:
- تصبح على خير.
استدارت وبعد خطوات قليلة أمسك بمعصمها وبحركة خاطفة حجزها بين ذراعاه وبين الجدار وقال:
- لم آذن لكِ بالذهاب، إيميرالدا.
أشاحت بنظراتها عنه وقالت:
- لقد انتهت ساعات عملي.
عصر معصمها وصار الألم جليًا على ملامح وجهها، أمرها:
- أنظري لي.
نظرت ببطئ له، فتمعن بملامحها وكأن كل الوقت له، شعرها الأسود المصفف إلى الخلف، عيناها الواسعتان الملتمعتان كحجرا زمرد نقي، وشفاهها الوردية الممتلئة وبشرتها البيضاء، في الماضي كان لا يطيق رؤيتها وكم تاق رؤيتها ضعيفة وذليلة هكذا، وكان كلما خبا حماسه تخيّل عيناها المنكسرتان والمتوسلتان، لكن خانته نفسه، فما إن رآها أول مرة في المطعم شعر بانجذاب لها، اعتقد أن ذلك تأثير لحظة اللقاء، لكنه بات يراقب خطواتها وتمايل جسدها الممشوق هذا في كل خطوة حتى دون ان يعي ذلك، تزعجه رؤيتها تبتسم وتتحدث بلطف للزبائن من الرجال، بينما هي باردة اتجاهه، بالرغم من أن رؤيتها بهذا الحال تشعره بالانتصار لكنه غير راضٍ أبدًا.
لا يعلم أهي من أثار الثمالة أم شيء آخر، لكن حدقتاه تسمرتا على شفاهها، يود تذوقهما، لطالما نبست هذه الشفاه كلمات سيئة نحوه، ألا يجب أن يعاقبهما؟ دنى ببطئ منها وأمال رأسه لكنها وقبل أن يلمسها، أرخت يداها على كتفيه العريضين وأبعدته عنها ثم ذهبت، ظل واقفًا مكانه وتساءلت إيمّا ما إن كان يراجع ما كان ينوي فعله، أم أنه يؤنب نفسه الآن على تسرعه.
هل بدت سهلة؟ أم بدت وكأنها ستفعل أي شيء لينتشلها من حياتها البائسه؟ فكرت إيمّا أثناء رحلتها إلى منزلها في الحافلة، كان انعكاس وجهها في المرآة شبه واضحة، وكم بدت بائسة وكئيبة كان هذا سيبدو واضحًا لأي شخص حتى لو كان غير مقرب منها، بالمقارنة مع نفسها قبل عشر سنوات، الفتاة الواثقة والحازمة والتي تعتني ببشرتها دائمًا وتواظب على الاعتناء بنفسها، إنها مختلفة تمامًا عمّا بدت عليه، واستذكرت ذلك اليوم الذي أخبرها والدها والحزن يعلو وجهه بأن شركته قد أفلست وحجز المصرف عليها بسبب الديون، كانت في سنتها الرابعة من الجامعة، وبعد إسبوع من تخرجها انتقلوا إلى ضواحي المدينة، هناك فتح والدها متجرًا صغيرًا للبقالة، كان يدر لهم دخلًا بسيطًا وكان كافيًا بالنسبة لهم، ولم يكن بوسعها عندها أن تكون متطلبة أو تمارس عاداتها الصحية التي تجعل من بشرتها تشرق كنجوم هوليود، بعدها بثلاث سنوات تزوجت وانتقلت معه إلى لندن بسبب عمله كصيرفي في أحد المصارف، وفي السنة التي توفى فيها زوجها قررا إنجاب طفل، وبعد الولادة بعدة أشهر رحل زوجها، وفكّرت كم أن حياتها بائسة ومريرة، لكنها راضية ويكفيها وجود ويلي في حياتها وهي لا تطلب شيئًا آخر.
ومن دون سابق إنذار، لاحت أمام عيناها تلك اللحظة التي حاول ماتياس تقبيلها فيها، لو لم تدرك الوضع سريعًا، لنجحت محاولته، لكنها أعزت الأمر لثمالته، إذ أنها لا ترى سوى نظراته المهينة لها طوال الوقت، إنها بسبب الثمالة، أكدت لنفسها حتى تميت تلك التوقعات في مكانها.
في اليوم التالي، أوصلها زوج جارتها سارة إلى العمل، إذ عرض عليها توصيلها بعدما أعطت ويلي إلى سارة، لم يتحدثوا طوال رحلتهم سوا أحاديث سطحية، حول المعيشة والعمل والقليل عن أحوال مهنته، كان المطعم له باب خاص فيه، توقفت السيارة أمامه وترجلت إيمّا منها شكرت توم وودعته ملوحة وانتظرت حتى ابتعدت السيارة ثم دخلت إلى المطعم، قابلت عند دخولها ماتياس وتذكرت بسرعة موقف ليلة البارحة، وخفق قلبها للحظة، وخمنت إيمّا أنه رأى كيف وصلت إلى المكان، وقفت أمامه وقالت:
- صباح الخير سيد ماتياس...
ولمّا لم يجبها بشيء استأنفت حديثها قائلة:
- سأذهب لتبديل ملابسي.
وقبل أن تخطوا مبتعدة عنه قال:
- حبيبكِ؟
نظرت له ولم تتبين من ملامحه سوا البرود والعجرفة كالعادة، واحتارت بما تخبره، بالرغم من أن الأمر لا يعنيه، وقبل أخذ وقت طويل بالتفكير توصلت إلى حل وقالت:
- أجل.
ثم ذهبت، شعرت بالأسف داخلها اتجاه توم لتوريطه بالأمر دون موافقته، لكن ذلك أفضل لها، لعله سيحميها لبعض الوقت وحتى لا يتكرر ما حدث مساء أمس، أو قد يضمن ذلك معاملة مختلفة من ماتياس نحوها، كونه يعلم أن لديها حبيب يحميها ويدافع عنها إذا ما تأذت، فكّرت إيمّا بذلك أثناء تبديل ملابسها، ولم تنسى إيمّا أن اليوم هو ليلة عيد الميلاد، سيكتض المطعم بالزبائن وسيكون أي فرد عامل هنا مهم، وربما لن يتخلوا عنها أو يسمحون لها بالذهاب ما إذا قدمت طلبًا للاستئذان بوقت أبكر مع أنها متيقنة بأن ماتياس لن يسمح لها بالمغادرة، زفرت هواءًا في حسرة وشعرت بأنها مدينة لابنها باعتذرا.
- لن تعملي هنا اليوم، تخليت عنكِ للمطعم، فهو يحتاج الأيدي العاملة.
قال لها ماتياس ذلك بينما يجلس على الأريكة في إحدى الغرف الخاصة في المطعم والتي يحجزها في العادة شخصيات مهمة، يمد إحدى ذراعيه على مسند الأريكة الخلفي بينما حملت الأخرى فنجان قهوة ولاحظت إيمّا لوهلة أصابعة الرفيعة والمشذبة بعناية، وكان يضع ساقًا فوق أخرى، جلسة ماثلت شخصيتة ووصفت من يكون ولعل الآتي من بعيد سيعرف ما أن يراه بأنه الأقوى والمهيمن في هذا المطعم.
استأذنت وذهبت لمساعدة البقية في الاستعداد لحفل رأس السنة، من تعليق زينة وتوضيب وتنظيف النوافذ والأرضيات وغيرها، أثناء صعودها السلم لتنظيف المنطقة العلوية من النوافذ، لاحظت وجوده، كان يجلس على أحد الكراسي، وتساءلت إيمّا لمَ لم يقوم بدورته اليومية حول أرجاء الفندق، لقد كان يتفقد كل جزء منه وكان يتعبها في مرافقته، وكانت تفزع في وجل كلما صرخ مهينًا أحدهم، والأكثر إخافة من هذا عندما كان يستيقظ بمزاج معكر، إذ أن أوامره كانت ما لانهائية، لكن اليوم بعد أن تخلى عنها، ها هو يجلس هناك عاقدًا ذراعاه وينظر لها، ويربكها ويجعلها تستمر بالتنظيف.
انتقلت إلى نافذة أخرى، صعدت السلم وباشرت بالتنظيف وما إن ركزت بعملها ولم يعد وجوده يثير انتباهها، تناها لها صوته قائلًا:
- أحذري أن لا تقعي.
لكن كلماته ووجوده خلفها بالقرب من السلم دون أن تنتبه أفزعها وأخل بتوازنها وسقطت عليها بعد أن زلت قدمها، من حسن الحظ أن المسافة بينها وبين الأرض ليست بعيدة، وكما بدا بأنه حاول إمساكها وذلك جعل من وطأة السقوط عليه أخف، كان مكان رأسها على صدره، وكانت دقات قلبه مسموعة بالنسبة لها، رفعت رأسها ثم جذعها ونظرت إليه، كان ينظر لها بدوره، وكان مأخوذ بها، ولم يحرك ساكنًا بل حتى لم يساعد نفسه بالنهوض من على الأرض، ظلّا يحدقان ببعضهما لفترة، حتى أخرجهما صوت السيدة مورلي التي صرخت بإيمّا وأمرتها أن تنهض بسرعة عنه، التفتت إيمّا من حولها ولاحظت وجود النادلات اللاتي هرعن ما أن سقطا، لكنها تعلم أن ذلك ليس لأجلها بل لأجل ماتياس.
بعد أن نهضت ووقفت أمامه تخفض رأسها تنبس كلمات الاعتذار، همت عدة نادلات وأرادن أن يساعدنه لكنه منعهن ونهض من الأرض ثم دون أن ينبس بشيء ذهب وهرعت السيدة مورلي تهرول خلفة وتقنعه برؤية الطبيب لتطمئن على صحته، لكن مما يبدو فإنه لا يحتاج الذهاب.
عاد الجميع وانشغل بمهامه، كذلك هي وبينما كانت تنظف النافذة تذكرت ما شعرت به في تلك اللحظة عندما سقطت على صدره، كان صدره عريض ودافئ يغري الآخرين بالبقاء عليه، نبضات قلبه كانت منتظمة، ونظراته لها كانت مبهمة، وتساءلت إيمّا ما إن شعر بالاشمئزاز من الموقف؟ لأنه بالكاد بقي في المكان بعد أن نهض، وكأنه هرب من شيء ما.
تنهدت إيمّا لتخفف من غضبها، ناظرة إلى تلك الملابس التي علقتها منذ لحظات على باب خزانتها، تنهدت مرة أخرى وفكرت أنها يمكنها الاستمرار بذلك إلى ما لا نهاية، كانت الملابس عبارة عن فستان من الجلد قصير دون أكتاف ولا يملك حمالات حتى، تزينت حواف نهايته بفرو أبيض، إنه يظهر أكثر مما يخفي، وشكت إيمّا بأنها ستدخل به حتى، وتساءلت عمّن اقترح أن ترتدي النادلات ملابس كهذه؟ ألا يسمح ارتداءها للرجال بالتحرش بهن؟ وهزت رأسها ببؤس غير مصدقة بأن هذا الفستان سيحدد مستقبلها في عملها، يال المهزلة، والأدهى من ذلك أنها يجب أن ترتديه الآن وتخرج لتقدم للزبائن طلباتهم.
كانت عيون الزبائن تتبعها أينما ذهبت وكذا الحال مع جميع النادلات، وكم حسدت الطهاة؛ إذ أنهم معفيين من هذه المهزلة، أخذت طلبًا وذهبت لتقديمه، كان طلبًا إلى السيد ماتياس وضيوفه في إحدى الغرف الخاصة، استنشقت الهواء بعمق ثم زفرته، طرقت الباب ثم فتحته ودخلت، التفت الموجودون إليها، وكان هناك من نظر إلى تفاصيل جسدها بتمعن، وتمنت لو أنها تستطيع فقع عيناه أو لكمه، أما ماتياس فلم يحرك ساكنًا، لقد اعتقدت أنه سيبدي أية ردة فعل، لكنه أخذ ينظر لها كما البقية، وضعت الطلب على الطاولة، وقبل أن تذهب أمسك أحدهم بمعصمها وقال مبتسمًا:
- أرجو أن تشاركينا الاحتفال.
وبردة فعل لا أرادية، ألقت نظرة إلى ماتياس، وهناك شيء داخلها أراده أن يقول شيء، أو حتى يبدي انزعاجًا لكنه لم يفعل، وكرهت ذلك الشعور؛ وتساءلت لمَ تريده أن يفعل شيء تجاهها، ولأنه لم يفعل شيء، اجتاح شعور قلبها، وهناك فكرة طرأت لها، وعلى اساسها وافقت على دعوة ذلك الرجل وجلست بجانبه، سكب ذلك الرجل لها كأسًا ومده لها وقال:
- سام براوني، يمكنكِ مناداتي بسام.
أخذت الكأس ثم ابتسمت وقالت:
- شكرًا لك يا سام.
ارتشفت القليل وأثناء ابتلاعها الشراب نظرت إلى ماتياس، وتساءلت داخلها عن السبب الذي جعلها ترغب بإثارة غيرته عليها، من أين جاء الحق لها في فعل ذلك؟ وبعد مضي دقائق على جلوسها هناك، بدأ الرجل المدعو سام بإلقاء نظرات ذات نوايا خبيثة نحوها، يمعن النظر بجزء جسدها العلوي الذي يظهر منه الكثير، وكذلك ساقاها التي حاولت بكد تغطيتهما لكن تنورة الفستان أبت ذلك لقصرها، وفي لحظة إدراك تساءلت لمَ هي هنا؟ سامحة لهذا الرجل أن ينظر لها بهذا الشكل بينما ماتياس الشخص الذي اكتشفت أنها تحبه منذ دقائق يجلس عند الطرف المقابل ولا يحرك ساكنًا، ألا يدل ذلك على عدم حبه لها؟ ولمَ هي افترضت ذلك؟ هي لا تعني له شيء وهذا بديهي، وهو لم يتصرف عكس ذلك في الواقع، بالعودة إلى أيام الجامعة التي كانت مشحونة بشجاراتهما وكراهيتهما لبعض، هو لم يتغير لكنها من تغيرت، بل ما تغير هو مشاعرها.
استأذنت بهدوء بعد أن باءت محاولتها بالفشل، وخرجت من الغرفة، بعد عودتها إلى العمل، وبعد أن قدمت طلبًا لإحدى الطاولات، حاوطت يد كبيرة بأنامل رفيعة معصمها وجرّتها، وما كان صاحبها سوا ماتياس، جرّه لها أمام الجميع أربكها وأخجلها، وملمس يده على جلد معصمها أشعرها بأنه يحترق.
أخذها إلى إحدى الغرف الخاصة الفارغة، وظل يمسك معصمها حتى أغلق الباب، ثم دفعها إلى الجدار وحجزها بينه وبينه مقيدًا يداها كلتاهما بيديه كلتيهما، وقال ثائرًا غضبًا:
- أنسيتي نفسكِ؟
لم تنبس بكلمة وظلت تحدق به تحاول فهم ما يرنو إليه، لكن صمتها جعله يزداد غضبًا فقال:
- أحسبتي أنكٌ قادرة على إيقاع سام في شركك؟..
ابتسم ساخرًا ثم أدنى شفاهه من أذنها وقال هامسًا بنبرة عميقة بعيدة كل البعد عن السخرية:
- يبدو أنه لا يلبي طلبات الآنسة إيميرالدا مارتن..
لقد أدركت أن كلامه الأخير كان يقصد به توم، لقد نسيت أمره تمامًا، فرقت شفاهها لتتحدث لكنه قاطع محاولتها فقال:
- أتريد الآنسة إيميرالدا شخصًا قادر على محاكاة متطلباتها؟ أتريد الآنسة إيميرالدا مالًا؟ أم..
نظر إلى عينيها مباشرة، وقد حالتا قاتمتان، ابتسم وقال:
- أجل هذه النظرة، النظرة المليئة بالغضب والكره، نظرة اختبرتها أول مرة منذ زمن بعيد، في ذاك الشجار، أتذكرينه إيميرالدا؟ لقد حالتا عيناكِ الزمرديتان قاتمتان حينذاك، وتساءلت كيف لعينين أن تتحولا بهذا الشكل لمجرد عاطفة، أو عمّا إذا كان الغضب فقط العاطفة الوحيدة التي تحولانهما..
نظر لها للحيظات ثم قال:
- أنجرب؟
أرادت إلقاء بعض الشتائم عليه وعلى كلامه وتحليلاته وعلى نفسها لأنها فكرت به بذلك الشكل، ماتياس لا يتغير مهما حدث، وظلت تلك فكرة داخل عقاها لأن ماتياس منعها من قول ما تريد بسحقه لشفتيها بقبلة عاطفية وشعرت إيما بأنفاسها تسلب منها وحاربت لتبعده لكنه يقيدها وقدماها وهنتا وما عادتا تعينانها على ركله، ابتعد عنها وكان حال كل منهما متماثلًا إذ كانا كليهما مأخوذا الأنفاس، ابتسم برضا تحت أنفاسه المتقطعة، إذ شعر بالانتصار بأنه السبب مرة ثانية لتحويل لون عينيها إلى قاتم، لكن الانتصار ليس الشعور الوحيد الذي أحس به، لقد أدرك أنه يحبها، وصدم من نفسه إذ أنه لم يدرك ذلك قبلًا.
هل كانت بهذا السوء؟ سألت إيما نفسها، لمَ يقف أمامها يعلو ملامحه الذهول؟ هل اكتشف أنه يكرهها؟ أفلتت يداها من قبضته ثم دفعته جانبًا وخرجت من الغرفة، جلس على أريكة هناك، ليفهم مشاعره جيدًا، كان متأكد بأنه يكرهها، ما الذي تغير؟ وبعد فترة خرج من الغرفة، جالت عيناه بحثًا عنها بين النادلات لكنه لم يجدها، سأل عنها إحداهن فأخبرته بأن اتصالًا جاءها وأخذت على إثره أجازة لبقية اليوم، ولمّا سألها عمّا كان الاتصال أجابته بأن السيدة مورلي من تلقت الاتصال، ذهب بعد ذلك إلى السيدة مورلي التي كانت في مكتبها الخاص والتي وقفت ما أن دخل المكان وقالت:
- بما تأمرني سيدي؟
قال بعد صمت وحتى لا يثير الريبة اتجاهه:
- لا أرى إيميرالدا في المكان، أين ذهبت؟
قالت السيدة مورلي وقد تحركت من مكانها خلف المكتب وواجهته:
- لقد تلقت اتصالًا من المشفى سيدي، يبدو أن أحد أفراد عائلتها فيها، لذا أعطيتها أجازة لبقية اليوم.
أحد أفرادها؟ كررر تنك المفردتان في عقله، وفكّر حينها بحبيبها، ألا يعد فردًا من العائلة أيضًا؟ هل له هذه الأهمية عندها لتعده كذلك؟ ومن دون أن ينبس بكلمة خرج من المكان وقد غامت ملامحه ولمعت عيناه ببريق غضب، لقد أنهى علاقته بسام براوني بعد أن أعلن الأخير أنه يريد أن يحظى بها لنفسه، وأراد منه أن يساعده لكنه رفض وشب جدال بيهما تحول إلى شجار فيما بعد وترك لهم المكان بعد أن أنهى كل شيء معه، كان سام براوني مستثمر مهم للفندق، ولا يصدق أنه فعل ذلك لأجلها، وها هي تذهب إلى أحضان حبيبها ملقية كل شيء تحت أقدامها.
لم تبدل إيما ملابسها، بل ارتدت قميصًا فوق فستانها في اللحظات الأخيرة بعد أن أدركت أن ما ترتديه غير مناسب، ورغبت أن تبدل ملابسها بأكملها لكنها لم تفعل لإسراعها بالذهاب إلى ابنها، فكّرت إيمّا أثناء رحلتها إلى المشفى في سيارة الأجرة، بما أخبرتها سارة، لقد كان يلعب في إحدى المتنزهات مع أولادها، لكن إحدى الألعاب سقطت عليه ومن حسن الحظ أنها لم تسقط على جسده بل جزء منه، كما أن ألعاب الأطفال لا تكن ثقيلة بالعادة، هذا ما فهمته من بين شهقات سارة، لقد كانت تلوم نفسها على ذلك بالرغم من أنها أخبرها أن لا تأخذ ذلك على عاتقها، كما أخبرتها أن الطبيب لم يخرج من غرفته لكنها تستطيع أن تستشعر مدى ألمه في تلك اللحظة، وقلبها عصر لهذه الفكرة، كما أنها لم تنفك عن البكاء، كان الطريق مزدحمًا وخركة المرور مقيدة بشكل مزعج.
هرعت لها سارة ما أن رأتها وعانقتها بينما تعتذر وتتأسف لإيمّا، ربتت الأخيرة على رأس سارة وقالت:
- لا بأس عزيزتي، أرجوكِ لا تبكي.
كانت إيما تبكي هي الأخرى، اقترب توم منهن وقال:
- قبل أن تأتي خرج الطبيب، لقد سقطت اللعبة على ساقه، لقد أخبرنا أنها قد كسرت، وقد قام بصبابتها، وهو الآن نائم، إيما أنا أعتذر حقًا، لقد غفلنا عنه.
هزت رأسها نافية وقالت:
- لا، ليس ذنبكم بل أنا أم سيئة، ما كان علي أن أبدي العمل على ابني.
وبعد فترة بعد أن هدأتا كلتاهما، دخلت إيما إلى غرفة ابنها، اقتربت من السرير وجلس على الكرسي المواجه له، ألقت نظرة على ساقه الصغيرة المصبوبة والمرفوعة، أخذت يده الصغيرة وقبلتها، ونزلت دموعها على خديها، واعتذرت منه كونها لم تكن بجانبه في تلك اللحظة، في اليوم التالي وبعد أن استيقظ ويلي ورأى والدته بانت السعادة على محياه وبدا أنه قد نسى الألم الذي شعر به، جلبت له الممرضة الفطور وقامت هي بتأكيله، كما اشترت له سارة قصص مصورة للتلوين وألوان، فرح ويلي بها كثيرًا وأخذ بالتلوين، قالت لها سارة بنبرة متأسفة:
- أنا آسفة إيما...
أمسكت إيما يدها وقالت:
- أرجوكِ سارة، لا تقولي هذا، أنا الملامة الوحيدة، ما كان عليّ أن اتعبكم معي، لديكم ما يكفيكم من المتاعب، وشكرًا لكِ لأنك لم تخبري السيدة مورلي بأن ابني في المشفى.
ردت سارة بسرعة:
- لا تشكريني عزيزتي، لقد اتبعت تعليماتك، من الجيد أنني تذكرت في آخر لحظة أنك أخبرتني بظروفك في العمل.
أخذت أجازة للأسبوع التالي لتبقى بجانب ابنها، الذي خرج من المشفى وهي يحتاج للرعاية التامة في المنزل كما يحتاج بقاءها بجانبه، فكّرت أثناء ما خرجت لشراء بعض الأغراض من متجر البقالة وأبقت سارة بالقرب من ابنها، بأن عليها الاستقالة من عملها، والبحث عن عمل بدوام نهاري فقط، أو عمل يناسب ظروفها، ولامت نفسها فما كان عليها أن تكذب من البداية بشأن ابنها.
وبعد انتهاء الاسبوع ذهبت إلى المطعم وقدمت استقالتها، وتركت المكان، وقد تم منحها مكافأة نهاية الخدمة، ولمّا علم ماتياس بذلك شعر بالغضب، وكوّم ورقة الاستقالة بقبضة يده، وتساءل عمّا كان السبب وراء استقالتها ما حدث بينهما، ألهذا الحد تكرهه ولا تريد البقاء بجانبه؟ برح مكانه خلف المكتب ومشى حيث النافذة ووقف أمامها، ونظر إلى الخارج حيث الطرقات والأسطح مغطاة بندف الثلج، وأحس بكآبة المنظر، كوّم يده في قبضة وأسقطها على سطح النافذة البارد والذي عاكس ما يعتريه صدره من حرارة مؤلمة.
في المساء، وبعد أن نام ويلي، خرجت إيما من الغرفة، وكانت شاكرة لتحسن حالته، وشعرت براحة بعدما قدمت استقالتها، بالرغم من أن البحث عن وظيفة جديدة أمر يقلقها أيضًا، فهي لا تعلم كم المدة التي ستحصل بعدها على عمل، وأثناء توجهها إلى المطبخ لصنع كوب من الشوكولاته الساخنة، وبعد أن أشعلت النار في الطباخ، ثم ملأت الأبريق ماءًا ثم وضعته على النار، تراءى لها ماتياس، وتساءلت عن ردة فعله بعد أن علم باستقالتها، بالرغم من أنها تعي أن لا ردة فعل ستعتلي ملامحه، ولن يقدم على شي لإرجاعها أو مطالبتها بتفسير، هزت رأسها مبعدة هذه الأفكار عنها، وفكّر من منظور عقلها، فماتياس لا يحمل أية مشاعر لها، ولن يقوم بأي شيء وسينساها، سمعت طرقًا على الباب، خرجت من المطبخ وتوجهت حيث الباب لتفتحه وما أن فتحته، لاحت لمرأى عيناها أكتاف عريضة، حرّكت عيناها إلى الأعلى لترى الرأس الذي تحمله تلك الأكتاف، بالرغم من أنها عرفته منذ الوهلة الأولى التي فتحت بها الباب ورشقها عطره المميز، وقد سد جسده الضخم الباب، إذ لا مجال للعبور.
ومن دون أن تسمح له بالدخول، تحرّك وولج إلى داخل شقتها، وشعرت بأن جسده قد ملأ شقتها الصغيرة، أغلقت الباب بينما كان يجول بعينيه لاستكشاف الشقة، وحملت عيناه نظرة مبهمة، أتراه يفكّر بأن شقتها الوضيعة ملائمة لها؟ أم أن الشقة لم ترقه ويفكّر بالهرب من الرائحة الناتجة عن الرطوبة، أدار رأسه لها وقال:
- أريد قهوة.
كان طلبه مفاجئًا، بل كان أمرًا أكثر من طلب، قالت:
- كنت أعد شوكولاته ساخنة، أجلس من فضلك.
ذهبت إلى المطبخ، وانشغلت بإعداد القهوة، وقد نسيت تمامًا أمر ابنها، حتى تناهى لها صوته عند باب المطبخ قائلًا:
- الطفل النائم في الغرفة، أهو ابنكِ؟
التفتت له بتفاجؤ حاملة أبريق الماء لتسكب منه في الأكواب أمامها، لم تجبه بسرعة لذا دخل وأمسك بذاعها وشعرت بألم بسبب قبضته، قال:
- أجيبي!
رفعت رأسها بتحدي قائلة:
- أجل!
آلم يدها عمدًا، وقال بين أسنانه:
- أذلك الرجل زوجكِ؟
قالت بعد أن شعرت بأن ليس هناك مهرب، كما ليس هناك داعي للكذب أو الملاوعة:
- الرجل الذي رأيته، لم يكن حبيبي بل زوج جارتي، وأوصلني في طريقه إلى عمله، وهذا الطفل هو ابني من زوجي المتوفى.
رفع حاجباه في دهشة وقال:
- لقد كذبتي؟ ينص العقد..
قاطعته وقالت:
- أعرف ما ينص عليه العقد، لقد كذبت لأجل ابني، كان مريضًا وكنت أحتاج للعمل لأؤمن له ما يحتاجه من علاج، كان عليّ أن أخبركم بالحقيقة لكنني لم استطع..
بلعت ريقها ثم أكملت:
- لقد استقلت، وقد أصبح كل هذا من الماضي.
ترك يدها وقال:
- لقد رفضت الطلب.
صاحت:
- لماذا؟
أخبرها متجاهلًا سؤالها:
- سأتظاهر بأنني لم أسمع شيء ولم أعرف شيء، وفي الغد ستستأنفين عملكِ في المطعم.
غضبت من لا مبالاته فقالت:
- أنا أرفض عرضك، الأمر ليس بيدك، بل هو اختياري، أم أن العبث معي ورؤيتي ضعية بلا حيلة يسعدك؟
ابتسم ساخرًا وقال:
- أجل! يعجبني ذلك.
طحنت أسنانها غيظًا ثم قالت:
- أنا أكرهك!
وشعرت كما أن قلبها يعصر لكذبتها، وفكرت بأنها لن تكذب أسوأ من هذه الكذبة، وترقرقت الدموع في عينيها لهيجانها، وحالت عيناها زمردتان قاتمتا اللون، لاحت ابتسامة جانبية على شفتيه ثم أحنى رأسه وأخذ شفاهها بقبلة لم تكن لطيفة لمن قد يشاهد الأمر، رفعت يداها لتبعده لكن جسدها خانها ولفت ذراعاها حول رقبته وطالبت بالمزيد، انتقل من شفتيها إلى رقبتها، ثم وقبل أن يبتعد همس بجانب أذنها بصوت عميق وهادئ قال:
- أنت على أتم الاستعداد لتستسلمي لي، إيميرالدا، أأنت تكرهيني حقًا؟
وابتعد عنها، وشعرت بأن الدفئ الذي كان يلفها قد ذهب وحل محله برد قارس كبرد أول ليلة من يناير، كان صدرها يعلو ويهبط لما اختبره جسدها من عاطفة، وماثلتا وجنتاها أذناها بالتورد، وأصابت رعشة كامل جسدها، احتضنت نفسها وقالت:
- هذا ليس معيارًا، مازلت أكرهك، ولطالما كرهتك مذ كنا زملاء في الجامعة، إذ كنت تلهو وتعبث بالأرجاء، بالرغم من ذلك كنت تأخذ المراكز الأولى، بينما أنا كنت دائمًا في المركز الثاني بسببك، لقد كرهت تفوقك، وطمحت للتفوق عليك، كنت أكره كونك تجذب انتباهي..
نظرت بمقلتين دامعتين، وملامح غاضبة، ثم أكملت:
- أنا أعلم أن رؤية حياتي محطمة بهذا الشكل ترضيك، لم أحقق أي شيء مما كنت أحلم به..
قاطعها وقال بهدوء ساخر:
- نعم، يرضيني أنكِ لم تتزوجي من أحببتيه، ايميرالدا، ويرضيني أكثر أنكِ تتأثري من لمساتي رغم أنك تكرهيني.
أثارت كلماته غضبها، إذ أنه أصاب الحقيقة، وهي لا تريد ذلك، قالت دافعة صدره:
- أخرج! لا أريدك أن تبقى هنا!
أمسك بمعصميها وأوقفها عن دفعه، ثم قال:
- هل أصبت الحقيقة؟
أثناء محاولتها إفلات معصميها من قبضته قالت:
- لا! أفلتني!
قال شادًا على معصميها:
- هل نختبر الأمر؟..
هزت رأسها رافضة اقتراحه، أكمل قائلًا:
- إيميرالدا، حدقي بعيني.
توقفت عن المحاولة، ونظرت إلى حدقتيه، بقيا ساكنين لبعض الوقت حتى بادر وقبلها، كانت قبلة مختلفة، لطيفة وناعمة، فصل القبلة وقال بنعومة:
- هل أتوقف، إيميرالدا؟
نزلت دموعها على خديها، أعلى وجهه ليراها جيدًا، مسح دموعها بأبهامة وقال:
- ما الذي يبكيكِ؟
حالت ملامحه لينة ثم قال:
- لأقول الحقيقة إيميرالدا، أنا أحبكِ.
فتحت عيناها على وسعهما باندهاش، أكمل:
- لا أعلم ما حدث لي، كنت متأكدًا من أنني أكرهكِ، حتى رأيتك أول مرة في المطعم، كنت أعتقد أنه تأثير اللحظة لكنني بدأت ألاحظ وجودك، وأرغب ببقائك بجانبي، ولم أعتقد أنني يومًا سأضحي بأي شي لأجل امرأة، لكنني فعلت لأجلكِ، وعندما استقلتِ، جن جنوني، وفكرت بأن كرهكِ لي حملك على فعل ذلك، وأصابتني الغيرة الشديدة لمّا رأيتك مع رجل آخر، بعد قبلتنا الثانية تأكدت من حبي لكِ، وجئت إليك عازمًا على إعادتكِ إلى حياتي، إيميرالدا، هل تسمحين لي بحبكِ؟ فأنا مغرم بكِ!
تبللت خداها بالدموع، خنقتها العبرة ومنعتها من التعبير عن مشاعرها لكنها أومأت بالموافقة قبل أن يأخذها في حضنه.
بعد شهر من ذلك، تعرف خلاله ماتياس على ابنها، وشعرت إيما بأنها لن تجد أبًا حنون ويحب ويليام مثل حب ماتياس وحنانه على ابنها، تزوجا ووجدت إيما العائلة التي أرادتها وحلمت بها يومًا...
النهاية.🌷🪻
_________
رايكم بالونشوت بعد الرحلة الطويلة.
الونشوت، أكثر من ٧٠٠٠ كلمة، ما ردت أصدمكم، تابعوني لدعمي ولأنشر المزيد من الأعمال لأني مكسلة بسبب الدعم، كومنت وفوت بليز.
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top