(32)

بقلم نهال عبد الواحد

اضطر أوس أن يخرج مصاحبًا لأبيه ليشيّعوا جثمان الزُّهير لمثواه الأخير وبئس المصير، بينما اتجهت زبيدة إلى الحجرة عند راحيل، بدأت تمسح جراحها بقطعة قماش بها ماء دافئ ثم جففتها وبعدها وضعت دهان علاجي ثم تركتها وخرجت، فغفت راحيل في نومٍ عميق من شدة التّعب.

عاد أوس متأخرًا ودخل حجرتهما واستلقى جوارها دون أن تشعر بوجوده ثم استيقظ باكرًا وذهب مع أبيه إلى بيت عمه من أجل واجب العزاء، فاستيقظت راحيل فوجدت نفسها وحدها كما هي منذ ليلة الأمس.

استمر هذا الوضع لأيام قد بدأت راحيل تتماثل للشّفاء وقد لمست في تلك الأيام حنان زبيدة التي تعاملت معها كأمّها فبدأت تطمئن.

أما عمّار وعُمير فكانا يخرجان كل يوم في الصّباح ولا يعودان إلا آخر النّهار.

وذات يوم  وقد تحسّنت راحيل وشُفيت جراحها لحدٍ كبير فتحوّلت لجروح سطحية لم تعد تؤلمها كما في السّابق.

خرجت من حجرتها وجلست جوار زبيدة التي كانت تنسج على النّول اليدوي فتبادلتا أطراف الحديث بودٍ شديد، وكانت زبيدة تتأمل جمالها من حينٍ لآخر بسعادة، فقد بدأ لون راحيل الطّبيعي يعود إلى وجهها بدلًا من شحوب الأموات، فتشرّبت وجنتيها بحمرة النّضارة وكذلك شفتيها، فوجهها صافي كما اعتادت دون أي زينة أو حتى كحل، هي في الواقع لا تحتاج إلى أي زينة، فقط طبيعتها تغنيها.

دلف عمّار وعُمير وقد أتيا توًا من الخارج فاتجها إليها يسلّمان عليها ويقبّلان رأسها ثم جلس عمّار على أريكةٍ مجاورة، بينما عُمير جلس جوار أخته فوضعت ذراعها على كتفه، وكانت ترتدي ثوبًا من اللون الأخضر يليق بلون فيروزيتَيها كان ذات نصف كم متسع فظهرت سواراتها الذهبية وسط ساعدها شديد البياض فجعلته يزداد تلألؤًا وظهرت عروقها الخضراء في باطن ساعديها عندما تحركهما بتلقائية أثناء حديثها معهم، ولثوبها فتحة متسعة بعد الشيء تسمح بظهور عظمة ترقوتها المنحوتة بروعة تعتليها تلك القلادة الذّهبية، وشعرها مقعوص إلى الخلف وتتمرد بعض الخصلات البنية الناعمة على جبهتها ووجنتيها فيظهر جزء من قرطيها الذّهبيَين المتدلييَن.

فأهدر عُمير: قد اشتقتُ إليكِ كثيرًا يا راحيل.

فابتسمت إليه وضمته مربّتة على كتفه وقالت: وأنا أيضًا.

فتساءل عمّار: كيف حالك الآن أختي الغالية؟

فأومأت قائلة: بخير، قد تحسّنت كثيرًا، لكن تبقّت بعض النّدبات.

فتدخلت زبيدة: لا عليكِ يا ابنتي، يمكنك أن تتركي لشعرك الرّائع العنان على ظهرك فسيُخفي بالتأكيد كل شيءٍ تحته...

قالتها وهي تفك قعصة شعرها فانسدل على ظهرها، فدخل لحظتها عبادة وأوس من الخارج وقد خطفت هيئة راحيل الرّائعة نظر أوس بطريقة واضحة قد لاحظتها أمه، فابتسمت وهي تمسّد على شعرها وأردفت بسعادة: ما أجملك يا راحيل!

فأكمل عُمير بسعادة: أجل يا خالة؛ فأختي جميلة بحقٍ مثل أمّي، أشعر أني لن أتزوج أبدًا؛ فلن أجد امرأة في جمالها ولا في جمال أمّي!

فضحك الجميع عدا أوس الذي لا زال واجمًا يحملق في كل إنشٍ فيها ويتنهد بصمت ويقول من داخله: ما أجملك!

فأجابته راحيل بابتسامة ساحرة: لا زلتُ صغيرًا على مثل هذا الحديث يا عُمير!

سكت قليلًا ثم التفت إليهم متسائلًا: لكني لا زلتُ لا أفهم، كيف لأختي أن تكون ابنة عمك يا أوس؟

ولأن أوس كان مغيّبًا كأنه قد سَكَرَ بلا خمر، فأجاب عبادة: أباها هو عبد العُزّى أخي الأكبر، وقد هربت منه أمك بعد أن وضعت راحيل.

فاتسعت عيناه متسائلًا بصدمة: ولماذا تفعل أمي هذا؟!

فأجابت راحيل وقد اختفت ابتسامتها وصار وجهها خالي من التعابير مع بعض الحدة: لأنه يكره الإناث وانتوى قتلي؛ فخشيت عليّ أمي وهربت بي، ثم قابلت أبانا عمارة وتزوجا وتبناني هو...

ثم أغمضت عينيها وتنهدت بقهر، فتساءل عُمير مجددًا: ولماذا؟!

فأجابه عبادة: هذا ما عهدنا عليه آباءنا؛ كثيرًا ما تغِير القبائل بعضها على بعض فيأخذوا الفتيات سبايا لديهم، فلن نقبل أن يُجلب لنا العار حين تصير حرائرنا جواري لأعداءنا، إلا من لم يعيش له ولدًا فيضطر لاستبقاء ابنته، لكن الغالبية يدفنوهن أحياءً وهن حديثات الولادة، هذا أفضل ممن يفعل بها هذا عندما تكبر، فيأخذها معه إلى البئر ويطلب منها أن تجلب له الدّلو من داخل البئر فيدفعها بداخله.

فوضع عُمير يده على فمه بشهقة بينما انفلتت دمعة من عيني راحيل فأسرعت في مسحها بظهر كفها لم تخفى عن أوس المراقب لها بدقة، فأكملت زبيدة: ألا أخبركم بأمر! عندما كنتُ حُبلى بأوس وقد أنجبتُ قبله الكثيرات أما الذّكور فلم يكن يعيشون طويلًا، وقتها عندما اقترب موعد مخاضي ذهبتُ إلى الصّحراء وحفرتُ حفرة وجلست على فوهتها ألد؛ فإن كانت أنثى قذفتها داخلها وإن كان ذكر أمسكته، وقد كان أوس الغالي، حفظتك الآلهة يا ولدي الحبيب!

قالت الأخيرة وهي متسعة الابتسامة تنظر إلى ابنها الشّارد المحملق في تلك التي أمامه، فنهض عمّار واضعًا يده في جيبه يخرج بعض المال يقدّمه إلى عبادة، فنظر إليه وإلى يده الممدودة بدهشة فتساءل: ما هذه الأموال يا بني؟!

فتنحنح عمّار ثم قال: قد ربّاني أبتي أن الرّجل لا ينبغي أن يمكث دون عمل، ومنذ أن جئت إلى بلدتكم وكان معي بعض المال فابتعت بعض السّلع وجلستُ أبيعها في السُوق وظللتُ هكذا أبيع وأبتاع، أما عُمير فقد أريته طريق مرعى قريب ليخرج بأغنامنا كل يوم ليرعاها كما اعتدنا، وقد أحسنتم إلينا وأجلستونا في داركم، فهذه...

فقاطعه عبادة بصرامة: ما كان ينبغي عليك فعل هذا أبدًا، قد أخبرتكم أنكم أنتم الثّلاثة بمثابة أبنائي ويكفي أنكما تكدّان وتعملان ولا تعيشان عالة، أحسنتما وباركتكما الآلهة!

فأومأ عمّار على استحياء وعاد جالسًا مكانه بينما عُمير تمتم: الآلهة الآلهة! عن أي آلهةٍ تتحدثون؟!

فرمقه عمّار ليسكت ففعل على مضض، كان لا زال أوس محملقًا في كل إنشٍ فيها وقد فضحته عيناه بكمّ العشق المنبعث منهما وتلك الأنفاس الزافرة عن بركان أشواقٍ مكتومة، ولسان حاله يصيح داخله، لقد جننت يا أوس من فرط حبها، فصار هذا الحب والود كشريانَين محفورين داخل القلب لا يُنتزعا إلا بانتزاع الرّوح معها.

ظلّ على حاله والجميع يتابعه ويتعجب من سكوته رغم كل هذا العشق الظّاهر؛ فقد كان من عادة العرب في الجاهلية إن أعجبته إحداهن يتبعها ويحاول التّقرب إليها بل ويذكرها في شعره بأجمال الأوصاف سواء الصّريحة بوصف تفاصيل جسدها أو العفيفة بوصف تفاصيل مشاعره ولهيب أشواقه.

أما راحيل فقد شعرت بمراقبته لها وملاحقة كل همسة وبسمة منها فكانت تتهرب منه حتى لم تحاول النّظر إليه بل كانت تتجاهله بعينها متعمدة لألا تنظر إليه؛ فهي لا تتذكره وبالنسبة إليها هو مجرد رجل غريب.

فلكزه أبوه ليعيده لرشده فجأة وهو يقول له: استعد بعد قليل لنذهب إلى دار عمك.

فتأفف أوس قائلًا: ألم يأن لذلك العزاء أن ينتهي بعد! لقد سأمتُ!

فزجره أبوه وتابع: لا ينبغي لك قول هذا؛ لا تنسى أنه أخي الأكبر وهذا ابنه الوحيد، وهذه هي العادات فلا يمكن ألا نكون موجودين...

ثم التفت نحو راحيل وأكمل: كما كان ينبغي عليكِ أيضًا راحيل الذهاب لبيت أبيكِ والمكوث هناك لحين الانتهاء من العزاء.

فتشنّجت ملامح راحيل بانزعاج وصاحت بحدة: عن أي أبٍ وأخٍ تتحدث؟! عن من كان يريد دفني حية أم من تجاهلني وأنا أُجلد وأُعذب كل يوم حتى تمزّق لحمي وأنا ملقاة في حجرة أقل ما يقال عنها أنها عفنة، أما الآخر فليس سوى قاتل أمي ومعذبي، ولو كنتُ أملك لتعالت ضحكاتي جرّاء مقتله ولا أجلس في دارهم أتصنع الحزن؛ أنا لا أجيد التّصنع ولم أجرّب الكذب أبدًا، فلا أعرف لي أبًا غير عمارة الطّائفي ولا أخوين إلا عمّار وعُمير...

فصاح فيها عمّار: كفاكِ راحيل!

فسكتت، ثم استطرد عمّار: أعتذر منكم يا عم؛ راحيل لن تقصد أن تسئ في حديثها بهذه الطّريقة...

ثم التفت إليها معلّقًا: كان عليكِ التّحدث بأسلوب أكثر تأدّبًا مع عمّكِ...

ثم عاد يحدّث عبادة:  راحيل طيبة والله يا عم! فقط طباعها خشنة وعنيفة جرّاء إقامتها معنا في البادية.

فهدأ عبادة بعد غضبه ثم قال: لا عليك، سأراعي الظّلم الذي أوقعاه عليها.

فنهض أوس واقفًا على مضض ليفضّ الموقف وقال: هيا بنا يا أبتي نذهب لننجز ذلك الواجب الثّقيل.

فنهض عبادة وتبعه بعد أن التفت نحو راحيل والتي لم تلتفت لأحد واكتفت أن تنظر أمامها بعناد.

وبعد خروجهما صاح عمّار: ماذا أصابك يا ابنة أمي؟ كيف تصيحين بوقاحة في وجود زوجك وعمك؟

فنهضت واقفة وصاحت هي الأخرى: لم أخطئ في حق أيهما، لكن لن يجبرني أحد أن أصل ذلك الرّجل!

فصاحت زبيدة: حسبكما! كفاكما حديث بشأن عبد العُزّى وابنه...

ثم نظرت نحو عمّار نظرة ذات مغزى وقالت: لكن لديّ حديث أهم.

فنهض عمّار واقفًا وهو يجذب أخيه قائلًا: هيا بنا عُمير لنستريح بالداخل.

فنظر بينهم ثم اضطر أن يتبع أخاه وهو متكدّرًا، فاقتربت زبيدة من راحيل وهي تمسّد على شعرها بهدوء ثم قالت: لقد أحببتكِ كثيرًا مثل ابنتي بالضّبط.

فالتفتت إليها راحيل و أومأت لها بامتنان، فأكملت زبيدة: لكني أحب ابني أشد...

ثم قالت تشدد على كل حرف: زوجك.

فابتلعت ريقها بتوتر، فاستطردت زبيدة: كنتِ مريضة متعبة وقد شُفيتِ وصرتِ على ما يرام، إذن عليكِ الاعتناء به والتودد إليه حتى يرضا.

فسكتت راحيل بغير رضا ولم تعقب...

Noonazad    💕❤💕

Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top