(21)

بقلم نهال عبد الواحد

مرت عليه أيام وأسابيع وهو شاعرًا بحجم التّغيير داخله، يرى الأمور بنظرة مختلفة، يحيا راحة وسلام نفسي بشكلٍ كبير.

لقد تمتع واستفاد من تلك السّفرة لأقصى حدّ بل فاق أي حدّ، الوصول إلى حقيقة الكون والفطرة كما ينبغي، وينتظر مهمة أخرى من أبيه تتطلب منه السّفر على أحر من الجمر.

كما من حينٍ لآخر تراوده ذكرى تلك الفارسة الملثمة بحدتها وجرأتها، لم يعرف شكل ملامحها ولا من هي! لكنه لم ينكر انجذابه بها لأول مرة وهو الذي لم يكن اللهو ولا الفتيات يشغلون أي حيّز من حياته مثل عمه وابن عمه وحتى أبيه في شبابه.

ينتوي لو سافر مرة أخرى أن يمر من ذلك المكان الرّائع ويتمنى لو يلقاها، كما يطمع لقاءً آخر في مكانٍ أبعد، يتنهّد بشوقٍ يفوق كل شوق، ترتعد أطرافه ويرتجف جسده وتتلاحق نبضاته، يشعر وكأنه بحاجة لقلبٍ آخر ليتحمل ما يشعر به؛ فذلك الحب لا يكفيه قلب واحد ولا عمر واحد، حب حقيقي فاق أي حب، حتى حب العاشق لحبيبته...

لكن كثيرًا ما يستوقفه ضعفه وقلة حيلته؛ فهو لا يستطيع أن يتخذ أي خطوة بشأن ذلك الأمر الجديد!

وبعد أسابيع أخيرًا طلب منه والده مهمة لأحد التّجار وتتطلب منه سفرة، هاقد جاءته الفرصة على طبقٍ من ذهب.

امتطى جواده مبحرًا به نحو مقصدًا بعينه، مرت بضعة أيام حتى اقترب من ذلك العين فهبط من فرسه وتحرّك بهدوء يتمنى لقاءها.

كانت هناك عدة نخلات حولها الحشائش قبل الوصول إلى العين نفسها، والتي بها جانب خلف بعض الأحجار كساتر طبيعي على الأغلب للاغتسال خلفه.

وما كاد يتعدى تلك النخلات حتى سمع صوتها المميز، فوجد نفسه يتخفّى خلف النّخلات ويمسك بأحد أغصانها يهبطه ليخفي به وجهه.

كانت تجلس وسط الأغنام كأنما تجلس مع أطفال تضاحكهم وتحاكيهم تجري خلف هذه وتربّت على هذه.

وفجأة!

جذبت وشاحها من فوق رأسها بسبب حرارة الجو في وقت الهاجرة، فظهر وجه القمر وضفيرتان ناعمتان طويلتان تلتمعان في ضوء الشمس مالتا في التماعتهما إلى اللون الذهبي، أمسكت ذلك الوشاح تحركه يُمنة ويُسرة لتحصل منه على بعض النّسيم، ثم تحركات نحو العين وجثت على ركبتيها وضعت ذلك الوشاح على كتفيها وأخذت تغترف بكفيها وتغسل وجهها وتحرك كفيها في الهواء لتبرّد وجهها بالنّسيم.

وجم أوس بشدة؛ فلم يرى مثل هذا الجمال من قبل كأنها حورية قادمة من الجنة إلى الحياة الدنيا، بل لم يتوقع أن يرى وجهًا كهذا أبدًا.

هو بحق بحاجة لعدة قلوب لتتحمل كل هذه الدّقات القوية، يشعر بقفصه سيُقتلع من مكانه، وضع يده على قلبه وتنهّد وهو واجمًا فقط يشاهدها ويتابعها ويتنهد ثانيًا وخامسًا وعاشرًا...

والغريب أن قدميه قد تيبستا في الأرض وقد جَمُد بأرضه وتيبس جسده مكانه.

لا يعرف كم مضى من الوقت وهو ثابت في مكانه لا يتحرك، لكن مؤكد أنه قد مر الكثير؛ فهاهي الشّمس تقترب من المغيب وقد بدأت تلك الباهرة؛ فقد فاقت جميعهن جمالًا، الغانية بجمالها عن الزينة ولا حتى الاكتحال! فيصاء بطول عنقها، مجدولة القوام، تسير بمشية المتحرية، هي بحقٍّ رائعة تسر كل من ينظر إليها... تسر كل من ينظر إليها!

كررها في نفسه وشعر فجأة بغيرة تحتله عنوة!

تبعها دون أن تشعر حتى لمحها تبيّت الأغنام في مكانها ثم صوتها يرن في أرجاء المكان تنادي: أمي هاقد عدت...

ثم دلفت لداخل الخيمة، تنهد بهدوء وانتبه أن الليل بدأ يعسعس فعاد إلى مكان العين وأدخل فرسه وربطه في إحدى النخلات ثم خلع عمامته وعباءته ونحّاها واقترب من ماء العين وجثا على ركبتيه وغرف بكفيه فغسلهما وشرب حتى ارتوى ثم غسل وجهه...

أنهى ما كان يفعله وقد حلّ الليل فوضع عمامته مقلوبة وعاملها كوسادة ثم غطّا نفسه بالعباءة وغطّ في نومه بعد أن راودته الكثير من أجمل مواقف حياته.

دلفت راحيل إلى داخل الخيمة إلى أمها، فوجدتها جالسة أرضًا وأخيها عمير ممددًا أرضًا ساندًا برأسه على فخذيها بينما أمه تعبث في خصل شعره البنية، فعمير أخذ ملامح أبيه وشعر أمه.

جلست راحيل تتناول بضع تمرات وقطع من الخبز ثم اقتربت من أمها وأخيها الذي كان يقول: إحكيلي يا أمي قصة نبي الله إبراهيم الخليل الذي كسّر كل أصنام المعبد ليلًا وترك الفأس في يد أكبر الأصنام ولمّا اتهموه قومه في اليوم التالي قال لهم أن أمامهم كبيرهم هذا فاسألوه إن كانوا ينطقون...

ثم قال: لا لا، بل قُصّي عليّ حكايته عليه السلام لمّا أشعلوا النار العظيمة وألقوه فيها ثم نجا بقدرة الرب...

ثم التقط أنفاسه وأردف: لا لا، قد أيقنتُ ماذا أريد بالضبط!  أريد منكِ أن تحكي لي قصة يوسف نبي الله ابن يعقوب النبي وابن راحيل...

فاتسعت ابتسامته ونظر نحو أخته متابعًا: وكيف ألقوه أخوته في غيابات الجب و...

فقاطعته راحيل وهي تضع يديها حول رأسها وتصيح فيه: كفاك! كفاك يا عمير! إنك لثرثار! تطلب القصة وتحكيها، حسبك ما سردت الليلة...

ثم التفتت نحو أمها التي تبدو شاردة فقط تعبث بشعره بتلقائية، فقالت: تبدو أمي ليست على ما يرام.

فتحركت تحبو على ركبتيها حتى وصلت لأمها وربتت على كتفها فانتفضت يوكابد من لمستها، فتساءلت راحيل بقلق: ماذا بكِ أماه؟! هل تشتكين من أمرٍ ما؟

فتنهدت يوكابد بحزن وأهدرت تصاحب كلماتها أنفاسها الحارة: أشكو فراق أبيكم.

فابتسمت راحيل قائلة: هل اشتقتِ إليه لهذه الدرجة؟!

فتنهدت يوكابد مجددًا قائلة بعشقٍ كبير: ومن لي غيره، لم أعى على أبٍ أو أم ولا أخوة ولا حتى قريب، لم يكن لديّ صديق، هو فقط كل أهلي وناسي، لقد طالت سفرته تلك المرة، أشواقي تهاجمني وقلبي ملتهب من لوعة الشّوق إليه، هو نِعم الرّجال، بل هو كل الرّجال.

فاعتدل عمير جالسًا وهو يرفع سبابته وأهدر بسعادة: ها قد وجدتها! قُصّي علينا كيف التقى بكِ أبي في بلاد الشام وأحبك وطلب زواجك ممن كنتِ تعملين لديهم خادمة وجاء بكِ إلى هنا... لكن مهلًا! لقد وصفتِ لي سابقًا بلاد الشام وأسواقها وبيوتها واعتدال جوها... كيف تركتِ كل ذلك وجئتِ لتسكني خيمة في الصّحراء الحارة، البعيدة عن كل مظاهر الحياة والناس؟!

فنظرت إليه أمه وأجابت: قد قُلتها يا عمير، قد قُلت؛ فعمارة عندي هو كل النّاس.

ثم همست في نفسها بقلق: لماذا قلبي ينقبض هكذا ويتوقع السّوء؟

فرفعت عينيها إلى أعلى وتمتمت: اغفر لي سوء ظني يا ربّ، وأرح قلبي وأقر عيني بلقاء عمارة وابني عاجلًا غير آجل!

كانت راحيل تقرأ وجع أمها وقلقها فسكتت دون أن تعقب، وبعد قليل استلقى كل واحدٍ منهم في فراشه لينام مثل كل ليلة، لكن يوكابد لم يغمض لها جفن ولم تنعم بنومة مكتملة منذ أن غاب عنها عمارة.

وجاء الصباح واستيقظ الثلاثة على...

Noonazad   💕❤💕

Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top