(1)

بقلم نهال عبد الواحد

منذ أول يوم لك في الحياة وطوال طريقك تبحث دائمًا عن النّجاة، النّجاة بنفسك، بعمرك، بروحك، تبتعد عن كل ما قد يؤذيك لتحافظ على بقائك، تهرب من الألم والحزن وتركض بعيدًا عنه مهما كان طول المسافة، المهم أن تصل في النهاية إلى طريق النجاة...

منذ مئات السّنين بالتّحديد في شبه جزيرة العرب، وبذِكرِي لها تظهر أمام مخيلتك الصّحاري والقفار والأرض المجدبة التي لا ماء فيها ولا نبات.

الأرض الوحيدة التي لم يستطع أجنبي احتلالها على مر العصور، أو يحاولوا بسط سيطرتهم ونفوذهم؛ لذلك نجدهم أحرارًا في جميع شؤونهم منذ القدم، ولهم من السّمات والخصائص التي تميزهم وحدهم دون غيرهم.

وفي إحدى القبائل في شبه جزيرة العرب وقبل ظهور الإسلام بأعوامٍ وداخل بيتٍ يبدو عليه التّرف قياسًا بزمانه؛ فهو من الطّوب اللبن وله سقف وباب وداخله عدة حجرات، وهناك من العبيد والخدم.

وفي إحدى الحجرات استيقظت فتاة نحّت الغطاء من فوقها، نهضت بتثاقل وصعوبة بسبب حملها وبطنها المنتفخة، ارتدت رداءًا أخضر اللون له حمالتان عريضتان وفتحة صدر مربعة تظهر مفاتنها الأنثوية هابطًا باتساع ملائمًا لانتفاخ بطنها.

نظرت إلى جوارها وهي تنهض واقفة لذلك الرجل السّمين ذا اللحية، الشّعر الأسود الكثيف والبشرة السمراء، وقد كان صوت شخيره يملأ المكان، فتحركت مبتعدة ووجهها يومئ بتقززٍ واشمئزاز.

اتجهت نحو صندوق خشبي انحنت تعبث بيدها داخله حتى أمسكت بمرآة نحاسية وضعتها أمامها تتفحص ملامحها المنهكة، ربما بسبب الحمل أو بسبب ضيقها بما تحياه!

كانت فتاة حديثة السن بالكاد قد أتمت الخامسة عشر مقارنةً بذلك الرجل الذي بعمر أبيها، كانت ملامحها غير عربية؛ فبشرتها بيضاء لدرجة تظهر عروقها الخضراء على جانبي عنقها وذراعيها وجبهتها، عيناها فيروزيتان وشعرها المنسدل متدرج بين البني الفاتح والمائل للصفرة، شفتيها كرزتين ممتلئتين قليلاً تشبه بحق ثمرتين من الكرز، تظهر عظمة ترقوتها ببروزٍ رائع، فهي بحقٍ جميلة!

مزينًا جيدها قلادة ذهبية وفى أعلى ذراعيها سوارين من النحاس. لكن رغم ذلك كانت ملامحها تخفي حزنًا عميقًا، تركت المرآة وسحبت وسادة كبيرة وجلست عليها ريثما يستيقظ ذلك الرجل.

كانت تتطلع في تلك الحجرة المليئة بالوسائد الكبيرة الصّالحة للجلوس عليها مع بسط تشبه الأكلمة تُغطى بها الأرض، وأمام فراش النوم صحفة كبيرة بها بعض ثمرات الفاكهة المتبقية منذ ليلة الأمس وإلى الجانب صُحفة كبيرة ومعها إبريق نحاسي من أجل الاغتسال وغسل الأيدي والوجه، ومصابيح زيتية معلقة على الجدران.

رفعت فيروزيتَيها نحو ذلك الجدار المقابل حيث يوجد عدد من الأصنام الصغيرة وخلفهم آخر أكبر منهم قليلًا.

نظرت إليهم وتنهدت بضيق، ظلت على حالتها حتى بدأ ذلك الرجل يتململ في نومته ليستيقظ.

فتح عينيه ثم تثآب بصوتٍ عالٍ فنهضت واقفة مرة أخرى وهي متسندة الجدار لألا تفقد توازنها مع ثقل بطنها.

نهض الرجل جالسًا بينما كانت الفتاة تمسك بالصُّفحة الكبيرة والإبريق لتصب له ويغسل وجهه.

وقفت أمامه واستعدت لتصب الماء وهي تهدر بهدوء يخالف ما بداخلها مع ابتسامة مصطنعة لم تصل إلى عينيها مع لغة عربية متتعتعة: عِمتَ مساءً سيدي!

فأجابها بصوتٍ أجش: ترى متى نحن الآن؟

فالتفتت ناظرة عبر النافذة ثم أجابت: يبدو أننا وقت الظّهيرة سيدي؛ فالشّمس قد انتصفت السّماء.

فقهقه بملء صوته ثم ربت على وجهها وقال: يليق بمن يبيت معكِ أن يستيقظ متأخرًا يا يوكابد.

ثم ربت على بطنها المنتفخة برفق وتابع: كيف حال ابني؟

فأومأت برأسها وأجابت: بخيرٍ سيدي، أعتقد أني على وشك الوضع.

- ليتني كنتُ جوارك لأستقبل ابني الجميل وأحمله بين يديّ، لكن كما تعلمين إنه وقت الرّحيل نحو بلاد الشّام، ترى ماذا تشتهين لأحضره معي من بلادك؟

فأومأت بالرفض قائلة: شكرًا لك، لكنّي لا أرغب بشيء.

- تراني محقًا أن أذوب فيكِ عشقًا أيتها الحسناء؛ فبالإضافة لجمالك الفتّان طباعك هادئة ومطيعة لا تشبهين غيرك من كل نسائي السّابقات ولا الحاضرات، يليق بكِ أن تصلِي لمرتبة الزّوجة لكن بعد ميلاد ابني أولًا، وقتها فقط سأعلنك زوجتي حتى لا يلحق العار به مدى الحياة.

ثم قال: هيا هيا صبي الماء.

ثم صاح: يا أسماء! يا أسماء!

فأجاب صوتٍ أنثوي بالخارج: أمرك سيدي، الغداء جاهز هل أحضره الآن؟ فقد أرسل رجالك يخبرونك بتمام استعداد القافلة.

فأجاب بملء صوته: أجل يا أسماء، هيا أسرعي وادخلي بالطّعام.

وبعد قليل دخلت فتاة أخرى مرتدية جلبابًا ذات أكمام لكنه مفتوح من الصّدر، بشرتها قمحية مجدّلة شعرها في ضفيرتَين من اللون الأسود يعتلي ثغرها ابتسامة صادقة، وضعت صُحفة كبيرة بها الطّعام ثم خرجت مسرعة.

وضعت يوكابد الوسائد أمام الطّعام وظلت واقفة حتى اقترب سيدها وجلس أمام الطّعام ثم بدأ ينهش فيه ويأكل بكل أصابعه ويتجشّأ من حينٍ لآخر وبعد قليل رفع عينَيه إليها وأشار لها بيده المتسخة بدهن اللحم وقال بفمٍ ملئ بالطعام: هيا اجلسي وكلي؛ أريد ابنًا قوي البنيان.

كان يتحدث وفتات الطّعام تتناثر من فمه وهو يمضغها فأغمضت عينيها مع إماءة من وجهها لألا تصل تلك الفتات إلى وجهها، بدأت يوكابد تمد يدها وتأكل بضع لقيمات على استحياء، وما كانت لحظات حتى أنهى الرجل كل الطعام، فأسرعت وصبت له الماء ليشرب ومع كل رشفة تسمع  منه صوتًا مقززًا لينهي مقطوعة التّقزز ويتجشّأ بقوة فأغمضت عينيها ونظّمت أنفاسها بسرعة لألا تتقيأ فورًا.

أمسكت بالإبريق مرة أخرى وبدأت تصب له الماء ليغسل يديه ثم تحركت وأحضرت له جلبابًا وعباءة من الحرير الأسود وساعدته في ارتداءها، وأمسكت بقنينة عطره تنثرها على كتفيه ثم وضعت في يديه فأخذ يمسح شعره ولحيته، وأخيرًا أحضرت النّعال والعمامة وبدى أنه على أتم استعداد.

أمسك بكتفيها وقال لها: أريد منك الاعتناء بطعامك جيدًا، أتمنى أن أذهب وأعود سريعًا لأرى وأحمل ابني، أؤكد عليكِ أريده ذكرًا.

ثم التفتَ نحو الجدار الموضوع أمامه الأصنام: لقد دعوتُ الآلهة وقدّمتُ لهم الكثير من القرابين ليرضوا عني ويرسلوا إليّ بولدٍ ذكر، وبعدها المزيد من الذّكور، أريد أولادًا كثيرين يخلدون اسم عبد العزى، لا أريد أن أكون أبترًا أبدًا بلا ذِكرى!

ثم قال مؤكدًا: أريدك أيضًا أن تتقربي أكثر منهم لتضعي ابننا بأمان، لا تنسي يا يوكابد.

فلم تعلق على طلبه لكنها تابعت بروتينية: صحبتك السّلامة سيدي.

- فلتحفظك الآلهة أنتِ وابني.

ثم ترك الحجرة مغادرًا فوضعت يدها على صدرها وزفرت براحة؛ وأخيرًا قد رحل!

Noonazad  💕❤💕

Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top