موحِش| ٠٣

لطالَما برَعتُ في الوصولِ إلى قُلوب الملأ الّذينَ تجمَعُني الحَياةُ بِهم، حتَّى وإن كانَت مُندسَّة في قوقعةٍ صَلبَة، بأنامِلِ الوِدادِ أفضُّها، ثمَّ أتلقَّفها بينَ يديَّ طيِّعةً مُطيعَة.

ربَّما الأمرُ مُختلفٌ هذِه المرَّة، فالرَّجلُ الَّذي سأشارِكه منزلهُ لأشهُر ليسَ مِن النَّوعِ الَّذي يتفتَّحُ لغيرِه، وقلبُه كماءٍ غَور، يعصَى عَلى سواعِد اللُّطفِ الامتِدادُ إليه، كأنَّه تعمَّد دفعَه إلى قعرِ الجَفاءِ ليحميه!

سيطَر عليَّ التوتُّر لأنِّي عجِزتُ عَن اغتِراف رشفةٍ مِن فمِه، ردودُه مُقتضبةٌ عَلى الدَّوام، ولا أظنُّ أنَّ الوَقت سيُخلُّ بأنظمتِها مَهما تعاظَم، أي أنِّي وحيدةٌ الآن!

نازَعتُ الأرقَ لأغتنِمَ النَّوم مِن مُتناولِه، فمَخدَعي غيرُ مألوفٍ، ومَهما خادَعَ الأملُ أفكارِي المُظلِمَة بأوهامٍ عَن غدٍّ أفضَل ابتَلعها السَّواد. عقِب أكثرِ مِن ساعَتين ظفَرتُ بغَفوة مُضنيَة، حفَّتها كوابِيسُ مُريعَة، نسيتُ فَحواهَا فلست مِن أولئِك الَّذين يذكُرونَ ما يُكابِدونه في اللَّاوعِي. استَيقظتُ حينَما خرَّم سُطوع النَّهارِ جَفنيّ، رغمَ أنَّ الشَّمسَ رهينةُ السَّحاب، وشَعرتُ بأنَّ كلَّ أضلُعِي محطَّمة، حَلقِي يُؤلِمني كأنَّه مَخدوش، وأنفِي مَسدود، بالكادِ يسمَح لي بالتنفُّس.

لجسَدِي ردودُ أفعالٍ بطيئَة؛ لو اختَبرتُ البَرد بالأمسِ، فلَن تنجلِي أعراضُه عليهِ حتَّى اليَوم المُوالِي، وذلِك ما جَرى لِي، أنا مريضةٌ في مَنزِل مُرتزِق الوِجدانِ مَبتورِ التَّعاطُف، ما الَّذي يُفترضُ بي أن أفعَله؟

لففتُ البطَّانِيَّة حولَ كَتفيّ، ثمَّ قُمت عَن مضجعِي، وذَهبتُ للبحثِ عَن غُرفتِه، رغمَ أنَّه لَم يُخبِرني أن أقصِده لَو احتَجت شيئًا.

بصوتٍ مُرتجفٍ انتَقدته.

«رجلٌ عَديمُ اللَّباقَة».

وقفتُ في رواقٍ مليءٍ بالغُرف، ولَم أعلَم أيّها عليَّ أن أطرُق، بعدَ تفكير مُسهبٍ قرَّرت مُناداته مِن مكانِي هذا رغمَ أنَّه نهانِي عَن إحداثِ الجَلبة.

«سيِّد جيون، سيِّد جيون، جيون جونغكوك».

لَم أحصُل عَلى ردٍّ مِنه، لا يُعقل أنَّه خارِج المنزِل فالظُّروفُ لا تسمَحُ بتخطِّي عتبتِه حتَّى!

«أينَ أنت؟»

انتابَتني رغبةٌ مُلحّة في البُكاء، أحرَقت مآقيّ، وعقَفت شَدقيّ. بقيتُ صامدةً مُذ علِمت أنِّي لَن أستَطيع العَودة إلى المنزِل قريبًا، ونَفيتُ جميعَ غُصَصِي إلَى ركنٍ قاحِل، فيه تجمَّعت وها هِي ذا تُهاجِمني جيشًا واحِدًا.

قَرفصتُ عَلى الأرضيَّة، حينَما استَقالَت قَدمايَ عَن خِدمتِي، وتخلَّت عنِّي طوائِفُ الأملِ الَّتي أمدَّتنِي بالقوَّة لأصمُد منذ الأمس، وأمهِّد طَريقَ مُستَقبلي بالإشراق. احتضَنتُ طَرفيّ الغِطاء إلى عُنقِي، وبينَ أركانِ الرِّواقِ الموحِش تخبَّطت عَدستاي.

«أريد العَودة إلى المنزل».

دسَّ الألمُ رأسِي على رُكبتيّ اللَّتين ارتفعَتا إلى مُستوى صَدري عِندَما ثنيتُ قدَميّ. اليأسُ والمرضُ متواطِئانِ على إجهادِ نفسيِّتي، كأنِّي واقفةٌ على شَفا الانهِيار وما مِن أحدٍ ليُنقذَني من مصيري الأسوَد سِواي. تشبَّع المَكان بنشيجِي، من حين الى آخر تخترقُ صَفوتَه شهقَة.

«هل تبكين يا صغيرَة؟»

انسابَ صيِّبُ ثغرِه في سمعِي، بوقعٍ خَفيض كنغَماتٍ مُوسيقيَّة غليظَة، نفضتها أنامِلُ كتومَة من كَمانٍ شَجين. أقَمتُ رأسِي من مَثواه، جرفتُه إلى محجريّ الغارِقين في الدُّموع، وصرَخت بعتَب.

«إلى أينَ ذَهبت؟ لقد نادَيتُك كثيرًا ولَم تستجِب لي!»

خضَّب الذُّهول محيَّاه كأنِّي أصَبت وريدَ غُروره فنَزف، وما صمتُّ عندَ ذلِك الحدِّ بَل فَضفضتُ عَن همومٍي الواحدَ تِلوى الآخَر جهارًا. سكبُ مهلِ روحِي في قلبِي أحرَقني بشِدَّة وأحيانًا نحتاجُ إلَى شخصٍ يَحتوي شَكوانا ونَجوانا.

«أعي أنِّي مجرَّد عبءٍ ألقَته الدُّنيا عَلى كاهِليك، وربَّما الذَّنبُ يقعُ على تهوُّري بالدَّرَجة الأولَى، لومَا انفصَلت عَن أهلِي، لمَا تورَّطتَ بي، لكنَّ ذلِك لا يسوِّل لك تجاهُلي. إن انسَقت خَلف نَواياك الحسنَة، فلتواصِل خيرَك حتَّى النِّهاية».

رفعَ حاجِبَه باستِنكار مُتقمِّصًا دورَ الوَغد الَّذي أسنَده إليهِ حذرُه مُنذ البِدايَة.

«كُنت أستحمّ، لماذا لم تقصِدي غُرفتي؟»

«وأنَّى لي معرفةُ مقرِّها تحديدًا؟ أنسيتَ أنًّك اكتَفيتَ بإرشَادي إلَى الغُرفَة الَّتي سأمكُث فيها فحَسب؟»

لحظتها فقَط انتبَه إلَى الهفوَة الِّتي اقترفَها، وكلَّفتنِي مدرارًا مِن الدُّموع، وانسحبَ التجهُّم مِن مَيدانِ وَجهه.

«نسيت».

أشار إلَى البَابِ في الصَّدارة والَّذي انحَسر عَن درجٍ يؤدِّي إلَى العُليَّة.

«هُناك غُرفَتي».

أخرَجتُ يدِي اليُمنى مِن الغِطاء، وأوكلتُها بتنظيفِ الفَوضى الَّتي عاثَها البُكاء على وَجهي. صُمت عَن تبادُل الأحاديثِ معَه حتَّى اضطرَّني لاغتِراف الكلِم.

«ما الَّذي أردتِه؟»

«دواء قد يشفِي نزلة البردِ الَّتي خيَّمت عليّ»

حالَما كشفتُ له مرضِي، انحنَى بجانِبي وبسطَ عَلى جبينِ كفَّه الَّتي تكتنِفُ وشومًا داكِنة، خواتِمُ حِبريَّة حولَ سبَّابته ووسطاه، ووردةٌ بجِوار إبهامِه. إنَّ ملامحَه لمُخلصةٌ لغُموضِه، لا تُفصِح عمَّا يدورُ في خُلده ولو القَليل.

«حرارتُك مُرتفعة».

نظَر إليَّ أخيرًا ثمَّ سأل:

«يُمكنك السَّير؟»

«تسألُ كما لو أنَّك ستتطوَّع لحملِي لو عجِزت».

تزحزحَ شدقه بسُخريَة.

«يمكِنني استِغلال وزنِك للتمرُّن، كرفعِ الأثقال».

وقَفت عَلى قدميَّ بمُفرَدِي كردٍّ عَلى سُؤاله، لأعلِمه أنِّي لستُ بحاجةٍ إلَى تماديهِ في مُساعَدتي، يَكفي أن يُنوِّلَني الدَّواء. قُدت الطَّريق إلَى الغُرفَة الَّتي أعارَني إيَّاها، وتبِعني مِن دُبرٍ بُخطواتٍ وئيدةٍ مُتناغمةٍ مَع خُطواتِي، أمامَ البابِ افتَرقنا حيثُ اتَّجه إلَى الطَّابِق الأرضيّ.

لمَّا عادَ إلَى غُرفَتي، وجَدني جالِسةً عَلى السَّرير، والدِثارُ يحيطُ بِي مِن كلِّ جانِب. عَلى كفَّيه سجَدت صينيَّة تحمِلُ ثلاثَ عُلبٍ مِن الدَّواء، أحدُها سائِل والآخرانِ عبارةٌ عَن أقراص، كأسُ ماء، إضافةً إلَى كمَّادةٍ سوداء، لاشكَّ وأنَّه دسَّ في باطِنها مكعَّباتِ الجَليد. وضَعها عَلى المِنضدَة بجانِبي، ونبَّأنِي فتحُه للعُلبَة أنَّه يَنوِي إعانَتي عَلى أخذِه، فانتَفضت بكِبرياء.

«يُمكِنني خِدمة نَفسِي بنفسِي».

ظلَّ تركيزُه مسلَّطًا عَلى يَديه المُنهمِكتينِ في استِلالِ القُرص.

«قالَتها الطِّفلة الَّتي انهارَت باكية لأنَّها لم تعثُر عليّ».

شزرَ إليَّ بطرفيّ جَفنيه لثوانٍ مَعدودَة وتهكَّم.

«لا أريدُ أن يذيعَ نشيجُكِ عَلى حينِ غرَّة ويُفزِعَني».

قلَّدتُه باستِنكارٍ عَلى طريقةِ السِّنجاب، ولحُسنِ حظِّي أنَّه ما لاحَظني، كانَ ليقذِفني خارِجَ منزِله كمَا هدَّدنِي، لا يُمكِنني ائتِمانُ أعصابِه عَلى مصيرِي، بالنِّهايَة لا أعرِفُ شيئًا عَن طِباعه.

حطَّ في كفِّي قُرصَين، وفي الآخر كوبَ الماء، شرِبت الدَّواء دُفعَة واحِدة، يليهِ مِلعقةٌ مِن الأخير، لونُه أحمَر ومذاقُه حُلو، لماذا يُذكِّرُني بدواءِ كُنت أتناوَله في طُفولَتي؟

بلسانِي أزلتُ بقاياهُ عَن شَفتي السُّفلَى ثمَّ رمقتُ جونغكوك بارتِياب.

«لَم تُعطِني دواءً للأطفال أليسَ كذلِك؟»

فسَّرت صمَته علَى أنَّه تأكيدٌ لظنِّي وانتَحبت.

«أنا في السَّابعة عشر».

«ليسَ للأطفال».

عزفَ لحنًا طفيفًا قبلَ أن يُغادِر إلى شُؤونِه الخاصَّة.

أخَذتُ قسطًا مِن الرَّاحة، كانَت غفوةً مُؤلِمةً بسببِ أضلُعِي الَّتي شعَرتُ أنَّها مُتهتِّكة، كأنِّي ما أزالُ أتدحرَجُ في الغابَة عَلى الثَّلج، فالمَرضُ قَد صبَّ الإجهادَ فِي جسَدِي مِدرارًا. تارةً ينكمِشُ جَفنايَ باحتِجاج إِن داهَمتني الفِطنة للحظاتٍ وجيزَة، وتارةً أرتشِفُ الآهاتِ في اللَّاوعي، ولا يرِدني مِن العالَم الخارِجيّ سِوى صوتُ سُعالِي الفاتِر.

حينَما جَنيتُ قدرًا كافيًا مِن الطَّاقَة خوَّلنِي الاستِيقاظَ بشكلٍ كامِل، امتلأ قدحايَ بالظَّلام، إذ حلَّ الغسَق منذ أمدٍ ما استطعتُ تقديره، كمَا لو أنِّي تسلقت حفرةً فوَجدتُ نَفسي في هاويَةٍ لا تقلُّ عَنها عتمَة.

شغَّلت المصباحَ الواثبَ على المِنضدَة بعدَما أدرَكته يَدي بعُسر، ثم أقَمت رأسِي عن السَّرير، لقَد تعرَّقت بإفراط، خصلاتِي ملتصقةٌ بجبينِي وقميصِي بظَهري، ما خشيتُه قد حدَث بسرعةٍ والفَضلُ للمَرض، الآن أنا مُجبرةٌ عَلى تسوُّل ملابسه.

زفرتُ بخشونَة قبل أن أبرَح السَّرير، وتَهاديتُ إلَى غُرفتِه بتأنٍّ، صعدتُ الدَّرج المعزولِ في زُقاقٍ ضيِّق، وطرقتُ البابَ كرَّتين مُتواليَتين، ثمَّ توغَّلتُ فيها بحثًا عَنه، لأنَّه بخلَ عليَّ بجواب.

«سيد جيون هل أنتَ هُنا؟»

كانَ المصباحُ متوهِّجًا، افتضَح نورُه لعينيَّ معالِم حُجرته الَّتي يطغَى عليها الرَّماديّ، مثلَ شَخصيَّته المُبهَمة. سقفُها على شاكِلة قُبَّة زُجاجيَّة شاهِقَة، وعاريَة؛ تعرِض رحلَة نُدف الثَّلج الكَثيفَة انطلاقًا من مَوطِنها وحتَّى الأرض، سريرُه يشغلُ رُكنَها الغربيّ، كَما يشطِرها إلَى نِصفين حاجزٌ خشبيّ.

حينَما ألقيتُ نظرةً خلفَه وجدتُ غايَتي جالسًا عَلى كرسيٍّ خشبيّ هزَّاز، قبالَة النافذَة الَّتي تَروي للأبصارِ قصَّة شتاءٍ دافئَة؛ الثُّلوج تتهاطَلُ بتناغمٍ من الغُيوم الحَوراء، وقَد جعلت قنديلُ الحديقَة رؤيتَها ممكنَة.

ولربَّما مشهدُ تضاريسِه الرجوليَّة الجَرداء أحقُّ مِنها بالتأمُّل، ما خِلتُ أنَّه سيكونُ بِلا قَميصٍ لحَظَة اقتَحمتُ غُرفَته بحجَّةِ صمتِه. كثبانُ الفتنَة في ثَناه تدعُو إليهَا الأنامِل، بدَت أشبَه بأسنِمةٍ تُرغِّبُ العُيونَ في نُزهةٍ بينَ أصقاعِ الإثم، انتابَني الظَّمأ كأنَّه بيداءٌ جبتُها في ثوانٍ بعُمر دَهر، لا بل المرض هُو العلَّة، لا الرَّجل بجانِبي.

كفُّه اليُمنَى ملتفّةٌ حولَ قدحِ فودكا عَلى الأغلب، وجَفناهُ المُوصَدان أوهمانِي بأنَّه غافٍ حتَّى افتَضح أثيرُه الخامِل كلهبٍ عَلى وشكِ الانطِفاء حيلتَه.

«يُمكنني تصوُّر نظراتِك السِّينيَّة وهِي تمسحُني، ألَم يسبق لكِ رؤيةُ رجلٍ بلا قَميص؟»

كلماتُه نبَّهتنِي أنِّي كُنت أفترِسُه بعينيَّ كعَذراءٍ تتضوَّرُ جوعًا لجسَد، وبتوتُّر نَفيتُ فرضيَّته.

«بلى، رأيتُ الكثير فمدرسَتي مُختلطة، والذُّكور يميلونَ لاستِعراضِ عضلاتِهم».

«جيِّد، لن يكونَ عُريي مُشكلةً إذًا».

أفرَج عَن جوهَرتَيه ثمَّ رَمانِي بنظرةٍ ذات مَغزى، عجِزتُ عَن التِقاطِه لأنِّي أبحَرتُ في مُحيطِ مُقلتِه اليُمنَى إلَى البُقعَة الخَضراءِ الَّتي تَطفُو فيهَا. تطلَّب منِّي الرَّحيلُ عَن طفرتِه المميَّزةِ والدُّخول في صلبِ المَوضوع بضعَ ثوان.

«ملابِسي متَّسخة تقريبًا، هل يمكنُني اقتراضُ البعضِ مِنك؟»

«رائِع، سنتشارك الملابِس الآن»

اعتلت شفَتيه ابتِسامةٌ مَجنونَة، سُرعانَ ما تلاشَت.

«ما المُصيبَة الَّتي جلبتُها لنَفسي!»

هلاوز خفافيش 🐹🙆

ما تأخرت بالفصل تُعتبر معجزة بحكم اني كنت محشورة بمُسلسل أجنبي 😂😂

الدّواء الأحمر يلي وصفتو كنت أشربو شخصيا بالطّفولة حتَّى لما صرت مراهقة ظليت أشربو 😂 جعل كل الأدوية حُلوة مثلو

جونغكوك تحت شعار يلي فقلبي علساني 😂😂😂 صراحتو أكثر شي كوميدي فالرواية

شو رأيكم بالفصل!

أكثر جزء عجبكم وما عجبكم!

جونغكوك!

لاريسا!

توقعاتكم للجاي

دُمتم في رعاية الله وحِفظه ❄

Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top