عابِث| ٠٩

أراهُ مِثلَ نايٍ بِلا ثُغور، يرفُض أن يعزِفَ أنغامَ أحزانِه أمامَ أحد، حتَّى وإن حكَم عَليه الجَميعُ بأنّه محضُ غُصنٍ أخرَس لا طائِل مِنه، مَن ذا الَّذِي يدرِي أنَّه أجوفٌ مِن الدَّاخِل، وقد رمَّم سطوحَه كَي لَا يُجبرَه الألَمُ عَلى المُجاهَرة بشَكواه؟

مَن عثَرَ فِي الصَّمت عَلى مَلاذٍ آمِن، واختارَت كلِماتُه الإقامة فِيه إلَى أجلٍ غيرِ مُسمَّى، فإنَّها قَد جرَّبت مِن قبلِه صُروحَ البَوح المُترفَة، لكنَّ الخذلانَ هدَمها فوقَ رُؤوسِها عَلى حينِ غرَّة. ليسَ مِن السَّهل عَلى امرِئ أن ينتهِجَ طريقَ العزلَة، أو يفضِّل زَمهريرَ الوِحدَة عَلى دِفء الأخلَّاء، وذلِك يجعلُنِي أتكهَّنُ الكثيرَ مِن الخَيباتِ فِي ماضِيه، جميعُها حوَّرت سِماته.

أحيانًا ينسلُّ العَبثُ بينَ سحائِب غُموضِه الرَّماديَّة، فأشكِّك فِي أنِّي أتعامَل مَع الشَّخصِ ذاتِه، والنَّذالةُ هِي إحدَى سِماته الخفيَّة، لَا ينفكُّ يُمارِسُها عليَّ كُلَّما سنَحت له الفُرصَة.

ظنَنتُ أنَّه سيرأفُ بجسَدي النَّحيل، ويتَنازلُ عَن العُقوبة؛ هُو لَم يكُن مُهتمًّا باللُّعبَة عَلى أيَّة حال، لكنَّ نزعَة الانتِقامِ فِي نفسِه أطاحَت بمشاعِره النَّبيلَة، ووَجدتُنِي مضطرَّة لتَحديدِ ملكيَّة القِطعَة بلِساني.

كانَ راسخًا أمامِي والبيتزا فِي فمِي، حالَما أخَذتُ لُقمَة صَغيرةً مِنها وفقًا لشَرطه سحَب يدَه نحوَ صدرِه قليلًا، فِي حينِ وقَفتُ عَلى رُؤوسِ أصابِعي مُتداركةً فرقَ الطُّول الجَسيم بينَنا، ونثَرتُ لُعابِي مِن الطَّرفِ إلَى الطَّرف، وواصَل سحبَها بعيدًا إلَى أن فقَدتُ توازُنِي ولعَقتُ فمَه أيضًا.

فكَّرت لوهلةٍ في التَّظاهُر بالاختِناق أو حتَّى المَوت، إذ أطلَّ لِسانِي مِن جُحرِه وغازَل فمَه بِلا خَجل، كَيف يسعُنِي العَيشُ معه بعد هذَا المَوقِف المُحرِج؟

خبَّأتُ لِسانِي الصَّفيق، وما تزَحزحتُ مِن بقاعِي ولَو بأنملَة. نذَرتُ مُقلتيَّ للتَّحديقِ بوجهِه الفارِغ، كمتَّهمٍ يترقَّبُ القَرار الَّذي سيُصدِره قاضيه بحقِّه، فإذَا بِه يقبِضُ عَلى خَصري، ويَحكمُ عَلى شَفتيَّ بالسَّجنِ بينَ شَفتيه، كانَت قُبلتُه صدمةً ما رصَدتُها فِي آفاقِ جَفنَيه، كتَساقطٍ مُباغِت خَفِيَ عَن الجَميع. أكثرُ ما خشيتُه أن يخدِشَه تقويمُ أسنانِي!

راوَدني الخُمول بينَما يُهدهِد عَلى شَفتيّ اللَّتينِ تثوِيان نسيجَه الدَّمث، كأنَّه يَتلوُ عليَّ تعويذاتٍ تُفقِدني القُدرَة عَلى الحَراكِ والمُقاومَة. دغدغَ شُعورٌ أعجميٌّ دَواخِلي، شعورٌ ما تخلَّله النُّفور قطَ، كمَزيجٍ سحريٍّ بينَ الغَرق والاحتِراق.

حرَّر طريدَته بعدَ ثوانٍ، وراحَ يقتفِي آثار نظراتِي عَلى تقاسيمِه كأنَّه لم يفعَل شيئًا.

«نَحنُ مُتعادِلان الآن».

ارتفَع حاجبايَ سويًّا، وتدلَّى فكِّي لسهولةِ تحدُّثه عَن المَوضوع. ما لبِثتُ وأن وفَّرت بيننا مساحةً أوسَع، وعاتَبتُه.

«كيفَ نَكونُ مُتعادِلين؟ لقَد تعثَّرتُ بِك بعفويَّة فِي حينِ قبَّلتنِي عَن سبقِ إصرارٍ وترصُّد، ورغمًا عنِّي أيضًا!»

هُو رجلٌ مسلَّحٌ بالصَّمت لذلِك يخيَّل لي في كثيرٍ مِن الأحيانِ أنَّه في ساحةِ الجِدال سيَكون أعزَل، لكنِّي مُخطئَة، الكلِمُ بالنِّسبَة لهُ كسِلاحٍ مَحظورٍ دوليًّا لخُطورتِه، يستَعمله إن دعَت الضَّرورة.

«لا يُمكِنكِ أن تلعقِي وجه رجل وتتوقَّعِي الإفلات بفعلتِك دونَما ردّ».

يا إلـهي، تعبيرُه يجعلُ الأمورَ أسوأ.

كوَى الخَجلُ وجنتيَّ بلا رَحمة حتَّى تورَّمتا، وبصوتٍ يكادُ لا يسمَع تمتَمت.

«لَم ألعَق وجهَك».

استلَّ بسمةً ماكرةً بترَت ما تبقَّى من ثباتِي.

«قدِّمي بلاغًا للشُّرطَة حالما نتحرَّر من هذا المَكان».

وببساطةٍ رحَل إلى غُرفتِه معَ بريت!

تشبَّثت بأرضِي، أو ربَّما الجاذِبيَّة هِي الَّتي تتشبَّثُ بِي لثِقل دَهشتِي، لقَد أبقَى لِي جونغكوك عَلى ثلاثِ شرائِح بيتزا ولكنِّي فقَدتُ شهيَّتِي فجأَة. حالَما تَوارَى عَن الأنظار، وسمِعتُ بابَ غرفتِه يُفتَح ثمَّ يُغلق بطريقةٍ حَضاريَّة، أعتقتُ أنفاسِي الَّتِي حبستُها فِي وجودِه.

تلمَّستُ شَفتي السُّفلَى بأطرافِ أصابِعي، وارتَدت ملامِحي ثوبَ الحَسرةِ فِي حِدادي عَلى عُذريَّة ثَغري، لَم أرِد التصرُّف بدراميَّة أمامَه، لأنَّه اغتالَ قُبلَتي الأولَى، كانَ ليظنَّ أنِّي مُجرَّد طِفلَة لَا تفقَه فِي مَذاهِب البالِغينَ مِثقالَ ذرَّة، فالبَعضُ يتَقاذفونَ بالقُبلِ بعشوائيَّة.

خاطَبتُ نَفسِي بغَيظ:

«أنتَ مَحظوظٌ لأنِّي مؤدَّبة، ولَا أستَطيعُ الاعتِداء بالضَّربِ عَلى مُضيفِي».

نقَرت قَدمايَ الأرضيَّة بقُوَّة بينَما أتَّجهُ إلَى جَناحِي، وقَضيتُ مُعظَم اللَّيل أطالِع المَشاعِر المُبهمَة الَّتِي خطَّها فُؤادِي حينَما عاقَر ثَغري، كانَت دَواوين مِن دونِ عَناوين.

حَظيتُ بقسطٍ بَسيط مِن الرَّاحَة فجرًا، واستَيقظتُ خِلالَ الظَّهيرَة. بعدَما غَسلتُ وَجهي بالمَاءِ البارِد، انتَشلتُ ملابِسي الدَّاخليَّة مِن أسلاكِ الغَسيل فِي حمَّامِي، وضَعتُها عَلى السَّرير، وبينَما أهمُّ بخَلعِ قَميصِي اقتَحم بريت خلوَتِي، اقتَرب منِّي بخُطواتٍ مُختالَة، فأعتقتُ حوافَ القَميص، ودَسستُ قبضتيَّ فِي فجوتيّ خَصريّ باستِياء.

«ألا ترَى أنِّي عَلى وشكِ تغييرِ ملابِسي؟ كيفَ يُمكِنني مُساعدتُك سيِّد بريت؟»

حطَّ ذَقنه عَلى السَّريرِ بجوارِ فخِذي، ودونَ سابِق إنذارٍ تلقَّف سِروالِي التَّحتيَّ الَّذي كانَ مَوضوعًا على الفِراش بينَ فكَّيه.

«ما الَّذي تفعلُه أيُّها المُنحرِف؟»

تلجلجَت حُروفِي بذُهول، وقبلَ أن يتسنَّى لذِراعي نجدةُ السِّروالِ ركَض بريت مُبتعدًا. جحَظت عَينايَ واستَقمتُ مِن مكانِي عَلى الفَور.

«أيُّها النَّذل، أعده إلَى هُنا».

لَم يكُن أمامِي خيارٌ سِوى مُطاردتَه في الرِّواق، لعلِّي أستعيدُ ما يخُصُّنِي مِنه قبلَ أن يُتلِفه بأنيابِه، وحينَما لمَحتُه ينحرِفُ نَحو الدَّرجِ المُؤدِّي إلَى بابِ جونغكوك المَشقُوق، تمنَّيتُ لَو يُتلفَه فِي أرضِه، لَا بأسَ ما دُمت أمتلِك حمّالةَ صدرٍ وَحيدة، يُمكِنني تدبُّر أمرِي مَع سَراويلِه التَّحتيَّة، ليسَ وكأنَّ نظراتِه سينيَّة، قادرةٌ عَلى اختِراق الثِّياب.

«بريت أنتَ كلبٌ مُطيع، توقَّف أرجوك».

ناجَيتُه بصوتٍ مُتباكٍ، عَلى أملِ أن أستعطِفه، بيدَ أنَّه أصرَّ عَلى حقارتِه، حتَّى الخُطوةِ الأخيرَة.

ولَج الغُرفَة بكلِّ اختِيال، كأنَّه يحمِلُ غنيمةً نفيسة، وها نَحنُ ذَا ماثِلينِ أمامَ الرَّجلِ القُطبيّ الَّذي كانَ جالسًا عَلى سَريرِه، ويَبدو أنَّه فارَق النَّوم مُنذ لَحظاتٍ قَليلَة.

«لِماذا أنتُما صاخِبان؟»

همَستُ لبريت باحتِقان: «بريت، تعال».

التَفت إليَّ كأنَّه يشمتُ بِي، ثمَّ ربضَ بينَ ساقيّ جونغكوك بوَداعَة، حيثُ أخَذ القِطعة البَيضاء مِن براثِن كَلبِه وهُو يَجهلُ ماهِيتَها.

«ما الَّذي حشَوت به فمَك هذِه المرَّة بريت؟»

لفَظه طواعِيةً فِي يدِه، حينئذٍ اندَفعتُ نَحوه وحاوَلتُ أن أسرِقَه مِنه، لكنَّه أزاحَه جانبًا، عازمًا عَلى اكتِشاف طبيعتِه. قطَّبت حاجبيَّ وهتفتُ بانفعال.

«أعطِني إيَّاه، إنَّه يخصُّني».

حلَّلت عَيناه قطعَة القماشِ الَّتي وقعَت في قبضتِه بينَما يُرواغ ذِراعيّ، أردتُ سرقتَها منه باستِماتَة قبلَ أن يستغلَّ المَوقف لإحراجِي. أيقَنتُ أنَّ جميعَ جهودِي ذهبَت هدرًا عِندمَا أطلَّ هلالُ خبثٍ في فمِه.

«لماذا أحضرتَه لي بريت؟ هل تودُّ أن ألبسَه لها مثلًا؟»

عبرَ زفيري حلقِي بصخبٍ كشهقَة، كانَ يتظاهرُ بتأنيبِه في حينِ أنَّ غايته الحقيقيَّة إذلالِي كالعادَة.

«ليسَ وكأنِّي سأسمَح لك!»

«أنتِ ترتَدين أحدَ سراوِيلي إذًا، أليسَ واسعًا عليكِ؟»

كلَّما أطلقَ كلمةً شقَّ الذُّهول كيانِي، في الأخير اختَطفتُ ثوبِي من كفِّه بضِيق، وهسهَست.

«لَن نتحدَّث فِي هَذا المَوضوع».

انبَرى أسبوعٌ آخَر، ومَا يزالُ قلَمُ الزَّمنِ يخطُّ وقائِعَ لَا تُنسَى عَلى صَفحتَينا، حتَّى وإِن طُويت فإنَّها تستَوطِن رُفوفَ ذاكِرتنا.

الثُّلوجُ تُحاصِر المنزِل مِن كلِّ حدبٍ وصَوب، لَا يُمكِن لأبصارِنا الامتِدادُ ولَو بشبرٍ مِن الطَّابِق الأرضيّ، لكن لغُرفَتي إطلالةٌ جَميلَة، ولغُرفةِ جونغكوك الَّتِي تَعلوهَا إطلالةٌ أفضَل، لذلِك أغزوهَا مِن حينٍ إلَى آخر، لمُشاهَدة الغابَة المَوءودة تَحت لآلِئ السَّماء، والجِبالِ الَّتِي ازدَاد قوامُها سُمكًا.

لَا يوجَد بالمَنزِل ما يشغلُ وَقتِي سِوى أشرِطَة الأفلام، والمَسبح الَّذِي لَم أزُره مُنذ أن وقَعتُ عَلى الأرض، وإذلالُ جونغكوك لِي لأنِّي أرتَدي ملابِسه الدَّاخليَّة!

قادَنِي المَللُ إلَى غُرفتِه عصرًا، كانَ فِي خضمِّ قَيلولَة مُريحَة، أو ذلِك ما اعتقَدتُه قبلَ أن يختلِجَ جَفناه، ويكشِفا عَن تصنُّعِه.

دحرجتُ عينيَّ بينَما أفترشُ الرُّقعَة الخاويَة عَلى يمينِه.

«تمثيلُك رديء، سيِّد جيون».

«ما الَّذي تُريدينه لاريسا؟»

أدركتُ حينَما انحسَر جفناهُ عَلى شطرٍ مِن جوهّرتيه الفيروزيَّتين أنَّه مُصابٌ بنوبةِ صداعٍ أخرَى. سُرعانَ ما طرَحتُ رأسِي على الوِسادَة الشَّاغرة، وانجذَب بصري إلى شظيَّة الزمرُّد العالِقَة فِي مُحيطه الأزرَق.

«أشعُر بالمَلل، وأريدُ الحَديثَ مَع شخصٍ ما، للأسفِ أنتَ الكائنُ الحيّ النَّاطِق الوحيد فِي المَنزل».

أجهَضتُ الحجَّة الَّتي كانَت تتكوَّن فِي عقلِه قبلَ أن ينبِس بها بسُؤال:

«ما رأيُك أن تعلِّمني بعضَ الفُنون السَّريريَّة؟»

يا هلا بالخفافيش 😍

جونغكوك مستمتع بإغاظة لاريسا حتّى الكلب ما سلمت من خبثو 😹😹

لو أنا مكانها كنت بدأت رحلة الألف ميل عشان أوصل للبيت حتّى لو متت فنص الطريق متجمدة 😹أهون من حرايق الخجل يلي عاملها جون

شو رأيكم بالفصل!

أكثر جزء عجبكم وما عجبكم!

توقعاتكم للجاي!

دمتم في رعاية الله وحِفظه ❄

Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top