سُبات شتويّ| ٠٢
الحياةُ حبلَى بالويلاتِ، بينَ الغَفلةِ والغفلَة حيثُ نضطجِع على فراشِ السُّكون تُنجبُ بلوَى، وتُلقيها على عواتِق الوَرى، رغمَ أنَّنا لا ندري كيفَ نُرعرعها. بلوَى لقيطَة، نُجبرُ أن نكفَلها مهما كنَّا في الصَّبر فقراء، غير مُقتدرين عَلى دفعِ رواتِب الصَّحوة حتَّى.
المأزِق الَّذِي وقَعت فيه فريدٌ من نَوعه، كمزحةٍ سمِجة أطلقَها القدر في توقيت غيرٍ مُناسب، وقد كانَ أعمَق من أيِّ حُفرةٍ سقَطت فيها سلفًا، كيفَ يُمكنُنِي أن أقضِي شهرين كامِلين في منزل رجلٍ غريبٍ، لا أعرفُ عن تاريخِه مثقال ذرَّةٍ لأعاصِره؟ وملامحُه الضَّبابيَّة لا تبوحُ بأيِّ دليلٍ عن مناخِ مدينَة شخصِه!
امتَطى الهلعُ صَهوةَ قلبي وقادَني إلى الانفِعال، فطفِقتُ أسيرُ ذهابًا وإيابًا أمَام البابِ الَّذي ما يزالُ مفغورًا ينفثُ زمهريرًا، لَم أكُ أشعُر به فالحَرارة بداخلي مُرتفعة كأنَّ الجحيم استحدَث فرعًا آخَر له فِي صَدرِي، بينما الرَّجل الَّذي يلتحِفُ كنزةً صوفيَّة ناصِعَة يعتنقُ الهُدوء.
«هاتِفي».
تَمتمت لنَفسِي بصوتٍ مُرتجِف، رأيتُ الهاتِف مُنقذِي الوحيدِ في هذَا الظَّرفِ المُربِك، وبينَما أوشِك أن أغمِس يدِي في جيبِ معطَفي قاطَعني الثَّلجيّ.
«ليسَ معكِ هاتِف».
نقشَ الشكُّ تعاريجَه عَلى جبينِي، قبلَ أن أستفهِم.
«كيفَ علِمت؟ هل تجرَّأت أن تمدَّ يدَك عَلى جسَدي؟»
اكتَحلَ جَفناهُ بالضِّيق، كأنَّ ما قُلته جَرحَ نواياهُ الحَسنَة، ثمَّ برَّر بنبرةٍ رزينَة كظَمت كلَّ المَشاعِر السَّوداويَّة الَّتي تدورُ في رأسِه، ربَّما يُجيدُ التنكُّر.
«لغايةٍ نبيلةٍ طبعًا، بحَثت عَنه حتَّى أتَّصل بأهلِك، كي لا ينتَهي بِي المَطافُ مرغمًا عَلى احتِمالك».
لجَّ الوَجلُ بقَلبِي وأنسانِي الاحترامَ مِن أصولِه، فبسَطتُ يدِي في الهَواء.
«أعِرني هاتِفك إذًا».
«لا وجودَ لأجهِزة اتِّصالٍ في المَنزل، ولَا الانترنت».
كانَ ما تفوَّه بِه أشبَه بكذبَة، قَد يختلِقُها مجرمٌ ما لإبقاءِ ضحيَّتِه الَّتي تجهلُ ماهِيته في مُتناوِله. أنزَلت قواطِعي كالمِقصلة على ظفرِ إبهامي.
«اللَّعنَة، ما هذِه الوَرطة الَّتي وقَعت فيها، سيَصلب الذُّعر والِدي إن اختَفيت فَجأة، ثمَّ ما الَّذي يضمَن لِي أنَّك لستَ مغتصبًا فارًّا مِن القانون، أو قاتِلا متسلسِلًا؛ فما مِن شَخصٍ حكيمٍ يتوارَى في قمَّة جَبل!»
فتلَ ساعِديه وسطَ صدرِه، وشقَّت نظراتُه المهيمنة أزقَّة مُحيَّاي.
«أوَّلًا، ذَوقي لا تُرضيهِ المَخطوطات النَّاقصة، ثانيا أنتِ الغريبةُ هُنا وأنا مَن يفترضُ به التذمَّر لأنَّ سُباتي المقدَّس انتُهِك، وثالثًا عليكِ أن تشكُرِيني لأنِّي لَم أمرَّ عليكِ مُرورَ الكِرام».
في شراكِ استخفافِه بأنوثتِي علقَ فِكري، وما أعَرتُ سطورَه المُوالية أيَّ اهتِمام، أنَّى له أن ينعَتني بالمَخطوطَةِ النَّاقصَة، كأنِّي قصيدةٌ ما حبرَ العُمر تكملتَها بَعد. ما مَدى تكبُّر هذَا الرَّجل، ليخالَ أنَّه أعلَى منِّي شأنًا حتَّى يحكُمَ عليّ؟
ورغمَ أنِّي ثرثارةٌ بطَبعي، ففِي المواقِف الَّتي تتطلَّبُ لسانًا فصيحًا ليكسَب مُرافعتَها أُلجم!
طَعنت أنصالُه الحادَّة جُرأتِي فَما حاوَلتُ التَّطاوُل عَليه.
«أغلقي الباب».
نظرتُ إلى البابِ لآخر مرَّة، كأنِّي ألوِّح لحُريَّتي الَّتي رحَلت دونَ سابِق إنذارٍ بمناديلِ الحُزن، ثمَّ جررتُ قدميَّ إلى غُرفةِ الجُلوس، مُقتفيةً آثارَه. شكلُ المنزِل عَصريّ، يحُيط به الزُّجاج مِن كلِّ جانِب، تتخلَّلُه فواصِل مِن خشَب، منحته مسحةً عريقة كمزيجٍ بينَ قصرٍ وكوخٍ بسيط. مساحةُ غُرفة الجُلوس واسِعة، وبسببِ غشاوة الغضَب لَم ألمَح الثَّلج الَّذي احتلَّ الأرضَ مِن خِلال الجُدرانِ الفاضِحة، الآن تيقَّنتُ مِن مَصيرِي الأسوَد حقًّا.
جلستُ عَلى الأريكة بتوتُّر، أفكِّر ما إذا كانَ عليَّ خلعُ المِعطف أم الاحتِفاظُ بِه، في حينِ اختَفى الرَّجلُ عن ناظريَّ لوقتٍ قصير، ثمَّ عادَ وفي يدِه مجلَّة ما، مدَّها نَحوي. قطَّبت حاجبيَّ باستِغرابٍ بينما أتناولُها مِن يدِه. صورتَه الأنيقةُ عَلى غلافِها في بذلةٍ دَهماء فضَّت اللبس الَّذي غزَل شِباكه في عَقلي، وتلَوتُ اسمَه بخُفوت.
«جيون جونغكوك».
قرأتُ ما خُطَّ عَلى طليعة المَجلَّة بتَركيز، رُؤوسٌ أقلامٍ كانَت كفيلةً بإبادةِ الغُموضِ عَنه، هُو مُصمِّم أزياءٍ مَشهور وصاحِب سلسلَة شرِكات مارس، سمِعت عَنها من قَبل، بضائعُها رائجةٌ للغايَة. كانَت طريقةً مُبتكرةً لتعريفي بنفسِه، وصامِتة جدًّا، تُشبِهه!
طرَحتُ المجلَّة بجانِبي، ونبَشت أجداثَ الكَبتِ بينَ تقاسيمِه عَن آثارٍ لسَجاياه، ثمَّ نطَقتُ بأوَّل فكرةٍ تبادَرت عَلى ذِهني.
«أنت مثليٌّ إذًا!»
عوَّج حاجِبه باستِنكار، وبدا لِي أنَّ عدَّاد صبرِه يتنازَل.
«ما أساسُ هذا التَّخمين؟»
رُحت أشرَح له وِجهَة نَظرِي مُستخدمةً يديّ، كأنِّي أخاطِب صديقَتي.
«أغلبُ مصمِّمي الأزيَاء الَّذين رأيتُهم عَلى التِّلفاز شَواذ، ويتحدَّثون كالإناث».
نزَح الشُّعورُ عَن دِيارِ وَجهه، فصارَ خاويًا عَلى عُروشِه. سهوتُ إلَى لوحةٍ إطارُها جَفنُه الأيمَن، لجزيرةٍ خَضراءَ تائهةٍ في عرضِ مُحيطٍ أزرَق، إذ حُبيَ بطفرةٍ سبَت أنفاسِي، كِلتا عَينيه زَرقاوين بيدَ أنَّ اليُمنَى شذَّت عَن توأمِها، كأنَّ ريشةَ فنَّانٍ ضربَتها بلطخةٍ عشوائيَّة مِن سُندس، أضفَت عَليها جمالًا باهِرًا، تسمَّى الهيتروكروميا الجُزئيَّة.
طأطأتُ رأسِي بتوتُّر، حينَما اشتدَّ حِصارُ نظراتِه حَولِي.
«حسنًا، أنت مختلِف».
الآن وقد اطمئنَّ قلبي لهويَّته قليلًا، شرعتُ في التجرُّد مِن مِعطفي، لا يُمكنِني الاحتِماء به إلى الأبد، فالمكانُ دافِئ. جدَلتُ أنامِلي بتوتُّر، لا أعلَم ما الَّذي يحلُّ قوله وما الَّذي يحرَّم، فإنِّي في بقعةٍ عَمياءَ مَع رجُل غَريب.
ظلَّ واقفًا أمامِي لبُرهَة قبلَ أن ينطِق.
«اتبعيني».
لَم ينتظِر منِّي جوابًا، بَل أعطانِي ظهرَه عَلى الفَور، وما كانَ بيدِي خيارٌ سِوى الانصِياعَ له. سِرتُ خلفَه نحوَ الدَّرج الحَلزونيِّ الَّذي يقودُ إلى الطَّابِق الأوَّل، تارةً يحولُ بينَ أبصارِنا وبينَ الغابةِ خارجًا جدارٌ كتومٌ، وتارةً يكشِفُ عَن حناياها زُجاجٌ واشٍ.
رسَونا أمامَ أحدِ الأبوابِ الخَشبيَّة، حيثُ أدارَ مقبضَه ثمَّ تنحَّى جانبًا آذنًا لِي بولوجِ الغُرفَة الَّتي التَحفت جُدرانها صَبغةً زهريَّة، كأنَّها تشِي بانتِمائِها لأنثَى.
«يمكنك البقاء في هذه الغُرفة».
«شُكرًا لك».
لازمتُ مكانِي ريثَما يُعلنُ يملِي عليَّ إرشاداتِه أو يُعلن عَن انصِرافه، قبلَ أن يسفكَ خطوةً في سَبيل الرَّحيل تروَّى مُحدقًا بسَواحِلي كنِسرٍ يَعتزِم الصَّيد.
«لستُ مِن هُواة الفَوضَى، لذلِك أرجُو أن تلتزِمي الهُدوء، حبَّذا لو تتصرفي كأنَّكِ شبح، ولا تُشعرِيني بوجودِك».
أومأتُ علَى مضَض، ليتَني أقتدِر، فالصَّمتُ عدوِّي اللَّدود، لديّ دائما ما أودُّ قولَه!
أوصَد البابَ خلفَه بعدَ انصِرافه، وترَكني بمُفردي لأتعرَّف عَلى غُرفَتي الجَديدة، كانَت فسيحَة تضمُّ سريرًا ملكيًّا تُحيقُ بِه ستائرُ شفَّافَة، ارتَميتُ عَلى متنِه وبالِي مشغولٌ بوالِدي، كيفَ سيتلقَّى خبرَ اختِفائِي يا تُرى؟
واثقةٌ أنَّه سيسخِّر أيَّامَه للبحثِ عنِّي، ماذَا لَو تحجَّج المَوتُ بي حتَّى يختطِفه مِن الحَياةِ بسكتةٍ قَلبيَّة؟ الأفكارُ السَّوداويَّة لا تنفكُّ تُداهِمني!
ربّما عليَّ تهميش القَلق بخُصوصِ الآتِي، فحاضِري بحدِّ ذاتِه مُعضلةٌ لَو تساءَلتُ عَن كيفيَّة تعايُشِي مَع الوَضع دونَ متاع، ما الَّذي سأرتَديه طوالَ فترةِ مُكوثِي هُنا؟ لا يُعقَل أن أتذلَّل لكتلةِ الجَليدِ تِلك بُغيَة أن يُقرِضَني بعضًا مِن ثِيابِه! وماذَا عَن الدَّورة الشَّهريّة؟ إنَّها نهايَتي لا مَحالة!
تنهَّدتُ بإحباطٍ ثمَّ قرَّرت القِيامَ بجولةٍ حولَ المَنزِل، كانَ مِثل المتاهَة، ومِن الإهدار أن يقطُنه شخصٌ واحدٌ فقَط، صادَفتٌ قاعةً واسعةً اكتَنفت وسائِل للتَّرفيه، تلفازٌ عريض يصلُح لألعابِ الفيديو، وطاوِلة البيلياردو، بجانِبها أُخرَى مجهَّزةً بمُعدَّاتٍ رياضيَّة شامِلة، وحينَما سلكتُ الدَّرج إلى الطَّابِق الأرضيِّ استَقبلني مسبحٌ رَحب، عَلى ضفّتَه اليُسرَى تستقرُّ حُجرة السَّاونا؛ حمَّامٌ بُخاريّ. ما كُنت لأبرَح هذَا المَكان لَوما خلَى مِن الانترنت.
«ما الَّذي تفعلينَه هُنا؟»
أجفلَ صوتُه حواسِي حتَّى كدتُ أقعُ في المَسبح، وباستِنكارٍ استَدرتُ إليه.
«أمنَح نفسِي جولةً كانَ مِن المُفترضِ أن تبدُر عَن المالِك!»
«عليكِ أن تشعُري بالامتِنان لأنِّي لَم ألقِ بكِ خارجًا».
فغرتُ فمِي بدَهشة، غيرَ مُصدِّقةٍ أنَّه قالَ ذلِك بكلِّ صراحَة، أعلمُ أنِّي وقعتُ عليهِ كعبءٍ ما كانَ يتوقَّعُه، ولكنَّ النَّاسَ عادةً يُخفونَ اعتِراضَهم في مِثل هذِه المواقِف.
«كَم أنتَ صَريح».
أفشَى عن الدَّافع الَّذي قادَه إليَّ بينَما يحيدُ عَن قِبلته بوقَار.
«العَشاء جاهِز».
تسارَعت وتيرةُ سَيري حتَّى أحرَزتُ ذاتَ مُستواه، وأطلَقت العَنان لفُضولي.
«هل تطبُخ شخصيًّا؟»
اختلَج الاستِياء في شَدقيه، ولكنَّه سيطَر عليهِ سريعًا، أيقَنتُ أنَّه مُقتصدٌ في إنفاقِ كلماتِه كأنَّها ستنفدُ منه لَو أسرَف في الحِوار، لَو كُنت أمتلِك صوتًا جذَّابًا مثلَ صوتِه لتحدَّثت إلى الأبَد.
«إنَّها كُلفَة البقاء بمُفرَدي، دونَ أن يُزعِجني أحد».
قلَبتُ عدستيَّ، إذ التمستُ أنِّي المعنيَّة بفِعل <يُزعِجني> وواصَلتُ اللَّحاقَ به.
«كيفَ تستطيعُ العيشَ مِن دونِ إنترنت؟»
«إن كُنتِ تعملينَ دونَ انقطاع لسنةٍ كامِلة فثلاثة أشهرٍ بوزنِ ثلاثِ أسابيع».
«هل تخضَعُ لسباتٍ شتويّ؟».
«تقريبًا».
حينَما لمحتُ شراراتٍ صَهباء تومِضُ في بُؤبؤيه ومَا هي بشفقٍ بَل احتِراق، صمتّ. ما كِدنا نُدرِك المَطبَخ الَّذي انفتَحت جُدرانُه عَلى صالةِ الاستِراحَة، حتَّى اندَفعت نحوَنا كُتلةٌ رماديَّةٌ من الفِراء، تتخلَّلُها رُقعٌ بيضاءٌ كالمُزَن، كلبٌ مِن طِراز الهاسكي.
غصَّت قدمايَ بذُعري الَّذي أدَّى إلى سُكونِهما، قبلَ أن أتوارَى بظهرِ جونغكوك، لا أحبُّ ذواتِ الفِراء كمَا أنَّها لا تُحبُّني، في طُفولَتي عضَّني كلبٌ في فخِذي، وما يزالُ النَّدبُ راسخًا حتَّى الآن، لقمعِ وحشَتي تبنَّيتُ سِحليَّة، أسمَيتُها ماري.
«لا تُخبِرني أنِّي سأضطرّ لمُشارَكة المنزِل مَعه!»
استَرقتُ النَّظر إلى الكلبِ الَّذي أقعَى عَلى الأرضِ بوداعَة، في حين قال جونغكوك ببرود:
«تقنيًّا، هُو مَن سيضطرُّ أن يُشارِك المنزِل مَعك».
حَقير!
هلاوز خفافيش 🐹
هذا اليوزر في الطَّريق إلى الاعتزال قريبا 😿 جميع الروايات متوقفة لحتّى استجمع شتاتي
بحاول أخلص القصّة دي قبل ما اختفي بشكل نهائي بما أنها خفيفة وممتعة بالنسبة ليا
أتمنى تكون عاجبتكم حتّى الآن 😿❤
الفصول قصيرة زي ما انتو ملاحظين
شو رأيكم بالفصل!
أكثر جزء عجبكم وما عجبكم!
جونغكوك!
لاريسا!
توقعاتكم للجاي!
دمتم في رعاية الله وحفظه ❄
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top