La manzana prohibida <٢>
_بسم اللّٰه الرحمن الرحيم.
_الفصل الثاني: .La manzana prohibida
{.التفاحة المُحَرمة.}
الــفـَزع..
ومَا أدراك ما الفزع؟ فهي أمضت حياتها كلهَا في جزع، تارة بسبب نوبة غيرة موجعة مع مهووسها، وتارة آخرى جراء نوبة غضب مع نفس المهووس المريض، وحين يكون مزاج سيادته صافيًا، كانت تصيبها الريبة بسبب رغبات جلالته التي وجب أن تبتلعها كلها مهما طالت مُتطلباته الجنسية وهي أبدًا لا تنتهي، وبرغمِ ذلكَ كانت تـُلبيها بروحٍ سامحة، فيزيد جوعه ناحيتها أضعافًا مُضاعفة، ويزيد خمولها، مما يزده إثارة وحبًا لتملكهَا.
قلمت أظافرها المَطلية بأسنانها وعيناها لا تـُزاح عن باب الغرفة، فمنذ مُقابلتها الأخيرة مع ديفيد، والهلع بات يجتاح كيانها مما هدم حاجز إطمئنانها الكذاب؛ فلربمَا تعيش وتتنفس كجثة ميتة، لكنها أبدًا لن تستطيع تجَاوزه من حياتها، فحتى وإن كانت تظنه مجرد صفحة من الماضي، لا يزال كالكتاب الأدهم. رأت المِقبض ينخفض وبسبب شرودها وأرتعابها، فإنها لمْ تسمع الطرقات الثلاث التي سابقت فتح الباب ببطىء، لكنها سرعان ما تنهدت مرتاحة بعدما أبصرت سي-چي يراقبها بتساؤل قلق أكثر من كونهِ فضوليّ:
"هل هناك ما يجب أن أعرفه؟"
جف حلقهَا وبهتت عيناها، حتى الحياة أنسحبت تدريجيًا عن وجهها وهيئة صديقها راحت تتبدل للرجل الذي أذاقها الويل وأشد الويل.. نفس السؤال بإختلاف النبرة والنية وحتى الكُنية.
"لا."
أقتضبت حديثها بالنفيّ، ثم ألتفت للمرأة بينما تخرج سِيجارة لتشعلها، علها تـُنفس عن خوفها وريبتها وتمحي بقايا الأذية عن فؤادها، فتنهد سي-چي بيأسٍ تام منها، ثم دندن بلا إهتمام:
"هناك عجوز يريد مُقابلتكِ."
"من؟ أهو مُعجب مهووس؟"
"لا.. قال أنه عمكِ."
"عمي؟"
أندهشت مُتسائلة، ثمَ شردت بوجهٍ مصفر تحبك الأحداث في رأسها لعلها تكون صورة مقبولة عما يريده هذا الرجل، حتى باتت لا تلحظ الرماد الذي تساقط على فخدها المَكشوف فألهبها بحروقٍ سطحية خفيفة، لكنها كفيلة لأنتفاضها من فوق الكرسي شَاهقة:
"هل تقصد ديفيد هاريسون؟"
لوهلة راقب ملامحها المُرتعدة بتساؤل حزين، كان يستطيع أن يلحظ أرتجافها ورعشتها وعيناها التي لمْ تغرق في الدموع الخائفة فقط، بل سبحت في ظلالٍ آخرى مُتألمة أصابتهُ في مقتلٍ، ليري مَحبوبته السرية وأقرب رفقائه ترتعد، وهو لا يقدر على فعل ما يُذكر سوى إحتوائها وحمايتها من مخاوفها ولو مُؤقتًا، فأتجه صوبها ثم أحاط وجنتاها ويده مرت ببطىءٍ تمسح عباراتها مُحاولًا أخذ الحزن عنها في قبضتهِ، حتى فمها الذي أرتعش عدة مرات مُتتابعة لفحهُ بأنفاسه الدافئة، لتعلم روحها حتى وإن كانت لا تبادله نفس الشعور، أنه سيقضي حياته كلها ندًا لها ومعها:
"أنا معكِ يا ڤي، معكِ دائمًا وفي صفكِ، اهدأي وتنفسي، نحن معًا الآن، بعيدًا عن الشخص الذي سبب لكِ هذا الوجع والهلع أيًا كان!، سأخرج الآن لأتحدث مع عمكِ ليرحل، ريثما تنتظرين هُنا... حسنًا؟"
أومأت برعبٍ وأعين زائغة باكية كطفلة بريئة لمْ يكن يعلم بوجودها داخلها قط، فتنهد وتمنى لو يضمها لأضلعه، وتمنى لو يقبل جبهتها مُطمئنًا، لكنهُ لا يحبذ التلامسات التقاربية مع النساءِ خارج حدود العمل، وخاصةً معها هي، فكيف لا تـُثار روحه بجانب المَحبوبة؟ تراجع مُزدردًا لعابه الذي تكتل في فمه، ثم غادر الغرفة تاركًا إياها ترتعد في قميصها ذو الحمالات الرفيعة وسروالها الچينز الذي باللكاد غطى مفاتنها.
وبالفعلِ بعدما أغلق الباب وسار إلى أحد غـُرف الـ{VIP} الخاصة بآل هاريسون، كان غاضبًا، لكنه إختلق ملامح هادئة قدر المُستطاع، فإستفزاز تلكَ الجماعة لن تكون فكرة سديدة، خاصةً بعدما سمع الكثير من الأقاويل عن حاكم العائلات وزعيمهم، چون هاريسون، الرجل الذي أرعد الكثير من مُجرد ذِكر أسمه، الطاغية الذي قتل آلاف في الشهور الآخيرة مُبيدًا عائلاتهم دون أن يرمش، قتل رجالًا لأسباب أتفه بكثيرٍ من إغضابهِ، لذا سيحاول قدر الإمكان إحتواء المُشكلة كي لا يدخل هو ورفيقته والجميع في كارثة هم في غنى عنها.
أولج للغرفة، فوجد العجوز يتتبع الفراغ بغضبٍ وكأن النيران تنهش روحه، وتفحمها، ثيابه المُبعثرة لمْ تكن أبدًا سوى دلالة على حالته الذريعة، فأيقن أن ديفيد ليس في خلاءٍ نفسيّ مناسب يسمح له بالتفاوض.. وبرغم ذلك حاول لأجلها هي وحدها.
رفع ديفيد أبصاره وعيناه تتحسس الدالف بتلهفٍ، وحينما لمْ يرى مُبتغاه، كشر حاجباه وأسود وجهه بالإستنكارِ، لكنهُ لمْ ينبس بكلمة، فأستطرد الآخر بعد وهلة حَذرة:
"آسف يا سيد ديفيد، لكن السيدة تجهزت لإحدى الحفلات وغادرت بالفعل قبيل حضوركَ."
أبتسم وعيناه تغرق في الظلامِ الغير مفهوم.. فعلم سي-چي أن تلكَ الكذبة لمْ تنطلي على الآخر وتوقع أن يتحول النقاش لمشادة كلامية أو حتى جسدية، لكن على نقيضِ ظنه.. دندن ديفيد بنبرة هادئة:
"حقًا؟ يالها من فتاةٍ مسكينة.. حسنًا لا بأس.. سأكرر زيارتي لاحقًا.. لكن بلغها رسالتي لأن هناك وغدًا لو عرف أنها كانت هـُنا بعدما تركها في أحضان أبيها سينهش حياتها وحياتكَ أيضًا.."
لا يـُنكر سي-چي أنه توجس وأصابته الريبة، فعلم أنه في خصامِ رجل مجهول، لا يجب أن يلفظ أسمه عن طريق الخطأ، وبرغم ذلكَ رسم الهدوء مُجددًا بإتقانٍ، مُستمعًا لرسالة الآخر المُهددة بإنتباه:
"سأعود، تلكَ هي رسالتي يا سي-چي.. أخبرها أنني في المرة القادمة لو رحلتُ دون رؤيتها، فسأعود مُجددًا، وسيكون في صحبتي زائر لطيف يحبها وتحبه، وسيفرش الملهى زهورًا وردية أسفل كعوبها.. لذا هروبها لن يحل المَعضلة، بل سيضعها في دائرة شكٍ خاصة لمشاكل الدادي."
تجعد حاجبان سي-چي بعدم فهم ثم اومأ بلا إهتمام، لمْ يكن السكوت عن المجهول دون تفرسه من عاداته، لكنه ومنذ أن تعرف على سيادتها وباتت عاداته القديمة لا قيمة لها ولا أهمية. غادر ديفيد الغرفة بعدما راقبه مؤكدًا مُهددًا، فتنهد سراج وكأنما ثقل جبل قد أزيح عن صدره، ثمَ جلس على أقرب كرسي متأملًا الأرض، فبرغم حبه وقربه منها.. إلا أنها لمْ تثق به بعد، فلا يعرف عنها سوى اللقب.. لكن أن تكون مُتورطة مع آل هاريسون.. بل أن تكون فردًا منهم.. هذا ما لمْ يتخيله بعير.!
نهض من موضعهِ مُحاولًا إيجاد الخيار الأنسب بين إخبارها بما حدث أو تجاهله تمامًا، وفي المرة القادمة يمكنه إيجاد عذر.. وحين يأتي ذلكَ المجهول الذي حذر ديفيد من حضوره.. بالتأكيد سيجد من هنا لوقتها حيلة مَا.!
لكن سراج لمْ يكن أبدًا بذلكَ الغباء، كان مدركًا تمامًا بحدود سلطة ديفيد وهو منبوذ هاريسون، لذا أن يأتيه فرد مُعترف بهِ لن يكون مثاليًا ولا قرارًا صائبًا.. بالإضافة إلى عدم معرفته طبيعة علاقة صديقته بتلكَ العائلة العريقة، لذا لن يخاطر بوضع حياتهما على المحكِ.
خرج من الغرفة ثم سار بخطواتٍ يائسة تائهة، عاجزًا عن مساعدتها، وتمنى لو تكون نائمة ليستطيع دراسة الوضع أكثر، لكن عكس رجاءه الذي كمن في خمولها.. وجدها تراقب الباب بإنتظارٍ وعجلة، وحينما شهدت عودته، غرقت عيناها في هيئته تبحث عن اصابات، فلاحظ خوفها عليه جانب نفسها، مما أجبره على الإبتسام بينما يتجه صوبها وقد قرر، مهما كانت الحقيقة، سأظل أدعمكِ يا ڤي.. فهذا ما يفعله الأصدقاء. إنحنى مُحاوطًا مِسند الكرسي لعله يطمئنها دون الحاجة للمسها ثم دندن بلينٍ وحنان أستشعرتهُ:
"أخبرتهُ أنكِ في إحدى الحفلات.. فتفهم الموقف، لكنهُ وعدك بزيارة أخرى وإلا.."
"وإلا..؟"
تسائلت خائفة، فدندن بخفوتٍ كي لا يزيد رعبها:
"سيجلب زائر معه."
هرب الدم عن وجهها وبهتت فيها الحياة، لمْ تكن جازعة من وجوده قدرما كانت مُتألمة، هو وهبها دكتاتورية الرحيل.. فرحلت.. والآن.. لما يجب أن تعيش بالطريقة التي يرغبها على أنقاضه؟ بلا زوج وبلا حبيب وبلا رجل؟
في النهاية چون لمْ يمنحها رفاهية الرحيل.. بل خدعها بحريتها، وما كان مكره سوى طوقًا حول عنقها.. يستبيح روحها ووجدانها أكثر.
"سأهرب.. يجب أن نهرب."
قالتها فجأة بعد تفكيرٍ طَال ثم أنتفضت من فوقِ الكرسي ناحية خزانتها، تبحث عن حقيبة مُتوسطة الحجم تجمع فيها بعض الثياب العشوائية.. فنهاها سراج مُتجهًا صوبها:
"آل هاريسون يديرون المكان والمناطق المُجاورة.. الهروب حل ليس مضمونًا يا سي-ڤي."
ومتى كان الهروب مضمونًا؟ تمنت لو تهرب منه ولو مرة واحدة في حياتها بإرادتها.. فهو أبدًا لم يهبها حرية الرحيل أو البقاء.. حتى حين مسس ثغره بحروفِ إسمها.. لمْ يسألها على النقيض تمامًا.. أسر روحها بحروفه.. وكأنمَا الحرية في قاموسهِ مُجرد سخافة لا ثمن لها. والآن يجب عليها كالعادة أن تـُجاري سخافة الأقدار والنصيب.. لأن القادم جحيمًا وسوادًا حول جيدها المَملوك.
"لكن فين العدل؟ ليه بعود إليه وكإني منه؟ ليه حياتي مش بتدور إلا في دائرة واحدة؟ دائرة واحدة بس يا سي-چي.!"
إنتحبت نادبة، ثمَ راحت تجشع في بكاءٍ المرير أمام نظراته المَصعوقة لسببين، كمن الآول في التهديد الجاد لإقترانها بنوبة هستيرية هو في غنى عنها، والثاني أن سي-ڤي شرقية الأصل من إحدى البلاد الشقيقة! لمْ يتوقع أبدًا تلكَ السخافة.. معها شعر بقلة الحيلة لمرات لا حصر لها.. الفقدان والنكران، وبرغم الحسرة في ابصاره لكنها ظنته لا يفهم حديثها.. فواصلت بخسارة باكية فهمها:
"كنت بحبه.. حبيته يا سي-چي، لكني خسرت.. خسرت كثير في سبيل الحب.. ولما بدأت الخسارة تبقى منه.. سابني.!"
صر أسنانه وحمئته ألهبت صدره جراء ذكرها لرجل آخر كانت على علاقة به.. وتلكَ العلاقة بدت عميقة غير سطحية.. فقبض طرف قميصه وأعتصر عيناه رافضًا رؤية مرارة خسارته لقلبها وروحها، وفي تلك اللحظة علم أنها لن تبادله الشعور ولو بعد دهر. تأكد بل وأيقن أنها قضية خاسرة وبرغم ذلك لم ييأس أو يفل، على النقيض تمامًا، وجد ذاته تتمسك بها وكأنمَا هي حبلُ النجاة.. وما هي سوى مرساته التي ستسحبه إلى القاعِ... حيث لن ينجو.. وسيظل يغرق.
"لمْ يستطع تحمُل الخسارة يا ڤي.. لكنني سأحتملها.. والأيام ستثبت لكِ."
بكت وأنهارت فوق حقيبة ملابسها بتذللٍ لكيان مَجهول، ومستقبل سوداويّ سيؤدي بها إلى الهلاك، فأنحنى على الأرض يضمها بلا تردد ولا شهوانية.. بلا نوايا قبيحة.. فقط ضمها لأن روحه إحتاجت لها دون خبث ولا رغبة دنيئة.. وهي تقبلت ضمته بالبكاءِ؛ لأنها وللمرة الآولى شعرت بمفقودٍ عظيم.. فقدها للحب والأمان.. والأهم من هذا كله.. فقدها له هو.
فقدان چون هاريسون برغمِ ما فعله بها.. لهذا هي باغية نواحة.. وستظل كذلك لآخر لحظة ما دامت تفكر فيه بنفسِ الطريقة.
لا تعلم كم ظلت قابعة في أحضانهِ بسكوتٍ وهزيمة، حتى هو شعر بالوقت يندثر مع المنطق جراء لذة شعوره بالكمال، بشرتها الباردة التي أحتكت بخاصته الدافئة، جعلت روحه ترتعش، والوجع إستكان لكنهُ أيقن.. إن ظلت خانعة في أحضاني هكذا، سأحملها وأفر بها خارج هذا العالم، ولربما أرتكب ذنبًا أكثر سوءًا، فأغرق بها أكثر.
"ڤي، هل ألغي حفلات اليوم؟"
ظلت ساكنة لوهلة أو أكثر، تتفقد وضعها ومشاعرها لتتأمل جوابها القادم بعد سؤاله المُكترث، وكأنما تحاول الوصول لحل مضمون، إلى أن أجابت متحيزة لجمهورها وللمخدرات:
"لا، أنا بخيرٍ."
نهضت من أحضانه تتجه للمرأة، ثم أمسكت دموعها وألتقطت أدوات تبرجها، وعادت ترسم ملامحها دون كلل، وكأنما تتمنى أن ترسم ذاتها مجددًا لتمحي عن نفسها كل الآسى والوجع والفقدان، فأنتهى بها المطاف تشرد في نفث السجائر وتجرع الكحوليات.. حتى وصولها للمسرح فجأة وكأنها أنتقلت عبر ثغرة زمنية خبيثة.
<كنتُ أشعر بنفسي خفيفة جدًا كالريشة، فوق الغيم وكأنني طائر حـُر، الكهرباء إزدادت كلما أشترفتُ أكثر من زجاجتي وتمايلتُ مُتعرية، خلاياي تنتصب برغم أنني تعرضت للأختناق بسبب مياهه السوداء الحالكة، لكنني بخير.. كنت بخير أو هكذا أدعيت.>
وقف دانيال في إحدى الزوايا يتتبع عروضها واحدًا تلو الآخر، وهذا كان غير مُعتاد مؤخرًا، حتى إصبعه كان يعبث في نهاية فكه شاردًا ومُتفحصًا، وكأنما يبحث عن خطأٍ أو أخفاق.. لربما علم بزيارة فرد من آل هاريسون للملهى، ورآى في التسجيلات الآمنية كم كان غاضبًا مُهتاجًا، فظنها أرتكبت جرم في حقهِ.
الغمامة عادت مُجددًا ونشوة المخدرات تلاشت تمامًا، فأدركت أن السم لمْ يكن في المسحوق فقط، بل في نفسها وشخصها، ماضيها وحتى مستقبلها، فمن كان يتصور أن سيڤار إبرام التي نشأت على يدِ راهبة تقية ستكون نهايتها راقصة متعرية وبمحض أرادتها؟ هي التي صانت نفسها على قدرِ أستطاعتها، ينتهي بها المطاف مستعدة لمعاشرة خنزير فقط لأجل شمة واحدة من مغيباتِها.
غابت في ذكراهِ، في حبهِ للوحدة وتقديسه للسواد، تاهت فيه وكأنها منه، فهي مهما هربت.. تظل تعود له ولو رفض كلاهما.
فجأة الخوف الذي كان داخلها تبدل لشعور مخالف تمامًا ومغاير لما عزمت على تنفيذه، رغبتها في الهروب تحولت لشعور ظنت أنها طهرت روحها منه قديمًا، الرغبة المُطلقة في الإنتقام منه، من چون سانتيغو.. لإفساد حياته كما فعل معها.
ألقت الكأس وعادت ترقص بهمة وعزيمة أكثر من السابق وأكثر مجونًا وكأنما تنتقم منه بترك الرجال يناظروها، هذا كان يثير جنونه في الماضي، يجعله مسخ خالي من التفكير والمنطق والمبادىء، راغبًا مُشتهيًا لأذيتها كما آذته، هكذا ستسير لعبتها، ستعود، وستجعل السماء تبكي على كلاهما.
أبتسمت حينما صفق الجميع ثم أطلقت ضحكة عالية، قبيل أن تلتقط وشاحها الأبيض من سي-چي متهجم الوجه، ثم أحاطت به جسدها المتعرق واللامع، الذي لا يستره سوى قطعتين سميكتين.. وعيناها تمر ببطىءٍ على الحاضرين لعلها تشهد ديفيد أو أحد أفراد آل هاريسون، لكن أنتهى بها المطاف تراقب ذلكَ الشاب من آل هانري الذي بات يأتي كثيرًا في الفترة السابقة، ليراقبها وسط الحاضرين بشكٍ وعدم فهم، وكأنمَا يعرفها وتعرفه.
أبتسمت له، لكنهُ شرد بنظرة علمت جيدًا من أين أتت، فتلك النظرة القاتمة والمعتمة، المحبة للسواد والآذية، لم تكن تصدر سوى من وغدها، لذا أدارت وجهها بلا إكتراث لنبضها الذي أرتفع وعلا حتى بات يصدو في أذنيها رغم ضوضاء المكان، ولمْ يخرجها من سقيع أفكارها المشوشة سوى يد سي-چي الدافئة حول كتفها:
"أبتعدي عن هنا حالًا يا سي-ڤي.. السير ليس آمنًا كما تعرفين."
حذرها وعيناه تنزلق ببطىء على آرثر مرورًا ببعض الأقلة، فعلمت أن كل شخص هنا، له أستثناءه المميز لربما عن كل مرة سابقة، لذا أمسكت بيده، وسارت معه دون مقاومة أو أعتراض.
"مرحبًا بالسافلة العارية."
دحرجت سي-ڤي عيناها على مضض، فتلكَ العاهرة ليليان كان عليها أن تفتح فمها لتفسد مزاجها كالعادة مُقتحمة صفوها، كانت حقًا إمرأة متدنية المستوى لربما أكثر من كل فرد هنا.
"مرحبًا بالساقطة المُغتصبة."
اللقب الذي أطلقته كان كمثابة لهب على جروح الآخرى بسبب ليلتها مع رجل برع في إجبارها على كره لحمها الحيّ، فظلت مشوهة جريحة مما جعلهن يدركن أنها كانت في آسر سادي مُقزز لا رادع لهُ حتى ليليان نفسها ظلت تشمئز من نفسها بعدها بسبب ما فعله وهي مقرفة في الحالة العادية.. وبرغم ذلكَ لمْ تشعر سي-ڤي بتأنيب الضمير، على النقيض تمامًا.. أبتسامة مُتلذذة خالية من الرحمة أرتسمت على ثغرها تتمتع بوجع الآخرى اللحظيّ، لكنها كانت لحظه قبل أن تصلها الإجابة:
"على الأقل لست مُغنية إباحية في الغرفة الحمراء، ولم أزر الغرفة الأسبانية."
الغرفة الأسبانية كانت جحيم خالص لسي-ڤي، زارتها مرة واحدة ولم تكررها بعدها لعدة أسباب، لكن ما بال الغرفة الحمراء التافهة؟ وأعني مغنية إباحية؟ هي لا تذكر أنها كانت إباحية في ألفاظها من قبلٍ.. عقلها كان مرهق ومتعب لتفكر في معاني ما ذكرته ليليان، لذا صمتت صارة أسنانها ورحلت تاركة الآخرى تنتحب وتعوي كالحيوانات.. لتنام.
"لما تركتيها ترحل؟"
"صدقيني، تلكَ الساقطة تستحق الأبشع، لا تستحق رحمة أن تعرف أبدًا بما هي فيه، لا تستحق سوى الإستغفال والموت والإستعباد، أن تكون عاهرة غبية لمن يدفع أكثر، رخيصة كحالنا جميعًا."
جعدت رفيقة ليليان حاجبيها بحيرة ثم نفضت رأسها بيأس، مهما يكن، الماء والنار لا ينجذبان أبدًا، هكذا حالهن تمامًا لذا تركتها تنتحب في حقدها وغلها وراحت تبحث عن زبونها المثالي لليلة، بينما الآخرى ظلت محلها ناقمة على سي-ڤي.
وعلى صعيد الجانب الآخر، بدلت سي-ڤي ثوبها إلى منامة بيضاء خفيفة، ثم رفعت شعرها ومسحت وجهها بنعاسٍ وتعب، وما كادت ترمي جثتها على الفراشِ أسفل الأغطية، حتى سمعت خشخشة في الشرفة غريبة ومُثيرة لغريزة الأستكشاف.
نهضت بحذرٍ، ثم ألتقطت الصاعق الكهربي من أسفل وسادتها كوسيلة مضمونة للحماية في حال تهجم عليها أحد، ثمَ تسحبت ببطىءِ ناحية باب الشرفة وعيناها تغرق في العتمة، ولعابها يزداد غزارة ومرارة. مدت يدها بتريثٍ تمسك المقبض، وإبهام اليد الآخرى كان فوق الزر مباشرةً، ثم فتحت فجأة تتلبس بالواقف.. لكنه كان يواليها ظهره العريض.
تجاهلها تمامًا ثم رفع السيجارة يستنشقها لينفث دخانها في الهواء الطلق، فأختلط عطره العتيق بالتبغِ مما أحيا ذكرى لمْ تستحبها، لكنها عرفته من ظهره رغم كل تلك السنوات، فأخفضت الصاعق تضعه على أقربِ منضدة لحالات الطوارىء، ثم سارت ببطىء تقف بجانبه وعيناها تناظره ببهوت.
'ديفيد هاريسون'
لمْ يلتفت على النقيض تمامًا، أكتفى بإلقاء نظرة جانبية ساخرة، قبيل أن تمر عيناه عليها ببطىءٍ مُستنكر زادها بهوت.. ثم غمغم هادئًا:
"بعد كل الأسابيع التي أنقضت والشهور التي مضت.. لمْ أتوقع أن يطرأ عليكِ هذا التغير يا سيڤار وهذا جعلني اتسائل كثيرًا.. لما؟ وكيف؟ كنا ندعوكِ فيما بيننا بالراهبة البائسة، چون نفسه أخبرنا أثناء سكره أنكِ نقية جدًا للحد الذي يجعله كلما أنغمس فيكِ، يشعر بالرضا والكمال.."
صمت نافثًا دخان سيجارته متلذذًا بها، فظل الجمود يحتل ملامحها عدة لحظات طويلة، وكأنما تفكر في كل كلمة غادرت فوهه، ظنها حقًا لن تجيب وسيطول صمتها، لكن ربما صمتها طال.. لكن إجابتها وصلته بسرعة:
"لما وكيف؟ حسنًا دعني آرى لما وكيف! ربما لأن الرجل الذي كان يعاشرني بالغصب كالحيوان كل ليلة مُنتهكًا إياي، وقع في الحبِ معي، فمنحني نعيم زائف خلف قضبانه الغليظة.."
أهتزت نبرتها، وحاوطت فمها تتابع حديثها بغصةٍ باكية، وكأن حروفها نيران ألهبت جروحها التي لا تزال نابضة:
"كنت غبية حين رأيت قضباني الذهبية زاهية فقط لأنها معهُ، فعشت له ومنحته جسدي ورَحمِي دون كرامة ولا تفكير، وعندما أكتشفتُ حملي، منحته ولائي وحياتي يا ديفيد.."
صمتت لتغادرها عدة شهقات مزقت روحها النارية، وبرغم ذلك تابعت بحرارة:
"رأيتهُ فَي كل شروق وغروب، أحسست برائحته وقت الغداء وقبيل النوم، إحتضان كل مرة بعد المُجامعة حينما كان يشعرني بقيمتي الحقيقية كأمرأة، نسيت ما فعل... نسيت، وتجاهلت، وسامحت، وبـ..هه.. برغم ذلك تركني... تركني وألقاني حيثما نشأت وكأننى كنت حشرة سحقها، و.. وكأنني مُجرد آلة جنسية فرغ منها بعدما منحتهُ ما أراد.!"
أنتهت ثم أحاطت وجهها تحاول إيقاف شهقاتها المُتسربة التي انحلت عن السيطرة، وحينما لمْ تستطع، بكت بقلة حيلة تـُخرج ما في جعبتها وهو حقًا لا ينتهي.. بينمَا ديفيد ظل يراقبها بآسف دون حروف، أراد أن يقول الكثير، كلمات كثيرة وجمل لتبرر حالة وحشها الفاقد لعقليته، مَسخ لن تعرفه حقًا إن رأته.. وبرغم ذلك فضَل إختصار كل الكلمات الكثيرة في جملة ضئيلة:
"چون الذي تعرفيه.. مات في اللحظة التي فقدتِ فيها الوعيّ بين ذراعيه للمرة الأخيرة."
بهت وجهها وعيناها غرقت في ظلامِ المرارة والخسارة التامة.. مات وربما حبه لها مات معه، وحشها المهووس بخيرٍ بعيدًا عنها، يعيش ويتنفس ويأكل.. وربما يشرب ليعاشر نساء أكثر جمالًا منها.. وسونيا.. لربما أنجبت له من أنساه وليدها المتوفى.. كلها كانت أفكار متسلسلة حول عنقها سحبتها لأعمق بقعة من شلال ذكراها الأسود والمتقلب، فمن شدته سحق عظامها وتركها رذاذ بشريّ جريح.
"ما الذي تريده مني الآن؟"
"أريدكِ أن تعودي معِي.. كنتُ أبحث عنكِ يا سيڤار والآن وجدتكِ، لن أتركك.. بطريقة أو بآخرى ستعودين."
أبتسمت ساخرة جراء عدم تمكنها من العثور على إجابة مُرضية وسط أفكارها لتبرر عودتها، هي بالفعل لا تعلم الحالة التي هو عليها.. هل نساها فوجد آخرى ليدعوها لذتي وفراشتي؟ هل وجد أنثى آخرى وحتمًا كل أنثى ستكون أفضل له منهَا.. لم تكن تدرك ولو مقدار ذرة من الحقيقة... حقيقة أن چون هاريسون لمْ يحب سوى سيڤار واحدة وإن رحلت.. لن يطرق قلبه المتوحش سواها.
الوغد أقام حروبًا في أسابيع فقط وقتل الكثير باحثًا عن روحهِ المَفقودة، وإن ظل هكذا سيدخل في دهمة سوداء لن تضر سواهم، والحل كان فيها، فهي من سحبت منه إنسانيته حينما رحلت وستعيدها بعودتها.
"لا."
رفضت بمنتهى البساطة وكادت تلتفت مُغادرة، ناسية تاركة مُتجاهلة خراب روحها وأشتياقها إليه.. لن تستطيع أن تراه مع آخرى، سواءٌ كانت جارية مثلها أو حتى زوجته سونيا، فقررت الهروب كما أعتادت مؤخرًا، لكن ديفيد سحبها لاويًا ذراعها خلف ظهرها، ثم وقف خلفها مُتحسسًا عنقها بأنفه يشتمها بنهم، وكأنما يبحث عن شخصٍ في وجدانها وطياتها، وظل يبحث إلى أن دندن بإبتسامة ماكرة:
"ألا تريدين الإنتقام؟"
أتسعت حدقة عيناها ثم شردت في الفراغِ بذهولٍ، وروحها النارية تعرضت لإثارة تستحق العناء، لكنها حقًا لن تستطيع رؤية خيانته لها، أو حتى وجهه الوسيم دون أن تهلك حرفيًا، فدندنت تحاول أن تسحب يدها من ذراعه:
"أريد الإنتقام.. لكن ليس الآن."
"إن لمْ تفعليها الآن.. فلن تفعليها مُستقبلًا."
أستندت عليه بإرهاقٍ وتراخت بين ذراعيه بخمولٍ.. فمد يده الآخرى قابضًا خصرها مُستندًا بفكه على كتفها ليواسيها، حتى قالت أخيرًا بغصة خانقة:
"أنا مُتعبة.."
"أعـلـم."
"وأتمنى الموت كل ليلة.."
"أعـلـم."
"أنا حقًا أتألم.. وأحتاج للمساعدة.. أحتاج لمن يقتلني، فالأنتحار وسيلة بعيدة عن متناولي."
"الإنتقام منه.. سيكون شافيًا أكثر."
أسودت عيناها شاردة، في الحقيقة هذا ما كانت تبتغيه، أن تراه يتلوى بألم، يناظرها بنفس الخسارة وإنعدام العقلية، لن تهتم إن ضربها ولا حتى إن أعاد أمجاد موسيقى عظامها المكسورة مجددًا، أعني الوغد المريض كان حرفيًا يكسر ضلوعها بسبب الغيرة، كان مُتسامح حيال أن تضربه بمسدسه محدثة فجوة لعينة في قلبه لكن أن ترتدي فستان مفتوح! حينها تلكَ الفجوة تكون بها ولا حاجة لذكر أين.
تملصت من بين يدين ديفيد فتركها دون عِناد، لكنها عوضًا عن الرحيل، ألتقطت السيجارة من بين أنامله، ثمَ دثتها بين شفتيها تسحقها بنعومة بطيئة، وعيناها نصف مُغلقتان بإغراءٍ مُتعمد، كانت قد أزالت تبرجها لكن جفونها وشفتيها ووجنتيها، مالت للحمرة المُتورمة بسبب بكائها وهذا منحها لمحة طريفة له. نفثت الدخان الرمادي أمام وجهه ثم تبسمت ماكرة حينما ناظر عيناها برغبة دفينة وهنا أدركت أن مهمتها لن تكون صعبة، فمهما وصل جمال النساء حولها، الجميع لا يحب سوى La manzana prohibida.
لعقت شفتها السفلية، ثم تحسست صدره بإبتسامة ماكرة تتلوى مُلتصقة به أكثر كالحية، فشعرت بحرارته تلفحها وعيناه تنهشها، ثمَ دندنت بخفوت مُغريّ:
"يا له من غرضٍ سخيّ.."
تحسست عنقه بأظافرها المَطلية، ثم أخفضتهم ببطىءٍ على طول ذراعه تتابع بتفكيرٍ مَائع:
"سأفكر في عرضك، رجاءًا أترك رقمكَ لـ.."
شعرت بالقشعريرة التي أجتاحت كيانه جراء همسها الراجي، فصمتت وهلة تبتسم:
"لأحدثكَ.. فكما تعلم.. معاداة چون هاريسون حربٍ صَعبة وخاسرة، لكنها مُمتعة."
"لا ترتكبي أي سخافة دوني.. نحن معًا في هذا."
بعدما ظل صامتًا لعدة ثوان، قالها أخيرًا، فأومأت بتأكيدٍ بريءِ:
"لن أفعل.. والآن غادر كما جئت، فدانيال مديري اللطيف لا يسمح لي بالإختلاء مع الزبائن."
قالتها وقبل أن يأتيها رد فعله، كانت قد أغلقت باب شرفتها تستند عليها بمكرٍ كليّ، وأفكارها حيال الموت تبددت تلقائيًا لآخرى أكثر لذة وشجن، يدها كانت تتحسس عنقها بإغراءٍ إلى أن شهدت الباب يفتح، فأعتدلت بمنتهى البراءة تتبسم لسراج المبتسم أيضًا بنفس البراءة، وحينها أدرك كلاهما أنهما أفتعلا مُصيبة، لكن لا أحد سأل كي لا يضطر كلاهما بالإفصاح عن جريمته.
"سي-چي.. هل يمكنني أن أطلب منك خدمة."
أومأ بلا أكتراث مُناظرًا ثيابه المطوية على الفراش ليلتقطها، فقالت:
"أريد رقم جديد لإجراء مُكالمة خاصة وَاحدة.. هل يمكنك تدبر الأمر؟"
أبتسم دون تعقيب ثم صعد إلى فراشه مُتجاهلًا تبديل ثيابه وسرعان ما أرتفع شخيره كالخنازير، فأدركت أنه مُرهق.. كحالها تمامًا.
____________
_______
سحبتُ جواربي الشبكية بطول قدماي، ورسمتُ ثغري كما أحب، أرتديتُ حذائي العالي ومسدتُ شعري الطويل أودعه وأودع معه ذكرياتي وفرحتي وكل الشعور، فقبضتُ المِقَص وكأنما أنا قابضة على فأسٍ ساحق، ثم أمرتُ بإقتصاصه كما أمروا بالقصاص عليّ دون جـُرم ولا شهود.. الموسيقى الكلاسيكية عبأت الغرفة تتشبه بدخانِ سجائري التوتية، ودندنتي السكيرة كانت آسرة، تساقط شعري الذي كان يتجاوز خلفيتي ببطىءٍ ولمْ أكترث.. مارًا على بشرة ذراعي الشاحبة بنعومة، لكنهُ كان يلذعني ليسحق ما بقيَّ من فرحتي وكيف أحزن؟ وأنا من هجرتُ كل السرور؟
كانت خطوة كبيرة عنت لي الكثير.. بل وأثبتت أنني لمْ أعد نفس النسخة المُعنفة تحت جسد چون سانتيغو على الأقل أمام نفسي، المُحارب الرومانيّ العظيم، فأنتهى بي المطاف أتحسس خصلاتي القصيرة بأعين شبة ناعسة، ثم جلستُ على كرسي التبرج، أشير للمصففة بلا إهتمام، فراحت تظبط طول شعري وتصفيفته الجديدة.
هكذا شردت وهكذا رأت نفسها تتخلص من شخصها القديم شكلًا كما أحاطت به داخلها لتحميه مضمونًا، ربما طول شعرها لمْ يتجاوز رقبتها، لكن لونه الفاتح ظهر بإغراءٍ لمْ تعهده، فألتمع بعدما أختفى التجعيد من أطرافه، ووجهها بات أكثر نضارة.. حتى جسدها وتقاسيمها وضحت، فنهضت وسيجارة التوت في فمها تمتعها، وخطواتها البطيئة للمنصة تمتعهم، أصابت الجميع بالترقبِ والسكوت، أصوات أنفاسهم العالية وصلتها، لمْ يراها أحد بنفس هذا القدر من الجمالِ قبل اليوم.
ناظرت سي-چي، فرفع سبابته يشير لنقطة مَا تبسمت لها تزامنًا مع الحفلِ الذي بدأ بمنتهى البطىء والتريث، لمْ تكن مُنتشية كليًا، كانت واعية نسبيًا، وفعلت كل المعاصي التي عهدتها بإبتسامة خافتة وكأنمَا تنتقم منهُ هو، كانت تعلم أن كل قطعة من ثيابها طرحت الأرض، مرت على بشرته القاسية وألهبتها، كانت تعلم أن كل عين ألتمعت تناظرها، كانت كالخناجر تسحق صدرها وصدره فقط إن علم... عرفت سيڤار وقتها أن كل شعور مزقها سيصيبه بالوجع مثلها. قاربت للتعريّ، فوقفت في ملابسها المُتبقية بإبتسامة مُنتصرة، تستمع لتحية جمهورها اللطيف، وتتلذذ بنظرات دانيال الفخورة براقصته المُتعرية ومغنيته الإباحية الناجحة.
كانت أقل من وهلة شاهدت فيها كيف تناقش الرجال فيما بينهم عن جمالها وصوتها، وتقاسيم جسدها المنحوتة، كانت وهلة صغيرة علمت فيها أنها لو قررت الظهور للضوء بموهبتها ستجد ألف داعم ومُشجع.. كانت وهلة، علمت فيها أنها لمْ تعد نفس الشرقية معدومة الحيلة والسلطة والمال، وحينها فقط أدركت أنها لمْ تعد نفس المرأة المعدومة التي أحبها چون.
إنخفضت من فوق المنصة ناحية الطاولة التي أشار لها سي-چي، فوهبها الجالس هاتفها بإبتسامة مآخوذة برائحتها وهالتها القوية، فإنحنت ببطىءٍ، مما سبب إنزلاق حمالتها نسبيًا تمنحه نظرة مُرضية لحد ضئيل دون إنكشاف كلي لنهديها، ثمَ سحبت الهاتف وفردت فقراتها لتسير بتمايل ناحية شرفة القاعة المؤمنة، تقف فيها، لتراقب النجوم والسماء، وجمال الخلوة قبيل الشروق بلحظاتٍ.. لعلها وجدته أيضًا يأسرها بين النجوم وفي ظلمة الأفق.. كما أعتادت تمامًا.
رفعت الهاتف تراقب ما سـُجل فيه بإبتسامة راضية.. أدائها كان لا بأس بهِ حقًا.
دونت الرقم مُستعينة بذاكرتها الضعيفة وبرغمِ تعسر ذكراها، إلا أن أصابعها كانت تعلم تمامًا طريقها إليه مهما وصل إنحداره وتوعره، فرفعت الهاتف على اذنها تنتظر الرد.
مرت عدة دقائق دون مُجيب، فأضطرت لإعادة الكرة أكثر من مرة بإلحاحٍ، وصوتها المُنتشي لايزال يدنو بخفوتٍ بسبب سيطرة أغنية حفلتها على كيانها:
<I lost myself and I lost you too
And I still get trashed, baby
When I hear your tunes.>
{فقدت نفسي، وفقدتكَ أيضًا.. ولازلت أنهار يا حبيبي، عندما أستمع لألحانكَ.}
أجاب أخيرًا وسمع مقطعها الأخير من الأغنية، فصمت تزامنًا معها وكأنما لا يصدق مسامعه، وكأنما هي حلمه اللذيذ، وكأنما هي الدفىء بعد سنةٍ في الصقيع، وكأنها آول رشفة لرضيعٍ، وكأنها هي الحياةُ كلها، سمعت أنفاسه الهادئة تهتاج، وسمعت زمجراته الخافتة جراء الإختناق الذي حل في شهيقهِ الخافت وزفيره، فشعرت بالإنصاف لكونها لا تزال تؤثر فيه.. وبرغمِ ذلك تابعت أغنيتها بإغراءٍ ونبرة ساخنة، فساعدتها الموسيقى التي لا تزال تصدو:
<Well.. I lost myself when I lost you,
But I still got jazz when I've got the blues.>
{حسنًا.. أنا فقدت نفسي عندما فقدتكَ.. لكن لا تزال لدي موسيقى الجاز حينما أكون حزينة.}
صمتت وعيناها المُدمعة تراقب الفراغ، والهواء داعب جسدها بدلالة بداية لموسم الشتاء القارص، وبداية لنهايتها أيضًا، فتوقفت عن الغناء، وأخرجت سجائرها تشعل منها واحدة، وبدى أنه سمع صوت قداحتها؛ لأن أنفاسه تلاشت بلا تصديقٍ، صمت كثيرًا حقًا وكأنه لا يعرفها ويستنكرها تمامًا. لمْ تكن تظن أبدًا أن أول حديث بينهما سيكون الصمت المؤذي، والإشتياق للأنفاس والروح قبيل الأنغام الصوتية.. فقاطعت نشوته قائلة:
"مضيّ وقت طويل.. يا فتاي السيء."
أبتسمت حينما علت أنفاسه تكاد أن تمزق روحه، تنتظر قوله التالي وإجابته التي وصلتها سريعًا:
"أين أنتِ؟"
"في أحد بيوت الدعارة، كما تعرف."
حصدت ألطف إجابة في التاريخ حينما دمدم قائلًا:
"لا. لا أعرف، لكنني أعرف جيدًا ما سأفعله فيكِ حين أجدكِ، ربما سأظل أضربكِ كالحمير حتى يحل الصباح، أو لربما سأربطكِ على أسياخٍ ساخنة حمراء، ولربما سأضع ثعبانًا بين قدميك.. كلها أفكار لطيفة لإستقبالك لليلة الآولى دون عنف أعني، مضى سنوات حقًا لذا يجب أن تكون مرتنا الآولى جيدة كي لا نعيد أخطاء الماضي يا سيڤار."
صر أسنانه لاعنًا تحت أنفاسه مُحطمًا كأس ما، فضحكت بمياعة آنثوية عالية.. أوه، لم تتوقع هذا بالفعل، نبرته العميقة جعلتها في أقصى درجات الرعب والهلع مما أدخلها في نوبة ضحك هستيريّ.
"سأجدكِ يا سيڤار."
"صدقني بيبي، لن تحتاج لإيجادي."
سمعت ضحكته تعلو في المُقابل، لم تكن خافتة محبة، لكنها على الأقل كانت صادقة من وحشٍ غاضب، فضحك على غبائها ساخرًا منها ثم أجابها صارًا أسنانه:
"السماء تعلم أنني إن أردت جلبكِ أسفل قدماي لفعلتُ بيبي، لكن كما تعلمين، تلكَ ليست سياستي التامة."
سياستي التامة؟ بل حتمًا يقصد سيادتي التامة.! ذلكَ الوغد الرجعيّ.!
أغلقت في وجههِ بأنفاسٍ مهتاجة، الحيوان المُتخلف، حتى وإن حاول، لن يستطيع إيجادها، حتى لو نبش الأرض، هي ليست في أرضه المُضيئة التي يبحث فيها، هي الأن في الجانب المُعتم منها، في أراضيه السوداء التي يحكمها، هل حقًا ظن أنها في بيتٍ للدعارة؟ زوج سخيف بالفعل.. فهي في مكان أشد سوءًا بكثير، مكان كثرت فيه أمثالها وقتلاهن، مكان تموت فيه كل يوم أكثر من امرأة بسبب الممارسات الشاذة والأضحيات، مكان تموت فيه النساء بسبب شدة سادية وسطوة زبائنه، مكان من الجحيم نزل إلى الأرض ليعاقب أمثالها.
صرت أسنانها بغضب، فبعدما توقفت عن تناول المخدرات منذ بضعة أيام، وكل شيء بات واضحًا ومزعجًا مثيرًا للسخط، فرفعت هاتفها ترسل له:
'حظًا موفقًا في العثور عليّ إذًا.'
نزعت الخط ثم ألقته من فوقِ سور الشرفة بلا إهتمام، وحين ألتفت وجدته أمام نصب عيناها..!
كان إيغور، السادي المُتوحش الذي أنتهك ليليان حتى جعل تلك العاهرة المُقرفة تتقزز من جسدها، ذلكَ الرجل تحديدًا.. حذرها دانيال من أن ينفرد بها بأي شكلٍ من الأشكال، فبرغم هوس مديرها بالمال، إلا أنه منحها قائمة جدية بأسماء الرجال الموجوب تجنبهم، وچون كان على نصل القائمة، وتلاه إيغور.
أزدردت لعابها بهلعٍ مؤقت، وفجأة عادت تشعر بالبرد يداعب خلاياها لذا أستندت على السور ويدها بتريث تام راحت تبحث عن بخاخها اللعين الغير موجود وسط ثيابها، لكن الوغد يملك عينان كالصقر تمامًا، فعلم أنها مجردة من كل وسائل الدفاع فأرتفع ثغره في إبتسامة نسبية زادتها رعبًا وعادت تتذكر هيئة ليليان، وكيف أضطرت للنوم معها في فراشٍ واحد بسبب صراخها كل ليلة، حتى دانيال أستثناها من قائمة الدعارة لفترة طويلة برغم أنها مُتخصصة في المجال المازوخيّ وكيفية إرضاء العميل، لكنها حقًا كرهت كل ثانية من حياتها بسببه.
كان إيغور رجل خطير من سويسرا يملك الكثير ليخسره ولا يكترث سوى لإثنان، المال، والخاضعات، فقال المال يجلب السلطة، السطوة، والهيمنة المُطلقة بل وأيضًا النساء، لكنهُ لا يحب سوى المرأة الضعيفة المُحتاجة للهيمنة الذكورية البحتة، والتي رآها فيها منذ عام ولا يزال يطاردها.!
يحصل إيغور دائمًا على ما يريد، بكل الطرق البشعة والمحرمة، لكنهُ ولسبب ما، لمْ يغصب إحداهن على الحضور معه، لكنه وغد من نفس طين زوجها اللعين وصديقه المَشهور <لن أجبركِ على القدوم، لكنني سأمحيكِ، أحرقكِ، أكسركِ، أؤذي من تحبين، حتى تأتين بإرادتك الحـُرة.> تعريف الحرية كان خاضع حقًا لقانون الدكتاتورية التامة.
أمتلك زوجان من الأعين الرمادية القاسية والضيقة، كان من المفترض أن يحصل على بشرة فاتحة بسبب طبيعة الطقس البارد في سويسرا لكنه حصد آخرى مالت لدرجة نقية من السمار، شعره لمْ يكن أسود مُتفحم، بل هام في درجة بنية غريبة مالت للإحمرار مع جسدٍ عريض المنكبين.. خرجت من شرودها، على نبرته الماكرة التي دندنت بـ:
"Привет, красавица."
قال مرحبًا يا جميلة وقد فهمتها، لكنها تظاهرت بالحيرة ثم أجابته بإبتسامة مجازية، تكاد تمر من جانبهِ للداخل:
"آسفة سيدي.. لا أفهم الروسية."
أرتفع حاجبه الأيسر وأتسعت إبتسامته بمكر، ثم مرر عيناه عليها ببطىءٍ مُحلل، كانت تقف في جوارب شيفونية سوداء طويلة وصلت لمُنتصف أفخادها ثم أرتبطت بشريطٍ أسود مرن أنتهى بسروالها الداخلي، ومن أعلاها، أرتدت صدرية نسائية كبيرة وضيقة سببت إرتفاع أكثر من نصف نهديها بإغراءٍ، فأتصلت بالسروال بسبب الشرائط السوداء أيضًا.
شعرها القصير داعبه الهواء، وعيناها الخائفة رغم قوتها تعلقت بهِ تنتظر هجومه المُفاجىء، فشعر برغبة مُلحة لإحتواء جسدها الضئيل بسادية تامة. كانت حتمًا الخاضعة المثالية التي كان يبحث عنها مع ثلاثية المَحظور، چون، وغوزمان، وهو.. لكن الحظ لمْ يحالف سواه، لأنها له الآن.
"إذًا.. من حسن حظي أنني أتحدث الإنجليزية يا جميلة."
'ومن سوء حظي أيها المتخلف المريض' بحثت عيناها عن سراج، دانيال، أي أحد في المكان مهما كان شخصه، لكنها لمْ تجد، وخوفها منعها من الإقتراب ولو بمقدار خطوة من إيغور، لكنه دنى صوبها بالفعل، وأمسك يدها فأتسعت عيناها بخوف:
"سيكون من دواعِ سروري، أن أكون الأول في المكان مع التفاحة المُحرمة."
أهتاجت أنفاسها وتسرب الرعب على ملامحها، فأبتسم برضا مريض محاوطًا كفها بقسوة أكبر، ودمدم متسائلًا:
"لما الخوف؟"
تسائل بحيرة خبيثة، وعيناه مرت عليها ببطىءٍ مُستلذ، لإرتجافها وشحوب وجهها وتورده:
"لا تخبريني أنكِ بتول!"
كادت تشير بالرفض، لكن من لمحةِ الإكتراث في أعينه، وجدت عقلها يعمل أخيرًا كقطعة بالية من الأحذية المُهترئة، لذا قالت بآسفٍ تتظاهر بالخجلِ:
"أنا.. أنا عذراءِ ولم أخضع لعلاقة من قبلٍ.. آسفة سيدي."
تخيلت ملامح چون إن سمع جملتها الطريفة تلكَ، فحاربت الإبتسامة التي كادت تتشكل على وجهها بصعوبة بالغة، لكن ملامح إيغور المَصعوكة أجبرتها على الضحك، والرعب الذي أحتل صدرها تلاشى بالتدريج، لكنها لمْ تتوقع أن تشتد قبضته حول كفها، بل وتجرأ في سحبها لأحضانه قابضًا ظهرها بشهوانية مَريضة، ثم أقترب من عنقها مغمغمًا:
"هذا أكثر إثارة وإرضاءًا.. كم سعركِ في الساعة؟ عشرة ملايين؟ سأدفع عشرين! "
أهتاجت أنفاسها وتلوت بين ذراعيه بينما الرعب عاد ينهشها، لمْ تكن ترفض مبدأ العهر والمبلغ بدى مغريّ جدًا، لكن أيغور لا، ذلكَ الوغد أسمه في القائمة السوداء بسبب كثرة حبه وإيذائه للنساء، وبالطبع إن ذهبت معه فلن تعود، ليليان كانت حالة من النوارد حقًا، ولا تظن سي-ڤي أنها ستكون من النوادر أيضًا.
"سيد إيغور.. أنا.. أنا في دورتي الشهرية، لا يمكنني فعلها.!"
"هل أنتِ غبية؟.. يمكننا إيقاف الدماء لا أكترث."
لوت ثغرها بتقززٍ حينما شعرت بلسانه يحاول أن يجتاح عنقها، فدفعته بقسوة أجبرته على الضحك ومُحاوطة كلتا ذراعيها خلف ظهرها متلذذًا بمقاومتها الغير مُجدية، فرفعت عيناها للسماء ببكاءٍ، ودندنت خافتة بصدقٍ مُتضرع للمرة الآولى منذ شهور:
'يا ربي.. إن دعا عليَّ زوجي بعدما أستفززته وأستجبتَ له، فأنا أتمنى أن يقع في دلو من العفن القذر، أرجوك يا ربي، إنجدني منه، أرجوك.'
أغلقت عيناها بقلة حيلة وكادت تبكي، الصراخ لمْ يكن حل صائب، فأمثالها لا يصرخن، حيثُ الإغتصاب لا يكون سوى للمرأة الطاهرة التي هي بعيدة عنها تمام البعد، لن يكترث أحد، على النقيض، وإن قاومته أكثر فلا تضمن رد فعله، لكن في اللحظة التي تضرعت فيها بدعاءٍ صادق، لم تـُرد مخذولة وقد فـُتحت الشرفة ودخل سي-چي مُسرعًا، ثم سحب إيغور عنها بعنفٍ سابًا إياه قبيل إدراكه لهويته:
"أيها اللقيط الخنـ... آوه! سيد إيغور..!"
تسائل بدهشة، ثم أخفض يده عن تلابيب قميص إيغور مُدندنًا بغضبٍ وإرتعاد خفيّ:
"آسف.. لكن سيدتي خارج الخدمة.!"
"هي عاهرة كحال غيرها، عذراء كانت أم لا!، سأحصل عليها الليلة."
علمت أن معاداته لن تجلب لها سوى كل سوء، وهي حقًا لا تحتاج أي سخافات، كانت ليلة واحدة ستستطيع تحملها، مثلها كأي ليلة عنيفة مع چون.. هيا سيڤ چون المُتخلف كان ساديًا أيضًا ونسل لحمكِ اللعين في نوبة غيرة، لكنها رفضت بل إحتجت بخوفٍ تام؛ لأن چون لمْ يؤذها أبدًا بنفس القدر الذي فعله إيغور في ليليان حين أبتغاها وظل يتربص بها بهوس لفترة طويلة.. كما يفعل معها الآن منذ شهور.
"سيد إيغور، أرجوك.. صدقني إن قررت.. ستكون أنتَ الوحيد."
قالتها بدلالٍ خاضع، فأخفضت إيغور عيناه لها لوهلة مُتحيزة، ثم رحل لاعنًا تحت أنفاسه بغضبٍ وإحتجاج، وهنا، وإنهارت باكية بين ذراعين سراج الذي أحاطها بهياجٍ ناقم، لاعنًا وسابًا وشاتمًا نسله كله، ثم حملها بين ذراعيه، وسار بها تجاه الغرفة متجاهلًا دانيال والحضور، فلمْ يلحظ أحد ولم يكترث، وهو أيضًا لم يكترث. وضعها على الفراش بحاجبين معقودين وعينان مظلمتان، فتمتمت بهلع:
"أغلق الباب... والشرفة أيضًا.!"
اومأ سراج دون تعقيب ممررًا أبصاره على الكدمات اللاتي تركهن الوغد مُتعمدًا.. فشعر بتلكَ البقع كالفجوات تطحن فؤاده، لكنهُ تظاهر بالعمى ثم أتجه للباب مغلقًا أياه بآسف وغيرة وحمئه، عروقه أنتفضت والرؤية باتت رمادية أمام عيناه، لكنه وكالعادة لم يتحدث.. ولن يفعل.. لأنه بالفعل سأم من الحديث.. لذا أتجه خارج الغرفة مُوصدًا الباب جيدًا وقد عزم على فعل ما سيندم عليه لاحقًا.
____________
_______
تخدير شعوره بالعتمة الذي كان يقترن به مع ظلاله وشياطينه ورفاهية احساسه بالظلام بات نعمة مَفقودة بسبب إنعدام وجودها وغيابها عن نياطهِ، فبات لا يشعر في الكثير من الأحيانِ وحين يفعل، يلتأم الوجع والهجران بفؤاده كمرارة العلقم تمامًا، مِما يزده تألمًا وتصديًا لكل ملذات الحياة من المال والسلطة والجاه، النساء والرسم والمُبارزة، كلها له أشياء بلا قيمة ولا إحساس، إن كانت سيڤار، زوجته ومحبوبته لا تعيش سوى في أنفاسه ووجدانه وشعوره وحتى أبصاره، قريبة جدًا من روحهِ وبعيدة عن جسده وحواسه، مما جعله مزيج غير مقبول من الحرمان والكَسرة... وهو لمْ يعتاد سوى مزيجه المُغري على نسيج جسده الصلب.
فتح أزراه الذهبية أمام المرآة، وعيناه تغرقان في إنعكاسه وسط الظلام، وكأنما لا يرى ذاته، وكأنما يراها هي وحدها، وتبًا كم إشتاق لها. حاول جاهدًا ألا يندم على منحها الحياة التي تستحقها.. لذتهُ لمْ تكن تستحق أبدًا العنف والإغصاب، وهو في كل مرة حاول بها عدم إيذائها أنتهى بها المطاف بين ذراعيه فاقدة للإدراك غارقة في دمها، كلمَا حاول فتح قفل قفصها، يعجز تمامًا وكأن روحه تحتضر من فكرة تركها تطير وتهيم بعيدًا مع آخر، فقرر إنهاء تلكَ المهزلة قبيل أستنزافها كليًا، لكنهُ سرعان ما يأس وعجز، ولا شيء بات ينسيه إياها.. لأنه لم ينساها ولمْ يغفل عن ذكراها قط..
فكلما غرق أسفل أغطية الفراش تذكرها، وإنتشى من ذكرى الإنغماس بها ومعها، كلما فتح خزانته أشتم رائحتها تداعب حواسه، كلما جلس على طاولة الطعام رأى طيفها يجالس كرسيها الفارغ، ربآاه.. شعور مؤلم حتى لأعتى الرجال.. فكيف يراها ولا يشتاق.. وما هي سوى رذاذ ذكرى؟
أنتهى من نزع قميصه، فنزع قفازاته المُعتمة الملطخة بالدم وألقاها في سلة المهملات جانب قميصه الأسود تمامًا.. بدى أنه خرج عن السيطرة كالعادة.. وكيف لا يفعل وهي تستنزف بقايا عقليته؟ أرادها، أرادها أكثر من قبلٍ وأعمق، لكنه علم أنه سيؤذيها فقرر أن تأتي هي له طواعية، لكنها لم تأتي، فقرر أن يعود وحين عاد، لمْ يجدها حيثمَا تركها، فعلم أنه خسرها هذه المرة وبرغم ذلكَ أستكبر نابشًا الأرض عنها، ولكنه لم يجدها.
ظل يبحث في الأماكن الخاطئة، حتى سمعها صدفة تغني في إحدى الحانات الرچيمة، فجن جنونه وتمنى لو لم تكن هي ولكن كيف لا يعرفها وهو لا يعرف نفسه.. كما يفعل معها؟
بحث عنها في الحانات وبيوت الدعارة، وكلما كاد ينغمس في العالم السفلي، أرتد لأنه تأكد تمامًا.. لو رأها في ثياب الرخص لن يتردد قبيل قتلها، وهذا سيزيد وجعه الحالي للأضعاف.. بل ملايين أمثاله ولا يظن بأنه سيستطيع قتلها في النهاية، فينتهي به المطاف مفكرًا بالإنتحار وبالعائلات التي يحكمها تقتص منها حقوقهم.
سار ناحية فراشه وإنغمس فيه مناظرًا الجانب الذي كانت تنام به لتحتضن جسدها الضئيل في ثباتها وسكونها فتمنحه السكينة والرضى. مر الماضي أمام أبصاره خاطفًا من عيناه الركود، وتركها في لمعة حسرة ووجع لا تغادر فمه ولا حتى بؤرتيه.. لمْ يبكي عليها، لكنه يختنق في وجع مستمر لا يزول وغير قابل للأعتياد.
سمعها تغني، وتبًا كم يحب هلاوسه السمعية حين تكون عنها، فمد يده بخفه وأخرج المنامة السوداء من درجه الأول، ثم أشتمها بنهم غارقًا في عبقها الضعيف، ووجد الوجع يزداد، فعلم أن سيڤار.. كانت ولا زالت كثيرة وباهظة جدًا ليحتمل خسارتها.
لحظتها أرتفع هاتفه برنينٍ أخرجه عن لذة وجعه في ذكراها فتجاهله؛ لأن الحسرة والعذاب هو ما بقيَّ لهُ منها، وهو جدًا كافي، لكن مرة، وأثنتين، وثلاث، حتى ضجر مُجيبًا دون حروف، وعيناه تغرقان في منامة المَحبوبة، لكن صوتها دنى وسمعه جيدًا، فإخترق قلبه قبيل الأذن:
<But you are who you are..
I won't change you for anything..
for when you're crazy..
I'll let you be bad..
I'll never dare change thee..
to what you are not.>
{لكن أنتَ تظل كمَا أنتَ..
لن أغيركَ لأي شيء..
عندمَا تكون مجنونًا..
سأتركك تصبح سيئًا..
لن أتجرأ أبدًا على تغيركَ..
لما أنتَ لستَ عليه.}
كل كلمة لامست روحه وزادتها وجعًا فتباطأت أنفاسه وشعر بالخناجر تسحق فؤاده من مرارة كلماتها الشائكة، ربما يحبها أكثر من نفسه، لكنها لازالت تجبره على الخروج عن وعيه وحالته النفسية المَوزونة بسبب لسانها اللعين. صر أسنانه وكأنما لا يصدق أنها هي حقًا، لم يستطع التأكد إن كانت حلمًا ما لا.. فرفع الهاتف عن أذنه مُراقبًا الرقم، فوجده حقيقيًا، وحينها علم أنه ليس في كابوسٍ ولا حلم جميل، علم أنه على أرض الواقع وإن لامس رأسها بيديه العاريتان فسيسحقه حرفيًا.. هذه في النهاية سيڤار زوجته السرية، التي تستطيع إخراج وحوشه الطريفة للبرارية:
"أين أنتِ؟"
"في أحد بيوت الدعارة، كما تعرف."
صر أسنانه وأهتاجت أنفاسه، ثم ألقى منامتها عنه بإشمئزاز وجسده يرتعد ليجلبها أسفل قدميه، ليضربها، ليريها ماذا سيفعل بها، إحتاج حقًا إلى سماع عظامها تتحطم، شعر أنه في جوعٍ مريض لتمرير نصله على جسدها الشهي، وشعر أنه في حاجة مسيسة طارئة لشنقها بشعرها الطويل الذي يحبه.. يا إلهي.. كم أشتاق لشعرها:
"لا.. لا أعرف، لكنني أعرف جيدًا ما سأفعله فيكِ حين أجدكِ، ربما سأظل أضربكِ كالحمير حتى يحل الصباح، لربما سأربطكِ على أسياخٍ ساخنة حمراء، ولربما سأضع ثعبانًا بين قدميكِ.. كلها أفكار لطيفة لإستقبالك لليلة الآولى دون عنف أعني، مضى سنوات حقًا لذا يجب أن تكون مرتنا الآولى جيدة كي لا نعيد أخطاء الماضي يا سيڤار."
عرض عليها الجانب اللطيف من أفكاره المُظلمة حيالها لعلها تقرر العودة، وحينها سيدللها أفضل مما كان يفعل قديمًا، ومن حسن حظها أنه أعاد ترميم قصر هاريسون، لذا السلم الذي سيسحلها عليه، سيتسبب في إنزلاق عمودها الفقريّ من مؤخرتها وتمامًا هذا ما يحتاج إليه لأنه حينها سيضطر إلى تمزيق سروالها ليعيده موضعه من خلال خلفيتها.
أنتظر جوابها بأنفاسٍ هائجة، تذكر يا چون، لن تبحث عنها، ستأتي هي لكَ، تلكَ الساقطة أشتاقت لكَ أيضًا، لن تحتاج إلى جرها وسحقها أسفل حذائك لأنها لن تأتي، ربما عليّ خطف والدها وضربه وتعذيبه لتأتي لإنقاذه بإرادتها الحرة؟ بدى حل فعال حقًا.
أنفجرت ضاحكة فجأة تسخر منه، رائع، تستهين به وبقدراته.. لأنه أحبها قديمًا وعاملها بإكتراثٍ هذا جزاءه؟ حسنًا يا لذة، يبدو أنني دللتكِ أكثر مما تستحقه أميرة، وتوجتكِ كملكة فاخرة وهذا لا يليق بكِ.. السخاء حقًا سلاح ذو حدين للإنسان، وكلاهما في مؤخرة صاحبه.
"سأعثر عليكِ يا سيڤار."
"صدقني بيبي، لن تحتاج لإيجادي."
يبدو أنها نست من هو.. أو لربما، لمْ تعرفه برغم السنوات التي قضتها في أحضانه هائمة.. شعور سحق صدره وسيطر على كيانهِ لأنها حقًا لا تعرفه ولو بنسبة ضئيلة، فوجد نفسه يضحك ساخرًا مُهددًا، يستهزأ بها وبتفكيرها المحدود؛ فإن أراد أن يجدها سيفعل.. لكنه كان متأكدًا بنسبة مئة في المئة، أنه وفي اللحظة التي سيعثر عليها بها، لن يعود كل شيء كما كان.. ولا يظن أنها ستخرج من تحت يديه حية كالماضي.
"السماء تعلم أنني إن أردت جلبكِ أسفل قدماي لفعلتُ بيبي، لكن كما تعلمين، تلكَ ليست سياستي التامة."
أغلقت وقررت الإنسحاب، فصر أسنانه أكثر وألقى هاتفه على الحائط فتهشم إلى عدة شظايا أصابت روحه برغم طول المسافات، وتمنى لو تكون أمامه ليسحقها، ليخرج بها كبته ناحيتها بالعنف والقسر، كان يموت ليسمعها تترجاه الرحمة كما كانت تفعل تمامًا.. جاريته الرخيصة، لكنه وجد نفسه يتجاهل أفكاره منتفضًا من فوق فراشه، ثم إتجه خارج الغرفة وخلف رواق السلم.. صوب غرفتان صممهم خصيصًا لسببين، وهي على متنهم، ففتح الغرفة الآولى ودخلها، وعيناه مرت على أدواته الرياضية بحدة ثاقبة حتى وجد كيس ملاكمته الطريف المَحفور عليه صورتها، تمامًا.. هذا كان ما يحتاج إليه، إخراج طاقته الطريقة بها وعليها.
____________
_______
جلس إيغور على إحدى الأرائكِ الفارغة، ثم فارق قدميهِ على نطاقٍ واسع مما منحهُ هالعة أرغمت العامل على الفرار بعيدًا، مُمرًا عيناه الضيقتان على كل من أقترن بالتاء المربوطة باحثًا عن فريسة، وقد حاول تجاهل رغبته في تكرار نفس الفعلة مع ليليان، يعلم تمامًا أن أستثناء أي أنثى بعد الليلة الآولى خطر على صحة الرجل النفسية وتهديد فعليّ لمشاعره كافة، وچون سانتيغو يمكنه البصم بأصابعه العشرة مؤكدًا صحة تلكَ القاعدة.. فقرر أن يختار آخرى ترضي شهوته مُؤقتًا حتى يحصل على التفاحة المُحرمة قبيل صديقيه وسيفعل.
وقعت عيناه على ليليان بتلقائية، وفي نفس اللحظة التي ناظرها فيها لا أراديًا كالمنوم، لاحظت هيئته وأستشفته وسط الكثير من الرجالِ، كانت الباغية تتراقص شبة مُجردة وتتغنج بظهرها على صدر ضحيتها الجديدة، لتـُثير حواسه ورغبته، لكن لمحة المكر تلاشت عن وجهها وسحبت منها بصيص الحياة بعدما لمحته، فتركها في رعبٍ وهلع أستطاع أن يلحظه بأرتجاف ثغرها وجسدها، وكيف أنتفض صدرها بجزعٍ..
غرق في ذكرى تلكَ الليلة حين سقطت بين ذراعيه قبيل بلوغه لذته السادية المكنونة بها، لكنه وجد نفسه عاجزًا عن قتلها وهذا لمْ يمر عليهِ من قبلٍ، فحين أنهارت ليليان مُعلقة بسبب أصفاده السوداء متجردة وقذرة ومشوهة، إرتد عنها والنشوة التي حصدها كما لم يفعل من قبلٍ، باتت آخرى مُرة كالعلقم تمامًا.. كان معروف بحبه للنساء وهوسه بهن، وكل امرأة حصل عليها ماتت سواء بسببه أو بسبب اللآذى النفسيّ حتى لأسوء ساقطة، لكن مع ليليان هوسه السابق.. لمْ يستطع الوصول معها لنفس المَرحلة.
لسبب مَا، بغض كل لمسة إنهالت على بشرتها الناعمة من الآخر بمنتهى الإستفزاز.. شعرها الأسود الداكن تناثر حول بشرتها المَخملية، وعيناها الزرقاء الفاتحة تعلقت بهِ وكأنمَا الخوف جمدها مكانها، أقدامها الرشيقة كعارضات الأزياء راحت ترتجف له.. لسيدها.. لي أنا إيغور.. كانت جميلة جدًا، حلوة ورائحتها قوية من كثرة العطور، لذا بتلقائية فعل ما لم يريد وهو رَفْع سبابته فإزداد رعبها وكأنما قد تسقط في ذبحة صدرية، لكنها كانت ذكية وعقلها علم بوجوب طاعته، فتلك الليلة روضتها جيدًا.
سارت بمنتهى البطىءِ على أوتار صبره تعزف ألحانًا حلوة، ثم وقفت أمامه تراقب الأرض دون حروف، فتفرسها ناهشًا معالمها كالمُشتاق، ثم تمتم مُستطردًا:
"كيف حال خاضعتي؟"
"في خيراتكَ سيدي."
أبتسم بإتساعٍ بعدمَا أرضت جنون عظمته ثم نهض، وهنا حقًا أنهارت قواها وسيطرت الدموع على حادقتيها تكاد تفر فحاولت أن تصمد، تتمسك بكل ذرات القوة المُعدمة، فقال إيغور بعد صمتٍ طال:
"يمكنكِ الذهاب.. يا ليليان."
رفعت عيناها بلا تصديق تناظر صدره بذهولٍ كلي، منذ تلكَ الليلة وباتت تعلم جيدًا كم يكره حين تنظر امرأة في عينيهِ، لكنها حالة أستثنائية في قاموسهِ ود أن يحطمها تمامًا. تمسكت ليليان بكلماته وأستدارت تكاد تفر هاربة، فأطلق ضحكة مُنتصرة مُحاوطًا عنقها بمنتهى السادية والتلذذ، ثمَ ألتصق بظهرها مُمرًا عيناه على زبونها الذي سرعان ما وجد باغية سوَاها:
"كم كان سيدفع؟"
"سيد إيغور.. أنا.."
أرتعشت بين ذراعيه وهنا حقًا إنهارت دموعها على طول وجنتيها، كان أول سيد عليها، وكان أسوءهم جميعًا، علم أنها لن تسلمه ذاتها ولو أجبرت على الموتِ مُنتحرة وهذا لمْ ينل إعجاب سيادته بالطبع، وبرغمِ كرهه للحقيقة، ظلت الأبتسامة المُميتة على وجهه ينتظر جوابها، فقالت:
"خمسمائة.."
"مليون!"
"لا... ألف."
"يالهُ من رجلٍ شحيح."
صمتت بحذر حينما راح يتلمس خصرها، لكنها سرعان ما أعتصرت عيناها بعدما شعرت بأنفاسه تتلمس عنقها بل روحها.. ونبرته العميقة تغلغلت مخاوفها:
"سأدفع أكثر لكِ... يا ليليان."
"لا.!"
غرقت عيناه في الظلام الدامس وتلاشت إبتسامته، لمْ يكن هذا هو الجواب المُبتغى، لكنهُ كان متوقع، فأدارها محاوطًا وجنتيها بمنتهى الخطورة:
"تلكَ الكلمة لمْ تخلق لكِ يا ليليان.. على الأقل لي أنا إيغور."
"آسفة سيدي.. لكنني.. حقًا لن.."
صمتت بمنتهى البؤس وراحت تبكي بمرارة مُرتعبة، 'لا.. لن أستطيع.. لن أفعل.. لن أحتمل.' كلها مصطلحات محظورة على أمثالها من الخاضعات، وإن قالتها فأجبرها إيغور على الذهاب معه لن يقف شخص في طريقهِ ما دامت على لائحة الدعارة، وهي حقًا لن تحتمله، حتى ولو خفف من مثقال ساديته؛ لأن ما فعله بها ليلتها، إحتاج منها عدة جلسات مع طبيبٍ نفسيّ مُختص لتواصل حياتها بعدها بأقل الخسائر.
"الرفض غير مقبول، لكنني سخيّ حقًا وأمتلك رفاهية العطَاء.. يمكنكِ الرحيل يا ليليان.. هذه المرة فقط."
فتحت عيناها بلهفة وأنتظرت حريتها بنهمٍ، فأفلتها وحينها ركضت هاربة للطابق الآول حيث تكمن غرفتها كالملهوثة، مما سبب ظهور ظل إبتسامة خفيفة على وجهه مُتجهًا صوب غرفة دانيال، ثم دلف بلا طرقٍ ولا تنبيه.
رفع دانيال رأسه بإنزعاج، ثم أنتفض بفجعٍ، مُشيرًا على كرسيه بتوتر مَذهول:
"سيد إيغور.! تفضل بالدخول."
لمْ يكن يحتاج إلى تصريحٍ للدخول أو حتى الجلوس، لأنه أتخذ كرسيّ مكتب دانيال مقعدًا ثم أستطرد ببسمة خبيثة زادت الآخر تحيرًا:
"بعدمَا فقد المكان رونقه، أستطعتَ العثور على شحنة مضمونة ومثالية.. أعتقد أن الزعيم سيحب التواجد هُنا الفترة القادمة."
أبتلع دانيال لسانه شاردًا في إيغور بتوجسٍ، بالفعل كان يملك من النساء ما يفضله الزعيم.. شعر أشقر وبشرة سمراء، قدمان طويلتان ووجههٌ فاتن.. وبرغمِ ذلكَ لم يُقدم بَعد على زيارةِ المكان.. وكأنما فقد لذة الوجود.
"أتسائل كيف يمكنني مساعدتكَ يا سيد إيغور؟ هل قامت سي-ڤي بفعلٍ ما؟"
"لا... جئت بسبب ليليان."
"ما بها ليليان؟"
توجست نبرة دانيال في الآخير، فإستطرد إيغور موضحًا:
"أريدها أن تتعرض لخسارة فادحة يا دانيال.. أزلها من تلكَ اللائحة فترة أطول، هذه أول ليلة لها من بعدي.. أليس كذلك؟"
اومأ دانيال ثم أجابه بعد تفكير:
"ليليان تعمل هنا يا سيد إيغور وتأتي بمكاسب مالية ضخمة للنادي، كما أنها عامل ترويج جيد ومضمون، وعقدها يشتمل مدة محـ.."
زالت إبتسامة إيغور وهذا كان تهديد رسمي لتعكر صفو مزاجه فلعن دانيال تحت أنفاسه مُخفضًا رأسه قبيل أن يغضب الوغد المُختل، يقسم أن الإتزان النفسيّ لم يخلق لا له ولا لصديقه الجاحد:
"حاضر سيد إيغور.. في النهاية نحن نعمل لإرضاء سيادتكَ.. وإن أردتني أن أجلبها حتى بيتكَ، فسأفعل."
نهض إيغور بعدما ألقى نظرة طويلة ثاقبة على دانيال، ثم غادر بمنتهى البطىءِ ساحبًا من الآخر حياته وخاطفًا الدم عن وجهه تاركًا اياه هرىء، فإنهار دانيال صارًا أسنانه بتوجسٍ غاضب.. وراح يُفكر في كيفية تنفيذ أوامر إيغور الذي أتخذ وجهته التالية قصر آل هاريسون، فترك سيارته أمام بوابة القصر الداخلية ثم غادرها أمَام نظرات ستيڤ المصعوكة، فألقى لهُ المُفتاح بلا إكتراث دالفًا القصر وحينها، وحينها فقط صفق النداب على وجنتيهِ لاطمًا هادرًا:
"تبًا لي، أمس السيد غوزمان واليوم سيد إيغور، أقسم أن الجحيم سيقبل على رؤوسنا وقريبًا جدًا سنبكي دماءًا جارية.."
قلب توماس عيناه بضجرٍ بسبب صياح رفيقه وتذمر الرجال ،فقال أحدهم:
"أقسم يا توماس إن كانت هناك لعنة سببت النحس الذي نغرق به كل فترة، فما هي إلا تلكَ البومة بجانبكَ."
تنهد ستيڤ مومئًا عدة مرات بجدية:
"أسخر اليوم وأبكي بالغد.. حذرتكم جميعًا يا رفاق، أقسم أن القدر يخطط ليكون أسوء مما سبق ونحن فقط الخاسرين."
تذمر الرجال بتوجسٍ مُبتعدين عنه.. حتى توماس أقرب رفاقه فضل الوقوف بجانب سيارة أيغور المُعتمة ليصفها بالجراچ عوضًا عن مشاركة صديقه فقرة إنتحابته النسائية.. بينما في الداخل، فتح إيغور باب الجناح دون أن يطرق، ثم دخل بإبتسامة واسعة فوجد الوغد شاردًا في الأفقِ الشبة مُعتم أمام نافذة الشرفة المغلقة، كانت الغرفة قارصة من فرطِ البرد وبرغمِ ذلكَ وقف الزعيم في الصقيع، بجسده العريض وعيناه المَيتتان، بروحهِ الفارغة وقلبه المفقود. قبع بين أنامله فنجان صغير من القهوة المُرة ويكاد يـُجزم أن القهوة باردة كالثلج. تأمل إيغور هالته أكثر فوجده في سترة قاتمة لمْ تختلف كثيرًا عن باقي ستراته، وحول كفيه قفازاته السوداء التي بات يقترن بها دائمًا، لمْ يعرف السبب ولم يحاول إدراكه، فيعلم تمامًا أن الزعيم لمْ يعد كالماضي، بل صار أشد خطورة مُجرد تمامًا من الإنسانية، ولم يعد لديه رفيق أو قريب.
"مرحبًا بعودتكَ إيغور."
"مرحبًا بعودتي؟ هذه هي طريقتك للترحيب بي؟"
أنتقده بجدية، فألتفت چون مدمدمًا بلا إكتراث:
"ستكون تلكَ وسيلتي من الآن فصاعدًا ما دمت فضلت النوم مع عاهرة لوس أنجلوس عن الجلوس معي أنـا چون هاريسون."
قد يتغير القدر، وقد تقرر الحياة أن تكون لطيفة، لكن التواضع لن يمسس عينان الوغد أبدًا، وبرغم ذلكَ أجابه إيغور مدافعًا:
"هي من جاهرت بإغرائي وتبًا لا أعرف كيف نجت مني ليلتها، لكن عوضًا عن لومي.. أنتَ لم ترى نساء ملهى 'وشم الشيطان' بعد لتـُقرر.!"
أسودت عينان الوغد ثم وضع الكوب على أقرب طاولة، لمْ يكن يعلم إيغور بما يدور في خلد رفيقه، لمْ يكن يدرك بأنه سخر من فكرة وجود امرأة تستطيع إرضاءه مثلها حتى ولو تجاوزتها في الجمال، فأتجه صوب الأريكة ليجلس عليها ثم فارق قدميه على نطاقٍ واسع بأريحية:
"إن كُن بهذا الجمال، فإحرص على جعلهن يحضرن حفلكَ وحينها من يعلم.. برغم أني أشك في ذوقكَ بالنساءِ."
"لن تصدق مهما قلتُ لذا لن أضيع وقتي معكَ.. لكنكَ ستأتي اليوم، لأنني قررت جلب La manzana prohibida وحين تراها لن أتنازل عنها لكَ، لأنها صيدي الثمين.. تبًا لمْ أحصل على خاضعة عذراء من قبلٍ..!" -التفاحة المُحرمة-
"عــذراء؟"
سَخر مدمدمًا، فقال إيغور بلا أكتراث:
"تبدو صغيرة في السن ولمْ تنم مع الرجال بعد، لكنها امرأة فاسدة حقًا، أكاد أجزم أنها في علاقة غرامية مع دانيال الوغد وهذا سبب إبقائها لنفسه."
"مهما يكن يا إيغور، ليس لديّ اليوم كله لأتناقش عن حبكَ للجنس الآخر ومدى جمال La manzana prohibida.. يكفيني صياح ديفيد بالفعل، ثانيًا لا امرأة في الوجود تصنف تحت نطاق التحريم ما دمتَ تمتلك ما أملك أنا."
كما قلت، قد يصير البحر لهيبًا وينفجر البركان بالأنهار، لكن ذلكَ الوغد لن يتوقف عن حب ذاته أبدًا.. لذا تنهد إيغور مُتجهًا صوب الفراش ثم جلس على طرفهِ مُراقبًا چون بيأسٍ تام، فراقبه الآخر بظلامٍ وعدم أكتراث، ولمْ يقطع خلوتهم تلكَ، سوى ثلاث طرقات مُهذبة على الباب.
"إدخل."
أمر چون، فدلف آرثر بأبتسامة زادت إتساعًا بعدما شهد وجود إيغور، فأتجه صوبه مُحتضنًا إياه بتحية ماكرة:
"سيد إيغور هنا أيضًا.. وأنا أتسائل لما الشمس كانت غائمة اليوم.!"
"أصمت أيها الوغد اللعين."
سبه إيغور حاقدًا، ثم كبله مُمرًا يده على فروة رأسه بعشوائية، يداعبه بعبثٍ عنيف:
"ذلكَ الصغير في خطر العدوى يا چون أعني.. هو حرفيًا ينام بعشوائية مع كل من هب ودب، أكاد أجزم أنه لن يتعرف على أي من نساءه إن رأها."
أتسعت أعين آرثر بذعرٍ بعدما سقط إنتباه الزعيم عليه ثم برر مُسرعًا:
"آسف سيدي لكن الوغد دانيال يمتلك دستة دسمة حقًا من النساء، وأنا لمْ أصل لهذا الحد بالطبع! أكترث جدًا حيال الأمراض المنقـُ.."
لمْ يكد يختم كلمته إلا وألصق إيغور هاتفه في عين الحيوان الكذاب كابسًا كذبته في مكانٍ لا نعرفه:
"من هذه؟"
"لا أعرفها.!"
ناظر چون بإنتصارٍ وكأنما يقول 'هل رأيتَ' فتمتم آرثر بشكٍ قَلق:
"مهلًا هل أعرفها؟"
"أنها المرأة التي أمضيت معها ليلة أمس أيها الوغد.!"
"إيغور.. آرثر.."
دعى چون أسميهما، فحبس آرثر أنفاسه مُترقبًا:
"ما الذي تريده يا آرثر؟.. ودعني أقول.. إن تعلق الأمر بها، فسأغضب، وأنتَ لا تريدني أن أغضب صحيح؟"
"عفوًا يا زعيم.. لكنني بالفعل لا أريد سواها."
تسائل إيغور بنظراته، ثم أستند على مرفقيه بإستمتاع بسبب النظرة التي أعتلت وجه الزعيم، فعلم أنه على وشك الدخول في نوبة جنونية قريبًا بما أن عيد ميلاده أقترب، وبرغمِ ذلك توقع أن يغادره صوته مُتبلدًا كما الآن:
"لمْ أتصور يومًا أن أقول هذا.. لكنني أحبكَ يا آرثر، وأتوقع أن تكون على نهجي مُستقبلًا، قتلكَ سيغضبني حقًا وإيذائكَ سيتسبب بخسارة فادحة، سأمتُ اللعب ولست في حالة جيدة تسمح لي بدهسك بالسيارة أو إلقائك من الطابق العلوي، لذا كالفتى المُطيع، إذهب لغرفتك الآن قبل أن أفقد صوابي، وويلك أن أراك في صحبة امرأة عشوائية مُجددًا.. فهمت؟"
"مُطاعٌ يا زعيم.. فهمتُ."
أخنى آرثر رأسه بحزنٍ لمْ يمسس قلبه بنفس الشغف من قبلٍ، وكيف لا يحزن؟.. والشخص الوحيد الذي رأى به حياته في الوجود بعيدًا عنه وإمكانية الوصول إليه تكاد تنعدم لسبب لا يعرفه ويجهله؟ بها يرى الشروق، وبها يرى ألوان الربيع في لحظة بهوت، بها.. رأى الغروب، وإلتماع القرص الذهبي على نيم الرمال، بصيص ضوءه في العتمة، وغطاءه في أشد لحظات البرد.
أذاها كثيرًا في الماضي وآذى نفسه معها، تسبب في خسارة فادحة في نفسها وشخصها وحتى مستقبلها وحياتها، تسبب في خسارتها لأهلها، وكل من أحبت أو طرق قلبها، دمرها، فقط ليكتشف فاجعة واحدة.. أنهُ ومهما وصل سوءه مع الجميع.. ستظل هي إستثناءه.
لمْ يعد يهتم لإختلاف طباعهما ولا البلاد ولا الجنسية ولا اللغة، علم أن الأرواح تتلاقى بنقيض مكنونها إن كان صادق.. وإن كان صادق فقط.
نقية هي كاللؤلؤ باهظة كالماس، صعبة الإحتواء سهلة الإرضاء، هذه هي چينيا.. أو بالآحرى.. چيده الخاص.
لاحظ چون شرود آرثر وحزنه الغير مُصطنع، فأستطاع بطريقةٍ أو بآخرى الولوج إلى روحهِ وقراءته كالكتاب المفتوح، علم أن ما يكنه للآخرى مُعقد ولكنه صادق، كثير لكنه باهظ، تأكد أن چيد لمْ تكن الطرف الوحيد الذي تأذى قديمًا.. وبرغم ذلك الرحمة لم تكن صفة من صفاته، ولا طبع من طباعه.. إتباعه لمنهجية العاطفة كانت بالنسبة له سخافة فعلية ولا زالت، لذا لم يندم ولم يظهر تعاطف ولو بنسبة ضئيلة، وراقب الآخر يجر أذيال الخيبة وراءه وكآبته مرئية، ويأسه آسر روحه.
"أنتَ حقًا بلا قلب، ليموت على مجرد امرأة لترفض أنتَ أن تهبه إياها."
غمغم إيغور بيأس مُخرجًا سيجارة ليشعلها، فأجابه چون بلا إكتراث:
"تركتُ لكَ القلب يا مهووس النساء."
ظل يناظره مُطولًا بلا مشاعر، مُتبلدًا خاليًا من العاطفة، فلعن إيغور تحت أنفاسه خائبًا:
"وأنا أشتقت لأنتحابكَ سكيرًا على امرأة كانت لتنحر عنقها ولا تمسسها."
عاد الظلام يأسر روحه وملامحه فزال التبلد عنه وهربت اللامبالاة، لتتركه يراقب إيغور بملامح غريبة حملت عاطفة سيئة جدًا حيال الشرقية، كانت مشاعر بشعة للغاية، فظيعة ودميمة، أحاسيس قميئة ناحيتها كانت مَرفوضة وغير مقبولة، فعلم وقتها إيغور بل وتأكد أنها حين رحلت أخذت معها نفسه، وحينما ماتت أمه، ماتت معها إنسانيته..
لسبب ما أيقن إيغور أن چون خسر إنسانيته بالكامل ولن يحصل عليها مُجددًا حتى وإن عادت، أصابته الدراية الكامنة بأن صديقه مشوة جدًا من الداخل وحتى ضوء الشمس لن ينير، فهز رأسه بهدوءٍ يودعه:
"إلى اللقاء يا زعيم.. سأنتظركِ في المساء."
وبينما غادر إيغور الغرفة تاركًا رفيقه المَيت جامدًا على الاريكة، عَلَا هاتف ديفيد برنينٍ مُستمر، فأمسكه مُتفحصًا، ثم وقف في الشرفة مُجيبًا، وسرعان ما وصله ردها فإبتسم بإتساعٍ آسر:
"أنا موافقة.. موافقة يا ديفيد."
مدت أناملها المطلية بالأحمر، ثم تابعت بمكرٍ جهنميّ:
"لكن اللعبة لعبتي والتخطيط لي."
"سأصطحبكِ في المساء بالسابعة."
"حسنًا يا ديفيد.. في إنتظاركِ."
ألتفت بإبتسامة ماكرة بعدما أغلقت الخط تكاد تغادر الغرفة، لكن إبتسامتها سرعان ما زالت حينما شهدت سي-چي خلفها بنظراتٍ مُنتصرة ولكنها غاضبة، فرفع ملف هويتها الأصفر، مُدندنًا ببطىءٍ:
"مرحبًا بكِ... يا سيڤار إبرام سَمير."
تبًا لي.
يتبع..
مرحبًا احبائي..♥️ لسه بعرف اكتب؟😂×_×
لا تنسوا إن رأيكم يهمني لذا اتركوا هنا أي اسئلة او انتقاد وسأجيب عليكم.. وكما قلت سابقًا لا تنسوا سراج لانه مهم. 😈 ألقاكم قريبًا بالفصل القادم لاني هحاول اعمل عليه مباشرة بما انه طويل.. والآن بترككم مع لمحة صغيرة منه.. ♥️♥️.
دمتم سالمين. 💞
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top