6| الشرخ إلى التغيرات.

في اليوم الذي كانت رحلته فيها إلى الولايات المتحدة، فإن جاي استيقظ وهو يشعرُ بأنه نسي أغلب أجزاء جسده على السرير.

بدا كل شيءٍ مبهمًا وغريبًا، لكن ليس بالسوء بالضرورة. إلا أنه لم يشعر أنه بكامل وعيه، أو على أفضل حال.

لم يشعر بالجوع أو يتناول فطوره بنهم، الشيء الوحيد الذي دفعه على إنهاء طبقه هو نظرات والدته الحنونة و التي كانت قد استيقظت مبكرًا كفاية لتحضير طبقٍ كامل من الفطائر المحلاة له بما أنها كانت طعامه المفضل.

"ستتناول ما يكفي منها لحد كرهها في نيويورك."
مازحه والده، بينما هو بالكاد استطاع الضحك، ولم يفعل إلا عندما رأى والدته تحاول جاهدة هي أيضًا.

لم يكن السفر يذعره إلى هذا الحد ليكون صادقًا. لم يعاني من الأرق لساعاتٍ طويلة أو يخسر الوزن كما فعل هيسونغ قبيل انتقاله إلى سيول، على الرغم بأنه كان متجهًا إلى قارة أخرى وليس فقط إلى مدينة.

لكن الأمر هو أنه كان بالفعل معتادًا على زياراته للولايات المتحدة مع عمل والده، كما أنهما أخبراه من قبل أنهما سيستمران بالتردد إليه في كل فرصة سانحة بما أن لا النقود ولا الوقت كانا عائقًا. وهو يظنه محظوظًا بشدة لأنه لا يملك دافعًا للقلق ناح أمور أخرى تؤرق أقرانه.

ومع هذا، مع كل هذا التوكيد، لا يظنه كان بكامل وعيه وهو يحمل الأطباق مع والدته، ولا يظن أنه استطاع الابتسام باتساعٍ كافٍ منذ فتحه عينيه.

رؤيته للأماكن الفارغة في غرفته حالما دخلها ليتأكد من أنه أغلق حقائبه جيدًا للمرة العاشرة، تركه بجفافٍ مؤطر لحلقه. ولم يستطع البقاء هناك للحظة، بل إنه عاد إلى غرفة الجلوس بقلق ليجلس قرب والدته التي كانت تشاهد أحد مسلسلاتها الصينية المفضلة.

ابتسمت له بكل الطرق الصائبة، إلا أنها دفعته لرمي رأسه بصمت في حضنها بينما لا يسعه حتى شرح ما يشعر به.

وحينها مرّ والده ليخبره أنهم سيخرجون إلى المطار في الساعة الثالثة عصرًا، وأن صدقاءه سيأتون قبلها ليأخذوهم معهم.

هذا دفعه على رفع رأسه ويد والدته الحنون تنزلق من فوق شعره، تربع على الأريكة وهو يحدق في ظل والده الذي توجه إلى الدرج على ما يبدو إلى غرفته، وزم شفتيه ولا كلمة تقبع خلفها بانتظار الانطلاق.

أول من وصل كان جايك. وقد حضر محملًا بابتسامة صغيرة سلمها لجاي حالما فتح له الباب مما دفعه على الابتسام هو الآخر دون مقاومة بينما يفسح له الطريق للدخول.

تفقد المكان من ورائه قبل أن يغلق الباب وهذا ما جعل جايك يلتفت قائلًا:
"هيونجو ليست برفقتي. بصراحة ظننت أنها ستكون هنا منذ وقت طويل."

رمش جاي وهو يزم فاهه عالمًا بأن كل تصرفاته تبدو مفضوحة أكثر من اللازم. تنهد جايك وهو يعلق كفه بكتفه ويدفعه عبر الممر مردفًا:
"أنا متأكد بأنها قادمة قريبًا، ويمكنني إرسال رسالة نصية لأسألها عن موعد حضورها إن كنت ترغب."

"لا بأس، أنا سأفعل."
تمتم بنبرة ضعيفة الامتنان وهو يبتعد عن الآخر ناح ضوء الممر ليشعله بما أنه كان غارقًا في الظلام. تتبعه جايك بعينيه قبل أن تنكفئ أي تعابير كانت تكتسي وجهه ثم يسبق جاي إلى منتصف المنزل.

عندما وصل جاي إلى حيث كان رفيقه فإنه قد وجده يدردش مع والده، ليرى أن أباه كان يحملُ ملصقاتٍ عليها ختم العائلة أخبره سابقًا أنه سيضعها على الحقائب ليسهل التعرف عليها في حال فقدت أو ما إلى ذلك. قبل أن يعرض جايك بلطف المساعدة على حمل الحقائب للأسفل وهو ما ابتسم له والده مومئًا.

وبالفعل فإن جايك رافقه إلى الأعلى لحمل حقائبه القليلة بينما الصمت يشتد بينهما. وعلى الرغم بأنه كان مخيمًا فوق كل التنهدات وأصوات القماش الجلدي للحقائب واحتكاكها مع بشرة اليدين، إلا أنه لم يكن ذميمًا أو قاسيًا، وكأنه شيء صغير توقعه كلاهما في لحظاتٍ فاترة كهاته، حيث تبدو كل ثانية غير مستقرة ومتأهبة تمامًا لكل ما هو قادم وقريب، محملة بالتغيرات الواصلة على الطريق.

عندما كان جايك أسفلًا بعد أن أخذ آخر حقيبة، فإن جاي بقي في الغرفة قليلًا بعد متفقدًا آخر التفاصيل هنا وهناك. تأكد من أنه لم ينسى شيئًا وأغلق أدراج خزانته متفقدًا أنه لم يترك فيها شيئًا قد يفسد إن نسيه أحدهم وما إلى ذلك. وحينما وصل أخيرًا إلى باب الخزانة التي تركها مفتوحة قبلًا عندما أخرج معطفه الرمادي المفضل والذي كان سيرتديه في طريقه إلى المطار، فإنه لمح طيفًا رقيقًا لأمرٍ ما، صورة بولارويد، ملصقة على امتداد الخشب الداخلي.

لقد كانت الصورة التي التقطها هيسونغ منذ قرابة الشهر لهم سويًا عندما كانوا يتسكعون حينها بعد قدومه لإجازة. إمساكه للصورة بين بنانه أعاد له كل لمسات تلك الليلة، بهواء المساء المحمل بالصقيع والمعاني الحائرة.

لقد كانوا مترامين كلٌ منهم على كرسيٍ قماشي في مرأب منزل جايك الشسيع المفتوح على الشارع، أسفل إضاءة خافتة علقها صاحب المكان مسبقًا ليبدد عتمة المساء الشرس بوهجٍ رقيق لأضواء صغيرة متحاضنة.

لقد مكثوا هناك حتى ساعة متأخرة من الليل يتسامرون الحديث هنا وهناك. فمن مخططات هيسونغ للإجازة بما أنه أنهى السنة الأولى للآن، حتى نتائج آخر مباراة من دوري أبطال آسيا التي لم يبدو جايك مهتمًا بها كفاية بينما هو وهيسونغ كانا يسترجعان تفاصيل كل هدفٍ مهم والمرارة من خسارة كوريا وفشلها بالتأهل للنهائيات.

في نقطة ما بعد أن عاد جايك بالمرطبات التي كانت مجرد مشروبات غازية بما أن أيًا منهم لم يكن مستعدًا للتعامل مع آثار الثمالة لاحقًا، فإنه قد ناول جاي خاصته قبل أن يضرب كتفه ليحصل على انتباهه ويبتسم ليرتمي على كرسيه وأخيرًا وانتباه الآخر عليه.

"إذًا بارك جونغسونغ، كيف هي استعدادتك لارتياد جامعة نيويورك؟"
أنبر بمرح عن سؤاله قبل أخذ جرعة طويلة من مشروبه.

تنهد جاي من سخافة أساليبه التمهيدية، ولكن قبل أن يفكر بالإجابة حتى فإن هيسونغ قاطعه بسؤالٍ آخر:
"مهلًا، متى ستسافر بالضبط؟"

حدق بمشروبه للحظة قبل أن يرفع عينيه وكتفيه سويًا كي يسندهما أكثر للكرسي خلفه بينما يقول:
"رحلتي في نهاية الشهر."
أومأ هيسونغ للإجابة ودهشة طفيفة تعتلي ملامحه. بدا وكأنه نسي بالكامل كون جاي أصبح جامعيًا الآن. وجه انتباهه لجايك الذي كان يحرك مشروبه والابتسامة لا تزال تعتلي شفتيه ليجيب عن سؤاله المعلق بينهما سابقًا:
"لا استعدادات. لا يزال الوقت مبكرًا بالنسبة للأمتعة."

أدار المقصود عينيه بينما هو يتقدم في كرسيه ليسند أكواعه على ركبه:
"لا أقصد الأمتعة وأنت تعلم هذا. أقصد استعداداتك النفسية. والداك ومشاعرهما اتجاه ابتعادك عنهما، باقي الأصدقاء، هل أخبرت أي أحدٍ عن كونك ذاهبًا حتى؟"

زم شفتيه مأخوذًا من كم الاسئلة. هو يعلم بمحبة جايك لاختلاق الأحاديث، ولطالما كان ممتنًا لتلك الطريقة التي يحركُ بها سطح الفتور في المحادثات، لكنه يشعر بالاختناق من مناقشة الأمر لسببٍ ما، وكمُ الاستفسارات هذا كله يجعله يود لو يطلب من الآخر الصمت، وهو لا يعلم حتى لما يشعرُ وكأن الأسئلة تتموضع فوق أعصابه النحيلة، وتتركه يعتصر مشروبه قبل أن يفكر بالرد.
"لدى أبي عمل دوري في الولايات المتحدة لذا رحلاته إلى هناك دائمة كما أن والدتي لا تفارق جانبه، لذا لا يتعاملان مع الأمر بسوء على الرغم من صعوبته. ثم إن كل من في المدرسة يعلم تقريبًا أني كنت سأرتاد كلية إدارة الأعمال في نيويورك حالما أتخرج، حتى حارس المدرسة. يبدو أن الجميع يعلم عداك على ما يبدو."

تطاول أحد حاجبي جايك حتى كاد يلامس خط شعره، حدق بجاي وهناك شيء غير مفهوم يُعتِّم في عينيه ومشروبه يركض في دوائر بين أصابعه، قبل أن يتحدث ثانية:
"ماذا عن علاقاتك؟ ماذا سيحدث الآن؟ ستبدأ حياة جديدة في أمريكا وتبدو وكأنك غير مهتم إطلاقًا."

أطلق نفسًا من الهواء المقتضب عندما طفح كيله من المحادثة التي تستمر وتكاد لا تصل أبدًا إلى أي وجهة، ولا يظنه إن لم يغير جلسته سيستطيع الاستمرار بهدوء دون مشاكل بسبب نبرته المتذمرة التي حطمت كلماته رغمًا عنه في رده التالي:
"أيُ علاقات؟ ما الذي تتحدثُ عنه حتى جايك؟! ما الذي قد يحدث لأيٍ من علاقاتي بسبب ذهابي إلى الجامعة اللعينة؟ لستُ أول ولا آخر شخصٍ يسافر للدراسة، ليست نهاية العالم، لذا توقف عن جعلها تبدو وكأنها كذلك."

بدا جايك مأخوذًا كأقل تعبير، توقفت حركة يديه وعاد للتحديق في جاي. وحينها فقط لاحظ جاي أن هنالك شيءٌ ما يتهادى خلف ظلال عينيه، هناك مقصد آخر لا يفهمه خلف الأسئلة الغريبة تلك وجايك لا يطاله مهما استمر بهذا المنوال، أو مهما حاول.
"ماذا عن هيونجو؟"

تصلبت أفكاره في رأسه لثانية على ذكر هيونجو، بل وإن هيسونغ الذي كان مستندًا بطريقة غريبة في مقعده القماشي قد شزره بطرف عينيه، قبل أن يعود إلى العبث بهاتفه. وإن كان جاي محتارًا من فوضى المحادثة سابقًا فإنه مبهور تمامًا الآن من غرابتها.
"وما خطبُ هيونجو؟ ما الذي قد يحدثُ لها عند ذهابي للولايات المتحدة؟"

تعلق فاه جايك بالهواء للحظات، وبدا وكأنه يعملُ جاهدًا على اللحاق بكلماته التي تأبى الخضوع له، وكأنهُ يحاولُ لجمها للانصياع وهي التي تأبى. لكنه استجمع نفسه وتكلم بعد أن نقل عينيه للأرض لثانية انتبه لها جاي قبل أن يعود بنظره للأمام:
"أقصد ما الذي سيحدث لعلاقتكما الآن بما أنك ستكون بعيدًا؟"

وحينها فقط علم جاي أن هذا ما كان يرومه الآخر منذ البداية، منذ ابتدائه لهذه المحادثة المتقهقرة. ارتفع وجيفُ قلب جاي في أذنيه لذكرهيونجو، وما الذي يعنيه حتى بعلاقتهم والذي قد يحدث لها؟

"ماذا يمكن أن يحدث لعلاقتنا جايك؟ ليس وكأن اتصالنا بهيسونغ انتهى عندما انتقل إلى سيول. لا شيء سيتغير، ليست نهاية صداقتنا، لا أعلم لماذا تستمتر بتهويل الأمور."
رمى كلماته وهناك مرارة غريبة في نهاية حلقه، وبدا وكأنه هو بذاته غيرُ راضٍ عما فارق شفتيه.

'تشه' واضحة وساخرة خرجت من جايك حالًا. حملق جاي ناحه، وأخذته الدهشة تمامًا من تعابيره. لا يظنه قد رأى تلك الشاكلة من التعابير فوق وجه الآخر قط من قبل، ولا حتى طول تلك السنوات التي أمضياها سويًا كرفيقين. غضبٌ حاد يزحفُ على وجهه كطاعون، ويبدو وكأنه يملك الكثير لقوله وسينفجرُ به فقط بأي حركة خاطئة من طرفه، ولكن هنالك أيضًا شيء آخر، وهج بعيد خلف كل ذاك الغضب، بقايا بالكاد مشتعلة لما كان كأمل، أملٍ محترق منذ زمن ولم يبقى هنالك إلا رماده.

ومع كل التغضن في ملامحه، فإن نبرته لم تكن شديدة القسوة عندما تحدث، ليس بالشاكلة التي توقعها جاي منه على الأقل:
"أنتما لستما مجرد صديقين جاي وجميعنا نعلم هذا. ثم ألست تخشى باستمرارك بهذا الأسلوب مع هيونجو أن يأتي أحدٌ آخر بالمنتصف ويفسد كل شيء؟ أن تتغير الحياة الغريبة التي تختاران عيشها بينما أنت بعيد؟ العالم لا يتكون منك أنت وهيونجو فقط جاي!"

ولا يظن جاي أنه قد رغب قط بلكم وجه أحدهم كما فعل حينما صاح جايك بكلماته تلك. هو لم يصرخ بالمعنى الحرفي، لكن صوته المتهدج في نهاية كلماته و الذي عاشر هدوء الليل وزنين الأضواء المعلقة فوق رؤوسهم ترك جاي يشعرُ وكأنه تائه بل وغاضب لأنه تائه بتلك الطريقة.

إنه تأثير الصمم الذي خلفه قلبه في أذنيه، واهتياجُ أفكاره التي ترتعد مع كل كلمة يقولها جايك وكأنها خائفة من الحقيقة رغم أنها لا تفهم حتى ما يقال بالفعل.

"أظنُ أن أيًا ما بيني أنا وهيونجو يخصنا نحن فقط، ولا يخصك."
قال بعد صمتٍ طويل، ومع كل الاحتجاجات التي كانت تملأ رأسه وتستعر فيه وتنوي التلوي خارجه، إلا أنه اكتفى بتلك الجملة فقط، وبرؤية امتقاع وجه جايك الذي وقع كتفاه وكأنه طائرٌ ساقط.

حينها قاطعهم هيسونغ الذي التزم الصمت كل تلك المدة، مع أن كل ما كان يحمله في عينيه يبدو وكأنه الكلام القاطع لما هما فيه، إلا أنه اختار السكوت طول الشجار، كالعادة. وعندما قرر التحدث، فإنه نطق بآخر ما كان يتوقعه جاي:
"لدي كاميرا بولارويد اشتريتها من زميل سكني طالب تقنية المعلومات، وهي تعمل جيدًا، لنأخذ صورة باستخدامها."

وحينها، فإن أيًا منه هو وجايك لم يعترضا، ليس وكأنه بمقدورهما ذلك. مناقشة هيسونغ وقرارته الغريبة ليست خيارًا. لذا حاول التغاضي عن أصابعه التي لا تزال ترتعش باضطراب حول مشروبه الذي أصبح حارًا ورائحة السجائر القوية من هيسونغ الذي أمضى بداية الأمسية كلها بالتدخين، وقرب كرسيه من الأكبر ليصبح في نطاق الكاميرا.

جايك فقط انحنى بجسده للجانب ببطء، وابتسم. ربما ليس بالطريقة اللامعة الخاصة به، لكن بكل مقدرته في تلك اللحظة بينما يضع كفه على كتف هيسونغ بما أنه كان قريبًا كفاية بالأصل.

وحينها ومع الضوء الخاطف الذي أطلقته الكاميرا، فإن كلاهما قررا دون كلمات التغاضي عن تلك المناقشة العجيبة لباقي الأمسية، دون الاقتراب منها. إلا أن جرحها المتقرح ضل شبه مفتوح وهو ما جعل الحوارات فاترة، وما ترك الأمسية لتنتهي بعودة هيسونغ إلى سجائره مع محادثة طويلة مع جايك عن لعبة فيديو سخيفة لا يذكر جاي أسمها حتى، بما أنه لم يكن جزءًا من الكلام ولو لمرة بينما هو غارق في أفكاره التي نجح جايك بتعكير صفوها الراكد بنجاح قبلًا.

الولايات المتحدة، المسافات، التغيرات، الأطراف الدخيلة، وهيونجو.

هيونجو.

سحب جاي الصورة ووضعها في جيبه وعاد أدراجه للأسفل مغلقًا ضوء وباب غرفته.

حالما خط قدمه في الطابق السفلي، فإن ما استقبله كان ظلًا بني لرأس صغير عند باب المنزل المفتوح، حيث منه تفوح الرياح الباردة ورائحة كراميل دافئة يعرفها جيدًا من خلف ظهر والده.

ابتعد والده سامحًا لهيونجو بالدخول وهو يتلو الترحيب وراء الآخر ويسألها عن أحوالها وأحوال والدتها والعمل، وهي تردُ بخجل وتسحبُ شعرها لتغطي أذنيها ونصف وجهها كعادتها.

في اللحظة التي التي التقت بها عيناهما، فإن بشاشة رقيقة احتلت وجه هيونجو، وتضعضت دواخله. لقد كانت ترتدي ملابس خفيفية بسيطة، وتبدو جميلة بأحمر شفاهها القرميدي.

ومع هذا، ومع ترحيبه لها بإيماءة من رأسه بما أنه لم يستجمع شجاعته للاقتراب منها في هذا الوقت بالذات، فإن لم يستطع عدم ملاحظة عينيها، الفتور الذي يقطرُ منها، وسحنة الألم فيهما.

إنها تبدو بحالٍ مزرٍ، ليس بالطريقة التي قد يراها الجميع، ليس إلا بالطريقة التي يلحظها هو فقط.

رأى جايك يلوح لها قبل أن تذهب ناح والدته تحييها هي أيضًا بدورها.هناك وهج غريب يتصاعد في دواخل جاي، دون مقدرته على تفسيره.

"حسنًا إذًا، بما أن الجميع هنا بالفعل، لا ضير من خروجنا الآن. لقد أنزلتما جميع الحقائب صحيح؟"
كان والده هو الذي سحبه من الغرق في هيجانه المباغت من الضياع، ودفع جاي على النظر ناحه.

"كل شيءٍ جاهز سيد بارك."
كان جايك هو من أجاب، منقذًا جاي من ضرورة فتح فاهه والبحث عن كلمات.

وبالفعل، فإن والده قال أنه سيذهب لإدارة محرك السيارة، وحينها فإن جاي يعلمُ أن قلبه كان يرقد في معدته غارقًا في كل الوهج الحار الذي يعتري دواخله. ذهب جايك لمساعدة والده في حمل الحقائب ولحقت به هيونجو التي عرضت بفتور تقديم يد المعونة، وكان من السهل عليه ملاحظة أنها كانت تحاولُ تجاهله، وهو ما ترك عربدة الحزن لتعتريه بينما هو يذهب لترتيب هندامه لآخر مرة في مرآة الحمام.

عندما خرج من المنزل ليرجف لبرودة الجو، فإنه التفت ليحدق ناح المكان لآخر مرة بينما والدته تغلق الباب، ثم اتجه كلاهما للسيارة.

بما أن والدته كانت في المقدمة قرب والده، كان سيجلس هو في المقاعد الخلفية، وعلى الرغم بأنه توقع جلوسه على الطرف الآخر، إلا أنه تفاجأ بكون جايك ينتظره، ولم يجلس إلا بعد أن جلس هو في المنتصف لتصطدم ركبته بخاصة هيونجو التي كانت تحدق خارج النافذة ولم تلتفت ناحه حتى.

بعدما انطلقوا في الطريق، فإن جاي شعر بأنه كان يفقد وعيه رويدًا مع كل مترٍ تقطعه السيارة. كان الطريقُ إلى المطار معتبرًا، طويلًا كفاية حتى يحل الوجوم فوق الأنفاس في المكان بينما الراديو يعملُ ومنه تنبعث نشرة أخبار المساء.

والداه لم يتحدثا. لم يحاول والده إضافة المزيد من التفاصيل عن نيويورك أو أفضل معالمها، والدته لم ترمي المزيد من التحذيرات والنصائح له للحفاظ على صحته، كلاهما بقيا صامتين. حدق إلى يمينه ليرى جايك منغمسًا في هاتفه، ويستطيع رؤية شارة اسم هيسونغ فقط في أعلى الشاشة رغم الإضاءة المنخفضة. هيسونغ الذي اكتفى بإرسال تحية صغيرة وأمنية له للوصول بالسلامة بما أنه لم يستطع التواجد اليوم بسبب كونه عاد إلى سيول منذ أسبوع.

بخضم ضياعه بين أفكاره التي تتفاصد وتتباين داخل رأسه، وقبل أن يشعر بكون عقله على شفى حفرة من الانهيار، فإن كل شيءٍ تحطم إلى سكون حالما شعر بشيءٍ ناعم وبارد فوق كفه الراقد على ركبته اليسرى.

التفت حتى كاد عنقه ينكسر، فقط لتتحاضن عيناه مع الوهج الدافئ في محجري هيونجو. لم يكن وجهها يحمل الكثير، ولا حتى ابتسامة استطاعت التحايل على ذاتها لوضعها، لكنها اقتربت أكثر قليلًا، وهذا ما تركه هو ليستجمع قوته ليلحم كفيهما وكأنهما قطعة لُبنة واحدة.

وبهذه الطريقة، لم تنفصل يداهما حتى عندما وصلا وسارا كل الطريق حتى مدخل المطار، على طول الخطوط للتأكد من أوراقه الشخصية بل وحتى عندما وضعوا الحقائب للتوزين.

تحت أنظار الجميع، لا يظنه كان من قبلُ أقل اهتمامًا بالخجل الذي قد يعتريه، أو الإحراج من تعبيراتٍ كتلك في العلن. لم يكن يعومُ في السطح العميق لوعيه سوى فكرة واحدة، لا شيء عدا عن كونه هنا، على الطريق إلى المجهول، و وجود هيونجو بأسره في كفته.

تولى والده كل شيءٍ تقريبًا، بكل بساطة وتعبيرٍ بشوش صغير على تغضنات وجهه التي خلفتها السنين. دون أن يثقل ابنه بأي أمر أو توجيه، وكأنه يقدم آخر خدمة لطفله الوحيد.

على مقاعد الانتظار في الصالة، فإنه لم يفترق عن هيونجو أبدًا. لقد رافقته للجلوس على أحد الكراسي المزدوجة، بينما اتخذ والداه مقعدًا على بعد خطوات وجايك على بعد خطواتٍ أخرى.

وحينها، لم يعد الصمت مدقعًا كما كان منذ ولوجه خارج عتبة المنزل. لم يعد الهواء محملًا بضبابٍ من القلق والحزن الذميم، بل ممطرًا بتأهبٍ لوداعٍ حلوٍ رغم طعمه المرير.

سمع جانبًا من محادثة والديه، حيث كان أبوه يؤشر ناح عدد من الطائرات خلف الواجهة الزجاجية العملاقة ويشرحُ لوالدته عن بعض التفاصيل المتعلقة بطرازها وتصميمها أو هذا ما يظنه، أو لربما كان يحكي لها حكايةً وهو ما تركها لتقهقه برقة.

جايك كان بعيدًا كفاية ليغرق بعالمه الخاص لوهلة، فمن الانشغال بهاتفه إلى الذهاب لشراء قارورة مياه من الآلة في نهاية الصالة، يبدو وكأنه كان متقصدًا ترك مسافة معتبرة بينهما، وهو ما لم يفهمه جاي، لكنه كان ممتنًا لحدوثه.

لأنه عنى بقاءه هو وهيونجو في فقاعة خاصة من الوحدة والانفصال عن البقية.

هيونجو وهو فقط.

هيونجو التي كانت قد رمت رأسها على كتفه حال جلوسهما، في تعبيرٍ جعله يشعر وكأن محاولاتها لتجاهله سابقًا في المنزل احتشدت إلى نهاية مفادها إنصهارها بالكامل إلى جانبه الآن.

جسدها يذوب إليه، وهو بالمثل يتجه بكيانه بأسره إليها، وكلٌ منهما يريق دفئه في الآخر حتى أصبحت حرارةُ جسديهما واحدة لا يُعرفُ كنهى مصدرها من منفاها.

لفينة، لم يكن هنالك بينهما إلا الهدوء المعتاد ذاك، حيث لا تُحتاج الكلمات، عندما يغرقُ كلاهما في رأسيهما لكن يبقيان متشبثين بوجود بعضهما كي لا يبتعدا بصورة خطيرة عن ساحل الوعي.

ثم بعدها، بعد أن ظن أنه لن يسمع أي كلمة منها حتى يركب طائرته، وبينما كان إبهامه يدورُ في جولاتٍ صغيرة وسريعة فوق بشرة كفها الناعمة بالبرودة، فإن هيونجو تحدثت، لتكسر الصمت وتجعل قلبه يئنُ بحنينٍ في أذنيه:
"هل تذكرُ أول مرةٍ تقابلنا فيها؟ في ذاك اليوم الممطر؟"

بالطبع هو يفعل، هو يذكر بوضوح كل شيء حدث في ذلك اليوم حتى وإن لم يكن يستطيعُ تسمية ما تناوله على العشاء البارحة.

ولكن ما لم تكن هيونجو تعلمه أن تلك لم تكن المرة الأولى، وأنه كان يعلمُ بوجودها من قبلُ أن تعلم هي بوجوده في تلك الحادثة، لكنه لم يخبرها قط.

"عندما كنتِ تقفين على جانب الطريق وكأنك تمثال رخامي قديم وبائس؟ كيف لي أن أنسى."
أجاب وابتسم بانتصار عندما شزرته بانزعاج لضرورة سخريته حتى في مواقف كهذه.

لكنها اقتربت أكثر حتى كاد يشعرُ بنبض قلبها من خلال كتفها بينما شعرها في عنقه. ثم أكملت متجاهلة:
"لا أعلمُ لما خطر على بالي فجأةً، لكني تذكرتُ ما قلته لك في ذلك اليوم، أعني سبب بكائي حينها والتبرير الذي قدمته لك."

"كنتي تبكين على كتابٍ ما."
أجاب متذكرًا الكلمات التي ناولتها له يومها من بين شفاهها المزرقة.

"هذا هو مافي الأمر، لم أكن صادقة يومها لم أكن أبكي في الواقع بسبب كتاب..."
وعندما زمت شفتيها للحظات، استمر هو بتمسيد كفها والحنو يفيضُ من بين كل لمسة صغيرة ينقرها ببنانه فوق يدها، لتكمل هي حينها:
"كنت في الواقع أبكي بسبب والدتي. لقد كانت تمرُ بوقتٍ عصيب حينها بسبب الديون وبعض الأمور المتعلقة بالمطعم، وكنت أشعر باختناق إلى حدٍ دفعني للوقوف في منتصف الطريق والنحيب حتى تشوش نظري حالما بدأت تمطر في ذاك اليوم، شعرتُ وكأنه وقتٌ جيد كفاية بما أن السماء كانت هناك لمساندتي ببكائها أيضًا، ولقد ظننت أن الطريق سيكون مناسبًا لمعرفتي بأنه فارغ أغلب الوقت، ولكنك أتيت حينها من العدم. لا أعلمُ لما أخبرك بهذا حتى بعد كل تلك السنوات، لكنه خالجني فجأةً والآن."

وعندما لم يكن لديه هو أي تعليق لنبرتها الهامسة وكلماتها التي أخذت تنزلقُ من شفاهها وعلى كتفه بما أنهما كانا شبه متقابلين بسبب استنادها عليه، فإنها أضافت بعد وهلة قائلة:
"لكن عذر كوني قررت غسل جسدي بأسره بالمطر لأمسح علامات البكاء عن وجهي قد كان حقيقيًا. ظننتها فكرة رائعة حينها."

ثم عادا للصمت. لكن هذه المرة، جاي هو من ترك الفرصة لذراعه لتنسل بخفة حول خصرها ليقودها أقرب إليه، إن كان هذا ممكنًا حتى، وقلبهُ فلولٌ لمشاعره المتهيجة.

هناك الكثيرُ مما يدورُ بخاطره، الكثير مما يرغبُ بالتحدث عنه، بالسؤال عنه وبمعرفته، وتذكره للقائهما ذاك لا يزيدُ الأرض الرطبة التي يقفُ عليها إلا بلة.

جاي وهيونجو لم يكونا في ذاك الجانب من علاقتهما الذي كانا فيه منذ سنوات.

فمنذ أشهر، قبل انتهاء المدرسة بفترة وجيزة وطول الإجازة، فإنه قد كان هناك حجرٌ مختل في صرح علاقتهما، لم يتركها تنهدمُ إلى الخراب، بل إنه وقع مسقطًا من خلفه حاجزًا كاملًا من التردد، الحواجز، والتحفظات.

كل الليالي التي أمضياها سويًا، الأيدي المترابطة، الوجنات الحارة، الأحضان الحميمة، الشفاه المتهدجة، والمشاعر المضطربة.

الموقف ذاك في مطبخ منزله، عند عربة الشوكولاتة الساخنة، وأسفل أضواء الشارع في تلك الليالي الباردة.

هناك صفحات كثيرة قد تم تخطيها، لكتابٍ لا يعرفُ جاي أسمه حتى.

هو يعلم، هيونجو تعلم، بل ويظنُّ الجميع يعلمون بالطريقة التي تغيرت بها الأمور مؤخرًا، وكلمات جايك البعيدة تلك منذ شهرٍ قد عادت إليه للحظات.

لكنهما لم يتحدثا عن الأمر ولو لمرة، لم يتركا حتى فرصة للتعبير عن كونهما متفاجئين من حدوث ذلك التغيير، بل قد استقبلاه بذات السلاسة والإنكار لربما.

جاي يعلمُ أنهما يقفان في عالمٍ جديد من علاقتهما، في جانبٍ موازٍ ومن المفترض أن يكون مختلفًا بطريقة أو بأخرى، ولكن كيف له أن يكون كذلك في حين أن كلًا منه وهيونجو يرفضان الاعتراف بالوصول إليه؟

عليهما الاعتراف بالتغيير الذي حدث، بالشرخ الذي تكون ليفتح دربًا للمزيد من الأحاسيس، لكن ليس الآن.

مجددًا ليس الآن.

مع أنه يودُ لو يفعل، أن يفهم ويضع اسمًا على هذا كله، أن يجعله شيئًا ما يفهمه ويفهمونه البقية، لكنه ليس مستعدًا بعد، ولا هيونجو كذلك. هي ليست مستعدة إطلاقًا، وهذا ما يعلمه تمامًا.

ليس وهي لا تزالُ تبدو وكأنها ليست بخير، ليس وهي لا تكفُ عن التواجد وكأنها جسدٌ بلا روح، وكأنها لا تزالُ مضطربة بكل تفاصيلها.

لاحقًا، لكن بالطبع ليس الآن.

في حينٍ ما، بعد ما بدا ساعاتٍ من الصمت الحلو بينهما، فإن صوتًا أنثويًا قد جهر في الأرجاء مناديًا برقم الرحلة المتوجهة إلى نيويورك في غضون دقائق وحثهم للركاب على الاتجاه ناح الطائرة.

حينها فإن والده قد ضرب على ركبتيه بعفوية قبل أن يستقيم وتلحقه والدته، وكذلك فعل جايك بينما ثلاثتهم ينتحونه. وهو ما دفعه للضغط بتوكيد على يد هيونجو الرقيقة في كفه لمرة قبل أن يستقيم ساحبًا إياها معه، قم يفلتها.

احتضن والده الذي كان يبتسم، ووالدته أيضًا التي خالفت توقعاته بعينيها المشرقة ودفعته ليحمد الرب على عدم كونها غارقة بالدموع، لكونه لم يكن مستعدًا إطلاقًا لمحاولة حتى التماسك حينها إن كانت تبكي.

ثم جايك، الذي ضرب كفيهما ببعض قبل أن يحضنه بعمق أيضًا وهو يهمس:
"حظًا موفقًا. حافظ على صحتك ولا تقلق، سنكون جميعًا بخير."

ثم وبعد أن شكره بخفوت، فإنه التفت ناح هيونجو وأخيرًا، وكل ثانية مارة تفاقمُ شوقه وكأنهما لم يكونا متلاحمين منذُ لحظاتٍ فقط.

بدت تائهة تمامًا وهي تنظرُ ناحه وترتقب منه مجددًا أن يقودهما إلى الصواب كما يفعلُ عادة، وهو ما دفعه على أن يكون حذرًا بينما يخلعُ معطفه الرمادي ويضعه على كتفيها ليختلط ضوعُ عطره العميق بخاصتها الحلو وأصابعه تحتكُ ببشرة خدها الباردة كباقي جسدها الذي لم يصبح دافئًا حتى بعد كل الوقت الذي أمضياه متحاضنين.

وقبل أن يعيد كفيه لجانبه وبينما هو لا يزالُ يحيطها برقة، اقترب ليهمس في أذنها بما لم يعلم من أين أتى وكل ما كان قد يحتاجه قط:
"أنا انتظرك."

دون أن تخرج أي كلمة من الرعشة الطفيفية التي احتوت شفتيها، فإنه ابتعد مبتسمًا بحنو. رأى جايك يقترب بملامح متغضنة بالكثير من التعابير المجروحة بأكثر من طريقة ناح هيونجو التي لم يبدو وكأنها تعيّ أي شيءٍ بعد الآن.

قبل أن يلتفت للجهة الأخرى ويسير ملوحًا لآخر مرة للجميع بينما يتجه إلى البوابة الصغيرة القائدة للطائرة.

-تمت-

_______

مرحبًا!

شكرًا لوصولكم إلى نهاية القصة! أتمنى أنها كانت رحلة ممتعة.

طبعًا وأخيرًا خلصت فلسفتي عن هيونجو وجاي اللي ما كان ودها تخلص، كل هذا لأني مقدرت اتخلى عنهم لسا 😔

أيش آراءكم بالقصة والشخصيات؟

كيفكم مع جايك اللي خليته طرف في مثلث حب بآخر القصة ههه🥲

استمتعت جدًا وأنا اكتبها، وأتمنى انكم استمتعتم بذات القدر وانتم تقرأون وإنها عنت لكم تمامًا مثل ما عنت لي 💞

صورة من يوم جاي الأخير في كوريا وأسوأ محاولة رسم بحياتي😔:

صاحبتي ارسلت ذي وهي فعليًا علاقة هيونجو وجاي بصورة😭😭:


بنترست دلعني وعطاني ذي بعد:


أحب هيونجو وجاي كثير رغم استقرارهم النفسي المعدوم وعلاقتهم اللي فوضى أكثر من استقرارهم النفسي حتى 🥲💕

حاولت أوضح علاقتهم وغرابتها، وخوف اثنينهم من تغيرها أو حتى الاعتراف بتغيرها. لذا من هنا ورايح يعود لكم رأي أيش حيصير، ومقصد جاي بقوله لهيونجو أنه بانتظارها.

وفي النهاية شكرًا لوصولكم إلى هنا! ممتنة جدًا جدًا جدًا ❤️

كونوا بخير دومًا💕

Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top