5| المحيط في الداخل.
أغاني مخصصة للفصل جدًا حسيتها تعبر عنه وأنا أكتب:
Strange- Celeste
New Year's Day - Taylor swift
_________
الوقت شيءٌ عجيب، لا يسعك قط الأخذ بيده، أو حتى محاولة فهمه.
ما الذي يجعل الأيام أيامًا؟ والشهور شهورًا؟ مالذي يعنيه مضي أشهرٍ دون تغير أي شيءٍ، وأيامٍ يهتز فيها وجودك بأسره؟
هذا موجزٌ لما كانت تحدثه عنه هيونجو في أحد الليالي التي أمضياها سويًا عند كرسيٍ خشبي بارد، يحتسيان شوكولاتة ساخنة ابتاعاها من شاحنة طعام في ذات الحديقة التي توجها إليها. كانت شاحنة يترددان عليها مؤخرًا بما أنه كان يرفض القهوة السوداء الكئيبة قطعًا في كل مرة تحاولُ طلبها.
لقد كانت أحد تلك الأمسيات التي كان يأخذها فيها في أنحاء المكان، يتمشيان، يتحدثان، وبالكاد يختبئان من البرد الذي كان لا يزال يخيم فوق روابي المدينة. بعد أن كانت المدرسة قد انتهت، وقد سحبت الإجازة الفراغ الذي لطالما أطلت مبشرةً به.
عدا عن أنها لهذه المرة، لم تحضر كما فعلت لأعوام. لم تأتي مقدمة فراغًا لحظيًا يتركك متشوقًا لفعل كل شيءٍ جنوني قد يخطر في بالك في غضون الأسابيع القليلة من الحرية المقدمة لك. بل لقد تركتهم في طورٍ مستمر من الفناء المستمر لمدىً لم يتصوره قط.
من الصعب عليه التصديق بأن تلك العصرية التي غادر فيها سور المدرسة بعد اختبار الفيزياء النهائي، قد كانت مرته الأخيرة لرؤية المكان. وأنه الآن قد انتهى من المدرسة لمرة وللأبد، ولن يعود عليه عد الأيام التي تفصله عن السنة الدراسية القادمة.
ومع أنه كان لا يزال منتشيًا بالسعادة التي غمرته لحظة خروجه واحتضان هيونجو له عندما وجدها أخيرًا قرب موقف السيارات، وانضمام جايك لهم الذي بالفعل كانت هناك دموعٌ في عينيه قد سخروا منها لاحقًا، واحتفاله معهم في مطعم السوبا المفضل له في نهاية الحي، إلا أنه لا ينكر أنه الآن، وبعد بعض الأسابيع منذ النهاية، قد بدأ يدرك حقيقة ما حدث، وما الذي يعنيه كل هذا. لم تعد المدرسة جزءًا من حياته بعد الآن.
لذا قد كانت هذه الليالي التي أخذ يقترحها على هيونجو مؤخرًا تعني الكثير له. لا يعلم على وجه الخصوص مالذي دفعها للتشكل بتلك الطريقة التي يعيشانها راهنًا، بكل حنوها، ورقتها، ودفئها. إلا أنه يعلم أنها كانت حدثًا يتطلع إليه، وسببًا لعودته إلى ملاءات سريره فجرًا والابتسامة لا تنكفئُ عن شفتيه.
ومع هذا، فلم يكن يسعه إلا أن يعلم أن هيونجو كانت تبادله ذات الشعور بامتنانها لتلك الليالي، وليس فقط بطريقة واحدة كالتي تخالجه. بالطبع هي سعيدة بها، لأنها هيونجو، التي لطالما تركته ليؤمن أنها فرحة بقضاء وقتها معه. ولكن هناك أيضًا سببٌ آخر، سببٌ يراه وإن لم تكن صريحة كفاية لتخبره به.
هيونجو، كأبسط تعبير يستطيع قوله، لم تكن ذاتها مؤخرًا.
لم تكن هيونجو التي يعرفها، ليست الفتاة التي كانت تقابله في بداية صباحات المدرسة بابتسامة وسؤالٍ غريب قبل أن تخبره معلومة علمية أو تاريخية عجيبة لم يطلب سماعها ولكن لا يسعه سوى الإنهمار بفضوله ناحها. لم تكن تلك الفتاة التي تصمت للحظات في أي وقتٍ عشوائي من اليوم قبل أن تسأله إذا كان لاحظ أي شيءٍ مختلفٍ فيها، فقط ليهلع محاولًا التحديق بوجهها ليكتشف ما التغيير الذي الصغير الذي وضعته بمساحيق التجميل وستنزعج إن لم يستنتجه. هيونجو التي كانت تغير ملصقات خزانتها في الممر في كل مرة تسنح لها فيها الفرصة، وتخبره بالتفصيل عن كل واحدٍ منها بما أنها من كانت تصنعها، والتي كانت أيضًا لا تزيل إطلاقًا ملصقها المفضل الخاص باقتباس ديانا وين جونز الموضوع في المنتصف، التي كانت عيناها تشعُ بوهجٍ وليد في كل مرة يذكره فيها أمام أحدهم فقط لمعرفته بكم حبها للحديث عنه.
هيونجو لم تكن ذاتها. لا تزال هي ببشاشتها الناعمة التي تلقيها وعينيها الجميلة وأناقتها المميزة، لكنها أيضًا لم تكن نفسها وإن كان يصعب عليه شرح الأمر.
التيه الخامد كعجوزٍ عتيق في عينيها، التردد الذي يكلل كل تصرفاتها، وتحورات الشجن التي تكسو ملامحها وكأنها تاريخٌ سحيق. كان يصعب عليه عدم التقاط كل ذلك من حولها مع كل الساعات التي أخذا يتشاطرانها في وقتٍ مختلفٍ كهذا. عندما كانا على أبوابِ حياةٍ يقتربان منها لأول مرة، والدنيا بأسرها تبدو أكثر غرابةً مما قد كانت قط.
في أحد الأيام، فإنه بعد أمسية قد أمضياها يتمشيان على طول رصيفٍ مبهرج في أحد جوانب المدينة الفارهة حيث يقع أحد مكاتب والده، اقترح عليها أن تعود معه إلى المنزل بما أن الليل كان لا يزالُ طفلًا يحبو، وبما أن كلًا من والديه لم يكونا في البيت. والده في العمل حتى وقتٍ متأخر و والدته تزور عائلتها في سيول.
وافقت هيونجو بعد ثانية من التفكير. لم تكن مرتها الأولى للقدوم إلى منزله، ولكن مراتها لم تكن كثيرة رغم ذلك لسببٍ ما يجهله. لم تبدو وكأنها مترددة، بل لربما خجلة، ولكنه أيضًا اصطاد السعادة المرتخية التي فاضت في عينيها بعد اقتراحه، وشعر وكأنها ممتنة لرفضه إنهاء الليلة بعد السير فقط.
كانت مسيرة شبه قصيرة من البرد والهواء الغير عنيف المرشح بالرطوبة والهدوء المريح بينهما. انتشل جاي المفاتيح من جيب معطفه حالما تهادى أمامه الخط الداكن في الأفق لمنزله العالي والشامخ باختلاف عن باقي ما يرقد في الحي من بيوت. وشهق بخفة حالما وضع يده على المقبض المعدني وقد تلطخت كفه بزمهريرٍ لئيم قبل أن يدخل الرمز السري أيضًا
ارتعش لثانية للاحتكاك الصغيرة التي حلت بينه هو وهيونجو حالما ولج الباب. استقبلتهم حفوة من الدفء الثخين برائحة اللافندر من معطر جو والدته المفضل.
عبر الممر توجهوا إلى المطبخ الشسيع الذي يقع في قلب المنزل، ومع أنه قاد الطريق، إلا أنه كان يشعر بخجل هيونجو التي تسير شبه ملتصقة به، وكأنها تخشى أخذ حتى خطوة لتسبقه.
حالما خلع معطفه، التفت ناحها ليتناول خاصتها والذي كان معلقًا بذراعها، واحتكت حفنة من الأصابع الباردة بخاصته عندما تلامس كفاهمها ليتقلص قلبه حين تناوله المعطف الرمادي منها.
سألها مالذي قد ترغب بشربه لتحصل على بعض الدفء، وأجابت بصوت منخفض عما توقعه بالأصل، قهوة سوداء، مما دفعه لتقليب عينيه بينما هي تقهقه باستسلام. ثم استأذنته لتذهب لغسل يديها بينما ذهب لتعليق المعاطف عند الممر.
اندثر صوت خطواتها بين الحوائط بينما هو يبتعد ناح المطبخ. قام بإشعال آلة القهوة ليتصاعد هديرها الرقيق فوق صوت السكون و غلاية الماء التي أشعلها لصنع قدح من الشاي لنفسه.
كان هدوء البيت ثخينًا، يكاد يشعر به يرقد فوق كل شبرٍ من المكان وكأنه ستار. الليل دامسٌ في الخارج لا يشوبه إلا عدد قليل من أضواء الشارع البعيدة عن منزلهم الوحيد. الإضاءة الصفراء الناعمة في المطبخ تبدو كحضنٍ رقيق لكل زاوية، ومع كل تلك التفاصيل المسالمة، تصاعدت الأحاسيس التي كانت ترقد في نهاية رأسه إلى الأمام لتغمره وتتركه منغمسًا.
قلبه يهتز في صدره وكأنه يرن كهاتفٍ وحيدٍ منسي، وجميع حواسه مرتعدة بتأهب لا يفهمه ناح كل تغير صغير في الغرفة. مراقبًا لانعكاس ظلاله في الرخام اللامع، فإنه بدأ يظن أنه يعي ما الذي يمر به. هناك جفاف مهول في نهاية حلقه، ويبدو وكأن يداه ستستسلم قريبًا تحت وطأة وزنه، أو فقط رأسه الذي يبدو وكأنه محشوٌ بالقطن إلى حد أن كل فكرة تتهادى في دواخله لا تبدو وكأنها قادرة على الاستمرار.
كان مستندًا بكيفه على المنضدة أمام آلة القهوة معطيًا ظهره للمدخل. في لحظة ما عاد صوت خطوات هيونجو الناعمة مقتربة، ومع كل صدىً صغير لها ضد الهدوء كان هنالك وهجُ معين يرتفع في دواخله.
اشتم رائحة صابون اليدين بالليلك منها بينما أصبحت في مرأى نظره مبتسمة، قبل أن تقترب من المنضدة الطويلة لتقف على بعد مترين منه مسندة ظهرها إلى رخامها.
لوهلة لم يكن هنالك أي شيء، ولا أي كلمة منهما. كان يعي وجودها هنا، ليس بالمعنى ذاك، بل هو يشعر به، بتلك الطريقة التي تثقل كتفيه و تنزلق من بين يديه وهو يحرك السكر في شايه لتزيده ارتجاجًا، تزيده حلاوة.
ثم عندما انتقل ليسحب كوبًا ليسكب فيه قهوتها قررت هيونجو الكلام، ساحبةً صوتها الذي لم يكسر الرونق الصامت للموقف كما كان جاي يخشى أن يفعل صوته الذي لم يجده في داخله حتى، بل إن خاصتها فاقم الهدوء وزاده عبيرا.
"المنزل هادئ بشدة، ألا يزعجك الأمر بما أنك تبقى لوحدك أغلب الوقت الآن؟"
أخذه الأمر ثانية من التأهب، ليس لإجابته، بل ليعتاد على تحريك لسانه ثانية ضد كل ما كان يجوب دواخله ويمتد للأمام وكأنه يطوف في حوائط معدته، قبل أن يقول:
"ليس حقًا. لا أنكر أن كل شيءٍ يبدو موحشًا قليلًا في أول دقائق أضع فيها قدمي عندما أعود مع الظلام، لكني غالبًا أتناسى الأمر بعدما أشعل الأضواء وأتصل على والدتي للتحدث قليلًا. عدا عن كوننا نخرج سويًا في أغلب الأيام، لذا إنني لا أعود إلا للنوم في تلك الأيام وأرى والدي في الصباح."
اقترب ليعطيها قهوتها، تشبثت بكلتا كفيها بها وابتسامتها تتطاول حتى عينيها. ولمرة ثانية تصادمت أطيافُ بنانهما عدا عن أنها لم تكن متجمدة هذه المرة.
عاد لأخذ مسافته بعدها متجهًا إلى شايه كعذر ولكن أيضًا لحاجته. عندما حدق بهيونجو التي لم تتأنى في انتظارها لقهوتها حتى قبل أخذ أول رشفة منها، فإنه لم يسعه إلا التنهد بينما هو يحمل وزنه على قدمٍ واحدة مستندًا ثانية على المنضدة.
كانت تعابير وجهها تبدو، وكأبسط تعبير، راضية. رقيقة بالرخاء وابتسامتها الدقيقة لا تفارق شفاهها. عادت انفاسه لتعلو في صدره، وهو يدرك أنها المرة الأولى له لرؤيتها بتلك الطريقة منذ وقتٍ معتبر، منذ ليالٍ طويلة عندما لم تعد فيها هيونجو التي يحفظها كراحة يده. لكن هاهي الآن، هيونجو تبتسم لأول مرة فوق شبح الفتاة التي أصبحتها مؤخرًا.
جالت بينهما الأحاديث. أين يجب أن يذهبا غدًا، حال والدته في سيول، توكيد هيونجو لجمال ذوق والدته إذ أنها لاحظت التغييرات التي اجرتها في ديكور المطبخ، ولذاذة القهوة التي أحضرها والده من جورجيا في آخر رحلة عمل له.
هكذا فقط استمرت الكلمات، تزايدت، تضاربت، وتقاطعت، ومعها كل تلك الأحاسيس التي كان يحاول تجاهلها منذ بداية الأمسية تفاقمت.
الهواء في المكان مثقل بكل ما لم يرغب بمواجهته، رغم شدة حلاوته. لكن قلبه يغوص في البركة التي تمتد في دواخله, بل لربما هو بحر، إنه محيط.
محيط دافئ وساحق العمق، يمتد بهيبة على سواحلٍ لا يجب عليه الاقتراب منها، لكنها تستقبله رغم كل شيء، وتنصهر الرمال في مياهه الساخنة.
في نقطة ما أدرك جاي أن هيونجو قد رفعت جسدها لتجلس على المنضدة. لا يعلم متى بالضبط انتقلت ولم يلاحظ، لكنها كانت هناك بقدمين متدليتين وقهوتها لا تزال في كفيها. ترتخي بجسدها تمامًا كما يفعل عندما يجلس هناك في كل مرة كان يعود فيها من المدرسة ليقص على والدته كل ما حدث معه طول اليوم بينما هي تحضر الغداء.
هناك ارتعاش لا يسعه إنكاره في يده رآه عندما وضع شايه جانبًا واقترب. لكنه لا يظن أن هيونجو قد لاحظته، لا يسعها قط تتبع التغييرات الصغيرة تلك التي تحدث في وجهه ورتم أنفاسه في لحظاتٍ كهذه. هي شديدة التدقيق عندما يتعلق الأمر بقلقه ومخاوفه وحتى مشاعره تلك التي لا يسعه قط فهمها، لكنها مروعة عندما يتعلق الأمر بأي شيءٍ آخر يخرج منه عندما يكون قربها. ولديه ذاك التكهن الصغير أنها لربما لا تفعل لأنها تكون بذات عالمها الصغير الخاص من الفوضى في لحظاتٍ كهاته، عندما لا يكون هناك سواهما. وأما هو، فيستطيع ملاحظة كل تغيير صغير حتى في اهتزاز عينيها.
لذا عندما هربت اللحظات من بين يديه، وبعد أن ارتطم أحد أضلاعه بركبتها بضعف، فإنها تجمدت، وأما هو فقد اقترب أكثر. وحينها لربما تأكد أنها لم تكن ترى أيًا مما كان يضعضع في دواخله مع كل إنشٍ من المسافة يقتله بينهما. لأنها كانت ترتخي إليه، في العالم الذي خلقه بينهما، في دفئه.
الدفئ الذي يرتفع فيه ويتطاول خارجه. المحيط هائج إلى حدٍ مهول، إلى حدٍ مستعر، وهو لا يزال يقف متفرجًا، يفكر مليًا إن كان عليه المضي قدمًا ووضع يده، اختبار المياه العميقة التي لا يرى لها قاعًا، والتكهن بفرص نجاته.
لكن عندما شعر بانسلال يد هيونجو المحملة بحرارة قهوتها التي كانت تحملها سابقًا على كتفه، عندما رفعت عينيها المترددة إليه، فإنه حدق بكل الثبات الذي قد تكون تراه في وجهه.
التردد في عينيها لم يكن ذاك الفارغ الذي كان ملازمًا لها دومًا في الأيام الأخيرة، لم يكن يدفعه على بتر كلامه والصمت، لم يكن يشعره بأن قلبه يعتصر بألم لا يسعه إيقافه، لم يكن ينمُ عن خواءٍ تام أو شجنٍ أليم.
لقد كان موشىً بسُكرة اللحظات الحميمية، باهتزاز اللهفة المتهدجة، وبالحماس الخجول. وهو ما دفعه أخيرًا على التشجع والمضي قدمًا مقتربًا من صفح الماء الهائج، ليس فقط بأحد أطرافه، ليس بحذر وقلق.
بل إنه قفز بسائر جسده إلى المحيط.
___________
هيلووووو!!
فقرة صور ثاني مرة :
شكرًا على القراءة!
كونوا بخير💕
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top