2| مثلجات الفستق.
يمر الوقت في أيامٍ عديدة حافلًا بالكثير إلى حدٍ يجعل صعبًا تضييقه داخل رحاب الوعي الرقيق. ستذكرُ أحداثًا كثيرة لكنك مهما حاولت لا تستطيع استرجاع كم الأيام التي حدثت فيها ولا عدد الساعات التي كابدت لبنائها لتقف كصرحٍ شامخ في وسط إدراكك.
هذا ما يقصده جاي عندما يفكر بالطريقة التي أصبح هو وهيونجو صديقين فيها. لا يذكر الخط النحيل عندما تبدلت الأمور، متى أصبحت التحيات معتادة، اللقاءات متوقعة، والتسكع سويًا طبيعيًا. لكن هذا ما حدث في المدرسة المتوسطة، واستمرت تلك العلاقة التي تجمعهما حتى الثانوية حيث تشاركًا غرفة الصف لكل عام والمقعد لفصلين دراسيين كاملين.
الأمر أكثر من كونه زمالة، أو تلك الشاكلة من الصداقات حيث تقضيان الوقت إن تصادف أن تكونا سويًا لا غير. لقد كانت مقربة ناحه بقدر ما كان هيسونغ الذي كان إجابته الأولى في كل مرة يُسأل فيها عن صديقه المفضل، بل وحتى كانا يتحدثان لساعات أطول فوق الرسائل في بعض الليالي أكثر مما يمكن لهيسونغ تحمله قط قبل أن يفقد وعيه للنوم. كل ما في الأمر أن جاي لا يذكر متى حدث هذا بالضبط، متى انقلبت الأيام لتثني المسميات من كونها مجرد هيونجو زميلته إلى هيونجو صديقته التي يراها لمرة على الأقل في كل يوم حتى وإن لم يكن لديهم مدرسة حينها.
هناك تلك الأيام التي يدرك فيها جاي قربهما أكثر من أي وقتٍ مضى عندما يعودان سيرًا على الأقدام ويتجهان إلى أي مكان عدا المنزل. لأنك لا ترى المرفأ الطويل الذي تقف عليه بعد قطعك لكل ذاك المحيط العميق من علاقتك مع الأشخاص حتى تشعر بقدميك تقودك للمسيرة في روتين لا يأبه به وعيك.
في أحد تلك الأيام بعد نهاية ساعات الدوام، ارتدى معطفه المعلق في نهاية الصف وودع جايك الذي كان ما يزال منغمسًا في لعبة الفيديو خاصته دون حراك، حتى مع الفراغ الذي أخذ ينهش المكان لرحيل الجميع في عجل دون أن يعي بما يدور حوله. توقع أن يأخذ الأمر بضع دقائق إضافية ليدرك صديقه أنه الوحيد المتبقي في المكان قبل أن يجمع حاجياته ويهرع خارج الفصل بذعر لكونه الأخير.
لوحت هيونجو أيضًا لجايك الذي اكتفى بهز رأسه وكأنه يملك عينا ثالثة في جبينه عدا الزوج الذي لم يرفعه عن الشاشة، وضحكت قبل أن تسبقه خارج المكان حتى بوابة المدرسة حيث لحقها.
"أمي أضافت بعض الأصناف الجديدة للقائمة. هنالك طبق من اللحم المقلى بالشالوت ومثلجات فستق أيضًا. أنت تحبها صحيح؟"
أستكملت محادثتهم من البارحة عندما اقترحت عليه في رسائلهما عند منتصف الليل أن يرافقها لمطعم والدتها ليقضيا الوقت هناك بما أنه الجمعة.
"الشالوت هو الأفضل مع قطع اللحم والبطاطس المهروسة في مطاعم الستيك. لقد أقنعتني نوعًا ما."
قال وهو يخدش ذقنه كمن يفكر قبل أن يسحب قدمه عندما أوشكت على ضرب ساقه بحذائها القاسي. أصبحت لديه ردات فعل سريعة كفاية ضد وسيلة دفاعها الوحيدة في كل مرة يغيظها.
"تتصرف وكأنك لا ترغب بالقدوم بينما وجهك يبدو كمن مستعد ليبتلع حصانًا من الجوع."
تذمرت وهي تغلق أزرار معطفها بإحكام.
"بالطبع أرغب، ولكن فقط لأن الطعام هناك لذيذ ليس لأنك طلبتِ."
أكد وهو يلحق خطواتها المتسارعة عند الميل المتزايد في الطريق حتى الأسفل.
"بالطبع، أيًا يكن."
تمتمت وهي تحسن توازن القبعة الصوفية السكرية فوق شعرها المشتعل بالكهرباء الساكنة.
مع أنهما كانا يمضيان الكثير من الأوقات بعد المدرسة مع الباقين، إلا أنها المرة الثانية فقط منذ معرفة جاي بهيونجو التي تقوم فيها بأخذه إلى مطعم والدتها. لم تفعل قط مع باقي الرفاق، أو هي لم تقترح الأمر من قبل على وجه الصحة. لهذا كان لديه شك بسيط أن لا أحد يعلم بالمكان سواه، وهذا يبدو واقعيًا إذ أن المكان كان بعيدًا نسبيا عن محيط المدرسة ولم تكن فكرة واردة أن يقطع الطلاب كل ذاك الشوط إلى هناك لأي وجبات خفيفة بعد نهارٍ طويل. على الأقل جميع الطلاب عدا جاي الذي لحق هيونجو حتى اللافتة الزرقاء الباهتة لبوابة المطعم.
كان المكان صغيرًا وفارغًا تمامًا على عكس المرة الأولى التي أتى بها إلى هنا. لم يكن هناك سوى الموظفيّن كلاهما اللذان يذكرهما من المرة الماضية واللذان كان أحدهما منغمسًا بهاتفه بما أنه من الواضح لم يكن هناك أي أمر آخر ليشغلهما.
الى الأقل حتى ولج هو وهيونجو إلى المكان حيث ألقت التحية قبل أن تقوده إلى أبعد طاولة عن مائدة الاستقبال في المطعم الضيق أصلًا.
اكتفت بوضع حقيبتها على الأرض الرخامية بينما راقبته وهو يتخذ مقعدًا فوق الكراسي الزرقاء قبل أن تبتعد متجهة بإصرار ناح الاستقبال حيث كان دونغيو الذي أخذ يراقبهم من فوق هاتفه باهتمامٍ طفيف.
دونغيو كان العامل الآخر عدا عن سوزان التي كانت في المطبخ الداخلي كما يظن بما أنها لم تكن في مرأى نظره. كان دونغيو في نهاية العشرينات كما يظن جاي، أو أن هذا هو استنتاجه الوحيد لأنه لم يتحدث معه قط في المرة الأولى التي رآه فيها عندما أتى إلى هنا لأول مرة منذ شهور مضت.
استمر يحدق ناح هيونجو التي تحدثت مع الواقف خلف المنضدة بالتأكيد لتخبره عما سيأكلانه، قبل أن تنتحي الجزء الخلفي للطاولة لتتوجه للمطبخ رأسًا. كان سيشعر بالإحراج لجلوسه هنا وحيدًا لو أن هذه أول مرة، لكنها الثانية وكما أن دونغيو لحقها هو الآخر لذا تُرك المكان عن بكرة أبيه لجاي بإضاءة اليوم الضبابي المتكسرة عبر النوافذ للداخل وصوت أنفاسه الرتيب فوق حديث الصمت المستمر.
انتظر بصبر وهو يحدق بمفارش المائدة البرغندية المختلفة عن المرة السابقة التي أتى فيها، أو أن هذا مجرد استنتاج مهمش من الصحة نسجه عقله لشحاحة التفاصيل أصلًا في باله عن الزيارة الأولى القصيرة تلك.
لم يأخذ الأمر سوى نصف دقيقة طويلة أخرى حتى عادت هيونجو وشعرها يتطاير بذعر من حول رأسها من بقايا الجرم الذي خلفته قبعتها التي أصبحت تتوسد كفها للآن، قبل أن تجلس لتقابله وهي تبتسم لتناوله كأس شايٍ مثلج باليد الأخرى فشل في ملاحظته أثناء طريقها إليه.
"يحتاج الطعام لبعض الوقت، ربع ساعة ربما؟"
تمتمت وهي تعيد ظهرها للكرسي بميلان يبدو مؤلمًا.
"لو أخذ ساعات فلا مشكلة، اليوم الجمعة. سأعود لأنام حتى ظهر الغد على أية حال."
حرك كتفيه قبل أن يأخذ رشفة من الشاي الذي فرقع أسنانه وترك بنان أصابعه التي كانت باردة بالأصل متخدرة للصقيع المتلاصق فوق سطحه. مشروبٌ بارد في يومٍ ضبابي كئيب كان كالمنال الذي لم تطلبه قط لكن لم تتوقع يومًا كم سيكون حلوًا فوق لسانك ودواخلك المرتعشة بالدهشة.
تحدثا لوهلة عن المدرسة والضغط المتزايد بسبب اقتراب اختبارات منتصف العام، واستطاع اصطياد تنهيدة سعيدة وحيدة من خلف صوت هيونجو المجهد بعدما تذمرت عن القلق العميق الذي يراودهم واكتفى هو فقط بتذكيرها أن إجازة الشتاء تلي كل تلك المعاناة.
استمرا بتبادل الكلمات هنا وهناك حتى بعد وصول الطعام، تحدثا عن تلك القصة المصورة الذي يقرأها الجميع تقريبا الآن، أفضل كشك فطائر العسل في المنطقة بما أن الأطعمة الشتوية بدأت بالانتشار على طول الشوارع العامة مع بداية نوفمبر، وكم أن عليهما أن يحصلا على بعض اليوسفي المشوي من العربة خلف مركز التسوق، و لعبة جايك الغبية التي أصبح يدمنها مع التشديد على كونه أخذ يتجاهل الجميع بسببها.
لقد أحب الطعام، مثلجات الفستق كانت تترك أثر الفانيليا لا غير فوق لسانه عدا عن كونها خضراء اللون، لكنه أنهى طبقه بأسر وهو ويلعق ملعقته و يحدق بالمقابلة له التي كانت تحرك الخاصة بها بفتور منتظرة منها أن تنصهر إلى حساءٍ بارد تركه ليعبس دون تعليق بما أنه كان سيء الحظ كفاية ليعلم من قبل عن طريقتها المقززة بتناول المثلجات.
"هل يسير المطعم جيدًا مؤخرًا؟"
سأل في النهاية بعدما وضع أدواته جانبًا. تردد كثيرًا قبل أن يترك تلك الحروف لتخرج من بين طيات وعيه حتى تشققات شفتيه. لقد كان لديه شك بأن السؤال غير ضروري، مزعج ربما بما أنه يمكن لأي أحد رؤية الوضع الحالي للمكان مع كراسيه اللامعة. لكنه قد يكون مخطئًا ربما وحينها قد يكون الاستفسار ينم عن اهتمامه البريء بحال والدتها وعملها. ومع كل التردد الذي دندن كجرس معطوب داخل عقله وكلماته التي تصعد حتى مقدمة لسانه ثم تعود للغرق ثانية في حنجرته، فإن السؤال فارقه مودعًا وأخيرًا تاركًا أي رد سيتلقاه أمرًا حتميًا عليه التعامل معه لاحقًا، أي الآن.
لم يكن هناك تذبذب واضح في ملامح هيونجو التي كانت تدفع بملعقة المثلجات بين شفتيها، قبل أن يسمع طرق ضعيف للملعقة المعدنية عندما أسندتها على طبقها الفارغ.
كان هناك لمحة من التردد في غياهب المشاعر الغير مفهومة التي اكتست وجهها، ومع ذلك لم يشعر بالندم، لأنها هي التي لم تملك أي تفصيل صغير فوق ملامحها دعاه لذلك. أبعدت طبقها ووضعت كأسها الفارغ فوقه وهي ترفع كتفيها وتشرح:
"إنه جيد. أعني لا بأس به، ولكنه سيصبح أفضل قريبًا لاقتراب موسم الإجازات ويوم الميلاد."
همهم هازًا رأسه وهو يحدق خارج النافذة، إنه يعلم بخصوص نقطة تحسن دخل أغلب المطاعم في فترة الإجازات. لذا لم يدفع المحادثة لوقت أطول، لم يملك أي شيء آخر أصلًا.
"هل أعجبك الطعام؟"
كسرت برهته القصيرة من التأمل وهي تضع اطباقهما فوق بعضها لتحملها لاحقا إلى المطبخ.
"لقد أحببته. الإضافات رائعة."
وابتسم حينها وهو يدلك صدغه، ولم تفارق بشاشاته إي شبرٍ من ملامحه بعد كل الطريق الطويل الذي قطعه للعودة للمنزل ووجبة الغداء التي تخطاها وأسئلة والدته عن كل ما فعله طول اليوم.
________
جاي وهيونجو من عالمين مختلفين تضاربوا بالمنتصف، وهذا اللي يخلي صداقتهم مميزة برأيي.
"صداقتهم"
كونوا بخير💕
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top