نسيم
كان الجو باردا عند الفجر مثلما ألقت ظلمة السماء بظلالها على شوارع تلك المدينة، و بإحدى المباني السكنية الشاهقة؛ أخذت امرأة في الثلاثين من العمر تركض بجنون عبر الدرج بعد أن سئمت انتظار المصعد لثوان طوال كما لو كانوا ظهورا.
رفرف حجابها تزامنا مع نسمات الفجر التي تلفح وجهها، وقفت تنظر من حولها كما لو كانت تائهة، و فجأة امتدت يد من اللامكان لتوضع على كتفها، مما أفزعها و جعلها تلتفت مذعورة نحو منبع تلك اليد.
'هل كل شيء بخير يا نسيم..؟'
حدقت فيه نسيم لبرهة قبل أن ترمش عدة مرات، لتجيبه مستعيدة رشدها أخيرا.
'آه، أجل.. أنا بخير أيها العم رأفت.. كنت فقط.. أتمشى قليلا..'
'تتمشين في حلكة ظلام الفجر..؟ غريب أمركِ يا نسيم.. دائما ما تذهلينني..'
ودعته نسيم بابتسامة، و هلمت للداخل من جديد، بينما استقلت المصعد هذه المرة، أمسكت رأسها بكلتا يديها تحاول احتواء الألم الشديد الذي ألَمَّ بها، قبل لحظات فقط؛ شعرت بأنها تعيش نفس أجواء الحادثة الي وقعت قبل ثلاثة أشهر.
دخلت شقتها، و التي تُرك بابها مفتوحا على مصراعيه منذ أن خرجت تركض دون وعي، لتبحث عن ابنها الراحل الذي وافته المنية قبل ثلاثة أشهر فقط!
جلست على أقرب أريكة عند مدخل غرفة الجلوس، شعرت بالإنهاك الشديد كلما حاولت استرجاع شريط الذكريات الموسومِ بفظائع ما حدث في ذلك اليوم المشأوم، صحيح أنها لا تملك ذكريات متصلة إلا أن جثة ابنها المدرجة بالدماء، كانت حتما شيئا لا يمكنها أن تنساه حتى لو تعرضت لصدمت جعلت جزءً من ذاكرتها يتلاشى كما لو أنه لم يكن موجودا يوما.
فقط قبل ثلاثة أشهر، و قبل ذلك الحادث الأليم؛ كانت تعيش بهناء إلى حد ما، بغض النظر عن المتاعب التي تخللت علاقتها بزوجها، مما جعل تلك العلاقة على حافة الإنهيار و التفكك.
لم يمضي وقت طويل قبل أن تشرق الشمس بينما تلوح أشعتها عبر الأفق مخلفة انعكاسا برتقاليا يميل للحمرة على زجاج نوافذ الشقة، و سرعان ما غطتها تلك الأشعة مما جعل دموعها المنسابة عبر خديها تتلألأ؛ مبينة عن مدى ألمها و شوقها لفلدة كبدها.
بعدما استقرت الشمس في كبد السماء، خرجت نسيم من العمارة و استقلت سيارة أجرة، متجهة صوب المحكمة من أجل الدعوة التي رفعها زوجها متهما إياها بنتفيذ جريمة القتل تلك، إذ يصر زوجها على أنها المتهم الرئيسي و الوحيد في هذه القضية.
دخلت مبنى المحكمة بينما اعتصر كفُها حزام الحقيبة بإحكام، فقد كانت شديدة التوتر و القلق حيال ما سيجري، في هذه الأثناء؛ تمنت لو أنها وقعت على وثيقة الطلاق أبكر من ذلك، ربما كانت لتتجنب كل ما جرى و ما آلت إليه الأمور الآن.
انتهت المحاكمة مثلما بدأت؛ من دون إحراز أي نتيجة تذكر، و كأن زوج نسيم كان يحاول تلفيق التهمة إليها من دون وجود أي دليل، رغم ادعائه بأن نسيم كانت في المنزل ليلة وقوع الحادثة المروعة، بيد أن الشهود في ذلك الوقت رأوها خرجت من العمارة في الصباح الباكر و لم تعد إلا بعد انتهاء الفاجعة بساعات طوال، و قد كانت أول من علم بما جرى.
و الحقائق المتفق عليها كانت أن نسيم خرجت إلى عملها في الصباح الباكر ككل يوم عادي، و قد تركت ابنها رفقة المربية لترعاه إلى حين عودتها، بيد أن المربية غادرت المنزل هي الأخرى عند الظهيرة؛ لكنها لم تغادر عبثا إنما كان لديها أمر طارئ في المنزل و اضطرت لأخذ الإذن من نسيم و الإعتذار منها لأنها لن تستطيع رعاية ابنها لهذا اليوم، و قد أخبرتها نسيم بأنه لا بأس بذلك و منحتها الإذن بأخذ بقية اليوم إجازة.
كانت نسيم تنوي العودة إلى المنزل بحسب ما أدلت به في التحقيقات، لكنها انشغلت ببقية العمل المتراكم على عاتقها، و انتهى بها الأمر تؤجل عودتها للمنزل ساعة تلو الأخرى إلى أن حل المساء، لكنها اعتقدت بأنه في مقدور ابنها الإعتناء بنفسه لبعض الوقت و لا سيما أنها هاتفته بالفعل و طلبت منه ألا يفتعل أي مشاكل في المنزل ريتما تصل، و لسوء الحظ انفجر إطار سيارتها في طريق العودة و لم تجد سيارة أجرة بسرعة لتقلها، لذلك تأخرت كثيرا، لكنها حالما وصلت كاد أن يغمى عليها من المنظر المروع الذي قابلها عند النافذة بمجرد أن فتحت باب شقتها.
خرجت نسيم من الجلسة بأعصاب مشدودة، كانت تشعر بضغط شديد بسبب مطاردة زوجها لها مع كل تلك الإتهامات.
لقد كانت جلسة طلاقهما على بعد أسبوع واحد فقط، و ستتخلص من آخر صلة لها به، إلا أنه لا ينوي حقا تركها تنعم بالهدوء حتى و إن لم تعد زوجته رسميا.
وقف في نهاية الممر رجل طويل القامة ببنية جسدية نحيلة، بدى وجهه أنحف مما تتذكره نسيم، و قد كانت لحيته الكثة مجعدة لأنه لم يعتني بها بشكل صحيح لفترة، كان هائما في التفكير، بيد أنه استفاق بمجرد أن لمح ظل نسيم التي أرادت المرور من أمامه بصمت، استشاط غضبا و كاد يصفعها لو لا المحامي الذي وقف إلى جواره و احتجز ذراعيه كي لا يقدم على خطأ فادح مثلما فعل في قاعة المحكمة بينما يصرخ بملء صوته و يقسم بما عظم به ربه من أسماء بأن نسيم هي من قتلت ابنهما!
شعرت نسيم بالضياع في كل مرة تتذكر فيها جثة ابنها، لتهز رأسها بينما تتسابق الدموع عبر خديها قائلة بصراخ استنكاري مماثل للذي لقيته من زوجها الذي يحاول أن يرديها قاتلة:
'لم يكن أنا.. أنا لم أقتله.. لقد كان ميتا، ميتا.. أتفهم.. لقد مات ابني.. مات.. مات..'
انهارت في نهاية حديثها، لتساعدها بعض النسوة ممن كن في ذات الرواق؛ على التماسك، و أخذن يرششن بعض الماء على وجهها لتستفيق فقد ضاق تنفسها و بالكاد تفتح عينيها.
قبل جلسة الطلاق بيوم واحد، كانت نسيم تغلق على نفسها في غرفة ابنها بينما تحتضن إحدى ألعابه، و بينما هي منغمسة في التجول داخل سرداب ذكرياتها الجميلة رفقته، سمعت صوت الباب يفتح، تلاه صوت المفاتيح ترتطم بعنف بسطح الخزانة الصغيرة الموضوعة عند المدخل.
و فجأة اندفع باب غرفة ابنها ليفتح على مصراعيه، رفعت رأسها بتثاقل لتعاين الدخيل الذي اقتحم صفوة ذكرياتها الثمينة رفقة أثمن شيء لها في العالم.
تشوهت تعابير وجه زوجها في جحود، و لا سيما عندما لاحظ علبة دواء فارغة كان يجهل الغاية منها، لكنه سرعان ما أدرك ما يجري، لقد فهم المغزى من الإتصال الذي ورده منها قبل نصف ساعة من الآن، إنها تحاول الإنتحار بعدما اعترفت بشكل غامض بأنها من ارتكب تلك الجريمة حقا!
انحنت ركبتاه على الأرض الباردة بالقرب من مضطجعها، ليمسك كتفيها فيما يهزها بهستيرية و هو يصرخ في وجهها قائلا باستنكار:
'لماذا يا نسيم؟ لماذا؟ إنه ابننا، كيف لكِ أن تكوني مستهترة اتجاه ابننا؟ كيف أمكنك إرداء ابنك جثة هامدة بكلتا يديكِ..؟'
ابتلع غصة مؤلمة استوطنت حلقه، ليعاين وجه نسيم الشاحب، لقد كانت تحتضر بالفعل و لا جدوى من إلقاء اللوم على هذا أوذاك، ففي النهاية كان قد خسرها، و لن تتسنى له الفرصة للأخذ بثأر ابنه.
اغرورقت عيني نسيم بالدموع مما حجب عنها الرؤية، لم تستطع أن تصمد أكثر، لقد اكتفى عقلها من استنكار مجريات ذلك الحادث و تحريفها، حتى لو لم تنتحر كان الذنب وحده كفيلا بقتلها ببطء.
تحركت شفتيها المرتجفتين، في البداية لم يخرج صوت من حلقها، كأنما اقتُلِعت حبالها الصوتية، لكن سرعان ما خرجت حشرجة منخفضة تلتها كلمات واهنة متقطعة:
'لقد.. لقد كانت مجرد.. حادثة.. قلت له أن يضع أوراق العمل أرضا.. لكنه لم يستمع.. هو لم يستمع إلى أمه.. لطالما كان طفلا متمردا.. لقد أردت إخافته فقط.. لكن السكين اخترقت.. رقبته.. كان يفترض بي.. أن.. أن أدعي بأنني أرميها نحوه.. و أن ألقي بها خلف ظهري.. أردت فقط جعله هادئا لبعض الوقت.. لكن السكين انزلقت من يدي و.. و أخرسته تماما.. أنا.. لم أقصد أن أؤذي ابني.. لم أقصد ذلك.. أنا.. لم..'
توقفت نسيم عن محاولة جعل الكلمات تنساب عبر شفتيها بعدما انسابت رغوة بيضاء بدلا منها، شعرت بتشنج عضلاتها و بألم قاتل في معدتها و في جميع أنحاء جسدها بالتناوب، لم تكن سوى ثوانٍ معدودات قبل أن تُزهق روحها، و تُرك زوجها في حالة جنون فاقدا لآخر ذرة عقل احتفظ بها خلال جلسات المحاكمة للأشهر الثلاث الماضية.
و الواقع أن نسيم عادت في ذلك اليوم إلى المنزل، كل ما هنالك أن أحدا لم ينتبه لوجودها، بما أنها استعملت الدرج بدل المصعد، و قد تناولت الغذاء رفقة ابنها في ذلك اليوم المشؤوم.
كانت في المطبخ تغسل الأطباق، عندما أخذ ابنها يعبث بوثائق العمل التي تركتها على منضدة غرفتها.
أمسك ابنها بالوثائق و هددها مازحا بأن يلقي كل تعبها و عملها للأيام الماضية من النافذة، و قد كان يجرؤ على فعلها، لأنها ليست المرة الأولى التي يفتعل فيها المتاعب بدعوى المزاح، لذلك أرادت إخافته قليلا كي يتراجع عما يفعل، بيد أن السكين التي أرادت إخضاعه بها اخترقت عنقه مستهدفة شرايينه الأساسية مما قطع عنه السبيل إلى الحياة مباشرة.
هلعت نسيم عندما لم تعد تشعر بتنفسه، و كانت أشبه بمن جن جنونه، لذلك خرجت من المنزل تركض بينما تبحث عن ابنها الذي تركته فقيدا داخل الشقة مدرجا بدمه الأحمر القاني، و قد انفجر إطار سيارتها في طريق العودة بعد أن أخذت جولة في المدينة تبحث بيأس عن ابنها، كانت في حالة نكران تامة لما جرى، لدرجة أن عقلها صدق القصة التي لفقها عن كونها تأخرت في العودة للمنزل، لكن هذا لم يمنعها من أن تصدم مجددا بعدما عادت للمنزل و ارتطمت بواقع جثة ابنها ما تزال هامدة لا حراك فيها، تماما مثلما تركتها آنفا، و هكذا تجمع الجيران على صوت صرخاتها المستهجنة لحقيقة ما اقترفته يدا أم لابنها.
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top