~الفصْلُ الخامِسْ: وحشيَّة~

~العاشر من تموز سنة 2017~

«فيديو عام ألْفيْن و سبْعَة...قتْلُ الفتاة الإيزيديَّة رجْمًا»

أُمسكُ بجهازِ التحكُّمِ في الشاشة الضخمة التي تحاذيني و أكبسُ على الأزْرارِ كي أشغِّلَ ذلكَ الفيدْيو و أعرضهُ على زميلاتي اللواتي حنقْنَ لما يرونَهُ و بدأنَ بالتَّعبيرِ عن غضبهنَّ و تبرُّمهنَّ من تلْكَ المشاهدِ المقزِّزة بتعابيرِ وجوههنَّ أوَّلًا و كلماتهنَّ المعارضة و التشجيعية ثانيًا

أنا ابتسمتُ برضى و فورًا ضغطتُ على زرٍّ آخرَ نابسةً بكلماتٍ لم يهبْنها اهتمامًا كبيرًا بقدر صدمتهنَّ من بشاعَةِ المشْهَد

« دُنيا ذات الرابعة عشرة ربيعًا، شكَّ زوجُها الخمْسيني في أنَّها تخونهُ مع صديقها الذي لعبتْ معهُ لعبَ الأطْفال فقتلها بأبشع طرقٍ تُذْكَر..ناهيكمْ عن سحلِه لجثتها بسيارته و وضع لمساته الأخيرة عليها بالرصاص قبل تقديمها إلى أعينِ الناس على شارعٍ بمدينةِ الشيخانْ، و العودة إلى زوجته الأخرى و أطفاله..

و هذهِ سنورْ عُمَرْ...واحدٌ و عشرونَ سنةً...أصيبتْ بطلْقٍ في الظهر على مرأى و مسمعٍ من الجميع الذين تلذذوا، على ما أعتقد، برؤية الجاني و هو يرتكبُ فعلته الشنيعةَ ثم ينسحبُ من مسرحِ الجريمةِ بهدوء، و لمْ تتسلَّم عائلتُها جثَّتها من المشرحَة

يختفي بعدَ ذلكَ أبوها عُمَرْ رِضى فينظمُّ إلى قائمةِ جناة جرائم الشرف الطويلة و التي لن تتمزَّق تحت أيِّ ظرفٍ طالما القوانينُ معطَّلة و جائِحَة التخلُّفِ سائدة في كلِّ مكانٍ و زمانٍ"

"سيِّدة دارينْ! هناكَ فتاةٌ تحتاجكِ حالًا»

ظهرَ صوتُ أحدِ العاملينَ هنا من العدمِ فاخترقَ الاجتماع و اخترقتْ كلماتهُ صميمَ قلْبي...رغمَ أنَّها خاليَة من أيَّة تفاصيل، لكنَّ إحساسي هذه المرَّة و كلَّ مرَّةٍ كإحساسي أوَّل مرَّة

~©~

تجْلسُ أمامي بارتباكٍ بادٍ على محياها، تأرجحُ رجليْها و تعبثُ بقميصها الذي يخنقها، على ما أظن، رغم أنَّه واسعٌ نسبيًّا..لكنِّي أعتقدُ أنَّها تتخيَّلهُ قبضةً ملتفَّةً حولَ عنقِها، أو نصلٌ ينحرُها

أسألُها مبْتَسِمَة

«بعدَ التعرُّفِ على الإسمِ و غيره..أيمكنُني أنْ أعْلمَ ترتيبكِ في العائِلَة؟»

تُجيبُني بصَوْتٍ خافتٍ و بصرها لم يبرح الأرض بعْد

«الفتاة الصغرى»

أبتسمُ بسخريةٍ و أضمُّ ذراعيَّ إلى صدْري، قبل أن أطرح عليْها سؤالًا آخر، بنبرةٍ تعمَّدتُ استعْمالها...راغبةً في استفزازِ تلْكَ الفتاة و دفعها إلى الحديثِ دونَ قيود، فهذهِ هي خطَّتي العلاجيَّة المعتمَدَة دائمًا و المميَّزة أيضًا...اعتبارُ المريضِ صديقكَ المفضَّل و أخاك و معاملته دون تكلُّف، و انتشال أسْرارهِ منَ الأعماقِ لاستغلالها ضدَّه، بالمعنى الإيجابي، و كأنَّهُ عدوُّكَ اللَّدودُ

«أتعْلَمينَ أنَّ علمَ النَّفسِ يزعمُ أنَّ الطِّفلَ الأصغرَ في العائلةِ غالبًا ما يكونُ مدلَّلًا؟ لكن أظنُّ أنَّ الأمرَ لا ينْطبقُ عليْكِ و أتساءلُ عن السبب...لم يقتنوا لكِ نفس ما اقتنوه لإخوتك؟ لهذا تبدينَ ممتعضة هكذا؟»

أبدو ركيكةً و لا بأْسَ في ذلِك، أبدو معالجةً نفسيَّةً فاشلةً لكنِّي لا أهتمُّ بما يطلقُ عليَّ من صفات، فقدْ اتَّصلتْ أعيننا أخيرًا..و ألقمْتُ تلك الصغيرةَ الطعْمَ الشَّافي

«مُدلَّلةٌ لأنَّ أمِّي اصطحبتْني إلى مكانٍ لم يتلاشى من ذاكرتي بعدُ كي تقومَ إحداهنَّ بختاني و أنا في الثَّامنةِ فقطْ من العمر؟ و بدون أي تخديرٍ و باستعمالِ سكِّينٍ قذرٍ رفَّعَ من قيمةِ الذبيحةِ مقابلَ قيمتي الدنيئة! مدلَّلةٌ لأنَّ عائلَتي تريدُ دفْنَ جسدي أسفلَ وابلٍ من الأقمشَة لأظهرهُ لاحقًا إلى شخصٍ واحد، بينما ذلكَ 'الشَّخصُ الواحد' من حقِّه أن يري ما شاء منه للجميعِ برأسٍ مرفوع؟ مدلَّلةٌ لأنَّني أتذوَّقُ أكثرَ الكلِماتِ مرارةً رغمَ أنَّ ملابسي المحتشمة وحدها لن تجلبَ العارَ للعائلَة؟ بلْ العائلة هي من تستدْعي العارَ دونَ سببٍ يُذْكرُ و كأنَّهُ ضيفٌ مرحَّبٌ به في كلِّ منزلٍ ينزلُه!»

دائمًا ما أتعجَّبُ من انقلابِ الموازينِ و أتساءلُ داخليًّا، مالهُ الرصينُ هائجٌ مائجٌ هكذا؟ مالها الفتاة الأميَّةُ فصيحةٌ؟ من مفتعلُ عقدةِ منْ افتعلَ العقدةَ الحاليَّة؟

فكلُّنا...بكبيرنا بصغيرِنا

نحتاجُ إلى الرعاية

نحتاجُ إلى الحب

نحنُ كتلٌ من العقدِ التِّي تفكُّها الأحضانُ الدافِئَة، و في خضمِ معاركنا الذاتيَّة يصيبُنا الصَّممُ فلا نولي مشاكلَ الغيْرِ أهميَّة..أو لا نتفطَّنُ إليها من الأساس

و بالتَّالي نُعْتبرُ غيْرَ مُراعينَ للظُّروف، و نسْتبعدُ من الإنسانيَّة

إذنْ منْ المذنِبْ؟ و من يستحقُّ الهجر و العقاب؟ و من يخفي دمعةً خلف بسمَة؟ و من العكس؟

من الجناة و من الضحايا؟

الجميعُ همْ كلُّ شيء!

~©~

أهزُّ رأْسي قليلًا كي أتوقَّفَ عن السَّهْوِ، و أردُّ عليْها بنبرةٍ أبدتْ انفعالي لما أقول و تفاعلي مع ما قيل

«يخْتنونَ الإناث ظانِّينَ أنَّ الممارسةَ الجنسيَّة عندَ الفتاة هي عمليَّة عضويَّةٌ بحتةٌ و حاجةٌ جسديَّةٌ فقطْ، و لوْ كانَ الأمرُ صحيحًا لما انقسمتْ العائلاتُ لاحقًا إلى نصفين...النِّصْفُ الأوَّلُ هو رجالٌ يتذمَّرونَ من عدمِ تفاعلِ نسائهم معهُمْ خلالَ الجماع، و النِّصفُ الثَّاني يقتلونَ نساءهمْ اللائي نجحتْ بسمةٌ صادقةٌ في الظاهر خبيثةٌ في الباطنِ، أو حضنٌ دافئٌ، في إثارتهنَّ و دفعهنَّ إلى الاستسْلامِ إلى ذلكَ المجرمِ خاوي اليديْن...لأنَّ سلاحهُ الحقيقي يكْمنُ في عقلهِ القذر..

القصَّةُ نوْعًا ما معروفةٌ و مكرَّرة، فستُّونَ في المائةِ من الفتياتِ الكرديَّاتِ يتمُّ ختانهنَّ، و هذا الأمر انقضى و سنحاولُ حلَّ تبعاته...لكنَّ المشكلة الحقيقيَّة تكْمنُ في محاولةِ إجباركِ على ارتداءِ ما يرغبونَ فيهِ دونَ رضاكِ و رغمَ أنَّ ملابسكِ و بينَ قوسينَ...تعتبرُ محتشمَة»

تعضُّ شفتها السفليَّةَ بقوَّةٍ و دموعُها تقِفُ على عتبةِ الجفنين موشكةً على أن تطأ الخدَّين، ثمَّ تنطقُ بتأتأةٍ واضحَةٍ ظهرتْ توًّا

«س..سيقتلونني لو ع..عدتُ إلى المنزلِ...اليوم»

لا أعلمُ ما مازلتُ أجْهلهُ الآن و لكن..عليَّ فعلُ شيءٍ ما و حالًا! فبوادرُ نوبةٍ ما بدأتْ تظْهَر

حيْثُ أنَّ شفتاها بدأَتا باتِّخاذِ لوْنٍ غيرِ محبَّبٍ لي بما أنَّهُ يرمزُ إلى نقصٍ حادٍّ في تشبُّعِ جسدِها بالأوكسجين، إلى جانبِ هزَّاتِ جسدِها العنيفَة و صرخاتِها التِّي أبتْ التوقُّفَ نظرًا إلى خروجِ الحالِ عن السَّيطرَة

و انْتَهى الأمْرُ بإنْقاذِ إحْدى زميلاتي للموْقفِ باقْتِحامِها لمكْتبي و إفراغِ حقْنةٍ مهدِّئةٍ في وريدِ تلْكَ العشْرينيَّة الفتيَّة...رغْمَ أنَّني لا أكبرُها كثيرًا في السنِّ، لكنَّ أمومَتي صارتْ طاغيةً طامعةً في الإغْداقِ على الجميعِ من الحبِّ الكثير

~©~

يومٌ آخرٌ ينْقضي في العملِ، يومٌ آخرٌ حافلٌ أقضيهِ بينَ العيادةِ و بين المنظمةِ الغير حكوميَّةٍ التي أشغلُ فيها منصبًا بارزًا، و هذه المنظَّمةُ تُعْنى بحلِّ النِّزاعاتِ العائليَّةِ عامَّةً و تستهْدِفُ قضايا الشرفِ خاصَّةً...مع امْتِلاكِها لصلاتٍ وثيقةٍ مع مخْتلفِ بيوتِ المأْوى لحمايةِ النساءِ المعنَّفاتِ و فاقِداتِ السَّندِ

ألفُّ وشاحي الصوفيَّ حول عنُقي و بهذا أصيرُ جاهزةً للْمُغادرَة و رؤيَةِ طفْلي

أفتحُ بابَ مكْتبي الخاص فتعْتَرضُ طريقي زميلَتِي آلاءْ بِجبْهَةٍ متعرِّقَة و وجهٍ شاحبٍ...حسنًا علاقتُنا تتعدَّى الزمالةَ بقَليلٍ و لكِنَّ حذري الدَّائمَ يمْنَعُني منْ اعتبارها صداقةً

بخبْرتِي علمتُ أنَّها تشْكو منْ أمْرٍ ما، و دعوْتُها إلى الدُّخولِ دونَ النطقِ بحرْفٍ...فقطْ أرخيتُ وشاحي قليلًا و جلستُ على إحدى الكرسيَّينِ المقابلينِ لمكتَبي منتظرةً منْها أنْ تجلِسَ أمامي، و قد فعلَتْ

تُأرجحُ رجْليْها في الهواءِ و تزفرُ مرارًا و تكرارًا...الأمرُ صارَ رتيبًا و كأنَّ مكْتبي هوَ مقرٌّ لتجاربِ آداءٍ و مرضايَ هم الممثِّلونَ، لكنَّ الممتعَ هوَ اختلاف النصوص المقروءة...أقصدُ قصص حيواتهِمْ، رغمَ تشابُهِها في بعْضِ النِّقاط

«أنا خائِفَة و ضائعَة»
نطقتْ تلكَ الكلماتَ أخيرًا و بعْدَ صمْتٍ دامَ لوقتٍ ليسَ بقصيرٍ البتَّة، و كالعادةِ ابْتسَمْتُ أنا و استفسرْتُ عن التفاصيل

«و ما الذي جعلكِ تنحرفينَ عنْ دربكِ و تضيعين؟»

«في الواقعِ أنا منحرفةٌ عن الدرب الصحيح منذ البدايَة...تلْكَ هيَ طبيعَتي»

«لمْ أحدِّدْ ما إذا كانَ الدَّربُ صحيحًا أو خاطئًا...كلُّ إنسانٍ يتَّخذُ في فترةٍ ما في حياته الطريق الذي سيسلكُه محاطًا بالورودِ كانَ أو بالأشواك و القذارة، و أنا أتساءلُ عنْ الأمر الذي جعلكِ غيرَ واثقَة إلى هذا الحدِّ من قرارك؟»

فجأةً توقعُ نفسَها على ركْبتيْها و تتمسَّكُ بالطَّاولةِ البلَّوريةِ المحاذيةِ لمقعدِها...تناجي البرودةَ و تستمدُّها من تلكَ المادَّةِ علَّها تيقِّظها و تنبِّهُ عقلها قليلًا

أوقعتْ نفسها لفرضيَّتيْن، فأمَّا الأولى هيَ أنَّ الكرسيَّ لا يتحمَّلُ مدى ثقلِ ما تحملُ في فؤادِها، و أمَّا الثَّانيَة هيَ أنَّ هذه المرأة أمامي تعتبرُ نفسها وضيعةً لا تستحقُّ بمكانتها الجلوسَ على جمادٍ تعدّه أرفع منْها قيمةً

«لقدْ حاولْتُ تجاهلَ عاهَتي! حاولتُ قمْعَ رغباتي الشيطانيَّة! تضرَّعتُ كثيرًا لكن دونَ جدْوى...وقعتُ في الإثمِ ،صحيحٌ و لكنْ...لا سبيلَ للهربِ! و الوقتُ يداهمني فلا يسعني أن أتوبَ الآن...ما فعلتهُ يمرِّغُ أنفي في التُّرابِ قبلَ أن يُكتشفَ حتَّى!»

تخفضُ يديْها عن الطَّاولَة ملصقةً قبضتيْها بالأرضِ..كذلكَ بصرُها

«أنا مثليَّة!.. لقدْ حاولتُ تكوينَ عائلَة و كبتَ ما يجولُ بخاطري من أفكارٍ و التركيز على الحبِّ الأمومي مع أطفالي و العشرةِ و الألفة مع زوجي لكنَّني...فقطْ لم أقدرْ على تحمُّلِ ذلِك! التظاهرُ بما يخالفُ ما أنتَ عليْهِ أشبه بالجحيم!

تعرَّفتُ إلى إحداهنَّ و تطوَّرتْ العلاقة و لكنَّها تبتزُّني الآنَ و تهدِّدُني بنشْرِ صورٍ و فيديوهاتٍ مقرفةٍ التقطتْها لنا...أتعلمينَ ما قدْ يحْدثُ لو أرسلتْ شيئًا إلى زوْجي؟! سيقتلني لا محالة! أتعلمينَ ما الفرقُ بيني و بينَ الفتيات اللواتي ندافعُ عنهنَّ؟! هنَّ مظلوماتٌ لكن أنا مذنبة و أستحقُّ ما يجري و ما سيجري لي! لأنَّني قذرَة خائنة و مجرّدُ وعاءِ شهواتٍ ينتظر على أحرّ من الجَّمرِ أن يملأهُ أحدهمْ بالقاذوراتْ»

أصْغي إليها بإمعانٍ و أدركُ جيِّدًا كمَّ معاناتِها و رهْبتِها من القادمِ، أفكِّرُ في ما عليَّ أن أقول و أزنُ كلماتي برويَّةٍ و هدوءٍ..

لكنَّ صوتًا صاخبًا صادرًا من الخارجِ جلجلَ و قسمَ الميزانَ قسميْنِ، و حجبتْ كومةٌ منْ نقاطِ الاستفهامِ مسار الضوء إلى عينيَّ فعجزتُ عن الحراك

الصَّوتُ مرتفعٌ و أشياء تُكْسر و الفاعلُ مجهولٌ...كان هذا قبل أن تصرخ زميلتي معلنةً عن أنَّ هذا الدخيلَ هو زوجها, ملتصقةً بركنٍ من أركان الغرفة

إن دلَّ صوته على شيءٍ فهو الغضبُ الشديد لا محالة، فيبدو أنَّ رسالةً مثيرةً للاهتمام قدْ وصلته اليوم

يُفْتحُ البابُ بغتةً و ينقضُّ ذلكَ الجسدُ على صديقَتي دونَ سابقِ إنذارٍ، و دونَ أن أتعرَّفَ عليهِ حتَّى لشدَّة سرعتِه

ينهالُ عليها ضرْبًا فأقتربُ منهما دون تفكيرٍ مسبقٍ و أحاولُ إبعادهُ عنها بأقصى قوايَ...و أنالُ نصيبي من التَّعنيف

أسقطُ على الأرضِ فألمحُ ظلالَ عضواتِ المنظَّمةِ و قد هرعْنَ إلى المكتبِ و بدأن بمحاولةِ الفصلِ بينَ أطرافهِ و بينَ ذلكَ الجسمِ الدَّامي

لماذا أنا بالذَّات؟ لماذا تحدثُ مثلُ هذه الأمور أمامي؟ لماذا أتأكَّدُ كلَّ لحظةٍ من عدمِ تحرُّري من الماضي الأليم؟

تتزعْزعُ ثقتي مجدَّدًا و أشعرُ بأنَّني غير كفأة...و جبانَة

~©~

انتهى الأمْرُ بوصولِ الشرطة إلى مقرُّ المنظمة و إنقاذ الموقف رغم حصول آلاء على بضعَةِ كسورٍ و كدماتٍ في جسدِها...لكن هذا بالطَّبع أفضل من أن تُقْتَلْ

عدْتُ إلى المنْزلِ الذي صار مظلمًا مؤخَّرًا و أنا أحاول إخفاء كدماتِ وجْهي بالوشاح بما أنَّ مساحيق التجميل لا تكفي...أعلمُ أنَّ أمْري سينْكشِفُ قريبًا و لكن ليس فور وصولي إلى مأواي الوحيد

جسدٌ صغيرٌ هرْولَ ناحيتي فشقَّتْ ابتسامةٌ وجهي و سرقتهُ من الأرض لألقي به في داخلِ حضني الدَّافئ مثله تمامًا

أحبُّ آمنْ كثيرًا، فبمجرَّدِ أن أراهُ يُمتصُّ غضبي، عكسَ والدهِ الذي يأجِّج نيراني و يجعلُني عاجزةً عنْ تجاهلِ أعذاره و أخطائه التي لا تُغتفَر

يخسرُ مالهُ بلعبةِ قمارٍ حمقاء مع أصدقائه الطفوليِّين و تهاجمهُ الديونُ من كلِّ صوبٍ، ننتقلُ إلى منزلٍ أصغرَ من الأوَّلِ و نحاولُ النهوضَ على أقدامِنا بأمْوالي التي أكسبُها بجهْدي الخاص

حسنًا هو اكتأبَ في البدايةِ و لكنَّهُ أحبَّ الأمْر لاحقًا... على ما يبْدو

أحبَّ الجلوس في المنزل و التقاعس عن العملِ و بدأَ بترْديدِ تلكَ الكلِماتِ التي أكْرهُها ك 'غدًا'  'بعد قليل' 'الأسبوع القادم' و غيرهم الكثير و الكثير...

مماطلتهُ تخْنقُني و تقتلُني، و لكنَّني اعتبرْتُ الأمْرَ تحدِّيًا جديدًا لي...كالعادَة

ظهرَ صوتهُ من خلْفي...ينْطقُ بخمولٍ شديدٍ و لكمْ أكرهُ ركودهُ هذا!

«لقدْ بكى كثيرًا اليومَ و رفضَ تناولَ الطعام...قومي بإرضاعه»

أردُّ عليهِ بهدوءٍ و أنا أداعبُ صغيرِي بلطفٍ أثناء سيري نحو المطبخِ حيثُ أطعمه كلَّ ليلةٍ...الأمرُ مزعجٌ فعلًا!..ألا يمكنهُ تغذيةُ طفلهِ حتَّى؟!

«أو ربَّما أنتَ من لم تبذل و لو قليلًا من الجهد في الإصرار عليه كي يأكل...هوَ اقتربَ من بلوغِ الثَّانيَة و عليَّ فطامهُ قبلَ فواتِ الأوان...لا تقلقْ سأطعمهُ أنا»

أرى أنَّهُ قدْ انتبهَ إلى كدماتِ وجْهي بعدَ أن تبعني...و شكَّل بيدهِ قبضةً قويَّة علَّها تمتصُّ غضبه، و أعلمُ السبب الرئيسئَّ خلفَ هذا الغضب...هوَ فقطْ يغارُ من إصراري و يكْرهُ هدوئي و لا مبالاتي، لأنَّ شخصيَّتي تدفعهُ إلى نهْشِ نفسهِ من الدَّاخلِ دون رحْمَة، إصراري و برودةُ أعصابي و حتَّى محاولتي في إخفاء كدمات وجهي و ٱجهادي تؤرِّقه

في هذه الليالي صار يخْتَفي من السَّريرِ كثيرًا بعدَ حرصِه على خلُودي للنَّوْمِ، لكنَّني لمْ أتلصَّصْ عليْهِ عقابًا لنفسي على تلك الليلة التي تغلَّب عليَّ فيها الضعف

إحساسي يخبرني بأنَّه على علاقةٍ بامرأةٍ ما ترضي غرورَهُ و يسْهلُ إغواؤها بأموالهِ القليلة المتبقِّيَة...و المقابلُ هوَ أن تزيح عنه الشعور بالذنب إلى جانبِ إقناعه بأنَّهُ مرغوبٌ و كذلكَ رائع، لكنَّ عقلي ينهاني عن إساءةِ الظنِّ و يخبرني أنَّ الشكوكَ هيَ في النهايةِ ضعفٌ لكنْ بصفةٍ أخرى و  شكلٍ مختلفٍ عن المعروف

«مجدَّدًا؟»

يفرجُ عن تلكَ الكلمةِ التي حبسها طويلًا خلفَ قضبانِ غضبِه، فأجيبهُ أنا بجديَّة

«العملُ هو العملُ مهما كانتْ سلبيَّاته و ضرائبه»

يتنهَّدُ و يُشيحُ بنظرهِ بعيدًا علَّه يهدأ قليلًا، و عنْدَما بدأت تخمدُ نيرانهُ أعلنْتُ عن أمْرٍ ما

«عليَّ أنْ أسافرَ الأسبوع القادمَ إلى تركيا كيْ أُشاركَ في ندوةٍ للتشاورِ في أمرٍ ما»

يضحكُ باستهزاءٍ واضحٍ وضوحَ الشَّمسِ هامسًا ب «جنون العظمَة». ظانا أنني لم أسمعه...ثمَّ يكتفي بالردِّ عليَّ بحرفيْن
«لا»

«يمكنُكَ الذهاب معي أنتَ و آمنْ و..»

«قلتُ لا!»

يقاطعُني بصوْتٍ مرتفعٍ دفعَ طفلي إلى الفزعِ و الاختباءِ بحضني

أنا أكرهُ هذا! أن يتشبث الطفلُ بكِ أو بأطرافِ ملابسكِ خوْفًا من شجاراتٍ مخيفةٍ لا يتحمَّلها عقله الصغير، أن يتسبَّب خوف طفلك في ضعفكِ أنتِ و إجباركِ على التحمُّلِ فقط من أجله، لذلكَ أردتُ في مرحلةٍ من حياتي الزواج من أرملٍ أو مطلَّقٍ ذا أولادٍ بالغينَ...فمهْما بلغتْ ثقافتي تبقى غريزتي موجودةً بأعماقي

خمَّنتُ أنَّها لن تعملَ مع صغارِ امرأةٍ أُخرى، و بهذا يصيرُ منَ اليسيرِ عليَّ المغادرة لو لم نستطع أنا و الزوج التعايشَ مع طريقةِ تفكيرِ كليْنا

أنا أؤمنُ بأنَّ لحظةَ غضبٍ واحدةٍ تفسدُ سنةً من الحب، و لحظتيْ غضبٍ اثنتيْنِ تفسدانِ سنواتِ عشرةٍ...أي أنَّني أهب الشريكَ فرصةً واحدةً قيِّمةً فقطْ، و أهجره لو لم يستغلَّها أفضل استغلال...فأنا لستُ بسهلة منال أو عبدَة

أخذتُ آمنْ إلى غرفته بعدَ أن تمكَّن منهُ التعب رغم خوفه، و عدتُ إلى زوجي الممتعضِ أسألهُ بيدينِ مكتوفتينِ انزعاجًا من فظاظته

«و السبب؟»

يرفعُ حاجبهُ الأيمن عاليًا مبتسمًا بازدراءٍ، فأعلمُ أنَّهُ يطرحُ عليَّ بفعلتهِ تلكَ سؤالًا إنكاريًّا و يتحدَّاني كي أجيبه بما قد ينقلبُ ضدِّي، و قد فعلت

«سبب الرفض؟»

«أنا لا أريد...فقط أطيعي»

يقتربُ منِّي بعينيْنِ يتطايرُ منْهُما الشررُ فأتراجعُ لا إراديًّا إلى الخلْف، ينكزُ جبْهَتي بسبَّابتهِ فتستفزُّني تلْكَ الحركةُ أيَّما استفزازٍ و أدفعُ يدهُ عنِّي بانزعاجٍ واضحٍ

تصيرُ الأجواء مشحونةً بالغضبِ اللامبرَّر فينالُ هو من وجنتي اليمنى بصفْعةٍ مفاجئَةٍ جعلت الدماء تنحصرُ بتلك المنطقة من وجهي المصاب، ثمَّ ضربهُ الجنون فجأةً فتوجَّهَ إلى مكْتبي...مساحتي الخاصَّة و من أغلى ما أملك في الحياة

يمزِّقُ أوْراقي...يكْسرُ حاسوبي...يقتلعُ صورَ الضحايا الذين فشلتُ في إنقاذِهم من العنف الأسري و يلقي بها على الأرض ليدوسها بقدمَيْه، أمَّا أنا فوقفْتُ أمامَ بابِ المكْتبِ صامتةً مانعةً رغبتي الملحَّة في الاقتراب منه و إيقافه لسببين

الأوَّلُ هوَ خوْفي من أن يؤذينِي و الثَّاني هوَ تحصيلُ ما يكفي من الأسبابِ التي تبرِّر غضبي منه و استحالةَ عفوي عنه لاحقًا و عند رجوعه إلى صوابه

يدفعُني أثناءَ خروجهِ من المكتبِ فأصطدمُ بالجدارِ المحاذي لي...و تزيدُ إصاباتُ جسدي سوءً

أسمعُ صوتَ بكاءِ الطفلِ المنبعثِ من غرفتهِ فأهرولُ إليهِ لأهدِّئه...بعد أن أفسد والدُه أجواءَ المنْزلِ و غادرَ و كأنَّهُ ليسَ بمفتعلٍ للمصائِب

~©~

أستيقظ فجرًا فأجد أنِّي قد نمتُ في غرفةِ آمن لشدَّة إرهاقي، هوَ ملتصقٌ بحضني و أبوهُ جالسٌ أرضًا أمامَ السريرِ و نظراته مملوءةٌ ندمًا، و كمْ كرهتُ قدرتي على قراءة النظرات في تلك اللحظة!

يدهُ كانتْ ممسكةً بخاصَّتي بقوَّةٍ أخفيتُ الألم الذي سبَّبته لي بعقدي لما بيْنَ حاجبيَّ مستفسرةً عن مرادهِ ممَّا يفْعَل

«آسف! أنا فعلًا آسفْ!... فقدتُ صوابي للحظات»

يحتضنُ يدي فيبدو ذليلًا إلى درجةٍ كبيرةٍ و..مقزِّزة

أكره أن أوضعَ في مثلِ هذا الموقف و مثل هذه الحيرَة! أن يبكي بعد ضربك و صنعِ شروخٍ بذاتكِ الصلبة كلَّ مرة يعيدُ فيها سلسلة الإهانات... إلى أن تكسري تمامًا

لا أريدُ أن تذهب سنواتُ زواجنا الثلاثة هباءً منثورًا، لقدْ كنت أراقبُ كلَّ العلاقاتِ من حولي عن كثبٍ ، و أحصِّلُ أخطاء الثنائيَّات كي لا أرتكبَها مستقبلًا

علمتُ أنني لن أعيش حياةً مثاليَّةً و لكنَّني على الأقلِّ قد أنجِّي العالم من أخطاءٍ مكرَّرةٍ بسبب الغباء و الجهل

قضيتُ سنواتٍ عديدةٍ و أنا أثقِّفُ نفْسي في هذا المجال الحياتيِّ و اكتسبتُ ثقةَ أبي العمياء، حتَّى أنَّه هو من صار يحثُّني على الزواج و التفكير فيه...رغمَ أنَّهُ يعلمُ أنَّ هدوئي هو نعمتي و نقمتي و عيْبي في آنٍ واحدٍ ، و هو الذي كانَ سبب شجارنا اليوم أنا و إياد و سبب خوف طفلي و فزعه... على الأغلب

للتَّكفيرِ عن الذَّنبِ الذي اعتبرتُ نفسي فاعلته وهبتُ إياد فرصةً أخرى...مرغمة

~©~

تمرُّ الأيَّامُ و يُحاولُ الاعتذارَ مرارًا بالأفعال الحسنة

يطعمُ ولدهُ و يعتني بهِ في غيابي و...يحاولُ لمسي للتَّكفير عن ذنبه، لكنَّني مجرَّدُ تمثالٍ مقطوع الرَّأس، منخور الصَّدر جهة الفؤادِ تحديدًا

الجنس ليس ممتعًا و العشرة الحسنَة غير ممكنة بقلبٍ مشتَّتٍ و أفكارٍ غير مندمجة مع المحيط

هوَ يخرجُ صباحًا بحثًا عن عملٍ أو مستثمرٍ في مشاريعهِ التي يخطِّط إلى تنفيذها لكنَّه يعودُ إلى المنزل ليلا خالي الوفاض...محاولته تلك كافية و مرضية

لكنَّ الأمرَ زادَ سوءً  بعدَ أن بدأ يتغيَّر...حتَّى أنَّه يخطئُ و ينبسُ باسمِ مجهولةٍ في أقصى لحظاتنا حميميَّةً

لم أهتمَّ بالأمر في البداية، و لكنَّهُ كما حدثَ في الماضي... استفزَّ الأنثى بداخلي، و دفعني إلى اقتحامِ مكتبهِ و التنقيبِ فيهِ عنْ السرِّ الصَّادمِ الذِّي اكتشفته ، و الذِّي قتلَ ما تبقَّى من صبرِ دارينْ

و فُرصِ إيادْ

سأعترف..كنتُ عمياء عن اليقين

سأعترفْ...لم أسامحهُ شعورًا بالذَّنبِ بل شعورًا بالوحدة و خوفًا من العودةِ إلى أبي

و بالأحرى تفضيلًا لجحيمٍ على جحيمٍ آخرَ أسوأ من الأوَّلِ

Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top