مسرحُ العرائسَ.
كانتْ مِنْ أسعد لحظات حياتي عندما صعدتُ على خشبة المسرح، ووقفتُ خلف مسرح العرائس مقدّمةً قصّةً للأطفال، حرّكتُ العرائس بالخيوط وأنا أقصّ: «ذات يومٍ كانتْ هناك رحلةٌ لقضاء أسبوعٍ تخييميٍّ مع فريق الكشّافة، وصلتْ المجموعة إلى المكان بصحبةِ القائد الّذي لم يكفّ عن إعطاء التّعليمات وقواعد السّلامة.
فلمَّا حان وقت الرّاحة، قرر نفرٌ مِن الأولاد القيام بجولةٍ سريعةٍ لاكتشاف المكان، على أنْ يلتزموا بقواعد السّلامة. لكنّهم مشوا لمدّة ساعةٍ ثمّ نظروا خلفهم فاكتشفوا أنّهم ابتعدوا، فكّر أحدهم أنْ يتتبّع آثار الأقدام لكن الجو كان مصحوبًا برياحٍ، فصَعُبَ عليهم ذلك.
فكّروا في تخمين طريق العودة لكن الرّمال والجبال حولهم في كلّ مكانٍ، وربّما إنْ تحرّكوا ابتعدوا أكثر عن المخيّم بدلًا مِن الاقتراب مِنه.
لكن صاح أحدهم: «لقد أخبرنا القائد إنّه إذا افترقنا عن المجموعة فعلينا أنْ ننتظر في المكان ولا نتحرّك وسيصلون إلينا.»
فوقفوا بالفعل إلّا واحدًا قرّر التّحرّك وحلّ مشكلته بنفسه دون انتظار مساعدةٍ، ولمْ يكترث لنصح زملائه. سار بعدها وحده حتى شعر بالتّعب وجلس حزينًا على الأرض معترفًا بقراره الخاطئ، فسمع صوت محرّك سيارةٍ قطع تفكيره فنهض مسرعًا ونادى بأعلى صوته: «ساعدوني!»
اقتربتْ منه السّيارة وكانتْ لحسن حظّه سيّارة إنقاذ المخيّم، التي خرجتْ للبحث عنهم، فأسرع بالسّؤال عن أصحابه فأخبروه أنّهم قد عادوا منذ فترةٍ لأنّهم لمْ يبتعدوا مثله، والآن عليه العودة لأنّ القائد بانتظاره.»
انتهتْ القصّة وسمعتُ صوت التّصفيق، وكم سعدتُ كثيرًا!
خرجتُ مِنْ كواليسِ المسرح فوجدتُ المدير بنفسه ينتظرني، ابتسم وأثنى على أدائي خيرًا ثمّ قال: «أحببتُ أيضًا حرصكِ على اختيار عملٍ له قيمةٌ.»
فابتسمتُ بدوري قائلةً: «حقيقةً يا سيّدي لا يوجد أيّ مجتمعٍ إنسانيّ يخلو مِن القيم الّتي تعطي لحياة أفراده معنًى، فتلك القيم تفرضها البيئة ويتشبّث بها الأفراد بل ينقلونها ويلتزمون بها في سلوكيّاتهم.»
أومأ بإعجابٍ: «رائع! بالرّغم مِنْ أنّني أرى القيم شيئًا نسبيًّا بين الأفراد تختلف مِنْ شخصٍ لآخرٍ؛ فالشّخص هو الّذي يعطي لشيءٍ ما قيمةً تبعًا لبيئته ومعتقداته، فمثلًا التّمائم الّتي تدفع فيها امرأةٌ فقيرةٌ كلّ ما تملك كي تنجب وترى فيه شيئًا ذا قيمةٍ، هو بالنّسبة لغيرها قطعةٌ صغيرةٌ مِن القماش مغلّفة بأوراقٍ لا قيمة له.»
أومأتُ أوافقه معربةً: «أتّفق معكَ، هي بالفعل تختلف مِنْ شخصٍ لآخرٍ، بل قد تختلف لدى نفس الشّخص حسب حاجاته ورغباته وظروفه، فقطعة الحلوى تمثّل قيمةً كبيرةً للطّفل، لكن لا يمكن أنْ تشغل نفس القيمة للشّخص البالغ.»
فتابع معدّلًا ياقة قميصه: «يمكننا قول أنّ القيم عمومًا تتّسم بكونها ذاتيّةً، أيّ تتعلّق بطبيعة الشّخص، ونسبيّةً أيّ تختلف مِنْ شخصٍ لآخرٍ، وعاليّةً حيث أنّ كلّ شخصٍ يشعر بارتفاع قدر قيَمه أيًّا كانتْ، وأيضًا كثرتها وتعدّدها، فهي تتعدّد تبعًا لكثرة الحاجات الإنسانيّة وميولها المختلفة.»
-«أحسنتَ سيدي، لكنَّ القيَم عند الأطفال لها مكوّناتٌ تخصّها.»
فسألني: «وكيف ذلك؟»
أجبتُ بسعادةٍ:« تتكوّن القيم عند الأطفال مِنْ ثلاثة مكوّناتٍ، مكوّنٌ معرفيٍّ، سلوكيٍّ، ووجدانيٍّ أو عاطفيٍّ.»
صمتُّ لوهلةٍ أستجمعُ فيها كلماتي، ثمّ عاودتُ القول:
«لأبدأ بالمكوّن المعرفيّ، وهو يشمل المعارف والمعلومات النّظريّة. أمّا السّلوكيّ فيشمل ترجمة القيم إلى سلوكيّاتٍ فعليّةٍ. في حين أنّ المكوّن الوجدانيّ أو العاطفيّ فيشمل مختلف المشاعر والأحاسيس وميل الطّفل نحو قيمٍ بعينها.»
ابتسم الرّجل مرّةً أخرى بفخرٍ وقال: «عظيم! لكن هل للقيم عند الأطفال تصنيفٌ؟»
أومأتُ بالإيجاب أجيبه: «بالطّبع سيدي، لها تصنيفٌ، بل هناك وجهات نظرٍ متنوّعةٍ لهذه التّصنيفات.
منها ما صُنّف على عدّة أسسٍ، منها على أساس المحتوى، كالقيم الدّينيّة، الخُلقيّة، الجماليّة، الاجتماعيّة… إلخ، ومنها على أساس المقصد، قد تكون وسائلَ للوصول إلى الغايات كالتّرقِّي، أو قيمًا غائبةً كحبّ البقاء.
وهناك ما صُنِّفَ على أساس الشّدة، كالقيم النّاهية، الملزمة والتّفضيليّة، أيّ تلك الّتي تلزم بما يجب فعله أو لا يجب فعله. كذلك منها على أساس العمو. وقد تكون قيمًا عامّةً كالعفّة أو أيّ خلقٍ آخرَ. أو قيمًا خاصّةً مرتبطةً بمواقفٍ أو أدوارٍ بعينها، كالقيم الّتي تغرسُها المعلّمة داخل الصّف، وهي إمّا ظاهريّةٌ كالقيم المتعلّقة بالمصلحة العامّة، أو ضمنيّةٌ يُستدَل عليها مِنْ سلوك الآخرين.
وأيضًا هناك على أساس الدّوام، منها المُطْلَقة كحبّ الله، حبّ الوطن، أو النّسبيّة المتغيّرة تبعًا لتعاقب الأجيال كأشكال الموضةِ وتغيرها.
لكنَّ القيم مهما اختلف نوعها فجميعها تتّفق في أنّها ليستْ مِنْ وضع شخصٍ معيّنٍ، بل حصيلةُ تجربةٍ جماعيّةٍ، كما أنّها ليستْ مجرّدةً، إنّما لها أنماطٌ سلوكيّةٌ دالّةٌ عليها، تعتبر معاييرًا وضوابطًا للسّلوك الإنسانيّ، وتنتقل مِنْ جيلٍ إلى آخرٍ بالتّنشئة الاجتماعيّة. كذلك لها صفة العموميّة أيّ يتّفق عليها أبناء المجتمع الواحد، وتختلف مِنْ مجتمعٍ لآخرٍ، ولها صفة التّغيّر والتّطوّر رغم بطئه.
لكن مِنْ أشهر تصنيفات القيم تلك الّتي صنّفتهم إلى القيم النّظريّة، ويعبّر عنها اهتمام الطّفل باكتشاف الحقيقة ويتميّز مَن تسود عندهم هذه القيمة بنظرةٍ موضوعيّةٍ نقديّةٍ.
وإلى القيم الاقتصاديّة، والّتي يعبّر عنها اهتمام الطّفل بكلّ ما هو نافعٌ، متّخذًا العالم مِن حوله وسيلةً للحصول على الثّروة وزيادتها عن طريق الإنتاج، التّسويق، الاستهلاك واستثمار الأموال، ويتميّز مَن تسود عندهم هذه القيمة بنظرةٍ عمليّةٍ نفعيّةٍ.
أيضًا القيم الجمالّية، ويعبّر عنها اهتمام الطّفل بكلّ ما هو جميلٌ مِنْ ناحية الشّكل، التّوافق أو التّنسيق، ويتميّز مَن تسود عندهم هذه القيمة بالقدرة على تذوّق الجمال.
وهناك القيم الاجتماعيّة، ويعبّر عنها اهتمام الطّفل بغيره مِن النّاس، فهو يحبّهم ويميل إلى مساعدتهم، ويتميّز مَن تسود عندهم هذه القيمة بالعطف والحنان والإيثار.
كما هناك القيم السّياسيّة، وفيها اهتمام الطّفل بالحصول على القوّة والسّيطرة بهدف التّحكّم في الأشياء والأشخاص، ويتميّز مَن تسود عندهم هذه القيمة بقدرتهم على توجيه غيرهم مِن زملائهم وأقرانهم.
كذلك القيم الدّينيّة، وفيها اهتمام الطّفل بمعرفة ما وراء الطّبيعة، فهو راغبٌ في معرفة أصل الإنسان ومصيره، ويتميّز مَن تسود عندهم هذه القيمة باتّباع تعاليم الدّين...»
توقّفتُ وأنا ألهثُ مِنْ كثرة الحديث فنادى المدير على أحد العُمّال وجلب لي زجاجةً مِن الماء، التقطتُ أنفاسي وارتشفتُ القليل، فابتسم الرّجل وقد وصلنا إلى غرفة مكتبه ثمّ جلسنا فابتسم قائلًا: «بدا أمر القيم وأنواعها عميقًا أكثر ممّا كنتُ أتوقّع، كما بدا لي صعوبة اكتساب الطّفل للقيم.»
تحدّثتُ: «بدايةً عملية اكتساب القيم هي عمليّةٌ يتبنّى مِنْ خلالها الطّفل مجموعةً مِن القيم لم يكن يتبنّاها مِنْ قبل، وفي الأصل فإنّ عمليّة اكتساب القيم تبدأ منذ الصّغر وبتأثير الوالدَين عن طريق التّنشئة الاجتماعيّة، وتفاعل الطّفل الاجتماعيّ مع الآخرين، وتلك القيم تختلف باختلاف الطّبقات الاجتماعيّة، لأنّه يكتسب القيم مِنْ مَنْ يعيش أو يتعامل معهم.
لكن مِنْ ناحيةٍ أخرى، فإنّ عمليّة اكتساب القيم لا تقتصر فقط على الأسرة، بل أيضًا على بقيّة الجماعات الّتي ينتمي إليها الطّفل مِنْ جماعته في المدرسة، النّادي، الشّارع...»
عاد الرّجل بظهره للخلف قائلًا: «رائع! إذًا قد وصلنا إلى أصل سؤالي وهو دور قصص الأطفال في تدعيم القيم.»
فأردفتُ بهدوءٍ: «كما نعلم جيّدًا أنّ الأطفال يمرّون بعملية التّربية الخُلقيّة، لكن ليس دائمًا يسلكون سلوكًا مقبولًا اجتماعيًّا، لأنّ الأطفال دائموا تقليد أفعال غيرهم دون تفرقةٍ أو وعيٍّ، ولأنّ القصص تغذّي حاجة الطّفل إلى التّخيل؛ فوجب دعمها ببعض القيم المرغوبة، فهي أكثر تأثيرًا وفعاليّةً في تكوين أفكارهم واتّجاهاتهم خاصّةً إنْ كانتْ على معاييرٍ صحيحةٍ.
والأمر ليس قاصرًا فقط على دعم القيم الإيجابيّة بل تجنّب القيم السلبيّة أيضًا، مثل القيم الأبويّة الاستبداديّة، فالأسرة عادةً تقدّس تسلّط الأب أو وليّ الأمر الّذي يتّصف بالتّسلّط والقسوة تجاه الأطفال، فيتمّ صهرهم داخل قوالب جامدةٍ تُلْزِمُ الأبناء أنْ يكونوا صورةً مِنْ آبائهم، وتلك القيم الاستبداديّة تؤثّر على ثقة الطّفل بنفسه، وتتعطّل طاقته الإبداعيّة.
وكذلك لدينا قيم الأنانيّة الطّفوليّة، ويظهر ذلك في محاباة كلّ ما هو شخصيٌّ على حساب كلّ ما هو مجتمعيّ، فتظهر مظاهر الحسد، الحقد، التّحيّز، الاستحواذ، والسّلوك الفرديّ غير التّعاونيّ، والتّسلّق، والانتهازيّة، والنّفاق… إلخ، وغيرها مِن الأنماط السّلوكيّة المنحرفة الّتي ترجع في الأساس إلى دعم قيمة حبّ النّفس على حساب أيّ شخصٍ وأيّ شيءٍ.
كذلك قيم الاستهلاك والعمل غير المنتج، والقيم المكبّلة لطاقات المرأة والشّباب، حيث تُغالي الثّقافات العربيّة في قدرة الذّكور وتقلّل مِنْ مكانة المرأة وتُظهرها التّنشئة في صورة التّابع فقط، وإعطاء البنت عنايةً أقلّ مِن الولد.
أيضًا تهميش الشّباب وإلزامهم أنْ يخضعوا للسّلطة الأبويّة داخل المجتمع الّتي تشعرهم طول الوقت بضالّتهِم وقِلّة حيلتهم وتصبّهم في قوالب نمطيّةٍ جامدةٍ تتجاهل الفوارق وتقيّد طاقات الابداعِ.
لذلك وجب الابتعاد عن كلّ تلك القيم السّلبيّة في قصص الأطفال، ودعم القيم التّربويّة الإيجابيّة مثل احترام الفرد وآدميتهِ، فاللّٰه خلقنا وكرّمنا ولا يحقّ لأيّ شخصٍ كان أنْ يقلّل مِنْ شأن أخيه الإنسان بسببِ لونٍ، لغةٍ، أصلٍ، عقيدةٍ أو فكرٍ؛ فالمحاسبُ والمجازي هو اللّٰه وحده.
وكقيمٍ إيجابيّةٍ أخرى، لدينا احترام الوالدَين وتماسك أفراد الأسرة الواحدة، وحماية المجتمع والمشاركة في تنميته وتقدّمه. أيضًا الدّعوة للخير والنّهي عن المنكر ومقاومته، كذلك سيادة القيم الدّينيّة، الرّوحيّة، والخُلقيّة بين النّاس، واحترام ثقافة المجتمع وقيَمه وعاداته، والحثّ على الفضيلة ومقاومة الرّذيلة، وكذلك البعد عن الخوف والرّعب والقلق.»
قلتُ كلماتي الأخيرة وأنا أُعدُّ نفسي للانصراف، فأومأ المدير لي مبتسمًا وقال:«رائعٌ جدًا! لقد سعدتُ بالحديث معكِ كثيرًا أستاذة رفيف وأتمنّى تكرار زياراتكِ لنا في قصر الثّقافة.»
أجبته باحترامٍ: «سعدتُ أكثر سيّدي، وإنْ شاء اللّٰه سأُكرّر الزّيارة في المستقبل القريب، ائذن لي بالمغادرة!»
قُلتُها وأنا أنهض واقفةً فوقف هو الآخر وأحسن توديعي، ثمّ انصرفتُ بسعادةٍ بعد هذا اليوم الشّيّق.
كانتْ معكم رفيف، دومًا بالجوار.🌷💜
--------------------------------
المراجع المستخدمة:
-القصّة من كتاب اللّغة العربية المدرسي.
-د/محمد حلاوة، الأدب القصصي للطّفل.
https://drive.google.com/file/d/1_jY-69FJBKWcGkc63oV2aHmVIFdsC2yx/view?usp=drivesdk
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top