كتاب أدب الأطفال: المقدمة

الشّمسُ ودعَّتْ خطّ الأفقِ، والغيومُ تكابدتْ لتلحق بها، علّها تحجز أشعّتها الذهبيّة في أعماقها بعيدًا عن الأرواحِ الحيّةِ الّتي غطّتْ خطواتها الأرضَ.

تنهيدةٌ سائمةٌ وجدتْ طريقها في داخلي، خرجت معانقةً نسيمَ اليومِ المعتدلِ، خطواتي تتباطأ كلّما سرتُ مسافةً، لكنّي أعاودُ الإسراعَ مع انقطاعِ خيطِ الإلهامِ في عقلي.

تحرّكتُ في الحديقةِ قليلًا حتّى استراحَ جسدي على الكرسي الخشبيّ الّذي استوطن أحد أركانِها، وعيناي الهائمَتان لا تجدان مستقرًّا لهما، فتتجوّلانِ هنا وهناك، بحثًا عن بؤرةِ إلهامٍ أسقطُ فيها.

مضتْ، دقيقةٌ، اثنتان، والسّأمُ قد احتلّني مِنْ انتظار حضورِ الإلهامِ. لمَ فقط لا يسقطُ كما تسقط الصّواعقُ ويجعلني أنتهي؟! لمَ يجبُ يكون صعبَ المراسِ هكذا؟

تحرّكتُ قليلًا على المقعدِ لأشعرَ بشيءٍ ما يحتلُ جيبي فأخرجته ليظهر هاتفي المسكينُ.

شردتُ في شاشته لوقتٍ لم أدركه حتّى أنهى صوتُ المنبه شرودي مذكّرًا إيّاي بأعمالي الّتي خلفي لأنهيَها، فأغلقتُه بحنقٍ.

«الرّحمة يا إلهي، الرّحمة.»
همستُ برجاءٍ بعد أنْ كبّلني هذا العمل وأتعبني. مَنْ يظنّ أنّ كتابة فصلٍ سهلةٌ فليقابِلني في زقاقٍ ضيقٍ بعد منتصفِ الليلِ.
سأجعله عبرةً لمَن يَعْتَبِر، وأدفنه تحت مسودّاتِ الفصول الّتي سأرغمه قسراً على كتابتها.

هززتُ رأسي لأتخلّص مِنْ أفكاري الشيطانيّةِ، وتلمّستُ بأطراف اصبعي زرّ تشغيل الهاتف لتضيء الشّاشةُ، وما إنْ فعلتْ حتى تسارعتْ أصابعي لتطبع على محرّكِ البحثِ اسم أغنيةٍ قفزتْ في بالي مِنْ فترةٍ، لأضغط عليها ما إن ظهرتْ.

انتظرتُ لثوانٍ حتى فاجأتني الضّربةُ الّتي بدتْ قاسيةً على مفتاح البيانو، إلّا أنّها صنعتْ عمقًا جعل صوت الكمان يستلم افتتاحيّةَ الأغنيةِ بسلاسةٍ، ولم يكمل الكمان تفرّده حتى تسابقتْ بقيّةُ الآلات لتندمج معه، مخلّفةً أثرًا جيّدًا جعلني أتنهّدُ.
انضمّ صوتُ المغنيةِ بزخمهِ لصراع الآلات لتجعلهم يتوقّفون ويعملون تناسباً مع صوتها.

أجيبوا! أجيبوا! وأكملوا الأمنية.

«نعم أيلو، هل تحتاجين شيئًا ما؟» صدح صوتٌ من أمامي كاسرًا ترنيمة الطّبيعةِ الّتي احتضنتْني بخضرتها مع الأغنيةِ.

نزعتُ السّماعةَ مِنْ أذُنَيَّ بينما أحدّقُ في جسد القرمزيّةِ الّذي غطّى قرص الشمس كما الغيوم.

«نعم؟ هل مِنْ خطبٍ؟»
أطلقتُ تساؤلي صوبها، لتحرّك رأسها قليلًا ناحيةَ اليمين، وأجابتني بلطفٍ مفسّرةً:
«سألتُكِ إذا ما كنتِ بحاجةٍ إلى شيءٍ ما، كنتِ تقولين أجيبوا أجيبوا، فظننتكِ تحدّثينني أو تحدّثين أحدًا ما، لكن كما ترين لا أحد هنا، فهببتُ لتلبيةِ نداءكِ.»

تأوّهتُ بصمتٍ وأنا أدركُ أنّني اندمجتُ نوعًا ما مع الأغنيةِ، لأحمحم قليلًا وعيناي لا تفارق هيئتها الّتي تنتظرني لأتحدّث، فتحدّثتُ بصوتٍ مرتفعٍ نسبيًّا:
«لا أحتاجُ شيئًا، كانتْ مجرّد كلماتٍ، لأغنيةٍ ما.»
أصدرتْ القرمزيّةُ صوتًا متفهّمًا.

«وما هي الأغنيةُ الّتي نالتْ إعجابكِ حتى اندمجتِ معها بهذا الشّكل؟»
سألتني ونبرةٌ متحمّسةٌ جعلتني أشعر بالرّيبةِ احتلتْ صوتها.
لأكتفي بمدّ إحدى أذنيّ السّماعةِ لها.
ولم تتأخّر لثانيةٍ، إذ ليستْ مجاورةً لي وأذن السّماعةِ أخذتْ مكانًا لها في أذنها، وهي بانتظاري لأشغّل الأغنيةَ.

نقرتُ بإصبعي على الشّاشةِ، وأعدتُ الأغنيةَ إلى حيث البدايةِ، وضربتْ مفتاح البيانو القاسيةُ.
سمعتها تردّد بهمسٍ الكلماتَ، ولم أتعجّب، فشردتُ بينما يقودني اللّحن.

«فقط ما الّذي يجعلها بهذا الجمال رغم قدمها؟»
سمعتُ مجدّدًا صوتها المتأثّر يسأل دونما انتظارٍ لإجابةٍ. لكنّني نطقتُ بنغمةٍ مرتاحةٍ:
«البراءةُ الّتي تحكي عنها بين أحرفها.»

راقبتُ عينيها المتسائلةِ وهي ترمقني لأفسّر كلماتي لها، فأطلقتُ زفيرًا وأعدتُ ترجمةَ كلامي:
«ما أقصده أنّ النقاء الّذي يحيط هكذا أغاني يجعلها خالدةً مهما كبرتْ وكبر معها من سمعها.

إنّها ببساطةٍ موجّهةٌ إلى الّذين لمْ يحملوا مِنْ الدّنيا ذنوبًا بعد، لذلكَ هي تجذبنا، لتذكّرنا بكيف كنّا، وتعيد حفر نفسها أعمق فينا مِنْ حيثُ وقفتْ في ما مضى.»

لم أسمعها تتحدّث، فظننتُ أنّ صوتي لم يصلها، ولكنّها فاجأتني عندما نطقتْ ضاحكةً:
«لم ألحظ انتهاء الأغنيةِ، وهي تذكّرني بأغنيةٍ أخرى، ويذكّرني بكيف كنتُ وما زلتُ أحبّ صوت رشا رزق وهي تغنّي (أغنيةٌ عن شهر ديسمبر) إنّها فقط أخّاذةٌ.
أعلمُ الآن وفقط الآن بعد هذا...» صمتتْ لثانيةٍ ولكنّها أكملتْ« هذا السّحر، سبب كتاب الشهر، وأظنّ أنّ إيصال إرثٍ كهذا يخبر بخبايا قصص الأطفال هذه، وتفكيكُ أجزائها لتكون واضحةً للعيّانِ مهمّةٌ تستحقُ الجهد.»

ابتسمتُ شبه ابتسامةٍ وأنا أسمع كلماتها، وقلتُ لها بتأكيد:
«بالطّبع سنشرحُ باهتمامٍ كلّ ما يتعلقُ بهذا الأدب الّذي يشكّل طوق نجاةٍ للأطفالِ، يشكّلُ لهم ماضيًّا يحنون إليه، وخيالًا يرسمون به مستقبلًا يركضون خلفه.

فهو حكايات الأجيال للأجيالِ، وأصواتُ الكبار الّتي تعجن وتتشكّل لتصير شيئًا يمكنُ للصّغار تناوله والتلذّذ به، سنتحدّث عن أنواع هذه القصص وفئاتها العظمى، وعن العناصر الّتي تتشكّل لتتناسب مع فكرهم وبراءتهم، كما سنحضر مفاجآتٍ سريّةٍ للمتابعين، فموروثاتٌ كهذه لا بدّ أنْ تحظى بنصيبها مِنْ العنايةِ والتّقديرِ، وهذا ما سنفعله.»

«لكن؟»
رنّتْ كلمتها هذه في مسامعي بعد أنْ توقّفتُ عن الحديثِ، لألصق ظهري على الكرسيّ وأتنهّد للمرّة المئةِ وقد هززتُ كتفي قائلةً:
«لكن على شخصي المحترم أنْ يكتبَ مقدّمةً محترمةً تليقُ بهذا الكتاب، وبأدب الأطفال، لكنّ الإلهام وما يفعل.»

راقبتها وهي تكتمُ ضحكاتها الخفيفةِ، وفشلها في ذلكَ، لتنهض من مجلسها وهي تمدّ لي السّماعةَ قائلةً:
«منذ متى ونحن نفكّرُ بالمقدّماتِ؟ نحن نكسر الأبواب ونخطف القلوب، لذا عودي للتّصرّف على هذا النّحو أيلو، وانسي الإلهام وصداعه.»

حدّقتُ فيها وهي تتحرّكُ مبتعدةً عنّي، وكلماتها وبدون كذبٍ أخذتْ مطرحًا في عقلي، وافتنعتُ تمامًا بصحّةِ ما قالته، فنهضتُ مِنْ الكرسي، مودّعةً الطبيعةَ خلفي، ليُسمع صدى نقرات حذائي على الأرضيّةِ الرخاميةِ.

وصلتُ إلى الغرفةِ المنشودةِ ودلفتُ إلى داخلها، توجّهتُ ناحيةَ المكتبِ الّذي استقرّيتُ فوق كرسيّه، وأمسكتُ بالقلم والمفكّرةِ لأخطّ العبارات الّتي اقتحمتْ عقلي.

ولكن وكما العادةُ قاطعتني أصواتُ أولئكَ الحمقى وهم يتشاجرون كما تركتهم منذُ البارحةِ، فنهضتُ متأففةً وفتحتُ باب الغرفةِ ورفعتُ صوتي ليسمعوه بما يكفي بينما أقول:
«بحقِّ الإله يا قوم، لا أحد يهتمُّ فعليًّا بأيّكم سيكون الرّجل الأشقر من العصابةِ السّوداء الّتي تلاحقُ كونان، فتوقّفوا عن تضييع الوقت في اختيار شخصيّةٍ ليس هناك غرضٌ من اختيارها، وانقلعوا لكتابة فصولكم، أو سأطلبُ من القائد أن يخصم عشرين نقطةً مِنْ كلٍّ منكم، ومن لم يملكها سأتأكّدُ من جعله يتسوّل لأجلها.»

ليحلّ بعدها وأخيرًا السّكون والهدوء.
-

وصلنا معًا إلى نهايةِ البدايةِ، أوجّه سؤالي لكم، نعم لكم أنتم يا من تجلسون خلف الشّاشاتِ.
هل تعلمون ما هو أدبُ الأطفالِ؟

هل يستطيع أحدكم أن يحزر الأغنيةَ الّتي استمعتُ لها حتّى؟!

وهل سمعتمُ برشا رزق وأغنيتها (أغنيةٌ عن شهر ديسمبر)؟ إن فعلتم فأخبروني من هي، وفي أيّ مسلسلٍ أو فيلمٍ سمعتم الأغنيةِ الّتي ذكرتها؟

ثمّ ما أغنيتكم المفضّلةُ لها؟

أخبروني بأغانٍ أخرى تفضّلونها من كرتونٍ أو أنمي، وسبب كونها تحتلُ تلك المكانة في قلوبكم.

كما لو كان بإمكانكم أن تصبحوا شخصيّةً مِنْ شخصيّاتِ الكرتون أو الأنمي، أيّ شخصيّةٍ ستختارون؟ ومِنْ أيّ مسلسلٍ؟ ولماذا اخترتموها؟

ختامًا وليس بختامٍ فعليّ، لن أخبركم بألّا تنسوا أنّنا في الجوارِ، لأنّنا وببساطةٍ لن نترك لكم مجالًا للنّسيانِ، لذا فلتجلبوا لحافاتكم، وتجهّزوا الحليب والبسكويت، لأنّ ما سنرويه لكم سيجعلكم تشتهونه بكلّ تأكيدٍ.

كانتْ معكم فرَاسةُ النقّدِ أيلونالا🖤..


Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top