روايات فذّة

أرادت الفئة الوقوف لترتّب ثيابها لكنّ المصوّر أشار إليها بالجلوس، أخذت تتأكّد من أن أزرار سترتها مقفلة كلّها، حيث كانت ترتدي زيًّا رسميًّا ناسب ظهورها على الشّاشة، سترةٌ رماديّة اللّون وسروالٌ رماديٌ بنفس لون السّترة كانت تبدو جميلةً وزاد لون شعرها الزّهري والمرفوع من جمالها.
حركت يديها بشكلٍ دائري حول وجهها تسأل المقدّمة بدون كلام عن مكياجها، فأجابتها المقدّمة صامتةً باستخدام تعابير وجهها، بأنّه رائع!
أعلن طاقم التّصوير عن انتهاء فترة الفاصل وها هم يعودون لإكمال الفقرة وإنهائها، بعد الإشارة بدأت المقدّمة الكلام:
«عدنا لكم من جديد أعزّائنا المشاهدين ونكمل حديثنا مع الفئة العاطفيّة، وهذه المرّة محور الحديث سيكون عن رواية…»
«رواية عصر الحبّ.»
أجابت الفئة بعد أن استدارت المقدّمة نحو الفئة طالبة منها بصورة غير مباشرة أن تذكّرها بعنوان الرّواية.
«الكاتب نجيب محفوظ، صحيح؟»
«نعم صحيح.»
«حسنًا ما الذي جذبك لهذه الرّواية هنا أيضًا؟»
«رواية عصر الحبّ من أكثر الرّوايات المحّببة إلى قلبي استمتعت فعلًا في قراءتها، رغم قِصر الرّواية إلّا أنّها استطاعت أن تُعَيّش القارئ جوّ الرّواية، فاستطاع الكاتب نجيب محفوظ أن يُعَيّش القارئ حياة البطل عزّت من عمر السابعة ودخوله إلى الكُتّاب* والتّطورات التي بدأت تدخل حياة عزّت وتعرّفه على صديقه حمدون في الكُتّاب. ثم وقوعه في حبّ بدريّة من صغره، والتي عرفها في الكُتّاب أيضًا، ثمَّ دخوله المدرسة. وهكذا إلى أن واجهنا الصّراع النفسيّ الذي كان بين عزّت وذاته من كونه شخص مدلّل؛ حيث كان وحيد أمه والتي تحمّلت مسؤوليّة تربيته بعد وفاة زوجها وبسبب ثرائها أصبح ولدها مدللًا غير قادرٍ على الاعتماد على نفسه.

«إذًا ألم يؤثّر قصر الرّواية هنا على الأحداث؟»
«لا أبدًا؛ فما جاء فيها من أحداثٍ كان وافيًا، استطعنا منه التّعرّف على الشّخصيّات وحياتها، وتمكّن نجيب محفوظ من شدّ انتباه القارئ للأحداث.»
«حسنًا، قلتِ أنّ عزّت كان شخص مدللًا، وأمّه سبب هذا الدلال…»
«نعم، هو كذلك؛ إنّ الإفراط في الدّلال يؤدي إلى إنتاج جيلٍ غير مسؤولٍ، غير راغب في العمل، وراغبٍ لالاعتماد على أموال غيره. وهذا ما حصل مع عزّت الذي سبّب اهتمام والدته المبالغ به إلى إفساد ولدها بشكلٍ غير متعمّد. فظلَّ عزّت عاطلًا عن العمل معتمدًا على فكرة أنّ والدته هي التي تنفق، وأنّها في نفس الوقت سبب تعاسته.»

«إذًا هنا هل تعبّر أم عزّت عن الأم المثالية؟»
«لا، عين مخلصةٌ قانتةٌ كثيرة الإنفاق.»

«لكن هل يعني هذا بالضّرورة أنّها أمٌ ممتازة؟ هل يؤدي هذا بشكلٍ مؤكّد إلى اتّخاذ قرارات سليمة إزاء المواقف المحوريّة في حياة عزت؟»

«الواقع أن عين وهو اسم والدة عزّت تمثّل أفضل تعبيرٍ عن الوالد في مجتمعٍ لا يملك رفاهيّة الاهتمام بالتّربية؛ إنّها تسبح مع التّيار وتعبّر عمّا يجب أن تعبّر عنه امرأةٌ في ظروفها، تتعامل مع المشاكل إذا وقعت دون استباق، وتتعلّم التّربية من خلال التّجربة المدعومة بتراكم تراثيٍّ غير منقّح، ومع بعض التّدقيق يمكن الوصول إلى أسئلة من نوعيّة: ألا تبدو لك مبالغةً في الحماية؟ أليست شديدة التّدليل لِوحيدها؟»

«إذًا ما الأجوبة هذه الأسئلة؟»
«باعتبار أنّ عين منقطعة عن الرّجال ومتفرّغة تقريبًا للعبادة، أي كمٍّ أورثها هذا من الصّفات التي انعكست بطبيعة الحال على علاقتها بعزت وتشكُّلِه النّفسي التّدريجي؟ يستطيع القارئ –إن أراد– تكوين رأيه الخاص عن عين الأم بتحليل موقفين أساسييّن؛ الأوّل رغبة ابنها في الزّواج من بدريّة، والثّانب تزويجه بسيّدة، لكن هذا يقود دومًا للمعضلة الكونيّة القديمة: أيُّ درجةٍ مئوية من المسؤولية عن ما آل إليه عزت تتحمّله هذه المرأة؟
ربما لحاجة “محفوظ” لإلقاء بعض الضّوء -وإن كان باهتًا- على هذا الأمر، فقد ذكر لنا ما تعتقده الأجيال الجديدة بشأن السّيدة عين، حيثُ أنّ بعضهم ينكر وجودها وبعضهم يؤكّد أنّ هذا العرض لا يخلو من تسطيح. آخرون يؤكّدون أنّ الإحسان على صورته هذه لعبة من ألعاب الأنانيّة ودليلٌ على هوس بالإحسان، لا يمكن أن يكون صحيًّا. لكن هل كان محفوظ كشأن غيره من الكتاب، يشعر بضرورة انتقاد نفسه؟ كأنّما شعر بأن شخصيّةً بهذه المثالّية عسيرة على التصديق ما لم يدافع عنها؟ ربّما هي حاجة الكاتب المعتادة إلى تبرير نفسه للقارئ.

«من خلال كلامكِ يبدو أنّ هنالك بغضٌ وكراهّية في الرّواية، إذًا ما علاقة الأحداث بعنوان الرّواية؟»

صمتت الفئة لوهلةٍ تفكّر في إجابةٍ لهذا السّؤال العميق، ثم استرسلت قائلة بعد ثوانٍ:
«عصر الحب... لا أعلم إن كان “نجيب محفوظ” باختياره هذا العنوان، يتهكّم من الزّمن وتبدّل أحواله أو أنّه يعرض بذلك الحب الذي لا يعول عليه.
يبدو العنوان مناقضًا لنصّ مشحون بالبغضاء في كل صوّرها لكنّ الوقائع تجري بالفعل في زمن لا يعاني من ندرة الحب، حب قد يخفّف من حرارة الأجواء لكنّه لا يعترض المقدور أبدًا.»

«بما أنّ بطل الرّواية كان عزت، وأنّ أغلب الأحداث كانت تدور حوله، حدّيثنا أكثر عن شخصّيته لنختتم حديثنا مع هذه الشّخصيّة… هل استطاع الكاتب أن يرسمها بشكلٍ واضح؟ وكيف كان ذلك؟»

«الجزء الأوضح بالنّسبة لي في شخصيّة عزت –بعد تدميره الذّاتي– هو قدرته على الاكتفاء، ما يجعله مغايرًا. في المقابل نحن نعرف أنّ عزّت كان سعيدًا برجوع ابنه لحياته، نعرف أيضًا أنّه وجد ذاته في نجاح المسرح، بالطّبع ساعد على ذلك ابتعاده عن عين التي كانت قابعةً في مركز بصره ممثلةً رمزًا للكمال يصعب مظاهاته. الملاحظ أنّ رواية “عصر الحب” تبقيك متأهّبًا بحجز إجابات الأسئلة عنك، فنحن لا نعرف إن كان الحصول على بدريّة كان ليكفيه ويمنحه السّكون لأنّ هذا لم يقع... ابنه خرج من الصّورة لأسباب قهرية ونجاح المسرح سرعان ما تبخّر.
إنّ طبيعة هذه العمليّة -أعني محاولة البحث عن علل البطل وإيجاد علاج لمشاكله- هي مصدر كل هذه الأسئلة فيما يستطيع القارئ –غير ملوم– أن يكتفي بالنّظر إلى عزّت باعتباره صورةً مألوفةً  من صور الحياة المحيطة بنا والمتوافرة بكثرة، إنّما يعود هذا الشّعور بشذوذه وفشله إلى ما فعله الكاتب (وهو مفهوم الرّواية) من تكديس حياةٍ كاملةٍ في مئةٍ وخمسين صفحة.»
أكملت حديثها ثم فكّرت جيدًا في ما قالته وتكلّمت بسرعة قبل أن تختم المقّدمة، حيث شعرت أنّه من الضّروري قول الكلام الذي تفكّر به:

«تبقّى لي كلام أخير قبل الختام.»
«حسنًا، تفضلي.»

«أردتُ أن أقول أنّني لا أحاول هنا التّقليل من شأن النصِّ الخاص برواية (عصر الحب) أو إفراغه من معناه، لكن الواقع أن محاكمة الشّخصيّة إنما تتمُّ طِبقًا لمسارٍ قرّره الكاتب مسبقًا، وهذا المسار ليس عسير التّغيير في الحقيقة، ما يعني أنّنا إنّما نحاكم احتمالًا تخيره الكاتب من بين حفنةٍ من الاحتمالات لا فضل لأحدها على غيره. فمثلًا: هل كان يمكن أن يقع عزّت في حب امرأةٍ أخرى بعد رحيل بدريّة بهدف أن تملأ فراغ جوفه؟ لو حدث هذا، كيف كان يؤثّر على الأحداث اللّاحقة وبخاصة العودة إلى الحارة؟

«جميلٌ فعلًا، وصفكِ وتحليلكِ للشّخصيات كان رائعًا حقًا كان بودّي أن أكمل الحديث معكِ، استمتعتُ كثيرًا في نقاشكِ لكن وقت المقابلة قد انتهى، ويجب أن ننهي الحلقة.»

«لا بأس، وأنا أيضًا استمتعتُ بالحديثِ معكِ كثيرًا.»

«شكرًا لكِ على حضوركِ المقابلة، وشكرًا لكم أعزّائي المشاهدين على حسن الإصغاء والمشاهدة. أتمنّى أن تكونوا قد حظيتم بوقتٍ ممتعٍ معنا، نلقاكم في حلقة أخرى.»

-كانت معكم سومر.

Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top