تأمّل معنَا
سكينةٌ سكنت فحوى الأجواء، وبتشبُّعِ الغسق كانت الأرجاءُ قد هوت مُمتثّلةً لعبق الهدوء والسَّناء، يدان في عُمق الشّاعريّة، رُفعت بخشوعٍ أمامَ نافذةٍ كبيرةٍ بالغة الارتفاع، تمتثلُ لكلّ راحةٍ مصاغةٍ في الرُّوح رغمَ أنين الأشلاء أيًّا كانت الأسباب، إذ كانت مُقابلةً بسكُون تأمّلها هلالًا استوطن السّماء، وراحَ يقابلُ استرخاء إحداهنّ الجالسة جلسة التربُّع مُناورةً الهواء بفكرٍ خالي الوفاض.
صوتٌ جالَ في الأنحاء مناديًا مع تذمّرٍ اشتهر بالعلوِّ كاسرًا الصّمت، وعلى الرّغم من هذا كانت المقصودة في عوالمها غارقةً دون استنجاد، فإذ ببابٍ يصفع بقوّةٍ أدَّى لامتثال المعنيّة إلى مَن أتت مُتسائلةً بعدما أدارت عينيها لها.
-«خوخ! ماذا حصل؟»
-«أناديكِ لأجلِ العشاء، ما الّذي تفعلينهُ طول هذه المدّة في العليّة دُون امتثالٍ لحُنجرتي المسكينة؟»
-«ظننتُ أنّ مصيبةً قد أُضرمت، الرّحمة خوخ! ثمّ وإنّه التأمّل ألا تعرفينه؟»
ضياعٌ شبَّ بتلكَ الواقفة مُمسكةً بملعقة الطّعام بطريقةٍ عشوائيّة إثر هجومها غيرِ المُحتسب بالفعل، فجالت بعينيها العليَّة تُعبّر عن عدم معرفتها لِما تقولُ تلكَ المُتأمّلة لتردف بعد صمتٍ قد طالَ:
-«ما هذا مشمش؟»
-«هو من أفضل المُمارسات الرّوحانيّة النّفسيّة خوخ!»
تعالت نبرة مشمش موضّحةً أنّ ما تفعلهُ لهوَ أمرٌ جيّد، وما إن فعلت حتّى وضعت خوخ يدها اليسرى على رأسها قائلةً بتذمُّر مع هزِّها لقدميها طالبةً الخُلاصة.
-«يا إلهي وما هذا أيضًا؟»
-«حسنًا سأخبرك؛ الرّوحانيّة هي التّقربُ من الربِّ والّتي تغذِّينا بالإيمان عبر اللّجوء لوسائل تفرِّغ ما بنا له، مهما كانت الدّيانة والمعتقد الّذي نُنسب لأجله، ولو كنتِ من محبّي القراءة -وهذا ما أعرفه عنكِ بالفعل- فهي فئةٌ من المُريح القراءة بها، إذ أنّها تبعثُ الأمان في النّفس وتغذّي الرّوح بالهدوء ولا سبيل للشّعورِ بمشاعر مناقضةٍ له خلال لجوءِ أحدٍ لها.»
-«يبدو هذا جميلًا! وما أصلها إذًا يا مشمش؟»
-«الرّوحانيّة نُشئ أصلها من الرّوح والّتي تُلازم النّفسَ دون زوالٍ حتّى الموت، فمنذُ نشأتها الحضاريّة في القرن الخامس الميلاديّ مُعتبرين أنّها -نفخ الرّوح في الكائنات- أصلٌ لابدّ منه في الذّات حتى تطوّرت مع مرور الوقت ملتزمةً بالأخلاق والقيم الرّوحانيّة في المجتمعات والحضارات، مُطبّقين بها تدريس القيم الرّوحيّة وتعميرها في الذّات جالبةً السّكينة دومًا خلال هذه القيم والتّصرّفات، فسارت في تسلسلٍ حتّى تمّ تشكيل فرقٍ بين الرّوحانيّة نفسيًّا واجتماعيًّا عبر التّفريق بين الأشكال الرّوحانيّة العليا والدّنيا في القرن الثّامن عشر، إلى يومنا هذا الّذي تمّ فيه دمج أفكارٍ مسيحيّةٍ مع أخرى غربيةٍ بطابعٍ آسيويٍّ دينيّ بالرّوحانيّة ممّا أدّى لانفصالها عن المنظّمات التّقليديّة القديمة، هل فهمتِ؟»
أومأت خوخ بتفهُّم، وما إن فعلت حتى نطق لسانها في تساؤلٍ آخر مُتسارعة النّطق ممّا جعل مشمش تقهقه على حماسِها: «وما فائدتها على النّفس إن كانت بهذه الأهمّيّة وتطوّرت في كلّ هذه العصور؟»
-« بها يزداد الإنسان معرفةً وتمسّكًا في الدّين حتى مماته وزوال هذه الرّوح، لهذا أنا الآن أُمارس أحد جوانبها وهو التأمّل الذي يبعثُ بي تحفيزًا لدواخلي، كذا مشاركتها مع الرّب مثل الصّلواتِ في بعض الدّيانات.»
تساءلت خوخ مجدّدًا: «ولكن كيف نشعر بها؟»
-«شعور الرّوحانية دومًا نابعٌ من شعور مُلتجئ إلى إله بمعتقد المرء الخاصّ الّذي يملأه سلامًا مهما كانت صحَّته من الوجود، فهي تزيد من إيمان الإنسان ومعرفته وتمسّكه بدينه.»
-«كنت أحتاج بشدّةٍ لهذا الشّيء لأجل الاسترخاء.»
-«ولهذا أحدّثكِ، أعتقد أنّه سيُفيدكِ إن بحثتِ عنه أكثر؛ إذ ستجدين الكثير من المعلومات الّتي قد تُعجبكِ بل وتزيد من حصيلتكِ الثّقافيّة.»
ازدادت دهشة خوخ الّتي تُنصتُ بتمعّنٍ مع أعيُنٍ تتّسعُ فضولًا، حتّى انتهت مشمش من كلامها لتقول خوخ بنبرةٍ مُتحمِّسة:
-«أحببت هذا! سأبحثُ عنه أكثر وأعود إليكِ.»
غادرت خوخ، تاركةً أمرَ العشاء لمن يهتمّ له، ومَن يفعل؟ لا أحد قطعًا! فبَقِيَ على حاله إثر الاثنتين، الأولى مَن أُغرمت بالرّوحانيّة وتناست كلّ شيء والأخرى من أُضرمت بها رُوحُ المعرفة والبحث.
صفقت خوخ باب غرفتها لتفتحه بحماس، فارتطم الباب بالجدار بقوّة ولكنّ تلك الأخيرة لم تهتمّ، اتّجهت إلى مكتبها الذي يتربّع عليه حاسوبها المحمول، فتحته سريعًا لتبدأ بالبحث عن أيّ شيءٍ وكلّ شيءٍ له علاقةٌ بالرّوحانيّة، ذلك المفهوم الّذي أسرها شغفًا لتبدأ بالاغتراف من بحر عِلمه، دون انتباهٍ للوقت الّذي داهمها وسرق ليل راحتها.
• • •
-«خوخ خوخ! استيقظي خوخ لقد تأخّر الوقت أيّتها الكسولة، إنّها العاشرة والنّصف.»
صدح صوت مشمش وهي تهزّ خوخ النّائمة جلوسًا على مكتبها وقد قبع سواد اللّيل تحت عينيها، لقد سهرتْ لوقتٍ متأخرٍّ بالأمس، استنتجت مشمش.
فتحت تلك النّعِسة عينيها بتثاقل لتقابل وجه مشمش الّذي ظهرت عليه علامات الامتعاض، لتنهض متمدّدةً كقطٍّ استيقظ من نومه توًّا: «هل تأخرّتُ في النّوم؟ أنا آسفة! لقد كان البحث في الرّوحانيّة مُمتعًا!»
تهلّلتْ أسارير مشمش وقد أدركتْ أنّ لسهر رفيقتها سببًا مقنعًا فتفوّهت بهدوء: «وعلامَ عثرتِ؟»
ابتسمت خوخ ابتسامةً واسعة ونهضت لتجلس باعتدالٍ وتبدأ بالسّرد: «توصّلتُ إلى الكثير من الأعمال الأدبيّة الّتي تتحدّث عن الرّوحانيّة، والكثير من الكُتّاب الّذين يهتمّون بتلك الفئة، فمثلًا الدّكتور أحمد خيري العُمري، من أكثر الكُتّاب كتابةً عن الرّوحانيّة، فآخر رواياته «كريسماس في مكّة» كانت تروي قصّة فتاةٍ عراقيّة الأصل عاشت جُلَّ حياتها في أوروبا، وقرّرت أن تذهب في إجازةٍ إلى مكّة لأداء العُمرة، وقد خطّطت مع والدتها لتذهبا في إجازةٍ نهاية العام حيث فترة الكريسماس، وخطّطت والدتها لأن تلتقي البطلة بأقاربها من العراق في تلك الرّحلة، ورغم رفض البطلة لتلك الفكرة في البداية إلّا أنّها حين تعرّفها على أقاربها وتقرّبها من الله بالعبادات وزيارتها لبناءٍ عظيمٍ للعبادة مثل الكعبة، وعند تأديتها لشعائر الدّين الإسلاميّ وقراءتها للقرآن بشكلٍ مستمرّ كانت تشعر بالرّاحة النّفسيّة في أعماقها، وهذا يلخّص شعور الرّوحانيّة.»
تحمّست مشمش لكلام خوخ وقالت على نحوٍ سريع: «رائع خوخ! وهل تعرفين من هو الكاتب أحمد خيري العُمري؟»
ابتسمت خوخ: «أجل بالطّبع، قرأتُ عنه الكثير؛ وُلد الدّكتور أحمد خيري العمري في العراق، تحديدًا بمدينة بغداد، ويعمل كطبيب أسنان. أضف لذلك فهو كاتبٌ في المجال الرّوحانيّ، له أكثر من ستّة عشر كتابًا وعشرات المقالات بين الفكر والأدب، عُرف العُمري باتّجاهه التّجديديّ في الفكر الإسلاميّ، وبتأثيره القويّ على الشّباب، ومن أهم مؤلّفاته: البوصلة القرآنيّة، استرداد عمر، السّيرة مستمرّة، شيفرة بلال، وروايته الرّائعة الّتي قرّرت قراءتها بالتّفصيل «كريسماس في مكّة» وأحدث كُتبه «القُرآن نسخة شخصيّة»، وهو كتابٌ روحانيٌّ أيضًا.»
اتّسعت ابتسامة مشمش: «يبدو أنّكِ حظيتِ بوقتٍ ممتع وأنتِ تبحثين في الرّوحانيّة، ولكن هل عرفتِ كُتّابًا آخرين لها؟»
ازدادت حماسة خوخ: «آه طبعًا، إذ قرأتُ عن الكاتب أدهم الشّرقاوي، كاتبٌ مهمٌّ في فئة الرّوحانيّة، وهو لبنانيٌّ بجنسيّةٌ فلسطينيّة، وحصل على إجازةٍ في الأدب العربيّ من الجامعة اللبنانيّة، ومن أهمّ أعماله الرّوحانيّة «عندما التقيتُ عمر ابن الخطّاب» و «مع النّبيّ» وله الكثير من المؤلّفات الرّائعة الأخرى.»
بدا على مشمش الاندماج مع كلام خوخ عندما قالت: «كم أنّ هذا جميل! سأخبركِ أنا هذه المرّة عن كتابٍ رائع في عالم الرّوحانيّة قرأته منذ فترةٍ قصيرةٍ، ألا وهو كتاب «لأنّك الله» إنّه كتابٌ روحانيٌّ من العيار الثّقيل، حيث يأخذك الكاتب في رحلةٍ بين أسماء الله التّسعة والتّسعين، ويحكي لكِ عن معانيها وجمالها بأسلوبٍ جذّابٍ رائع، إنّه كتابٌ إذا قرأتِه بضائقة أشعركِ بقرب الفرج، وبكَون الله معكِ، وطمأنكِ وأزال عنكِ الأحزان.»
هتفت خوخ: «تحمّستُ له! سأقرأه يا مشمش وأخبركِ برأيي.»
ابتسمت مشمش: «رائع خوخ! وأنا سأنتظر حتّى تقرئيه، وسعيدةٌ لأنّكِ أُعجبتِ بالفئة الرّوحانيّة، وسأُسعد أكثر لو أطلعتِني على كلّ ما ستجدينه فيها، فهل ستفعلين؟»
ابتسمت المقصودة بحماس: «اتّفقنا! سأفعل بالطّبع.»
• • • • • •
_«يا شباب!»
صدح صوت ريمي دالفةً مقرّ النّقد سريعًا وقد تراءى للعيّان حماسُها، انتفضت روح وقد تعجَّبت دلوفها المُفاجئ، وهبطت آڤرين من الطّابق العلويّ إثر هتافِها، وخرجت لياما من مكتبة النّقد ومعها كتابٌ دلّ على كَونها كانت تقرأه.
_«ما الأمر ريمي؟»
تساءلت آڤرين عندما لاحظت صمت الجميع لتحاول ريمي كبت حماسها مُتفوّهةً: «لقد أعلن الفريق عن مسابقةٍ جديدة، مسابقةٌ عن فئة الرّوحانيّة!»
ابتسمت لياما بحماس إذ أنّ انهماكها في قراءة كتابها قد شغلها عن أخبار الفريق، شهقت مُقرّبةً يدها من فمها: «يا إلهي لهذا طلبت مِنّا عدن أن نقرأ كتاب «القرآن نسخة شخصيّة»؛ لأنّه تابع للفئة الرّوحانيّة!»
ما إن اكتملت جملة لياما حتّى عقدت روح ذراعيها أمام صدرها: «كنتُ أعرف كلّ هذا، ريمي.»
أجفلت ريمي رامقةً روح بتعجّب: «وكيف هذا؟»
رفعت روح رأسها بفخر: «الأرواح تعرف كلّ شيء.»
ازداد تعجّب لياما وريمي في حين ابتسمت آڤرين بهدوء: «لقد أعلن الفريق عن المسابقة بالفعل منذ يومين، أيّ لا علاقة للأرواح بما يحدث هنا.»
زفّرت لياما رامقةً روح بابتسامة جذل إذ كُشِف أنّها تمزح مزاحًا ثقيلًا كَونها تعلم بخوف لياما من ظلِّها، في حين تكلّمت ريمي: «من منكنّ قرأت الكتاب؟»
أجابت آڤرين سريعًا: «قرأته كاملًا.»
واتّسعت ابتسامة لياما رافعةً الكتاب بين يديها: «أكادُ أُنهيه.»
لتبادلها روح الابتسام مُقتربةً من ريمي: «يا لنشاط الأعضاء الجدد! وعمَّ يتحدّث؟»
تكلّمت لياما: «الكتاب يأخذكِ في رحلةٍ بين سور القرآن، من الفاتحة وإلى الحديد، ويحاول الكاتب من خلال الكتاب أن يعرض علاقته مع القرآن كما صرَّح، فالكثيرون مِنَّا يملكون علاقاتًا حميميّةً مُميّزةً مع القرآن الكريم، فيجدون فيه متنفّسًا لهمومهم وقاضيًا لحوائجهم ومُجيبًا عن أسئلتهم.»
لتردف آڤرين مكملةً: «فيعرض الكاتب من خلال الكتاب مشاعره اتّجاه كلّ سورةٍ من سور القرآن، كذا ويعرض معانٍ مهمّةً في الآيات ورسائل مختبئةً بين الحروف ربّما لا يُدركها البعض، ليروا القرآن من بصريّةٍ جديدةٍ غير بصريَّتهم.»
تحمّست ريمي أكثر لتُضيف: «ولكنّه -وكما صرَّح الكاتب- ليس كتاب تفسيرٍ أبدًا يا روح بل هو كما ذكر الكاتب نفسه، مثل هوامش كتبها شخصٌ ما وهو يقرأ القرآن ويحاول أن يتفاعل مع حياته اليوميّة عبره.»
ابتسمت روح برضا: «جميل، مُحقّاتٌ جميعكنّ، فالكتاب يحوي الكثير من الرّاحة النّفسيّة، الكثير من المعاني والمشاعر والمترادفات والرّسائل الّتي غفلنا عنها أثناء قراءة القرآن الكريم، كتابٌ سلسٌ وسهل يُساعد القارئ على إدراك المعاني المختبئة خلف الآيات الكريمة، ويقصّ عليه بشكلٍ مبسّط بعض القصص القرآنيّة، مغزاها وعِبرها وجماليَّاتها.»
ختمت آڤرين بحماس: «كم أنّ هذا رائع! إذن من ستشارك في التّجهيز للمسابقة؟»
تبادل الجميع الابتسامات المُتحدِّية لتجيب ريمي: «بالتّأكيد جميعًا!»
• • • • • •
كانت معكم العضو آڤرين بشخصيّة مشمش، والعضو لياما بشخصيّة خوخ. كما ونشكر العضوين ريمي وروح لظهورهما كضيفتيّ شرف في فصلنا لليوم.
أخيرًا لا تنسوا المشاركة بمسابقتنا، فجرسنا يطرق حتّى نهاية هذا الشّهر ينتظر عطر مشاركاتكم أن يفوح، كما تفوح رائحة العود العربيّ الأصيل.
دمتم بخير. 🤎
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top