السَّرد والحوار ولغاتٌ جديدة
فتحت أليس عينيها لتجد نفسها في حفرةٍ عميقةٍ للغاية، ترى فتحة بعيدةً في الأعلى لتتأكد من أنّ الوقت لا يزال نهارًا.
لم تكن الفتحة ضيّقةً للغاية، بل كانت واسعةً بما يكفي لتتحرّك وتمشي بضعة خطوات. لاحظت وجود بابين متقابلين، واحدٌ باللَّون الأسود وآخر بالأبيض والرّمادي، وقد طُبع على ظهريهما صورتان متحرّكتان، على الأوّل مجموعةٌ من النَّمل الّذي يحمل قوت يومه ويبدو نشيطًا، وفي الأخير صورةٌ لأرنبين صغيرين يقفزان باستمرار.
كانت ستدخل الباب الثّاني، لكنّ أرنبها الصّغير وقف أمام باب النَّمل وقد تبيّن لها أنّه منزعجٌ من الفكرة من ملامح وجهه، لذلك غيّرت رأيها لتقرّر الدّخول لباب النَّمل، فقد لاحظت كوّن أرنبها متعكّر المزاج طوال الفترة الماضيّة، ربّما هذا بسبب التّغيّرات الّتي تطرأ عليه.
دخلت مباشرةً بدون طرقٍ ليغلق الباب تلقائيًّا من خلفها، كان المكان مظلمًا ولكنّه أُنير فورًا ليكشف أمامه عالم النَّمل كما توقعت من خلال الصّور.
كان النّمل بحجمها تقريبًا، لتستنتج أنّ حجمها تقلّص أثناء سقوطها في الحفرة، راحت تراقب النَّمل المجتهد وهو يحمل طعامه لمؤونة الشّتاء، الكلّ يساعد الآخر والجوّ لطيفٌ بينهم، ولم تمرّ لحظاتٌ كثيرةٌ حتّى أتى مرشدها كما تدعو من يساعدها في رحلتها.
«صباح الخير، الجوّ منعشٌ اليومَ أليس كذلك؟ هيّا بنا لدينا الكثير من العمل!» لم تستوعب كلماته جيّدًا لسرعة حديثه، بل لحقته مباشرةً بعد أنّ بدأ السّير في الأرجاء وهي تحلّل ما قاله سابقًا.
دخلا إلى غرفةٍ أخرى والّتي احتوت نملةً واحدةً جالسةً فوق مكتبها، وقبل أنّ تسأل من يقف بجانبها سبقها ليقول سريعًا: «هل تعلمين من هي؟» سألني وقد ناظرني بحماسٍ، وقبل أنّ أجيبه قاطعها مجددًا: «إنّها المسؤولة عن تنظيم المكان هنا»
نظرت له باستغراب عندما سألها مجدّدًا: «هل تعلمين أهميّة عملها هذا؟»
سمح لها بالتَّفكير لبضع ثوانٍ، ولكنّه سرعان ما تجاهلها ليمشيَ ذهابًا وإيابًا بينما يشرح، هل يملك النَّمل نشاطًا زائد فوق اللّزوم؟
«إنّها المسؤولة عن تنظيم العمل هنا، يمرّ كلّ شيءٍ لعالم النَّمل من خلالها، تتأكّد من المؤونة الشّتويّة، كذلك فإنّ بقية الأعمال متّصلةٌ بها ولا تفترق عنها بتاتًا، علاقتهم متينةٌ ومكمّلةٌ لبعضها البعض، بدونها لا وجود لعالم النَّمل!» قال وقد وقف بجانبها يراقب الأوراق الّتي توقّع عليها وتعاينها.
حلّلت كلماته التِّي قالها وحاولت استنتاج ما يلمّح له خلف كلماته، لماذا أشعر بأنَّه لغزٌ جديد؟ مهلًا لحظة! ربّما هو كذلك.
أخذت أفكّر في ما يمكن أنّ يكون، قال بأنّ كلّ شيءٍ يمرّ من خلالها، أيّ أنّ أحداث الرّوايّة تعرض من خلالها، كذلك هي أساس وجود الرّوايّة وبدونها فلا وجود لطريقةٍ لكيّ تظهر بقيّة العناصر فيها، إنَّه وبلا شكّ عنصر السّرد!
رفعت رأسها باحثةً عنه، ولكنّها لم تجده في الغرفة، كان الباب مفتوحًا فتساءلت هل تركها وذهب؟
خرجت فورًا بحثًا عنه، وقد لمحته في بقعةٍ بعيدة قليلًا عنّها وقد كان يكلّم أحد أفراد النَّمل، افترضت أنّه صديقه فاقتربت منه ووقفت بجانبه، وقد تجاهل صديقه وبدأ بالحديث معها ثانيةً.
«طريقة تواصلنا تختلف هنا عن ما يوجد خارج الحفرة، نتكلم بلغتنا الخاصّة الّتي لا تعرفها بقية الحيوانات وهذا ما يميّزنا، نستمتع بها بتبادل أفكارنا وآرائنا وكذلك بعرض مشاكلنا ومشاعرنا لبعضنا البعض، لا يمكننا التّواصل بدونها وهي ما تبقينا قريبين من بعضنا، كما أنّ علاقتنا وثيقةٌ بفضلها مع مسؤولة نظامنا!»
كلماته الغريبة والمشوّشة هذه، لا بدّ من أنّه لغزٌ آخر في رحلتنا هذه، لا تدري لمَ لا يعرض جمله ببساطةٍ كيّ تفهمه؟ هذا سيأخذ منها الكثير من الوقت وهو يتجوّل هنا وهناك بدون انتظارها.
لحقته مباشرةً لكيّ لا تضيعه، ولكنّها لم تشعر بالأرنب جانبها، لذلك التفتّ للخلف لتراه واقفًا بينما يلمس يده اليمنى ويتأمّلها بدون توقّف، ركضت لتحمله وتلحق بالمرشد حتى لا يختفي عن أنظارها، تفقّدته لترى بأنّ أظافر يده اليمنى قد نمت بسرعةٍ وبشكلٍ غير طبيعي! لقد أصبحت أطول بكثيرٍ مما سبق ومما تخيّلت يومًا! حضنته بعمقٍ كيّ لا يشعر بالانزعاج من هذا، وكلّمته ببضع كلماتٍ مطمئنة.
خلال هذا خطر ببالي عنصرٌ نسيته لمدّة! إنّه الحوار وقد طابق ما قاله من مواصفاتٍ سابقًا، فهو الرّابط بين الشّخصيّات لكيّ تظهر علاقتها ببعضها البعض جيّدًا، وكذلك فهو عنصرٌ جيّدٌ لإظهار مشاعرها وجانبيها الاجتماعيّ والنَّفسيّ بسهولة! وواضحٌ أهميّته في الفئة الفانتازيا، فهو داعمٌ أساسيٌّ لشّخصياتها وخير عنصرٍ يقرّبنا منها ويشرحها لنا.
توقّف المرشد أمام مجموعةٍ من النَّمل الذين يأخذون راحةً لمدّة قصيرٍة قبل أنّ يتابعوا العمل ليأتيَ فوجٌ آخر للرّاحة، كانوا يتكلّمون سريعًا وبكلماتٍ غريبةٍ لا تفهم منها شيئًا! ولكنّ... كيف للمرشد أنّ يفهم لغةً العالم الواقعيّ؟
«أيّها المشرد، لديّ سؤال» لم يفكّر أو يتردّد بل أجاب مباشرةً: «بالطّبع تفضّلي، ما هو؟»
سألته فورًا: «كيف تتمكّن من فهم كلماتي؟ ألّا يفترض بك أنّ تتكلّم لغة النَّمل فقط؟» تفاجأت من ضحكه على سؤالها، هل كان غبيًّا أو تافهًا؟
«الإجابة سهلة، لقد تعلمتها!» مهلًا! كيف فعل ذلك؟
«توجد في مكتبة عالم النَّمل كتبٌ كثيرةٌ تشرح كلّ لغةٍ في عالمكم، وكذلك لغات الحيوانات المتبقيّة هنا، وقد كنّا مجبرين على تعلّم ولو واحدةٍ منها كيّ نتمكّن من فهمكم والتَّواصل معكم، وأنا كنت محبًّا للّغات لذلك تعلّمت أكثر من واحدة!» تابعته بتركيزٍ هذه المرّة حتى لا تفوّت أيّة كلمة ممّا قال.
هل يفترض بهذا أنّ يكون لغزًا آخر؟ أم أنَّها مجرّد إجابة؟
بالتَّفكير بالأمر، فإنَّ كتابة روايةٍ فانتازيّةٍ يعني بناء عالمٍ جديدٍ من كلّ شيء، سواءً الشّخصيّات أو البنايات... إلى آخره.
إذًا، هل يعني هذا اختراع لغةٍ جديدةٍ كذلك؟
«لقد كان من السّهل تعلّم لغات الحيوانات، لأنّها جديدةٌ وغير معقّدةٍ وبعضها مستوحى من لغاتكم، لذلك انتهيت منها سريعًا، عكس لغات عالمكم المعقّدة والجديدة عليّ، كان عليّ استعمال قاموسٍ دومًا كيّ أترجم الكلمات الصّعبة» قال المرشد فجأةً بينما بدأ بمساعدة العمّال هو الآخر، يبدو بأنّ دوره في العمل قد حان.
ابتعدت قليلًا تنتظره لينتهي ولتفكّر بكلماته، إذا كانت هناك لغاتٌ قديمةٌ وجديدةٌ قد يطبق هذا على عالم الفانتازيا كذلك، كان من الصّعب على المرشد أنّ يفهم لغتنا قبل أنّ يتعمّق فيها ويأخذ منها ما يكفيه من علمٍ بقواعدها وأسسها لكيّ يتواصل معنا، وتعتقد بأنّ هذا ما يجب على الكاتب أنّ يجعله في رواياته!
إذا أراد أنّ يخلق لغةً جديدةً لعالمه الخياليّ فلا بأس بهذا، يكفي أنّ يمتلك مخيلةً مبدعةً ويعتمد على اللّغات القديمة كمراجعٍ كذلك، ولكنّ عليه ألّا يعرض كلمات لغته الغريبة بالنسبة لها بدون شرحٍ وتوضيحٍ، فكيف سنعرف معناها إذا لم ندرسها ونتعمق فيها؟
هو ليس مجبرًا على عرضها كاملةً، ولا شرحها كاملةً كذلك، بل مجبرٌ على عرض وشرح ما يخدم روايته ويزيد من التّشويق فيها، وبالتّالي فإنّنا سنتمكّن من فهم كلماته بسهولةٍ بمجرد توضيحها لنا، ويمكنه فعل ذلك بسهولةٍ من خلال السَّرد والحوار فهذه بالضّبط من بين مهماتهما الأساسيّة. الحوار يُعرض من خلال السّرد، واللّغة تعرض من خلال الحوار أو كلاهما، وبالتّالي نرى علاقةً متكاملةً ووثيقةً بين هؤلاء الثّلاثة.
انتهى المرشد من عمله سريعًا وأتى إليّها، مشيا وقد لاحظت أنّهما يمشيان في نفس طريق مجيئنا وذهابًا فيعودان لنقطة البداية، هل شارفت الرّحلة على النّهاية بهذه السّرعة؟
أخرجت قارورة ماءٍ أخذتها من قبل معها لتشرب قليلًا، ولكنّها لاحظت شعراتٍ بيضاء بين يديها، نقلت بصرها للأرنب لترى فروه الناعم الجميل يتساقط بغزارةٍ وسرعة، ساعدته في مسح الشّعر المتساقط عن جسده لكيّ لا يزعجه، وقد تفاقم الوضع لترى بشرته عارية... لقد أصبح أصلعًا!
لم تتمكّن من تفقّد حاله جيّدًا لتسمع المرشد يقول: «كما يوجد عملٌ متقن، هناك دومًا أخطاءٌ عديدةٌ ارتكبت قبله ليصبح مثاليًّا ومتقنًا هكذا، نحن لم نولد سريعين، بل حماسنا للعمل جعلنا نتعلّم أنّ ننجز الشّيء بسرعة، تكاسلنا الّذي يصيبنا لعديدٍ من المرات يُأخّر العمل ومن الممكن أنّ نتأخّر بجمع المؤونة! لذلك تعلّمنا من أخطائنا وصرنا نشيطين أكثر وأكثر يومًا بعد يوم».
قال وهو يشير لركنٍ منعزلٍ قليلًا عن المكان، وقد احتوى نملًا صغيرًا يتمّ تعليمهم أهميّة العمل الجادّ والتَّعاون والتَّعلم من زلّاتهم، وكما اعتدت من المرشد توقعت أنّ يكون هذا لغزًا أيضًا!
فكّرت سريعًا لأنّني لمحت باب الخروج من بعيد، ويبدو بأنّ رحلتي فعلًا قد شارفت على النِّهاية، توقّفت للحظةٍ وقد كانت على وشك إسقاط أرنبها، وضعته أرضًا بعد أنّ ازداد حجمه فجأةً لضعف ما هو عليه، ولم يتوقّف عند هذا الحدّ بل تضاعف أكثر وأكثر، ليصبح بحجم النّمل هنا تقريبًا!
نظرت له ولحجمه بصدمةٍ كبيرة، وقد خاف بعض النّمل منه لذلك دفعته نحو طريق الخروج بأسرع ما يمكنها.
عادت للتّفكير بأمر اللّغز، تظنّ بأنّه يقصد الأخطاء الّتي يرتكبها الكُتّاب أثناء تعاملهم مع عناصر اليوم، وقد يؤثّر هذا سلبًا علينا؛ إذ نحن المؤونة هنا! قرأت من قبل أنّ جعل الحوار طويلًا يصيب القارئ بالملل وقد حصل هذا لي سابقًا، كذلك حشر المعلومات غير المفيدة سيكون مضيعةً لوقت الكاتب وتشويق القارئ، الكلمات المبتذلة والمملّة تلعب دورًا كذلك هنا.
السّرد يجب عليه أنّ يوضّح ويمثّل الحوار بشكلٍ جيّدٍ ومفهوم، فوجب الإشارة إلى الحوار عندما يكون على وشك العرض، كالقول: «قال المرشد وهو يمشي سريعًا: «…».» وهذا أفضل مثالٍ واجهها اليوم.
استنتجت من كلام المرشد أنّ اللّغات يجب شرحها دومًا، لتجنّب تشويش القارئ أثناء قراءته، ولتجنّب تعرّضه للجهل من كلمات الكاتب، لذلك يستحسن الشّرح والتَّوضيح، وهذا ما يجب فعله لتجنّب الوقوع في هذا الخطأ الفادح.
وقفت أمام باب الخروج، وقد صافحتها النّملة بسعادةٍ وأعربت عن استمتاعها بالرّحلة معها رغم أنّهما لم يتكلّما كثيرًا، تغيّر لون الباب وشكله، ممّا يعني أنّها على وشك دخول رحلةٍ جديدةٍ بموضوعٍ شيّقٍ آخر، أمسكت يد أرنبها تطمئنه أنّ كلّ شيءٍ سيكون على ما يرام، لوّحت للنّملة تودّعها وقد انتابها الشّعور بالحزن مثل العادة لفراقها، ستشتاق لها للغاية وتتذكّرها دومًا.
وأنا كذلك سأشتاق لكِ آليس، أنتِ وأرنبك اللَّطيف وحتى مغامراتكم المشوّقة! كانت معكم العضو تاليا في فصلٍ جديد، أتمنى أنّكم استمتعتم ودمتم بود. 🖤
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top