الأشجار البرتقالية


كان يسير بسرعة على غير عادته، يلتف ثعبانُه العزيز على رقبته، خدّاه احمرّا من الرياح التي تلفحه، والعرق يتصبب منه. توقف عند نقطة معينة كان فيها شلالٌ منهمر والأشجار محيطة به. عقد حاجبيه وجلس القرفصاء محاولًا التقاط أنفاسه  ثم ناظر صديقه الذي نزل من رقبته وسأله: «أين هي الأوراق؟»

كان يفكر وعيناه الخضراء تجوب المكان مستغربةً، نهض ولحق به الثعبان قائلًا: «الخريطة تحدثت عن تواجد الأوراق هنا، لكنها ليست كذلك!»

همهم ثم استدار: «نسيت! يجب أن أحلّ اللغز أوّلًا.» 

تساءل بعدها: «برأيك أين سيكون اللغز هذه المرة يا صديقي العزيز؟»

زحف الثعبان كما لو أنه مسيّر حتى وصل إلى شجرة امتلئت بالثمار الناضجة وبجانبها جحرٌ صغيرٌ قديم بدا أنه لثعلب، حاول هُمام أن يشاهد ما بداخله ولو نظرةً بسيطة وبمجرد أن فعل خرج الثعلب ومعه ثلاث أوراق يحملها في فمه.

وبدأت الملاحقة، هُمام يلحق الثعلب يوازي النهر حتى انزلق بالطين وقابل الثعبان، هسهس في وجه الثعلب فانتهز هُمام الفرصة وأمسك الأوراق بلهفة كما لو أنها أول مرة يرى ورقًا بحياته، تفحصها بسرعة وقال ينظر بفخر للثعبان بعد أن طرد الثعلب: «حصلنا على اللغز! كم نحن رائعون»

عاد هُمام إلى وضعيته السابقة يقرؤه بصوتٍ عالٍ: «مثيليّ مثيل منحدرٍ صغير مليء بالصعاب، إن أحسن الكاتب معاملتي بتّ كانسياب مياهٍ جارية»، انتقلت يده للورقة الثانية: «شجرة برتقالية تبعد أقدامًا لا يخلو التشويق منها، الأمر ليس حرفيًا لكن إن لعبت بالخيال ستجدها» أخذ الورقة الأخيرة لعلّها تكون منجاته.

أوراق الكتاب... كان يفكر منذ مدّةٍ فيها وبطريقة الغابة بألغازها حتى أخذته الأفكار. عاد من شروده على الثعبان وانعكاس مغيب الشمس على عينيه فقال: «كاد النهار أن ينتهي، علينا حلّ اللغز» 

قلب الورقة الأخيرة بين يديه ورددّ ما كُتب فيها بصوته الواضح: «دع الخيالات تصف الكلمات، تقبع الحقيقة على بُعْد ثلاث خطوات وسط عِماد الحياة، جافةٌ تمامًا تحميها الخُضرة وكأنها تحت الأرض لا فوق السماء»، تنهد فاقدًا أعصابه وأمله بإجابة أو أمر صريح من الغابة، فمزّق الورقة وعدّ ثلاث خطوات أوصلته لبداية النهر حيث غطى الماء قدميه، غطس وخرج بصندوقٍ صغير وصاح رافعًا يديه المعضلة: «حمدًا للرب، حصلتُ عليها!» 

خرج واطّلع على الصندوق ثم كتب كلمة السرّ التي عرفها من لغز الورقة الأولى، وما إن كتب «عنصر السرد» فُتِحَ الصندوق واللمعان يعلوه وتهلهلت أسارير هُمام والثعبان، أخرج الأوراق التي كان ينتظرها واتّجه لكهفٍ قريب حين بدأ الظلام يسُود المكان وبدأ المطر بالهطول.

اختبأ الثعبان داخل حقيبة هُمام وحمى كنزَه بين يديه من المطر لما يحمله من معلومات مهمة له. حتى إنها كانت محميّةً لدى فريق النقد! وصل الكهف وأشعل النار وبدأ يقرأ بنهم وانشغال شديدين كما لو أنه يقرأ قصة.

روايات هواها كعاشق واقع بحُبّ الكتب مع كل ورقة يقلّبها يزداد انعقاد حاجبيه، كيف لا وهذه الأوراق شرحٌ لمفسدات الفئة المفضلة له. قد كُتِبَ فيها:

«انتشرت في الآونة الأخيرة كثيرٌ من الأنماط المكررّة التي باتت تشوّه الفئة، بعضها يتمثل بالحبكة فيغدو العمل الأدبي توائمَ متشابهة بلا نكهة أو تجديد، كأن تكون حبكتها مجهولة الهويّة؛ إذْ تبدأ في وسط غابة بلا ذكر أسبابٍ واضحة وتستمر بالأبطال الذين يكونون كالقارئ ليسوا بعالمين عن مسارها.

ولا تكتفي بهذا الإبهام للحبكة، فقد مسّت الواقعية كذلك، حيث يظهر وحوش وأشرار ومعوقات من العدم، السبب؟ حسب المزعوم هو إثارة التشويق وصنع صراع داخل الحبكة بعرقلة مسارها. لم يكتفوا بهذا بل قتلوا عنصر الشخصيات أيضًا بصنعهم واتباعهم نمط تقسيم الأبطال للشرير والخيّر، والأهداف دومًا ما تكون واضحة، فذلك الشرير يسطو على العالم ويستخدم الروبوتات وما على شاكلتها ويفشل أمام الخيّر، فتبقى صورة نمطية لذات البطل وذات القصة تغيب فيها الواقعية، كذلك ينتشر إهمال شديد للجانب النفسي من مشاعر الشخصيات في وقت وقوع الأحداث ووصفهم لها، أهمية هذا الجانب توازي أهمية القصة والشخصية كاملة! 

نرجح سبّبًا لهذا وهو اختيار الكاتب راويًا غير مناسب فلا يستطيع التعبير عمّا يجول في باله بشكلٍ كامل، وهناك من ينشغل بالوصف الشكلي في أوقاتٍ خاطئة، كأن يمدح شعر البطلة وقت وقوعها من الجرف بدل وصف مشاعرها وتوترها وكذا الأمر لوصف مشهد الوقوع.

والطامّة الكبرى جعلهم لهذا مستمرًّا حتى نهاية القصة وقتلهم الواقعية بنسيانهم الأسباب.»

تنهد هُمام وأخذ يفكر حزينًا على حال فئته وعزم التقدم كي يعود لمدينته بالكتاب وينقذ الفئة، بدأ يحللّ المشهد ويصنع الحلول مفكرًا: «هذا سهل للغاية، تفادي هذه الأمور هو ما يحتاجه الكاتب ليغدو عمله رائعًا ومحبّبًا للقلب» بدأ في التمحيص وثعبانُه ملتف حول رقبته الحنطية بهدوئه المعتاد، قال: «إذا ما تطرقنا للحبكة فنحتاج أوّلًا إضافة تشويق مناسب لها، عبر ذكر مسبباتِ وتعقيدات الحبكة متتاليةً بسيطة، لا جعلها تعتمد على المفاجئة أو فعلها مرة واحدة، بل أن يمسك الكاتب بأيدٍ سردية محكمة بناء الحبكة، ويبدأ بإلقاء معلوماته كما يُلقي فتات الخبز للطيور على قارعة الطريق حتى لا يتوه»

أردف يشذب لحية خيالية: «ببساطة من المعنى، القارئ هو المستفيد من الجهتين وبطريقةٍ رائعة سيرى حبكة القصة تسير بهدوء وصراعها يتصاعد، ويمكن للكاتب اتباع هذه الطريقة على نوعي الحبكة الإنكسارية والإنسيابية، مع أنّ أولاهما هي المستخدمة بكثرة لهذه الفئة، ولكنه سينجح حتمًا إذا استخدم الأخرى ممسكًا بفتات معلوماته وينثرها بحكمة كما هي. كما أن ربط كل حدثٍ بالأخر يشكل حبلًا متينًا يتصاعد عليه الصراع والعقدة»

توقف يلتقط أنفاسه قبل أن يكمل لثعبانه، تتقابل أعينهما الخضراء كما لو أن من أمامه بشر.

كلاهما منصتٌ للأخر ويعيشان المغامرة عينها، أكمل: «ثعبان، هل تعرف ما ينقص الحبكة والفئة بشكل عام؟ إنه الإبداع والتجديد في الفكرة وأساسها، على الكاتب أن يجعل لفكرته أساسًا منذ البدء، ويربطها بأفكارٍ ثانوية تدعمها. وبالتأكيد ألّا ينسى الاهتمام بمدى واقعيتها»

أما عن الوصف فيجب أن نتطرق أوّلًا لعنصر الراوي؛ فهو الممسك بزمام بروز الوصف بالصورة الحسنة فنوع الراوي هو من يحدد لنا المعلومات التي نحتاج إظهارها، وأنسب راوٍ هو العليم بكل شيء، لأنه يحيط بكل الأحداث وجوانبها وسيعرف كل ما يدور في دواخل الشخصيات. بمجرد اختياره يأتي دور خيال الكاتب الخاص بتصوير أوصاف الشخصيات ومشاعرها، وأفضل طريقة يمكنه النجاح بها هي تخيّل نفسه في مكان الشخصية، فيصف المشاعر بطريقةٍ ممتازة. تخيل ثعبان، أنت تقع من أعلى الجرف كيف ستشعر وقتئذٍ؟ بنفس الطريقة التي ستطرح بها مشاعرك ستستلهام بقيّة الجوانب الخاصة بشخصيتك.

أما بالنسبة لمتى يضع الوصف فيكون عند الحدث الذي يشعر أنه بحاجة لذلك. كيف؟»

شرح لثعبانه من الورقة: «دعني أُعطيك مثالًا، عندما يتوجب علينا وصف غابةٍ ما يجب علينا أن نصفها أثناء سير الأبطال فيها، ولا يعني ذلك الموقف حصرًا! فيمكننا أن نصف لحظاتٍ مريبةٍ بها.

أما من جانب الشخصيات فعلينا دومًا ربطها بالأسباب هي الأخرى، فلا نخلق الشرّ أو الخير من العدم، فنجعل لكل شخصية هدفها وأسبابها ودوافعها ونقيسها على طول حبكتنا متى نُلمّح لهذه الدوافع. ولنتذكر أيضًا الاهتمام بعنصر الواقعية، فهو عميد كل هذه العناصر ويرتكز على سببيّة الأحداث»

توقف هُمام عن الحديث ثم أردف: «أرأيت يا ثعبان؟ تفادي هذه الزلات سهلٌ للغاية ومرتبطٌ كما ترتبط العناصر القصصية هي الأخرى بعضها ببعض» 

استلقى على أرضية الكهف وتنهد ينهي الورقة: «أتمنى من الكُتّاب الاهتمام أكثر بهذه الفئة، ولعلّي قد شرحت لك قليلًا عن تفادي هذه الابتذالات التي وجدتها ضمن أوراق اليوم يا هُمام.»

أعاد المعني الأوراق لمكانه ثم أطفأ النيران وعاد يحتضن ثعبانه حيث حقيبته: «وأخيرًا سأنام».

-كانت معكم العضو آرسيليا.

دمتم بودّ، فريق النقّد دومًا بالجوار 💙

Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top