ابتذال عاطفي
دخلت الفئة إلى غرفة المعالج النّفسي في صباحِ يومٍ جديد، كانت ترتدي فستانًا قصيرًا يصلُ إلى ركبتيها، ذو لونٍ ورديٍّ فاتح مائلٍ للأبيض، تحمل بيدها حقيبة صغيرة خضراء تماثلُ لون عينيها، و رفعت شعرها إلى أعلى رأسها، بدتْ جميلةً جدًا في ذلك اليوم لكنّها كانت حزينة، الكآبة تعلو وجهها، أشار لها الطّبيب أن تستلقي على الأريكة دون أيِّ مقدّمات، ففعلت ذلك، وضعت حقيبتها على يسارها وتنهّدت أثناء استلقائها على الأريكة؛ وكأنّها بتلك التنّهيدة تُسقط الهموم لكنّها لم تنجح، جلس الطّبيب على كرسيّه، قرّب الكرسيَ من الأريكة التي تنامُ عليها الفئة، أصبح في مكانه المناسب ومسافة بينه وبين الفئة، وضع قدمًا على قدم وقال:
-إذًا كيف حالكِ اليوم؟
-لستُ بخيرٍ فعلًا.
أجابتهُ، وهي توجّه نظرها إليه وكان شعرها لا يساعدها على تحريك رأسها بسهولة؛ أشارت للطّبيب لكي يسمح لها بأن تفتح شعرها قبل أن يتكلّم، صمت الطّبيب، وأخذ ينظر لها وهي تسدل شعرها على كتفيها وتعاود الاستلقاء مرة أخرى.
أكملَ الطّبيبُ كلامهُ قائلًا:
-إذًا ما الذي جرى؟ ما الذي تعانين منه اليوم؟
تنهّدت الفئة مرّة أخرى، ووضعت يديها على صدرها ونظرت للسّقف وقالت:
-حسنًا، أيّها الطّبيب إنّني أعاني من الابتذال...
كان الطبيبُ ينظر للفئة وهي تتكلّم، لم تحكي الكثير فقط هذه الجملة وصمتت، عدّل الطّبيب من جلسته فكان ظهره متكئًا على الكرسي الذي يجلسُ عليه، فبدلّها وتقدّم إلى الأمام معيدًا نظّارته للخلف وأخذ القلم بين إصبعيه يحركه بين الإبهام والسّبابة بشكلٍ سريع، كان ينتظر الفئة أن تكمل كلامها بكل هدوء، قالت الفئة بعد حوالي نصف دقيقة، ولا زالت تنظر للسّقف:
-تعبتُ أيّها الطّبيب، من كلِّ تلك القصص، جميعها تشبه بعضها البعض، منذ سنين وأنا أعاني من هذه المشكلة نفس القصص في كلِّ مّرة، أكاد أجنُّ منها.
كان الطّبيب ما يزال على نفس وضعيته، يستمع بكلِّ هدوءٍ للفئة لكنّه قرّر أن يتوقّف عن تحريك القلم؛ قبل أن تنزعج الفئة من صوت ارتطامه بالورق وتطلب منه التّوقّف، وربّما لن تطلب… ربما ستغضب من ذلك الصّوت وتخرج غاضبة من عنده؛ عليه أن يعاملها بلطفٍ فهي تبدو مستاءةً جدًا.
حسنًا، جميلةُ هي قصص الحبّ كلّ شخص يودُّ أن يعيش الحبّ...لكن لماذا؟ لماذا يا طبيب يجعلون قصص الحبّ تقتصر على الشّباب والبنات؟! ألا يوجد حبٌّ بين الأم وأبناءها، بين الصديقات، بين الأصدقاء؟! ألا يوجد يا طبيب؟
كانت تتكلّم بصوت حزينٍ وغاضب في الوقتِ ذاتِه، قالت جملتها الأخيرة وكانت قد رفعت نصف جسدِها من الأريكة وتنظر للطّبيب بانفعال، نظر النّاقد في عينيِها وكانت الجديّة تعلو وجهه، عاد إلى وضعيّة جلوسه الأولى وقال بهدوء:
نعم، يوجد ذلك، يوجد حبّ بين كلّ هؤلاءِ.
عادت الفئة إلى الاستلقاء بكاملِ جسدها على الأريكة، وأردفت قائلة:
منذ سنين وأنا أعاني من الابتذال في القصص، فإمّا يكون البطل شخصٌ غني وجميل يتمتّع بالشّجاعة والرّومانسيّة يقع في حبّ ِفتاة فقيرة يراها في الشّارع تبيع الورد أو تسقط من يدها السّلة المليئة بالكعك، التي كانت تحملها لتوصلها إلى بيت أحدهم وتحصل بذلك على بعض المال، فيأتي؛ ليساعدها على الوقوف وينظر في عينيها ويقع في حبّها... يا إلهي ما هذا الابتذال؟! أنني أشعر بالقرف فعلًا عندما أسمع بمثلِ هذه الأمور... أين المغامرة؟ أين التّشويق؟ يا طبيب!
كانت نبرةُ صوتها في كلامِها الأخيرة حزينةً جدًا وأعلنت عن بُكاءٍ قَريبٍ للغاية، نظر الطّبيب لها هذه المّرة نظرة عطف كان بودّه أن يمحي كل تلك الأفكار المبتذلة من ذاكرتها لكن ماذا يفعل كيف يستطيع ذلك، أردفَ قائلًا:
حسنًا، أكملي إنّني استمع إليكِ، ماذا بعد ما هي الأفكار التي تُزعجُكِ؟
يا طبيب، سئمت من أن تكون قصة الحبّ بين الرّجل والمرأة دون مغزى، أتمنّى أن أحصل على شيءٍ ينفعني من تلك القصص، فائدة ما... عبرة ولو صغيرة.
كانت تتوسّل، وكأنّ الطّبيب لديه ما تُريد فقرّر أن يتكلّم هو هذه المرّة؛ كي يساعدها على الاسترخاء قبل مواصلةِ حديثِها، قائلًا: حسنًا، يا عزيزتي العاطفيّة لأخبركِ أن عندما تسمعين قصة مبتذلة يمكنكِ أنتِ أن تجعليها مبتكرة..
-كيف ذلك طبيب؟
-بكلِّ بساطة تخّيلي، ارسمي القصّة في عقلكِ أنتِ؛ لكي تخفّفي من انزعاجكِ من الابتذال.
هلّا شرحت لي أكثر طبيب؟
حسنًا، أنا أشرحُ بالفعل إليكِ، ماذا إن كان الأمير الذي لقي حبيبته في الشّارع والتقت عينيه بعينيها لماذا لا نجعله...؛ وبسبب حقدها قاطعتهُ قائلة: لكنّي لم أقل أنّه أمير!
-لنجعله أميرًا، أليس مبتذلًا أكثر؟
-نعم، صحيح.
قالت وهي تضعُ يديها على صدرها وتنظر للطبيب، كانت قد وضعت شعرها تحت رأسها وها يسقط شيئًا فشيئًا من تحت رأسها على الأريكة! أكمل الطبيب كلامه قائلًا وهو ينظرُ للفئة: بعد أن التقى الأمير حبيبته الفقيرة لمَ لا نجعل بعض الأعداء يخطفونها؟ بسبب؛ مشاكل بينهم وبين الأمير، وكانوا قد عرفوا أنه يحبّ هذه الفتاة ويحاولون التّقرّب منها؛ فيجنُّ جنون الأمير ويذهب لقتالِ هؤلاءِ، لكنّ ذهابه ليس لأجل إنقاذ حبيبته فقط، بل لإنقاذ الفتاة الفقيرة نفسها؛ فلديها عائلة تُعيلها، أمّها تعتني بأخوها، ووالدها شيخٌ كبير لا يقوى على الحركة، وهنا تتحرّك أخلاق الأمير ؛ لإنقاذ الفتاة فيكون همّه حمايتها قبل أن يكسب حبّها، أليس هذا جميلًا أكثر؟
-نعم يا طبيب أنه رائعٌ فعلًا، لقد أحببت الفكرة كما أنّها تشعرني بالراحة؛ فالأخلاق غلبت الحبّ هنا فلم يكن هم الأمير الحبّ وبالتالي استطاع أن يكسب ثقة الفتاة وحبّها... لكن هل لي أن أسالك سؤالًا؟
-نعم، تفضّلي بكلِّ تأكيد.
-حسنًا يا طبيب، ولكن لماذا فعلت هذا؟ أو كيف استطعت فعل ذلك؟ كيف استطعت أن تجعل الفكرة جميلة هكذا بكل سهولة؟
ابتسم الطبيب، وغيّر من وضعية جلوسه مرّة أخرى، وضع ساقًا على ساق من جديد بعد أن أنزلهما عندما بدأ بطرح الفكرة على الفئة، نظر إلى دفترهِ وهو يبتسم رفع رأسه موجهًا نظره للفئة التي كانت لا تزال تنظر إليه منتظرة الإجابة وقال:
-حسنًا، حسنًا، حسنًا، تُريدين أن تعرفي كيف فَعلتُ ذلك، صحيح؟ إليكِ سرّ خطير، لا تخبري به أحدًا... يوجد سماتٌ منتشرة بين الكُتّاب لبطلات الرّوايات الرّومانسيّة،كأن يكُنَّ جميلات أو على الأقل جذّابات أو على خلق، عازبات وأمّا البطل يكون عازب، لطيف، ذكي، مرتاح ماديًّا، جميل... وهنا أذكر أنّ هذه الصّورة النّمطيّة تحتاج إلى تغيير فليس على كلِّ شخصّيات هذه الفئة الرّئيسيّة أن تحمل من الجمال والغنى الكثير، يمكن للبطل أن يكون فقيرًا، لديه عيبٌ خلقي، وغيرها... كما لا يجب أن تكون البطلة دائمًا تلك الفتاة الفقيرة، شديدة الجمال إذ يمكن أن لا تكون جميلة، ولكن هذا ليس كلَّ شيء هنا فلجوانب الشّخصيّات أثرٌ كبير في نجاح أيِّ شخصيَّةٍ، كالجانبين: النّفسي والاجتماعي، فلو كان لدينا شخصيَّة رافضة للحبِّ بشكل مطلق مثلًا، فهنا سنعلم أنّ لهذا علاقة بماضيها، ربما عادات مجتمعيّة معيّنة كوّنت لها هذا الرّفض، اعتداءٌ تعرّضت له سابقًا وغيرها... هذا ينعكس على نفسيّة الشّخصيّة بشكلٍ مباشر، وكذلك على جانبها الخُلقي مع مرور الوقت إذ أنّه ما جعلها على ما عليه من خُلق في زمن الرّواية؛ ولهذا علينا ربط ردود أفعال الشّخصيّة بجوانبها المختلفة وتحليلها جيِّدًا.
غير أنّ الحبكة في هذا النّوع من الأدب ستتأثّر كثيرًا بطبيعة الشّخصيّة، حالتها وجوانبها المختلفة، وكلُّ ما يتعلّق بها.
-جميلٌ فعلًا، إذًا أنت لم تغيّر شيء فالبطلة فقيرة والبطل غني لكنّك تلاعب بالجانب الخُلقي هنا.
-نعم، هذا ما حصل بالضّبط.
كانت الفئة تتكلّم بنبرة اكتشاف ولا زال الحزن واضحًا بها، ثمّ قالت مرّة أخرى:
-إذًا ماذا عن فكرةِ الرجل الذي يحبُ زوجته أو حبيبته ولكنّه يعاملها بقسوة ويعذّبها ويقتلها بسبب غيرته عليها ولكنّها لا تزال تحبّه؟ كيف يمكن لشخص أن يبتكرها؟
- حسنًا يمكنه مثلًا أن يجعل من الرّجل يعاني من ظروف صعبة؛ جعلته متوحشًا هكذا لكنّه في داخله تربّى على معاملة الناس بلطف في مثل هذه الحالة يكون الرجل محتارًا وعالِم بأنّه يؤذي زوجته أو حبيبته ويحاول أن يتوقّف عن ذلك لكنّه لا يعرف من أين يبدأ، فهنا سيكون على المرأة مساعدته؛ لأنّها تشفق عليه ليس إلّا، وليس من الضّروري أن تنتهي القصّة بحبّهما وزواجهما؛ لأنّها تعلم كيف يحب ربّما لا تزال تكره العيش معه بسبب ذلك؛ ما فعل لها وهنا يقرّر الرّجل الابتعاد، عنها أو أن يجعل علاقته معها علاقة صداقة، ما رأيك بذلك أليس جميلًا؟
قال الطّبيب وهو يغمز للفئة، ضحكت الفئة وأجابت بفرحٍ وكان الحزن قد بدأ يتلاشى شيئًا فشيئًا من صوتها ووجهها: نعم صحيح، أنه رائعٌ فعلًا.
-وما تقولين إن أخبرتك أنه قام بخطفها؟
-يا طبيب، أنت تعود للابتذال!
قالت بتذمّر وكانت قد وضعت يديها على رأسها ثمّ أخذت تسحبهما لأعلى حتّى شعرها وهي تتظاهر بالبكاء.
-حسنًا، دعيني أكمل كلامي! خطفها لأنّه يحبّها وهناك يحاول أن يقنعها بأنّه لطيف ولكنّ الظّروف التي مرّ بها هي من فعلت به هذا فتحاول هي مساعدته، وكما قلنا سابقًا...
-جميل، هنا لن يتزوّجها أو يحبّها حبًّا عاديًا، أحبّها دون أن تعرف فلم يذهب للاعتراف لها بل ذهب لخطفها أي أنّه أجبرها على حبّه وهناك اكتشف الخطأ الذي يرتكبه بإجبار شخص على حبّه، أعجبتني الفكرة، لكن لدي مشكلة أخرى أعاني منها...
-ما هي؟ أخبريني أنا هنا لأسمع كلّ مشاكلك.
-حسنًا يا طبيب، عندما أسمع قصص الحبّ لا أشعر بالحبّ بين الحبيبن أبدًا أشعر أنّ كلَّ ما يعيشونه كذبٌ في كذب، كيف أستطيع تخطّي هذه المشكلة؟ لم أعد أتحمّل البرود في قصص الحبّ.
- هذا الوصف يا عزيزتي، لن تستطيعي إيصال مشاعر شخصّياتكِ إلى القارئ ما لم تكوني قادرةً على وصفها بطريقة مميّزة قادرة على نقلها جميعها إلى القارئ وجعله يتأثّر بحزنهم وفرحهم، لا يجب الإطالة في الوصف ولا يجب الإسهاب فيه أيضًا، يتوجّب هنا نقل مشاعر الشّخصيّات ووصفها وصفًا كافيًا للتّعبير عنها وتفاعل القارئ معها (فمثلًا، إن تحدّثنا عن فتاة تبكي ودموعها تنزل بغزارةٍ كحبات الّلؤلؤ إذ تنزل بهدوء على وجنتيها المحمرتان من شدَّةِ بكائها، وشعرها منثورٌ حولها وصدى سقوط دموعها على الأرض الصلبة مع صوت شهقاتها هو الوحيد المسموع هنا....) هذه كارثة وليست وصفًا، وهذا هو المقصود من الإطالة في الكلام، كان باستطاعته القول: بأنّ الفتاة وحيدة تبكي بانكسارٍ، بدلًا من كلِّ ذلك الكلام، وهذا يوصلُ مشاعر الحزن بكل وضوح ويوصلُ أنّ الفتاة حزينة ونفسيتّها متعبة، وهذا هو المطلوب؛ لذا يجب الانتباه هنا.
-كلامك مريحٌ للأعصاب طبيب.
-شكرًا لكِ، هذا عملي أساسًا، هل هناك ما يُزعِجُكِ أيضًا؟
-نعم شيء آخر وهو الأخير، فقد كان كلامك جيّدًا كي أستطيع مواجهة الابتذال... أرى أنّ الشّخصيّة هي من تعيش تجربة الحبّ إذًا لديها مشاعرها الخاصّة في تلك التّجربة، كيف لنا أن نعرف ذلك؟ أقصد أّلا يكون معرفة ذلك مساعدة على فهم المشاعر بصورةٍ أوضح؟ هل فهمت قصدي؟
-نعم، لقد فهمت ما تعنين... أنظري يا عزيزتي، الحوار مهمٌّ في هذه الفئة وأساسيٌّ أيضًا، وخاصَّةً الحوار الداخلي الذي يعكسُ لنا الجانب النّفسي للشّخصيّة وانعكاسها وتأثيره على تصرّفاتها، ويظهرُ لنا الحزن، الفرح، الانكسار كما ويمكن أن يبيّن لنا جانبها الاجتماعي كذلك فنعرفُ عن ماضيها وحياتها وما جعل من أفكارها تصبح على ما هي عليه، لهذا فإنّ للحوار علاقة وثيقة بفكِّ شيفرات الشّخصيّة وتوضيح جزء من جوانبها المختلفة لكن كذلك فإنّ الحوار الخارجي لا يقلُّ أهميةً عن الدّاخلي، فهو الذي يعكس علاقة الشّخصيّات ببعضها البعض ففي روايات هذه الفئة يكون من المهمِّ أن يعرف القارئ ماهيةَ العلاقةِ التي تربط بين الشّخصيّات وذلك يتمُّ إظهاره من خلال الحوار فيما بينها؛ إذ أنّه يكون مثل مرآةٍ تعكس هذه العلاقات وتجعلها واضحةً أمام القارئ.
كان الطّبيبُ يشرح والفئة منتبهة مع كلّ كلمة يقولها وتهزُّ رأسها بين الحين والآخر لتخبره من خلال هذه الحركة: أنّها تفهم دون أن يضّطر لسؤالها، بعد أن انهى كلامه، قالت بتعجب: رائع فعلًا! لقد عرفت كيف استخدم مخّيلتي في محاولة صنع فكرة مبتكرة من الأفكار المبتذلة تلك كما وأن أزرع التّشويق في أثناء سرد أحداث القصّة، شكرًا لكَ يا طبيب.
أومأ لها الطبيب برأسهِ علامة الإيجاب، ردًّا على شُكرِها وظلَّ يحدّق في وجهها مبتسمًا بينما أدارت الفئة وجهها ونظرت للسّقفِ، لقد كانت تُعاني من كلِّ ذلك لسنين وفي جلسة واحدة مع هذا الطّبيب استطاعت أن تعرف كيف تُعالج كلّ هذه المشاكل، يا له من طبيبٍ عجيب!
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top