١_٢
بسم الله الرحمن الرحيم
الفصل الأول|| إشراقة
تشابكت خيوط الأبيض والأسود إثر غروب الشمس، لتزين برماديتها واجهة السماء السُّحُبِيَّة، خبت تباعا ترنيمات العصافير الجماعية، وتسلل السكون رويدا رويدا على ساحة المدينة، علا صوت الأذان في الأفق، معلنا دخول وقت المغرب يشق الهدوء بروية، وتسابقت الخطى نحو مأوى القلوب، وملاذ المتعبين، ومقام صلاة المسلمين (المسجد)
تجرجرت الدقائق تباعا حتى أقيمت الصلاة، ليصلي الناس فرضهم، ثم انصرفوا كلا في سبيل حاله، من بينهم ذاك الذي أخذ يجر خطواته المتعبة بعد يوم جامعي مجهد، ثوانٍ حتى اصطف بجانبه شقيقه الأكبر يسير معه على نسق واحد، قليلا من الصمت مرَّ حتى قال ذاك الشقيق:
_يبدو أن والدي لن يغير رأيه يا خليل
إنَّ الشكوك حول المقصود متنامية في صدر خليل، غير أنه فضل أن يسأل قبل أن يرد:
_حول ماذا؟
ظلت خطواتهما تتتالى نحو المنزل في حين أجاب الأخ الأكبر محمد:
_حول جمال بالطبع، إنه ليس مقتنع بمرافقتك له
_إنه يبالغ بالأمر كالعادة
بتلك الجملة القصيرة علق خليل ثم فتح للصمت المجال، لم يطُل هذا الصمت بينهما كثيرا؛ إذ تحدث محمد قائلا:
_في زمن تاهَ فيه من لم يُتوقع منهم ذلك ألا تعتقد أنه محق في رأيه؟
إن خليل يعي ذلك جيدا، لا أمان على قلبك الذي قدر له أن ينبض في زمن الفتن، ولا قدرة لك عليه لتجبره بأن يسير في طريق الاستقامة فحسب، بيد أن وجهة نظر أخرى كانت لديه تنافي وجهة نظر والده
رد على شقيقه بنبرة هادئة تدل على ثقته بما يقول:
_ربما! لكن أليس من الإجحاف أن نُعمم الأمر على الجميع بسبب البعض؟ إذا كنت تريد أن ترى الصالحين يكثروا فلتساعد في إيجادهم، أو لنقل في بذل سبب لوجودهم، أما أن تدير ظهرك للناس وتترك الساحة فارغة لغيرك ليأخذهم، فلا عجب أن تراهم يتناقصون، ثم لا تلقِ باللوم على أحد سواك، ما دام أن السبب كان بين يديك فأهملته
لم يعلق ذاك السامع له بشيء، هو في النهاية يميل إلى رأي خليل أكثر من رأي والده، غير أنه بطبيعته لا يحب معارضة والده، يسير كما يرغب ذاك الوالد دوما، يُفضل أن يكون مطيعا له وإن خالف الأمر هواه، استغل خليل فرصة صمته وأردف قائلا:
_بعد كل شيء فجمال ليس بذلك السوء، وأنا لا أقضي معظم وقتي معه، والخير في الناس باقٍ مهما قلَّ وضعُف، بذرة الخير باقية وتحتاج منا إلى سقايتها فحسب، الهداية بيد الله، ليست بيد أحد سواه
_أتفق معك بشأن هذا
جملة قيلت بنبرة هادئة أنهى محمد بها الحوار الذي دار بينهما، ليكملا سيرهما نحو المنزل، سامحَين للسكون الذي يقطن الأرجاء من حولهما بأخذ حريته
**********
(جلسة شاي صغيرة) تلك التي تقيمها عائلة خليل في المساء، كجَمْعَة اعتادوا عليها بين الحين والآخر، تجاذُب أطراف الحديث من شيء لآخر عن حياتهم الخاصة هو ما يميز هكذا جلسات عائلية لهم، أبحروا في خضمها حتى لاحت الفرصة لوالد خليل ليقول ما كان يعشعش في نفسه منذ البداية، تحدث بنبرة هادئة مفتتحا نقاشه الهام مع خليل:
_أما زلت مصرا على مرافقة أولئك الشباب؟
كان المعنيّ ينتظر هذا السؤال منذ أن بدأت الجلسة، بهدوء وأدب رد عليه:
_جمال وحده هو من أهتم له يا أبي
حدق به الوالد استغرابا ثم سأل:
_ولمَ؟
سارع إلى نفض ما في جعبته يرويه قائلا:
_سأوضح قصدي أكثر، أنت تعرف جمال جيدا يا أبي، قد يكون متساهلا، قد يكون مقصرا، لكنه ليس بذلك السوء في النهاية، يسمع النصيحة، ويفعل الخير، كما أنه ابن جيراننا وهو قريب منا، له حقوق علينا وليس حقا واحدا، كما أني لو تركت مجالسته فهو لن يبقى حبيس المنزل، بل سيذهب ليجلس مع آخرين، وأنا أخاف أن يكون البديل سيئا، ويجره معه إلى السوء، صحيح أنني لا أجلس معه وحده في الغالب، لكني لا أجلس معهم إذا لم يكن موجودا
لحظات صمت قليلة تبعت جملته تلك، ليعاود الحديث مرة أخرى مغتنما صمت الجميع:
_بعبارة أخرى أنا أهتم لجمال رأسا، ورغم أنَّ هذا لا يروقني كوني أحصر اهتمامي بشخص واحد، ولكن من ناحية أخرى أنا أريد أن أكون مطيعا لك، أنت تمنعنا من مجالسة المقصرين بأمر دينهم بشكل قطعي، وأنا أريد أن أثبت لك أن هذا ليس هو الصواب دائما، وحتى لا أشتت نفسي أو أضغط عليها اخترت أن أبدأ مع شخص واحد، أنا متفائل أن النتيجة ستكون إيجابية
زين ثغره بابتسامة واسعة ما جعل والده يهز رأسه مُهَمْهِمًا، مُتْبِعا ذلك بالقول:
_آمل ذلك أيضا، لن يسرني إلا إن رأيتك تنجح فيما تفعل من خير، ولكن يا ولدي أنا لا أمنعكم منهم كرها لهم أو ما شابه؛ لكني أخاف عليكم أن تنجروا لما هم عليه، وربما يزيد الأمر سوءا، فكما تعلم يا ولدي: إن القرين بالمقارن يقتدي
تفهَّم خليل موقف والده فعلق مطمئنا له:
_لا تقلق يا أبي سأحرص بإذن الله ألَّا أقتدي بهم، وبعد كل شيء الهداية بيد الله وحده
_وفقك الله يا بني
وعلى تلك الدعوة أمَّن خليل، وانتهى الحديث عن هذا الأمر بسلام كما تمنى!
**********
طلَّت الشمس بأنوارها على ظهر البسيطة، معلنة بداية يوم جديد، تفرق الناس إلى فئات راكضين خلف دنياهم، من بين تلك الفئات تلك التي تذهب إلى دوامها الدراسي، كان من بينهم خليل الذي ذهب إلى جامعته، يدرس في كلية الشريعة مع صديقه الحميم يوسف، في عامهما الثاني فيها
البقاء في المحاضرات لعدة ساعات يبعث أحيانا على الملل، ما يجعل الطلاب يستغلون أي فرصة للترويح عن أنفسهم، لاحت فرصة من هذه الفرص في القاعة التي يدرس فيها الاثنان، تأخر الدكتور المحاضر ما جعلهم يجلسون لاستذكار الماضي
من بين جميع الذكريات اختار يوسف موقفا كان بالنسبة له من أطرف المواقف التي مرت عليهما، استهل الحديث عن ذلك بقوله:
_خليل هل لا زلت تذكر حينما ذهبنا في رحلة إلى البحر قبل سنوات؟
طالعه خليل بنظرات مترقبة لما بعد السؤال وقال:
_نعم!
تفلتت ضحكة صغيرة من يوسف بدا أنه كان يكبتها لما بعد السؤال، عقب بعدها بنبرة ضاحكة:
_لا زلت أذكر عندما قلت أنك ستصاد لنا شيئا نأكل منه حد الشبع، وبدلا من ذلك كادت الأسماك أن تأكلك أنت حتى تشبع هي
علا صوت ضحكاته في المكان بعد الذي قال، ليعلق خليل ببعض الانزعاج:
_يمكنك أن تنسى أي شيء إلا المواقف المحرجة التي تحدث للآخرين أمامك!
ظَلَّ المعنيُّ يضحك بُرْهَة ثم علق مبتسما:
_بالطبع لن أنسى، ومن ذاك الذي سينسى أساسا؟
صمت يسيرا وكأنه يستذكر شيئا، نطق سائلا وهو يوجه أنظاره إلى خليل:
_بالمناسبة ما الذي حدث ليجعلك تسقط من القارب آنذاك؟
حاول خليل التذكر فقد كاد ينسى هو الآخر، أجاب بعد بعض الوقت:
_لا أتذكر جيدا ربما فاجأني حيوانا ما بالخروج من بين تلك الأشياء التي كنا نحملها على القارب، أظنه كان فأرا، نعم لقد كان فأرا!
كرر جملته الأخيرة بعد أن تذكر وكأنه قد انتصر لشجاعته المهدورة بضحك يوسف، علق هذا الأخير غير قادر على إمساك ضحكه:
_وأفزعك فأر؟ صدقني أنك كنت جبانا!
علق خليل مستغربا وسط ضحكات يوسف:
_الغريب أنك قد نسيت هذا بينما هو جزء من القصة، يبدو أنك تنسى ما تريد نسيانه، وتذكر ما ترغب في بقائه بذاكرتك
وقبل أن يرد صديقه بشيء تظاهر خليل بالصدمة وهو يشير إلى كتف يوسف ويصرخ:
_عقرب على كتفك!
انتفض يوسف من مكانه ينفض كتفه بعنف بعد أن شعر أن شيئا ما يتحرك عليه، لم يكن إلا أحد زملائهم الذي تجاوب مع هذا الموقف ليساعد خليلا في إفزاعه، اكتشف يوسف الأمر بعد أن وقع في الفخ، نطق مستسلما بعد أن أدرك الحقيقة:
_نلت مني إذن!
ظل خليل يضحك من ردة فعله السريعة والخائفة في ذات الآن، عقب حينها بالقول:
_ليست العبرة في كونه فأرا أم لا، أو كنت تخاف منه أو لا، العبرة الحقيقية بظهوره المفاجئ الذي يباغتك، آمل أن تكون قد فهمت وضعي حينها، لذا احرص على ألَّا تسخر من أحد مجددا
قالها فيما هو أشبه بالتحدي وهو يزين ثغره بابتسامة ماكرة، رافعا أحد حاجبيه بزهو، لم يُمنح يوسف فرصة الرد حيث دخل الدكتور حينها، مفسدا هذا الجو المرح، حاملا غما جديدا بالنسبة لهم، بدأ هذا الأخير محاضرته فورا قبل أن يفوت مزيدا من الوقت، وكأنهم هم الذين أضاعوا الدقائق الماضية عليه لا هو من فعل
**********
سارت الأجساد المصفدة بالتعب نحو مخرج الجامعة لتجمع الأصدقاء من جديد، إنه موعد اللقاء الدائم الذي يجمع بين يوسف وخليل من جهة، وجمال من جهة أخرى، هذا الأخير يدرس في قسم الهندسة المعمارية، خرجوا جميعا وبعض الأحاديث العادية تدور بينهم
لم تكن تجمع بين يوسف وجمال ذات العلاقة التي تجمع بينه وبين خليل، لكن يوسف يحترم رغبة خليل حول اختيار أصدقاء له، هو ليس محظوظا كخليل ليكون منزله قريبا من الجامعة؛ كونه يسكن في مكان آخر، إن أتى إلى هذا الحي فهو سيأتي لزيارة خليل ليس إلا، على عكس جمال الذي لا يفصل بين منزله ومنزل خليل سوى طريق السيارات
**********
برتابة شديدة مرت الأيام، لم يحدث الكثير خلال تلك المدة التي قاربت من العام نصفه، سوى زيارات قليلة تخلَّلتها جلسات صغيرة، كانت تلك التي جمعت بين خليل وجمال، كانت أقرب إلى كونها جلسات شبابية عادية من كونها جلسات تناصحية بحتة، أن تنسل النصائح ضمن المواقف بدلا من السرد الطويل -كان ذا هو أسلوب خليل
ولَّت تلك الفترة لتفتح المجال أمام يوم من نوع آخر، يوم ذا موقف كسر ذلك النظام الذي اعتادوا عليه، بعد زيارة قام بها خليل لجمال في منزله، وحينما همَّ بالمغادرة وعجز جمال عن إقناعه بالبقاء تفلتت من هذا الأخير جملة تمنى لو أنه استطاع أن يسيطر على نفسه ولم ينطقها، ليس لسوئها؛ بل لأنها أفشت سرا دفنه عميقا في داخله، ولم يشأ له يوما الظهور
_لا بأس اذهب، ففي النهاية أنت تجالس رجلا فاسقا يزيدك ذنوبا ليس إلا، ربما إن تأخرت أكثر ستكون من المخلدين في نار جهنم
ملامح صدمة صارخة كست وجه خليل آنذاك، مرت ثوان وهو فاتح فاه لا ينطق بشيء، ليستوعب الموقف بعدئذ، ويدرك أن جمال قد نطق بما أكنَّه في قلبه بعد طول كتمان، لم يسعفه تفكيره الحائر حينها إلا أن يضع سؤالا واحدا جسَّد حيرته:
_ما معنى هذا؟!
حمد الله جمالٌ في أعماقه أن كان المجلس خاليا من سواهما، بيد أنه الآن أضحى في موقف عليه أن يكون فيه صريحا وصادقا، إن أراد ألَّا يساء فهمه من قبل خليل، نطق باستسلام:
_سأخبرك عن موقف حدث لي في الماضي، رغم أنه لم يسبق لي أن أخبرت به أحدا قبلك ولم أرغب بذلك حتى، لكني سأخبرك الآن، ربما يبدو تافها في نظرك، أو لن تراه كما أراه من زوايتي، لكن في النهاية هو قد ترك أثره السيء عليّ، وجعلني على ذا الحال الذي تراه مني الآن
أخذه الصمت قليلا وظل خليل هو الآخر على صمته؛ ينتظر ما سيفصح عنه جمال، لينطق أخيرا:
_أنت تعرف كوني نشأت في عائلة عادية جدا، لسنا ملتزمين، وأنا أسمع الأغاني كغيري من الناس، أعيش حياتي كغيري من الشباب، وحين انتقلنا للعيش إلى هنا فوجئت بمعاملة المتدينين، كما تعلم هذا المكان يَعِجُّ بهم، لكنهم متشددون للغاية، إلى درجة تنفر الناس منهم ومن الدين حتى
أجبرت كلماته خليلا على الجلوس، لكنه حتى الآن لم يصل إلى الموقف الذي تحدث عنه آنفا، ورغم ذا لم يقاطعه خليل ولم يستعجله، استأنف حديثه من موقف ما لا زال ينخر بسوئه في عمق ذاكرته:
_ذات يوم أذكر أني كنت قريبا من المسجد، بعد أن سكنَّا هنا قبل أربع سنوات تقريبا، كنت جالسا على أحد الأرصفة أستمع إلى أغنية ما، فوجئت بأحدهم يصرخ عليّ ويقول (أطفئها!) تفاجأت حينها ظننت من صراخه أن كارثة ما حدثت جواري وأنا لم أنتبه لها، أطفأتها ثم سألته بحيرة (ما الأمر؟) رد غاضبا وهو لا يزال يصرخ (أي وقاحة هذه؟ لا احترمت يوم الجمعة، ولا قُرب المسجد، ولا الصلاة التي صليتها توًّا، ألا تخاف الله؟ أم أنك تريد أن يهلكنا الله بعذاب بسببك؟)
أخذت الصدمة خليلا ليبقى محدقا به دون أن ينبس بحرف، لم يرَ خليل هذا الصنف من الناس قَبْلًا، أو ربما هو لم يتعرف على حقيقتهم بعد، أناس لا يعرفون كيف ينصحون، وربما لو أنهم صمتوا لكان خيرا لهم، كاد خليل أن يسبح مع تيار أفكاره المتدفق لولا عودة جمال للحديث مرة أخرى:
_حينها تخاطفتني الدهشة والصدمة من كلامه، لم أستطع أن أفهم ولا أن أستوعب الذي سمعته، لوهلة شعرت كما لو أنني فعلت جُرْمًا لا يغتفر، لكن ليت الأمر توقف على ذلك فحسب
تلك الذكريات جثمت على صدره لتلجمه عن الحديث لبرهة، ليأخذ بعدها نفسا عميقا ثم زفره بعنف، كأنما ينفث معه ذلك الموقف، عاد ليقول:
_بدأوا يتهامزون ويتلامزون حولي، ويحذرون الأولاد مني، حتى نفَّروهم من حولي، شعرت كما لو أنني قد أضحيت موسومًا بأني من أصحاب جهنم، ولا أدري ماذا كانوا سيخسرون إن نصحوني بشكل آخر! لَكَمْ مقتهم وكرهتهم وكرهت كل شيء يدور في فلكهم، وأكثر ما كان يغيظني هو إزعاجهم ومضايقتهم لي حينما كنت أذهب للصلاة
نظرات امتزجت بين القهر والسخرية حدَّق بها نحو خليل ثم أردف قائلا:
_أتسأل لماذا لا أصلي في المسجد؟ إنهم هم السبب، في بادئ الأمر حينما ضاق عليَّ الأمر في مسجدنا هذا كنت أذهب إلى جامع الرحمن، أظنك تعرفه، لكن لبُعده وعدم وجود أحد يرافقني، وكذا لفعلهم السيء الذي ارتبط في عقلي مع المسجد -بدأت أفقد رغبتي بالذهاب شيئا فشيئا، حتى أصبحت لا أذهب إلا نادرا
تنهيدة عميقة انسلَّت من جوفه ليردف بعدها بقهر:
_السجائر؟ حسنا، هي في البداية تهمة اتهموني بها حين أظهر لهم والدي استياءه من معاملتهم السيئة لي، ووالدي رجل لا يمكنه أن يُكذِّب هؤلاء مهما كان يعني له الشخص الذي يخاصمونه، وعنادا وقهرا من الذي فعلوه وتصديق والدي لهم بدأت التدخين، لكن بدايتي كانت من سيجارة واحدة، استعرتها من أحد أصدقائي لأثير غضبهم لا أكثر، فأصبحت عادة لي بعد ذلك مع الأسف!
رفع رأسه المنحني ناظرا إلى خليل ثم أشار إلى نفسه وقال ساخرا:
_مشروع التدمير الذي جرى على هذا الشخص الذي أمامك كانت بدايته مفاهيم خاطئة، أو ربما قلوب مريضة، توزع تهمة الفسوق لكل من يخالف أصحابها الرأي، ونهايته تُهَم لا أساس لها من الصحة، والسبب لا أعلم حقا إن كان لأجل مصلحتي كما ادَّعوا، أم أنهم حقا لم يعرفوا الدين جيدا!
وصل إلى هذه النقطة فصمت حسرة وألما، ليجد خليل أن المجال قد فتح له ليتحدث أخيرا فقال:
_ستسمع مني إن تحدثت معك بهذا الشأن اتفقنا؟
هز المعني رأسه موافقا فتحدث خليل بما رجا أن يكون ذا نفع للجالس أمامه:
_أولا ليس جميع المتدينين كهؤلاء، ولا يمكن أبدا أن يمثلوهم في يوم من الأيام، فضلا عن أن يمثلوا الدين نفسه، ومع اختلافي مع المعنى السائد لكلمة (متدين) لكني سأتحدث معك كما تفهمها، ثانيا هناك فرق بين تبيين الحكم الشرعي حيال أمر ما أو شخص ما، وبين إنزال الحكم على المعين، هذا الأخير هو اختصاص العلماء الراسخين في العلم؛ كونهم الأعلم بدين الله، والأعلم بمن يستحقها كما يتبين من حاله، وليس هذا لكل من هب ودب أن يقوله؛ لأن وضعه في غير محله قول على الله بلا علم، باختصار التفسيق له شروطه وأحكامه، وضوابطه وموانعه، ولعل هؤلاء الذين قابلتهم من تلك الثلة التي تفهم الدين بسطحية مع الأسف، كان ينبغي عليهم أن يتعلموا أيضا أن هناك أساليب للدعوة وليس أسلوبا واحدا، إما أن يكون كما قال الله ﴿ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ﴾ أو ﴿وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ وقد يكون هنالك أناس لا تفيد معهم إلا الشدة، ولكن في النهاية اتخاذ أسلوب واحد قد يؤدي إلى نتائج عكسية سلبية، وهو أمر خاطئ بالطبع، وأخيرا وهو الأهم هل نزول البلاء عليك يكون عذرا كافيا لتترك ما أمرك به ربك، وتفعل ما يضرك؟ هل ما قابلته أشد بلاء مما لقيه بلال بن رباح رضي الله عنه؟ ومع هذا لم يترك دينه، ولنا فيه قدوة
لم يكن لدى جمال رغبة في الرد أو النقاش، فقد تشرَّب قلبه الملل منذ ذلك الحين، لذا فضل أن يبقى صامتا حتى ينهي خليل حديثه، فهِمَ الأخير ذلك وقد أراحه هذا أكثر، فعاود الحديث قائلا:
_أنت الآن لا تصلي في المسجد، إذن أنت الخاسر وليس هم، وأنت الآن تدخن، إذن أنت الخاسر وليس هم، وكلما فعلت شيئا عكسيا بسببهم فأنت تضر نفسك بالمقام الأول، ولو أمعنت التفكير جيدا لما فعلت هذا، فكيف يطيب لك أن تسلك طريقا تعلم يقينا أن فيه مهلكتك؟
هز جمال كتفيه كناية عن عدم اهتمامه، ثم استند على الحائط خلفه وهو يحدق للأعلى قائلا:
_لا أهتم، المهم أنني أفعل ما أريد، مهما قالوا ومهما فعلوا، ففي النهاية لا شيء سيرضي قلوبهم المريضة
أخذ التفكير خليلا قليلا بعد الذي سمع، لينطق بسؤال انبثق من هذا الحديث الذي دار قبل قليل:
_في هذه الحال أود أن أعرف بصدق: ما هي نظرتك لي؟
كان سؤالا صادما لجمال الذي أخذ يحدق به بذهول، نبس مستفسرا:
_من أين أتى هذا السؤال الآن؟
أجابه خليل بتلقائية:
_من كلامك أيها المتحذلق، إذا كانت لديك نظرة سيئة عامة عن (المتدينين) فكيف تراني إذن؟ ربما مجرد متطفل!
استوى جمال في جلسته مرغما بعد الذي سمعه، سارع ليجيبه بانفعال:
_اسمع أنا لا أحب النفاق، فلو كنت أكرهك لقلت ذلك في وجهك وأرحت نفسي منك، جوابا على سؤالك دعني أخبرك أني أراك مختلفا، مختلفا كليا، ولأصدقك القول لقد فاجأتني بتعاملك معي، وكسرت تلك النظرة قليلا، لذا أنا أراك كأحد أصدقائي، لا بل أراك شخصا استثنائيا، وعوضا جميلا من رب السماء
اقترب من خليل بعد أن أزعجه سؤاله الذي بدا له طاعنا في صدق محبته له، شده من ملابسه غاضبا وهو يقول:
_لا تتحدث عن علاقتنا بهذه النبرة الكريهة ثانية أفهمت؟
من ناحية خليل فقد كان منظره مضحكا؛ هو لم يره منفعلا هكذا من قبل، وجد نفسه يضحك من تلك الملامح المتقطبة ولم يستطع الإجابة، شدَّه جمال أكثر وقال بصوت عالٍ:
_هل فهمت أيها الأحمق أم لا؟ توقف عن الضحك وأجب بسرعة، لا يوجد ما هو مضحك في الأمر
أمسك خليل بيديه ليبعده عنه وهو يقول:
_على رسلك يا رجل، ستخنقني قبل أن تسمع الجواب
تركه جمال وعاد إلى مكانه بذات الانزعاج، وقبل أن يقول خليل شيئا قال هو:
_المشكلة هي ليست كيف أراك أنا، بل كيف تراني أنت؟
عُكست الأدوار وَرُدَّتْ الصدمة على خليل الذي نظر إليه غير متوقع هذا السؤال، سارع في الإجابة هذه المرة قائلا:
_كيف أراك هاه؟ بالطبع أراك أخا لي، لك ما لي وعليك ما علي، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول (المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره) أحب لك ما أحب لنفسي، أحب أن نسير معا في الطريق إلى الله حتى نكون ممن يشملهم حديث (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، منهم اثنان تحابا في الله، اجتمعا عليه وتفرقا عليه) لهذا السبب أبذل جهدي في نصحك، ومحاولة أخذك إلى طريق الاستقامة، وأقل شيء تنفيذا لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم (الدين النصيحة)
ابتسامة عذبة تربعت على شفتي جمال، ليعلق بعدها بنبرة سعيدة لم يشأ إخفاءها:
_هذا يسعدني كثيرا! وعلى أية حال اذهب الآن، لا أريد أن أتسبب في تأخيرك أكثر، وإلا فإن العقوبة ستكون هي الحرمان بلا شك
ألجم العجز عن الرد خليلا عَقِبَ تلك الجملة؛ هو يعرف والده جيدا، والآن اتضح له أن جمال يعرف نظرة والده له، ولأنه لمْ يشأ حرمان جمال من الخير استدرك قائلا:
_بما أنك كنت تذهب إلى جامع الرحمن لا شك أنك تعرف الشيخ محمد عمران، أليس كذلك؟
هز جمال رأسه إيجابا فأردف خليل قائلا:
_إذن ما رأيك أن نذهب إليه في الغد؟ سيكون من المفيد لكلينا أن نسمع منه
_فكرة جيدة!
نطق جمال فاعتبرها خليل موافقة منه، استأذنه للانصراف ثم غادر على أمل أن تكون الأيام القادمة أفضل حالا، وليت كل المُنَى تُؤتَّى لصاحبها!
¶____________________¶
انتهى الفصل الأول
بداية هادئة :)
لا تنسوا الاستماع إلى الفيديوهات المنشورة برفقة الفصول ❤
الفصل الثاني|| منعطفات
انتهت صلاة عصر ذلك اليوم وقد تواجد كل من خليل وجمال بين صفوف المصلين في جامع الرحمن، دقائق حتى تربع شيخ انتصف الشيب في شعر لحيته أمام الحاضرين، كان يرتدي طاقيته البيضاء وثوبه الأبيض أيضا، تغطيه هالة من هيبة ووقار، إنه الشيخ محمد عمران الذي يقصد الناس دروسه المعهودة بعد الصلاة من كل مكان، ما كان يميز تلك الدروس هي النصائح والمواعظ التي كان يدلي بها بين الحين والآخر كلما وُجدت مناسبة، لكن بأسلوبه المحبب إلى القلوب
ابتدأ درسه هذا اليوم حتى مرَّ على قوله تعالى ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّـهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ أخذ يتحدث في هذا السياق فقال:
_انظروا يا إخوتي لمعنى هذه الآية العظيمة، فهل يوجد مرتبة أعلى من أن تكون مسلما طائعا لله ثم تدعو الناس إليه؟
أخذ يوزع نظراته على الحاضرين وهو يتحدث:
_لكن عليّ أن أنبه على أمر هام هنا، وهو أن بعض الناس يظنون أنه يجب عليك أن تكون عابدا زاهدا قائما بالليل صائما بالنهار حتى يكون متاحا لك أن تقدم النصيحة وهذا خطأ، قد يقول قائل: كيف تنصح الناس بترك معصية وأنت تفعل أخرى؟ في الواقع سيكون معيبا في حقك أن تنهى عن فعل شيء وتقترف شيئا مشابها، ولكن ما المانع في أن تقدم نصيحة لغيرك بأن يعمل الخير؟ قد تكون مصليا فتنصح غيرك بأن يصلي، فيقول لك اترك أولا سماع الأغاني ثم تعال وانصحني، هذا غير صائب يا إخوتي، لا يمنع أن نتناصح فيما بيننا مانع، فقد كان من أسباب جعل هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس أنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، قال الله تعالى {كُنتُم خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجِتْ لِنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهُونَ عَن الْمُنكَر} وقد لعنوا بني إسرائيل ومن ضمن ما لعنهم الله لأجله أنهم كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه، قال الله تعالى ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ ﴿﴾ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾
راح يلقي كلماته تباعا، يتوقف تارة ويتحدث أخرى، استرسل في حديثه:
_حجة واهية ذات حيلة ماكرة أصبحت تتداول بين البعض اليوم، مفادها (ما دمت لن تحاسبني لا تنهاني عما أفعل) وما علم أولئك المتغنين بها أن الله مسخ مَن لم ينكروا على أصحاب السبت فعلتهم - إلى قردة، تماما كما فعل بأصحاب المنكر أنفسهم، وأنجى الذين نهوهم عن فعلتهم، قال الله حاكيا عنهم ﴿وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ ۙ لَا تَأْتِيهِمْ ۚ كَذَٰلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ﴿﴾ وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا ۙ اللَّـهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا ۖ قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴿﴾ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ﴿﴾ فَلَمَّا عَتَوْا عَن مَّا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾ فالنهي عن المنكر مطلوب كيف ما كان، باليد أو باللسان أو بالقلب، وهذا أضعف الإيمان كما قال صلى الله عليه وسلم، فأقل أحواله أن يبرأ الناهي عنه إلى الله مما فعل مرتكب المنكر، وإن عاد فاعل المنكر إلى الطريق القويم فهو الخير كله
_قد يأتيك قائل ليقول: الله هو الذي سيحاسبني يوم القيامة إذن لا تتدخل فيما أفعل، لا يا أخي ما هكذا كان الصواب، نعم نحن لن نحاسبكم على أعمالكم، ولكن من حقنا أن ننصحكم، فالذي أنزل هذا الدين والذي سيحاسبكم يوم القيامة هو الذي أمرنا بالنصيحة، المهم أن تكون بالطريقة المناسبة، لا تنتظر أن ترى من البشر أشخاصا لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون حتى تقبل منهم النصح، لأحد السلف مقولة عظيمة في هذا السياق إذ قال ما معناه: لو لم يعظ الناس إلا معصوم ما وعظهم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد
_أناس آخرون يعتقدون أنه ليس من المناسب أن تذكر الناس بفضل شيء هم يفعلونه، أو بكراهة شيء هم لا يفعلونه، فيقولون: لمَ تتحدث عن الصلاة عند أناس يصلون؟ ولمَ تتحدث عن الحجاب عند أناس نساؤهم يتحجبن؟ وهكذا أسئلة، فهؤلاء الناس لو اجتنبوا مجالس الذكر وقل بينهم التذكير بأوامر الله ونواهيه قد ينشأ بينهم جيل لا يعرف لمَ يفعل هذا الشيء أو يترك ذاك، فأصبح الأمر في نظره عادة ورثها من آبائه وأجداده، يمكنه أن يتركها ولا شيء عليه، حتى وصل الأمر ببعضهم إلى ترك الإسلام بالكلية، نسأل الله السلامة والعافية
_فالخلاصة يا إخوتي أن الوعظ ليس حكرا على طائفة معينة، فهذه الأمة أمة الخير، ينصح بعضنا بعضا ويذكر بعضنا بعضا، فقلوبنا يا إخوتي بحاجة إلى سقاء خير، فما ظنكم بغرسها إذا نبت أن يكون إذا كانت قد سقيت سقاء سيئا؟
_فالدين منهاج حياة، هو دليلنا للسير في هذه الحياة، إنه ليس حكرا على أناس معينين، أنت مسلم؟ إذن أنت ملزم بهذه الأحكام، فالله أنزل هذا الدين للجميع، وليس لجماعة بعينهم، فهذا مقتضى أن تكون مسلما، فالإسلام هو الاستسلام لله، والخضوع له، والانقياد له بالطاعة
_أسأل الله أن يأخذ بنواصينا إلى الحق، وأن يجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين
أنهى الشيخ حديثه عن هذه الآية، ثم استكمل درسه حتى انتهى، فانصرف الحاضرون كل في سبيله
تتالت بعد هذا الدرس زيارات خليل مع جمال لجامع الرحمن، والاستماع إلى الشيخ محمد عمران، الذي كان له أسلوب جذاب في الطرح، لم يكن يمر يوم دون أن يكون هنالك فائدة استقياها منه مع الحضور
**********
مرت الأيام بسلام حتى أتى يوم دراسي آخر تلا ذلك الدرس، وفي طريق عودة الثلاثي من الجامعة تحدث جمال إلى خليل قائلا:
_لا أظن أنه يمكنني الذهاب إلى جامع الرحمن اليوم، هل ستذهب يا خليل؟
رد خليل بعد قليل من التفكير:
_إن أتيحت لي الفرصة، أشعر بالتعب أنا أيضا
تدخل يوسف في المحادثة متحدثا بنبرة عالية بعض الشيء:
_مهلا مهلا، ما معنى هذا؟ أشتم رائحة خيانة في الأمر
نظر إليه كل من خليل وجمال بينما أكمل هو:
_تذهبون إلى هناك دون إخباري، ما معنى هذا هاه؟ أريد أن أفهم
أجابه خليل بهدوء مبررا:
_كانت فكرة مفاجأة أتتني فأخذت جمالا معي، أنت تعلم أن منزلكم بعيد فوق أن الجامع بعيد عن منزلنا أيضا، لذا قلت أنه من الأفضل ألا أزعجك بذلك
نظر إليه يوسف بنظرة ذات معنى ثم علق:
_كان عليك أن تخبرني بذلك على الأقل، وأنا كنت سأرى ما يناسبني
وضع خليل يده على كتف يوسف وهما يسيران وقال بابتسامة:
_آسف يا صديقي لم أكن أعلم أن الأمر سيهمك إلى هذا الحد، عموما يمكنك أن تأتي معنا إن أردت، سنخبرك عن اليوم الذي سنذهب فيه مسبقا لِتُعِدَّ نفسك
قابله يوسف بابتسامة أيضا وقال:
_حسنا أنا موافق، آمل ألا تكرر ما فعلته مسبقا
_أنت تبالغ كالعادة!
قالها خليل وهو يسحب يده من على كتفه مبتسما، لقد سبق وأن وضعا تحديات بينهما، وكان من ضمنها تحدي من يختم القرآن أولا، فأخفى خليل عنه أين وصل ليسبقه بعد ذلك ويكسب التحدي، سباق الخير هو ما يحوز على شغفهما منذ الطفولة، ولم يكن أحدهما يرضى أن يخسر في تحدٍ ما، حتى وإن كانا سيتمان العمل المتحدى فيه بالنهاية
في حين كانا يسيران بصمت إثر ذلك الحوار كان جمال يراقبهما بصمت وهو يبتسم بدوره، همس ببضع كلمات في داخله (صداقتهما جميلة جدا) إنه حقا يغبطهما ويتمنى لو يكون ثالثهما، ولكن... ربما عليه ألا يبالغ برفع سقف أحلامه، أو هكذا ظن!
**********
مضت أيام ذلك الأسبوع سريعا كأنها الريح، وبدأ الأسبوع التالي يطرح أيامه، حدد الأصدقاء الثلاثة موعدا للذهاب إلى جامع الرحمن، وتربع الشيخ الجليل أعلى المكان ليلقي درسه المعتاد بعد صلاة العصر، وفي ظل حديثه انسل موضوع لم يشأ الشيخ أن يمر من عنده مرور الكرام، حين تحدث عن أثر ما يخالطه المرء من شيء، على أي شكل كان، فقال:
_إن ما يعايشه المرء في الغالب يغلب عليه ويصبح طبع له وعادة، سواء كانت تلك المعايشة بأن تعايش جليسا، أو ترتاد موقعا ما من المواقع التي أصبحت متاحة للجميع اليوم، في الواقع أو المواقع سيكون ما تعيش معه جُلَّ لحظاتك، وما تهتم له حين تظفر به - غلابا عليك، فاحرصوا يا إخوتي على الجلوس مع أهل الخير، وعلى متابعة أهل الخير، فللجليس أثره كما قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم «إِنَّما مثَلُ الجلِيس الصَّالِحِ وَجَلِيسِ السُّوءِ: كَحَامِلِ المِسْكِ، وَنَافِخِ الْكِيرِ، فَحامِلُ المِسْكِ إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ ريحًا طيِّبةً، ونَافِخُ الكِيرِ إِمَّا أَن يَحْرِقَ ثِيابَكَ، وإمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا مُنْتِنَةً»
_أكثروا من الذكر، أكثروا من سماع المواعظ، أكثروا من سماع القرآن، فوالذي نفسي بيده ما من قلب بَعُدَ عن ذكر الله إلا بَعُدَ عن الله، وإن الغفلة لتردي بصاحبها المهالك، وكلما كان القلب من الذكر أقرب كان إلى الراحة أقرب، ويكون له بالإيمان صلة على قدر قربه ذاك، وإن للإيمان نور عظيم، لا يملكه إلا محظوظ، ولا يفقده إلا محروم، وأي حياة ستكون تلك التي تعيشها متخبطا بالظلمات، كما قال الله في محكم كتابه ﴿وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّـهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ﴾
أخذ الشيخ الجليل ينسج كلماته العذبة بأسلوب فذ، ينفذ إلى القلوب، ويرتقي على عرشها ممسكا بزمام الأمور، أنهى درسه ذلك اليوم ثم خرج الأصدقاء الثلاثة مع جملة المنصرفين، ذهب يوسف في طريقه متجها نحو منزله، وسار جمال مع خليل نحو منازلهم أيضا
حين قاربوا على الوصول إلى منازلهم كانت تدور بينهم أحاديث بسيطة، فجأة لاحظ خليل أن أحد الأطفال الذين كانوا يلعبون كرة القدم قد التقط الكرة وصرخ بالبقية قائلا:
_اهربوا اهربوا بسرعة، إنه قادم!
قوله هذا لفت انتباه جمال أيضا، ما جعلهما يَرْقُبَان الطريق الذي كان الأطفال يلعبون ناحيته، أرادا الاطلاع على هوية الشخص الذي جعل الأطفال يهربون بسرعة الريح، لحظات حتى أطلَّ شاب بدا أنه في بداية الثلاثينات من عمره، شاحب الوجه، تحوط عينيه هالات سوداء، يضع يديه في جيوبه ويسير، في حين كان ينظر إلى الأرض أمامه، بدا واضحا أنه كان شارد التفكير، استمر في مِشْيِه حتى جاوزهم وابتعد، التفت خليل نحو جمال وسأل باستغراب:
_ما قصة هذا الشاب؟
أطلق جمال سراح زفرة كانت محبوسة بين جنبيه، ثم أجاب:
_إنه يدعى معاذ، له سمعة سيئة هنا، لكن للأمانة أنا لم أطلع على شيء مِمِّا يقال عنه بنفسي
استدار نحو خليل ثم علق ساخرا:
_من الغريب أنك لم تعرف عنه شيئا بعد!
أدرك خليل مقصده، هو بلا شك يقصد أن الأشخاص الذين حذروه من جمال كان من الطبيعي جدا أن يحذروه من معاذ، فهو أشد سوءًا من جمال، لكن لمَ لمْ يخبروه بمعاذ حتى الآن؟ ربما أنهم نسوا، وربما بسبب أنه يسكن في حي آخر يبعد عنهم مسافة لا بأس بها، ومن الطبيعي جدا أنه لن تحدث صداقة بينهما في يوم من الأيام، تجاهل خليل تعليق جمال ثم استأذنه للانصراف ورحل إلى منزله، وكذا فعل الأخير بعدها
**********
في جلسة شبابية دعى إليها جمال أصدقاءه كان من ضمنهم خليل الذي جلس بجانبه، يبدو أن الامتحانات التي ستملأ جدول أيامه القادمة بدأت تفقده تركيزه، وعلى الرغم من أن تلك الجلسة قد بُنيت أساسا للاجتماع وتبادل الأحاديث، والترويح عن النفس -إلا أن الهواتف الذكية قد استطاعت أن تأخذ مكانا في ذلك المجلس، الجميع يعرفون عن خليل أنه لا يسمع الأغاني، واحتراما لرغبته لم يكن أحد منهم يفتح شيئا في حضوره، فتح جمال ملفا صوتيا كان في أحد ملفات هاتفه، وقد كان لأغنية يعرفها تماما، غير أنها في أول ثوان منها كانت بدون موسيقى، استمع إلى ذلك الجزء منها ثم أغلقها، أعجبت كلماتها التحفيزية خليلا الذي لم يكن يعلم أنها أغنية، لكن حينها هو كان في وادٍ آخر، فترك السؤال عنها، لكنها رغم ذا ظلت عالقة في ذهنه، شيء ما يلامس أعماق، يطرق باب واقعك بلطف وهدوء -بالتأكيد سيحجز مكانه في قلبك وذاكرتك معا
**********
مرت مدة الامتحانات تلك والتي تجاوزت الأسابيع إلى الشهر تقريبا، فتذكر خليل تلك الكلمات التي سمعها من هاتف جمال، فأرسل له رسالة يطلبها منه، أدرك جمال أن خليلا لم يعلم بعد أنها كانت أغنية، أراد أن يمازحه ولكن بطريقته الخاصة، لم يرى رسالة خليل حين أرسلها، لذا حينما فتح هاتفه ووجد رسالة خليل أرسل إليه ملفا صوتيا ثم أتبعه بالقول (إن أعجبتك أخبرني لأرسل لك غيرها) وأتبعها برموز تعبيرية ضاحكة
لم يرَ خليل رده ذاك إلا بعد أن كان يجلس مع والده وإخوته، وبعض أصدقاء والده في مجلس منزلهم، توجس خليل من تلك الرسالة فأرسل إليه قائلا (آمل ألا يكون ما أرسلته سيئا، إن كان جيدا فمن الآن سأخبرك أنني لا أمانع إن أرسلت لي المزيد)
رد عليه جمال برسالة تحوي رموزا تعبيرية ضاحكة وكلمة واحدة كتب فيها (أبشر)
زادت شكوك خليل أكثر فأكثر ما جعله يتردد في فتح ذلك الملف الصوتي، لحظات قليلة حتى أرسل جمال ملفا صوتيا آخر، مرت ثواني وخليل متردد في فتحهما، لكن يبدو أن هناك من قد لاحظ توتره، وفي حين وصلت رسالة من جمال حلق هاتفه بين يدي شقيقه موسى الذي التقطه من يده بخفة قبل أن يقرأ الرسالة وهو يقول:
_ماذا لديك يا ترى لتبدو مرتبكا هكذا؟
خفق قلب خليل خوفا وهو يشاهد هاتفه يبتعد عنه والمحادثة مفتوحة، سارع إلى أخذه وهو يصرخ:
_موسى احترم من هم أكبر منك ولا تتدخل في شؤون الآخرين
كاد أن يأخذه من موسى لولا تدخل شقيقه شعيب بعد أن هتف به موسى:
_شعيب خذ هاتفه، أنت أكبر منه لا أظنه سيمانع، إلا إن كان بينه وبين جمال ذاك شيئا لا يريدنا أن نعلمه
ابتسم وهو يقول جملته الأخيرة ما زاد حنق خليل أكثر، أراد أن يضربه بعد أن قال ما قال، سيما أن الأنظار أخذت تتجه إليه من كل جانب، خصوصا نظرات والده التي شعر بها تخترق قلبه، ولكن هيهات! تدخُّل شعيب أفسد الأمر برمته، التقط الهاتف من يد موسى في حين أمسك موسى بخليل ليمنعه من مقاطعة شعيب، ألقى هذا الأخير نظرة على المحادثة ولم تحط عينيه على شيء من الرسائل سوى الرسالة الأخيرة التي كتب فيها جمال (أعتقد أنك قد حملت الملف الصوتي الآن، قل لي: أليست أغنية جميلة؟ يمكنك أن تهديها لحبيبتك، إنها مناسبة جدا) ثم أتبعها بضحكة طويلة
نطق شعيب برسالة جمال بنبرة وملامح مصدومة، لتنتقل الصدمة إلى كل من كان في المجلس، بدا الأمر من ناحية شعيب أن تلك الضحكات التي أرسلها جمال إنما هي سخرية من الحال الذي وصل إليه خليل بعد أن كان ما كان، زاد الطين بلة حينما فتح الملف الصوتي الأخير ليجد أنه أغنية غزلية، في تلك اللحظة انهار خليل حقا، أدرك أنه أضحى في موقف عصيب، ليت والده يسمح له بالتبرير الآن، ليته يسمع منه قبل أن يغضب وينفعل، ولكن ليت لا تنفع مع هذا الرجل
صرخة من الوالد نحو شعيب أمره فيها بإطفاء ذلك الملف الصوتي جعلت كل أبنائه تسقط قلوبهم من محلها، نهض خليل محاولا تفسير الأمر بعد أن رأى والده ينهض من مكانه متوجها نحوه بغضب، في تلك اللحظة كان قد أصبح محاصرا بعيون الجالسين، ما إن استقام واقفا حتى تلقى صفعة قوية من والده، تهاوى على إثرها حتى سقط، رفع نظره إلى والده وهو يمسك خده، والألم يشق قلبه قبل رأسه، لكن جواب والده كان صراخا قويا:
_أهذه هي نتائج مرافقتك لأولئك الفاسدين؟ ألم أَنْهَكَ عن مجالستهم؟
حاول خليل أن يوضح الأمر:
_أرجوك يا أبي أنا...
صرخ والده مقاطعا:
_أنت شخص فقدت الثقة فيه
حاول خليل ثانية أن يفهم والده:
_الأمر ليس كما تظن يا أبي، إنه...
صرخ والده مجددا:
_لا أريد أية أعذار
ثم أردف بانكسار:
_سودت وجهي يا خليل!
صدم خليل بجملة والده الأخيرة، والتي كانت تضاهي عنده تلك الصفعة التي تلقاها قبل قليل، شعر بالاختناق، كادت دموعه أن تنساب من عينيه، لكنه ما إن فكر قليلا بتلك الجملة حتى أدرك أن والده قد وضع أهمية كبرى لآراء الجالسين معه الآن، لم يكن يرغب في النظر إليهم لولا أنه أراد أن يرى ردة فعلهم، علّ أحدهم يتدخل ليصلح سوء الفهم الذي حدث، لكنه وجدهم بين من أدار رأسه إلى ناحية ثانية؛ هربا بنفسه مما يحدث، وبين من حدجه بنظرات تكاد تقتله من غيظها
وحين همّ بمغادرة المجلس فوجئ بهاتفه يتحطم أمامه بعد أن رماه والده، ليصرخ بعدها في وجهه قائلا:
_اخرج من هنا، أغرب عن وجهي حالا
خرج خليل من المجلس وهو يكاد أن ينفجر غضبا وحزنا في نفس الوقت، غضبا من الظلم الذي وقع عليه، ومن حماقة جمال ومزحه الذي انتهى بمصيبة، وحزنا من تصرف والده الذي أهانه أمام الآخرين.
¶_____________________¶
انتهى الفصل الثاني
لن أستنكف أن أسألكم
كيف هما الفصلان إذن؟
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top