الفصل العاشر
الفصل العاشر|| ذكريات واستنباط
تلك الجواء الهادئة من حوله، منحته القدرة على الحديث براحة، الخطوة الثانية من تلك النصيحة التي أسدى بها خليل له كانت أن يقرأ القرآن، أو شيئا منه، أخذ يتحدث عن ذلك بروية:
_أخذت أقلب بين صفحات القرآن، أقرأ سورة من هنا وسورة من هناك، وكلها كانت تنزل على قلبي كالثلج لتخمد نيرانه المشتعلة، وعلى الرغم من أنني لا أحفظه إلا أن هنالك آيات ظلت في عقلي تتردد إلى الآن، كقوله تعالى في سورة النور ﴿اللَّـهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ۖ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ ۖ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ ۚ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ ۗ يَهْدِي اللَّـهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَيَضْرِبُ اللَّـهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ ۗ وَاللَّـهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ هذه الآية عظيمة جدا، ولا سيما آخرها ﴿يَهْدِي اللَّـهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ﴾ حقا إن الهداية هداية ربانية
أعقب صمته الذي دام لثوانٍ بالقول:
_خلال المدة الماضية سعيت لأقرأ القرآن، لعلي أداوي به قلبي، فاستوقفتني كثير من الآيات، جعلتني أفكر كثيرا، كلها تتحدث عن النور، بل النور الحقيقي في هذه الحياة، جمعتها كلها لأجدها كالتالي ﴿أَفَمَن شَرَحَ اللَّـهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّـهِ﴾ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّـهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ ﴿فَآمِنُوا بِاللَّـهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللَّـهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ كل هذه الآيات تقود إلى حقيقة واحدة، من سلك طريق ربه كوفئ بنور يرشده في ظلمات الحياة، أيقنت حقا أن القرآن رسائل أبدية لنا من خالقنا، تناسب أحوالنا كلها وعلى مر الأزمنة، ثم هنالك آية تقول ﴿وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّـهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ﴾ هنا يكتمل كل شيء
صمت برهة فيما ظل الآخرون على صمتهم، البعض منهم أصبح يحدث نفسه: كيف بقيت بين هذه الآيات مدة طويلة لم أتفكر بها بهذه الطريقة؟ إن من يمشي تحت نور الشمس لن يدرك قدره حتى تغرب، ويجد نفسه تائها بين الفيافي والقفار، عرضة للشر والأخطار
استغل معاذ صمتهم فأتبع ما قاله آنفا بالقول:
_من المثير للحزن أن بين أيدينا أعظم كتاب على وجه الأرض، يحمل بين دفتيه توجيهات تقودنا على مر الأزمان إلى النجاة في حين أننا نتجاهله ونهمله، أو نتهاون في مدراسته بين الحين والآخر، نظنه خاصا بفئة دون غيرها، نظن أنه فقط يصلح لأوقات فراغنا، نظن أننا معذورون لانشغالنا بأمور حياتنا، وما علمنا أن ذلك من الهجران له
وبصمته هدأ المجلس مجددا، بدا تماما أنه استحوذ على اهتمام الحاضرين، لم يكلف نفسه عناء اختيار كلماته، كان يتحدث بعفوية وتلقائية معبرا عما يجول في خاطره فحسب، لكنه استطاع أن يجعل الجميع له منصتون
وحين حل هذا الجو الرتيب عليهم سأله خليل محاولا الاستفادة من تجربته فقال:
_استنباطك كان جميلا جدا، ولكن هل كان ذلك وحده ما وجدته في طريقك إلى اليوم؟
وكأن معاذا انتظر سؤالا كهذا ليخرج ما بقي في جعبته فقال:
_هما شيئان وجدتهما وقد كنت أبحث عنهما طويلا، الأول هو النور، والثاني هو الطمأنينة، وقد وجدت ذلك أمامي في تلك الآيات التي كنت أقرأها، وبما أن القلوب محل تلك الطمأنينة فهي المتضررة إن رحلت عنها تلك النعمة، والعجيب أن هناك آية جمعت بين الشيئين اللذين كنت أبحث عنهما، وهي قول الله سبحانه وتعالى ﴿أَفَمَن شَرَحَ اللَّـهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ﴾ ثم قال الله بعدها ﴿فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّـهِ أُولَـٰئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾ وقال في آية أخرى ﴿اللَّـهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّـهِ ذَٰلِكَ هُدَى اللَّـهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّـهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ هذا هو قلب المؤمن، يعيش بذكر الله فيطمئن، كما قال عز وجل ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّـهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّـهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ أما من يعرض عنه فهو كما قال الله ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ ﴿﴾ قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا ﴿﴾ قَالَ كَذَٰلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا ۖ وَكَذَٰلِكَ الْيَوْمَ تُنسَىٰ﴾ فأي خزي وحرمان هو أكثر من هذا؟
هذه الآيات تركت أثرها في صميم فؤاده، فقرر أن يحفظها فتكون أول ما يحفظه من القرآن، وذاك ما سار عليه، استطاع استذكار الآية التي أراد أن يكمل بها حديثه فقال:
_قال الله أيضا في آية أخرى ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّـهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ هذه الآية التي أخبرني خليل أنها كانت سببا في توبة الفضيل بن عياض، والذي لقب بعابد الحرمين لشدة عبادته بعد ذاك، إنها تستحق وقفة تأمل
بدا كما لو أنه قد تحول إلى داعية يلقي محاضرة، لا شخصا يروي تجربته في الماضي، ويسدي نصائح من وحي تلك التجربة لمن حوله، لسبب ما شعر أنه يمكنه أن يتحدث بكل أريحية فلن يقاطعه أو يهزأ به أحد، ومجددا أخذ راحته في قول ما يريد يعينه على ذلك صمت الجالسين حوله:
_ما استنتجته بعد المعمعة التي خضتها أن المرء يكون بحاجة إلى خطوتين لِلُزوم طريق التوبة، وعدم الحياد عنه، الأولى عندما يتخذ القرار الصعب بسلوك طريق العودة مع بدء السير فيه، وترك الطريق الذي كان عليه، وأما الثانية فهي عندما يثبت خطواته في الطريق الصحيح، ولا يلتفت إلى المغريات من حوله، مهما بلغت قوة جمالها وتأثيرها، فالسير فقط قد لا يكفي أحيانا، فقد ينجذب القلب لما هو على الضفة الأخرى فينحرف
لو سأل أحدهم: هل حاول ذات مرة السير على الطريق الصحيح فانحرف؟ فلربما كانت الإجابة: كل شيء وارد لكنه لن يحتاج إلى قول كل شيء، فقط عليه أن يتحدث بخلاصة تجربته، استرسل في حديثه مجددا:
_لا شيء سيمنعك من المعاصي أكثر من خوفك من الله، صدقني إذا كنت ستتجاهل خوفك ذاك لترتكب معصية، فاعلم أنه ليس خوفا حقيقيا، ولذا كان جزاء من يخاف مقام ربه كبيرا
توقف قليلا يسترد أنفاسه الضائعة، ثم أردف:
_في نظري هناك ثلاثة مربيين لكل واحد منا، العائلة، والمجتمع، والضمير، قد تصل إلى مرحلة تتمرد فيها على مجتمعك، وقد تصل إلى مرحلة تتمرد فيها على عائلتك، وهنا سيبقى معك ضميرك فقط
أنصت الجميع لما يريد قوله، فيما أكمل هو نظريته:
_ضميرك سيبقى يؤنبك مهما بلغ طغيانك، وقِلة هم من يقتلون ضمائرهم، وحينما يدخل الضمير في حالة سيئة بسبب أعمالك، سيطلق حملته الأخيرة ضدك
من وحي تجربته السابقة اقتبس معاذ هذه النظرية، كان يصمت بين كل جملة وجملة لاسترداد أنفاسه، وأحيانا أخرى ليستوعب من حوله ما يقول، أكمل قائلا بحزم:
_حينها إما أن ينتصر عليك، وإما أن تنتصر عليه، وفي حال انتصر عليك ستكون أنت الرابح، وفي انتصرت عليه، ستكون أنت الخاسر
(ما علاقة الضمير بالأمر الآن؟) ربما يفكر أحدهم هكذا، وذا ما دعاه للتوضيح فقال:
_ضمائرنا هي التي تقودنا نحو الصواب، لذا احرص جيدا على إبقاء هذا الضمير نابضا بالحياة، ما تعيشه أو ما تعايشه له دور كبير في التأثير على ذلك، ولكن بعد كل شيء في كل مرة أنت تمتلك فرصة لئلا تنزلق نحو الهاوية
أخذ نظرة فاحصة نحوهم وقال:
_بربكم ماذا سيحدث لو أن كل واحد منا حينما يقدم على معصية ما يستشعر عظمة ربه، يستشعر قوته، يستشعر أنه يراه، وأنه قادر على كشف ستره لو أراد؟ أنا حقا لا أعلم كيف يمكننا أن نصل إلى مرحلة نعصي فيها الله دون خجل أو خوف مما نفعل!
صمت يسير حل عقب جملة الأخيرة، هو لن يتحدث إلا من منطلق تجربته، لكن النظر إلى الماضي أحيانا يجعلنا نفكر كيف عشناه؟ عاود الحديث محاولا تفسير الأمر:
_لا شك أنها خطوات الشيطان التي نهانا الله عن اتباعها حين قال ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ﴾ حينما تتساهل ستغرق صدقني، بعدها ستدَّعي أنه لم يعد هناك أمل للنجاة، وتُوهم نفسك بذلك كي لا تطلب النجدة، أو تحاول النجاة بنفسك، هذا ما يحدث حينما نسلم أنفسنا للهوى والشيطان، لقد أقسم بأنه سيقودنا معه إلى الجحيم، لذلك يوقعنا أولا بفخ يصطادنا فيه، ثم يزين لنا جمال حياة العبودية له، والتي وقعنا فيها مسبقا، بعدها يوهمنا أنه لم يعد لنا أي مجال، لا للعودة ولا للنجاة، ولو أنّا فقط ندرك الحقيقة، ونفتح أعيننا عليها لما صدقناه، ولما جرنا معه إلى المهالك، وبعد كل شيء فطريق التوبة لا يزال سالكا، فقط أين السائرون إليه؟
حين أفرغ ما في جوفه شعر بثقل الجو حين جثم الصمت بثقله، فقال محاولا كسر هذا الثقل:
_أرجو المعذرة، يبدو أنني صدعت رؤوسكم بثرثرتي
سارع كل واحد منهم إلى نفي ذلك، مبدين له مدى إعجابهم بما سمعوه منه، أثنى عليه بعضهم بما استطاع في حين دعا له آخرون بالثبات، كانت تلك الدقائق وتلك الكلمات غيث سعادة أمطرت قلب خليل فأزهرت، هي ذكرى ستظل عالقة في ذهنه إلى أن يفنى
**********
_لمَ أنا لهذه المهمة؟
سأل معاذ خليلا بعد أن طلب منه أن يحادث والده بشأن جمال، كانت لقاءاتهم به لا تتعدى المسجد، أو الطريق الذي يسيرون فيه، لقد أراد خليل أن يعيد العلاقة القديمة، بل يجعلها أكبر من قبل، كما أنه يود الاعتذار لوالد جمال، فلا شك أن ما قاله والده قد جرحه، أجاب خليل معاذا الذي ينتظر تفسيرا:
_والدي معجب بك لدرجة لا تكاد تصدقها، كما أن لك تجربة معي، أريدك أن تخبره من تجربتك كيف أنه ليس من الصواب ما يفعله، إنه نوعا ما مشكك فيما أصبح عليه جمال
أخذ معاذ يفكر في الأمر ثم قال:
_الله المستعان، على أية حال سأحاول التحدث معه بما يناسب آراءه، على ما يبدو هو من النوع الذي إذا اتخذ رأيا أو قرارا فهو لا يتراجع عنه بسهولة
_هو كذلك!
عقب خليل على كلامه ليفاجأوا بقدوم والد خليل عليهم، كان هذا اللقاء في المسجد لذا من الطبيعي أن يلاحظهما، سلم على معاذ وسأله عن حاله ورد الأخير بالمثل، ظل ممسكا بيد والد خليل ليبتعد به قليلا وهو يقول:
_أود التحدث معك قليلا في أمر مهم
تركه خليل ولم يلحق به متمنيا أن تكون النتائج إيجابية، ابتدأ معاذ كلامه قائلا:
_لا أعلم يا عم كيف أبدأ معك حديثي ولكن لا بد أن نتحدث عن هذا
ظل صالح يحدق به مندهشا، مترقبا ذلك الأمر الذي يود الحديث عنه، ممهدا له الطريق بالقول:
_تفضل يا بني، كلي آذان صاغية!
إن معاذا يدرك جيدا أن النظر إلى الشخص الذي يحدثه يجعله يأخذ انطباعا أنه يثق تماما بما يقول، لذا نظر إليه بكل ثقة وقال:
_أعتذر لتدخلي الذي ربما ليس لي به حق، ولكني سأحدثك من واقع تجربتي، لمَ لا تكسر الحواجز التي بينكم وبين ذلك الشاب الذي يدعى جمال؟ ألا تعتقد أنه ليس من الحكمة أن تتركوا الشاب الذي عاد إلى المسجد وحيدا في خطواته الأولى في هذا الطريق؟
شعر صالح كما لو أن هذا السؤال قد حشره في الزاوية، لكنه لن يعدم الحيلة إذا ما أراد الدفاع عن رأيه، رد عليه محاولا التبرير لما يفعله:
_يا ولدي إني ما منعت أولادي من مجالسته إلا حينما رأيت خليلا يتغير بسبب ذلك، وأنت تعلم حجم تأثير الجليس، وإني لم أره في المسجد إلا من بعد ذلك المنع، فلمَ لا آخذ احتياطي في الأمر؟
كان رده متوقعا بالنسبة لمعاذ الذي عرف القصة كاملة من خليل، لذا بادره بالرد بنبرة هادئة عله يستطيع تغيير رأيه:
_معك حق بشأن تأثير الجليس، ولكن في الواقع كان من الخطأ أن تدعوا خليلا بمفرده يذهب إليه، لمَ لَمْ تجالسوه أنتم جميعا؟ لمَ لمْ تسمح لإخوة خليل بالذهاب معه؟ أعذرني على هذا القول ولكن لقد قسوتم عليه، ربما لولا أن خليلا من تلقاء نفسه أراد مجالسته لما اهتممتم لأمره نهائيا، كما أن طلبك من والده أن يبعده عن أبنائك كان قاسيا للغاية، أعذرني لفظاظتي يا عم، ولكن أنت أب وتعلم جيدا كيف يمكن للأب أن يشعر بالحزن على أولاده؛ إذا ما رموا من قبل الآخرين بالسوء، وتعلم أيضا كيف أن الأبناء أحيانا يتمردون على آبائهم، وكيف أن نتائج أفعالهم تؤذي آباءهم أيضا، كيف وقد زدت الأمر عليه وطلبت منه أن يبعد ابنه عن أبنائك؟
لم يعرف صالح كيف يرد عليه، لقد وضعه أمام الأمر الواقع، لن يستطيع إنكار شيء مما قاله معاذ الآن، هذا الأخير لم يتوقف عند هذا الحد بل قال:
_اسألني أنا عن هذا، لقد توفي والدي باكرا ولكن والدتي عانت كثيرا بسبب ما كنت أفعله، سمعتي السيئة انعكست عليهم ما جعل الناس يلمزونهم بين الحين والآخر، ولولا فضول خليل وتحدثه معي كل تلك الليالي على الرغم من أنه لم يكن يعرفني -لكنت حتى اللحظة تائها في حياتي، من يدري ربما كنت أعقب ذلك البؤس بانتحار
بعد أن مهد الطريق أمام الشيء الذي أراد الحديث عنه منذ البداية استغل صمت صالح وقال:
_أنا أعدُّك شيخا لي لذا لا شك أنك تعلم نهي النبي صلى الله عليه وسلم أن يهجر المرء أخاه فوق ثلاث، قال عليه الصلاة والسلام (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام) لذا لمَ لا ننهي هذه القطيعة عند هذا الحد؟
على الرغم من أن صالح صاحب الخطأ في هذه القطيعة إلا أن معاذا أراد سحبه نحو الصلح بسلاسة، وهدوء دون إثارة المتاعب، حينها نطق صالح مجبرا نفسه على قول حقيقة ما يفكر به:
_لا مشكلة لدي في ذلك، ولكن أنت تعلم أنني أنا من أوصل الأمر إلى هذا الحد، وأنا لا أستطيع كسر هذا بسهولة، لذا...
قاطعه معاذ قائلا:
_سأتكفل بالأمر، فقط كن متجاوبا معي، اتفقنا؟
_على بركة الله!
رد صالح عليه ليقول معاذ موضحا كيفية الحل:
_سأدعوكم جميعا إلى منزلي، وهناك سيكون الصلح، آمل فقط أن تحضر أنت ووالد جمال، هذا سيكون معينا أكبر لحل المشكلة
أجاب صالح عن نفسه:
_أما أنا فأعدك أن آتي، أما هو فهذا عائد إليك إن استطعت إقناعه
_آمل أن أستطيع!
بذلك فقط علق معاذ لينهي هذه المحادثة بعد ذلك، ممنيا نفسه بتحقيق هذا الصلح
**********
في اليوم الموعود للصلح كان معاذ قد هيأ كل شيء لأجل هذا الغرض، بيد أنه طلب من جمال ألا يخبر والده بحقيقة هذه الدعوة، وأن يحرص على إحضاره معه، وقد كان له ما أراد
صدم والد جمال فعلا حين رأى الضيوف الآخرين، في هذا البيت الذي دعي إليه هو الآخر، لكنه ظن أن معاذا لا يعرف ما بينهم، ففضل ألا يتحدث عما جرى سابقا بينهم
في الماضي كان يسمع شكات القوم على ابنه ويصدقهم؛ نظرا لأنه ظن أن أمثالهم لا يمكن أن يكذبوا، لكن بعد كل الذي حدث له مع ابنه فتح عينيه على حقيقة مرة، لذا هو الآن فقط يتساير معهم فيما يرى فيه مصلحته، وبالطبع لأنه أراد إخفاء الأمر عن معاذ فقد دخل وسلم على جميع الحاضرين، وذا ما كان معاذ يسعى إليه منذ البداية، السلام أول ضربة تكسر قيود الخصام، حينها فجر قنبلته التي لم يكن يعرف بها سوى ثلاثة: خليل، ووالده، وجمال.
¶____________________¶
انتهى الفصل العاشر
ولله الحمد والمنة
أتمنى لكم قراءة ممتعة، ولا تنسوا مشاهدة المقطع في الأعلى
دمتم في رعاية الله
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top