الفصل الرابع والعشرين
الفصل الرابع والعشرين|| جحيم قلب
_هل أصدق ما تراه عيناي؟
سؤال من شخص غريب طرحه ليلفت نظر خليل ومعاذ معا، عرفه معاذ فوجه له سؤالا بالمقابل:
_وهل أصدق ما تراه عيناي أنا أيضا؟
ضحك ذلك الشاب ثم أقبل عليهما مسلما، مادا يده للمصافحة، صافحاه ثم سأله معاذ:
_إذن هل أنت أحد الهاربين من ذلك الجحيم؟
سؤاله كان غريبا بالنسبة لخليل لكنه فضل سماع الإجابة، في النهاية يبدو أن معاذا يعرفه من قبل، هز ذلك الشاب رأسه إيجابا ثم قال:
_بالكاد استطعت ذلك، وشكرا لك لأنك كنت سببا في هذا يا معاذ
_أنا؟ كيف؟
باستغراب ودهشة سأله معاذ عقب الذي قال، ليجيبه ذلك الشاب والابتسامة لم تفارق محياه:
_لم يبقَ أحد إلا وعلم عن توبتك، أو دعنا نقل تمردك، بالنسبة لي شخص مثلك لا يمكنه أن يسلك هذا الطريق لتقلب مزاج أو ما شابه، لذا قررت أن أحذو حذوك
أثارت كلماته شيئا ما في نفس معاذ، ربما هو لا يرى نفسه أهلا لشيء كهذا، لكن في النهاية هو سعيد الآن، رد على الشاب الذي قبالته:
_آمل أن أكون عند حسن الظن
_ليس من العدل أن تتحدثا هكذا وأنا أنظر إليكما فحسب!
تعليق خليل الذي قاطعهما ليجعلهما يضحكان على ذلك الموقف، تكلم معاذ موضحا:
_هذا الشاب اسمه إبراهيم، إنه أحد ضحايا المخدرات مثلي، كان لي به معرفة ما سابقا
ابتسم الشاب لذلك التعريف في حين أخذ معاذ مهمة تعريف خليل إليه قائلا:
_وهذا خليل، خليل عبد العليم، إنه الشاب الذي انتشلني مما كنت فيه
_الفضل لله وحده
عقب خليل قبل أن يتحدث أحدهما بشيء، دارت بعدها حوارات صغيرة بينهم، تعرف فيها خليل على الكثير من حياة هذا الشاب، بدا جيدا أن له معرفة بأمجد أيضا، وكل ما يرجوه خليل الآن هو أي معلومة ستفيده ضد أمجد
ومنذ هذا اللقاء بإبراهيم حتى بعد مرور شهر من ذلك كان خليل يسأله كثيرا وهو يجيب، على عكس معاذ الذي كان حذرا وقليل الكلام، كان يخاف على خليل ولا يحدثه بما يجعله يتهور ويذهب لمواجهة أمجد، أو أن يقول له شيئا حين يلتقيه صدفة
تلك الأحاديث التي لمْ يضن بها إبراهيم على خليل شيئا كانت كالوقود الذي يزيد خليلا اشتعالا، سيما حينما مر ذات يوم وهو عائد من أحد الأماكن ليجد أمجد في وجهه، تقاطعا في الطريق الذي يسيران فيه ليتحدث خليل بعد أن أصبح كلا منهما ظهره للآخر:
_هل أسمي هذه صدفة؟
_وإن كان فلمَ لا تحسن استغلالها؟
جاءه سؤال أمجد فيما بدا له أنه سخرية وتحدٍ في نفس الوقت، بالقرب منهما وقف شخص ثالث يستمع إلى ما سيدور بينهما دون أن يلفت نظرهما، أو نظر خليل على الأقل، رد خليل على ذلك السؤال:
_ولمَ لا تفعل أنت ذلك؟
_لا أحتاج للصدف حتى أفعل ما أريد
جواب اتسم بالتحدي والفخر كالأول، بدأت أجوبته تستفز خليلا، ما دفعه ليقول:
_أظن أننا متشابهين نوعا ما
ربما هما ليسا كذلك، ولكن هذا ما استطاع خليل أن يقوله وهو يحاول أن يضبط أعصابه، توقع ردا جافيا من أمجد وقد كان حين أجاب:
_كلا يا عزيزي لسنا متشابهين أبدا، فأنا أفعل ما أريد، وأقود الجميع، لست تابعا لشخص تافه يدعى معاذا!
ما إن نطق اسم معاذ حتى كاد خليل أن ينفجر غضبا، التفت ناحيته وقال بصوت مرتفع:
_إن كان معاذ هو الشخص الذي عرف كيف ينكد عيشك فثق تماما أنني سأتبعه، سأتبعه بكل فخر ولا أبالي، لن أمانع أن يوجهني حيث شاء
كلمات مشابهة لأخرى قالها قبلا، دفعت الشخص الثالث المستمع لهما تزداد حيرته وشكوكه، إنه يوسف من غيره، في كل مرة يثبت له خليل أكثر فأكثر أنه نسخة منه ومعاذ نسخة من أمجد، رغم أنه لم يقصد ذلك، لكن ما يزعجه الآن أن خليلا أعلن التحدي ضد أمجد بل في وجهه مباشرة، وهذا يعني أنه حتما لمْ يبالِ بتحذيراته له مسبقا
ظل واقفا يسمع ما سيرد عليه أمجد حين التفت إليه، بابتسامته الواثقة تلك زين ثغره ثم قال:
_سنرى يا فرخ الدجاج كم يمكنك أن تصمد أنت ومعاذك هذا
قذف ذلك التحدي الممزوج بالسخرية في وجهه ثم غادر، انسل يوسف من بين الجموع وغادر هو الآخر قبل أن يلحظه خليل، وقد بات خوفه على ميمونة يزداد ويتعاظم، ما الذي جهزه خليل لحمايتها كي يعلن هذا التحدي ضد أمجد؟
**********
مرت الأيام ولم ينتهِ الأسبوع عقب ذلك التحدي بعد، ولم يخبر خليل معاذا عن ذلك شيئا؛ يعلم يقينا أن معاذا سيغضب منه كثيرا، لكن ذلك قد يجعل معاذا يخاطر ويساعد خليلا في شيء، وذا ما جعله يستدعيه إلى منزله على وجه الضيافة، لكنه يوم الجمعة، لم يكن معاذ وحده هو الضيف، بل أشخاصا آخرين، وقد كان لزيارتهم هدفا آخر
هدفهم _الذي أخذ أحدهم يلمح إليه تلميحا_ كان خطبة ميمونة، ولأنهم هم ذاتهم الذين كانوا يحرضون الآخرين على مقاطعة خليل بعد ذلك الموقف في مجلسهم -لم يستطع خليل أن يصمت بعد أن فهم تلميحهم، ليقولها صريحة:
_أفهم أنكم جئتم بهدف خطبة أختي، يؤسفني أن أخبركم أن هناك من سبقكم إلى هذا
كل من في المجلس التفت ناحيته، أولهم والده الذي يعلم يقينا أن لا أحد قد سبقهم بهذا، شك في أن خليلا يحاول صرفهم فحسب؛ لأنه يعلم أن والده لن يردهم، سأله أحدهم:
_ومن هذا الشخص الذي تتحدث عنه؟
_إنه معاذ!
قالها وهو يشير إلى معاذ الذي يجلس على يمينه، كاد معاذ أن يصرخ به نافيا ويفسد كل شيء؛ فهو لم يقل ذلك أبدا، لكن خليلا نظر إليه نظرة ذات مغزى، وأمسك يده بشدة في أثناء كلامه معه وكأنه يشجعه، لكنها كانت رسالة بمعنى (واصل المسرحية)
_هيا يا صديقي أخبرهم أن هذا هو سبب قدومك اليوم، وأنك أخبرتني عن هذا سلفا
لم يعرف معاذ كيف يجيب، لقد غرق في إحراج شديد، لم يستطع حتى أن يرفع نظره تجاه أحد منهم، أخفض رأسه مجبرا نفسه على مواصلة المسرحية وقال بتلعثم:
_هذا... صحيح!
كان يتوعد خليلا في داخله أيما وعيد، إنه حتى لا يعرف لمَ خليل يفعل ذلك، سمع صوت عبد العليم يقول:
_وأنا لا أستطيع أن أرد شابا خلوقا مثلك يا معاذ
زاد حرجه أكثر من ذي قبل، أراد أن يرد عليه فخرجت كلماته مهزوزة:
_أفخر بشهادتك يا عم
بالكاد رفع رأسه لينظر إليه وهو يقول ذلك، ابتلع ريقه بصعوبة وهو يرى أن أولئك الأشخاص قد بدا الامتعاض واضحا على وجوههم، موقف لا يحسد عليه، ورغم أن خليلا هو من ورطه بذلك إلا أنه كاد أن ينفجر ضاحكا عليه، لكنه يعلم ما الذي سيحدث إن هو ضحك الآن
مرت الدقائق في ذلك العصر عصيبة، وأتى المغرب ليفك أسر معاذ الذي لم يعد حتى يستطيع أن يستأذن للانصراف، استطاع حينها أن يستأذن للمغادرة متعذرا بدنو وقت المغرب، خرج بعدها ومعه خليل حتى يوضح له كل شيء
_آسف لأنني ورطتك في هذا!
قال خليل معتذرا وقد بدت جديته فيما يود قوله، رد معاذ قبل أن يقول خليل أكثر من ذلك:
_إنني الآن أود تحطيم رأسك على الموقف المحرج الذي أوقعتني به
_حافظ على رأسي حتى تسمع ما يجعلك ترغب حقا في تحطيمه
رد خليل وهو يضحك على تعليق معاذ، لكن هذا الأخير ازداد قلقا فسأل:
_ما الذي حدث إذن؟
حاول خليل أن يسير به بعيدا قليلا حيث يضمن أن لا أحد سيسمعهما، ثم قال:
_بالنسبة لهذه الخطوبة المزيفة فسامحني لأن لا هدف لها أكثر من إبعاد أولئك الأشخاص عن أختي
يفهم معاذ السبب جيدا فهو يعرف القصة كاملة، لكنه الآن مكلف بمهمة ثقيلة، طرح السؤال الذي يدور في ذهنه على خليل:
_وماذا لو عاد يوسف قريبا؟
هو ذاته السؤال الذي يسأل خليل نفسه، أجابه بالإجابة الوحيدة التي تدور في خلده:
_هذا سيكون راجعا إليها، وربما إليك أيضا
شعور بالعجز ألجم معاذا عن الكلام، لم يعد يعرف كيف يتكلم، بل كيف يفكر حتى، أي الأفكار ستكون صوابا؟ لكن سؤالا آخر انتشله من بين ذلك كله فقال:
_وماذا لو أنه أُجبر على تطليقها؟ تعلم أن الطلاق بالإجبار لا يقع
هنا نفث خليل أنفاسه المحتبسة في صدره ليرد:
_أنا أيضا أفكر بهذا، لكن في الوقت الحالي ليس لنا إلا أن نبعد من يريد أن يتقدم لخطبتها، ثم نحاول إعادة يوسف، حين يعود سنفهم الكثير، وسنعرف كيف نتصرف
صمت فكان الصمت سيد الموقف؛ معاذ لم يفتح فمه مجددا، دنت الشمس أكثر نحو المغيب، ما جعلهما ينفضان الصمت القائم بينهما ويعود خليل للحديث عما أراد منذ البداية
أخبر معاذا بما حدث بينه وبين أمجد، غضب معاذ كما توقع خليل، كان منفعلا جدا، أخذ يعاتب خليلا بانزعاج من تصرفه، إن من يعرف أمجد حق المعرفة لن يتعامل مع التحدي ضده بسهولة هكذا كما فعل خليل، هو يظن أنه بإمكانه أن يواجهه، وأن يخرجه مهزوما من هذا التحدي
لكن معاذا يرى أن ذلك تهورا لا أكثر، وكشف لما يود فعله به، وهو الأمر الذي يفضله أمجد كثيرا في خصومه: أن يكونوا واضحين ومكشوفي التفكير، هذا يجعل خططهم تغدو بلا طائل، فمن يريد أن يواجهه عليه أن يكيد له بصمت، وذا ما كان معاذ يعرفه جيدا، وما كان يخيف أمجد منه أيضا
ولكن كل شيء انتهى الآن، لم يبقَ لخليل سوى أن يقتحم هذا التحدي ويخاطر ويغامر، ولم يبقَ لمعاذ سوى أن يعينه على ذلك، ولن ينسيا بالطبع جمالا، مع أن في الأمر مخاطرة كبيرة، وهما لا يريدان خسارة الكثير من المقربين لهما
**********
جرَّت الشمس بغروبها رداء الظلام ليغطي السماء خلفها بالتمام، ليلة ذات شجون حلت على الأجواء، استبق خليل الحديث إلى ميمونة قبل والده، أخبرها أن الأمر سيكون مجرد تمثيلية فقط، إلا إن كان لها رغبة أخرى، انهالت بسخاء دموع الحزن من عينيها، أي رغبة أخرى بقيت لتسكن قلبها؟
إن استفتت قلبها فهو متأرجح على حبل المشاعر المضطربة، فلا يدري أصواب في حق يوسف الكره أم لا! إن نظرت إلى ماضيه فهو مشرق لا تكاد تشوبه شائبة، وإن نظرت إلى الظروف التي غيرته فهي بالفعل عصيبة، ولكن إن نظرت إلى ما فعل وكيف تصرف تجاههم لن تجد له عذرا، وما كان يؤذيها هو ذاته الذي يؤذي خليلا: محاولة إبعادهم عنه بشتى الوسائل التي يقدر عليها
ألا يثق بهم؟ أم أنه بات يكره تدخل خليل في كل معضلة يمر منذ أن كانا صغيرين؟ هل يرى هذا التصرف من خليل تقليلا لشأنه؟ أم أن الأمر حقا أكبر مما يتصورون؟ وإن كان فمجددا لمَ يصر على إبعادهم دون تفسير؟ لمَ أسلوب الجفاء والعنف من بين جميع الأساليب قام باختياره؟
بدا واضحا أن الجرح الذي في قلبها لا زال راعفا، كانت تتمنى أن تتحدث معه ولو لمرة واحدة بعد أن دفعها ذلك اليوم، فضلت أن يكون حديثهما مباشرا لا أن يكون عبر الهاتف، زاد من هذه الرغبة المواعيد التي حُددت في كل مرة لأجل زيارته، ولكن إحداها لم تحصل، وحين قررت استخدام الهاتف أتتها المصيبة التي لم تحسب لها حساب: طلاقها!
فقدت الرغبة بكل شيء آنذاك، امتص الحزن كل لون زاهٍ للحياة في عينيها، غدت الدنيا باهتة كئيبة غير مناسبة للعيش بفرح أو سعادة، وغيوم الذكريات تغرقها بين الحين والآخر، جاعلة إياها أسيرة الماضي، ومقعدة الحاضر، مهدومة كل رغبة، سيما تلك التي تدور في فلك الزواج
حكت دموعها حقيقة ما في جوفها، وكان الجالس قبالتها في غرفتها يعي ذلك جيدا، لكنه مهتم بقرارها، كما أن عدم علمها بما ينوي فعله سيفسد الأمر برمته؛ فإن لم يتحدث معها بأن خطبة معاذ ما هي إلا إحدى حيله لربما قد ترفضه حين يتحدث معها والدها، وهكذا يغدو الباب مفتوحا لمن أغلقه في وجوههم سابقا، هو ليس بحاجة إلى مزيد من المشاكل في الوقت الراهن
بذل جهدا كبيرا في محاولة منه لمواساتها، ساءه كثيرا أن يراها مطرفة الدمعة، هذا الوجه الذي تحمله لطالما نبض بالحياة، لطالما نبض بالبهجة، رؤيتها هكذا منطفئة يعود عليه بأثر سيء، وإن كان سيقول شيئا فعليه أن يعترف أن وجهها الباكي والحزين هذا هو أحد أكبر الأسباب التي تدفعه لمحاولة انتشال يوسف من المستنقع الذي وقع فيه
استطاع أخيرا أن يجعلها تهدأ، وأعطته جوابها، ستكمل التمثيل فحسب، لكنها لن تقبل بأي خطبة حقيقية، لو أن الناس فقط يصمتون ويكفون ألسنتهم عن الفتيات اللاتي لا يرغبن بالزواج، وعن أولئك الأخريات اللاتي أصبحن في قائمة تسمى (المطلقات) لو أنهم يدعون ما يعانينه وحده هو كل ما يواجهنه في هذه الحياة، ويدعوا القلوب المتألمة مكتفية بما فيها من ألم، ولا يزيدوا الطين بلة، والمرض علة، كما يقال!
في حين كانت هي تتجرع الحنظل في سبيل مواصلة العيش كان ذلك الذي عانت بسببه يستمع إلى حديث قرين الإنس الذي بات يستغل كل شيء ليدبر مكيدة جديدة، يصغي يوسف إلى أمجد الذي أخبره عن أن الناس باتوا يتناقلون خبر طلاقه لميمونة، وكيف أن ذلك بات خبر الصدمة الرائج بينهم، لكن الصدمة الحقيقية كانت أن خبر طلاقها لم ينتشر إلا حين شاع خبر آخر، خبر خطبتها لمعاذ!
كانت تلك الجملة بمثابة الضغط على زر التفجير في داخل يوسف، كيف يمكن لمعاذ أن يتجرأ ويتقدم لخطبتها؟ وكيف لخليل أن يسمح بذلك؟ كيف يمكن للجميع أن يرضوا بهذا؟ كيف لمعاذ أن يسيرهم هكذا بسهولة دون أن يكون لأحدهم ردة فعل مضادة؟
أظهر أمجد وجه الشفقة على حاله، ورغم أن ذا لم يكن يرُق ليوسف إلا أن إظهار هذا الوجه اللين نادرا من أمجد جعل يوسف يصدقه، فوقع حطبا لمكيدة أخرى، لا زال أمجد يوقد تحتها، جملة من هنا، وكلمة من هناك واستطاع أن يجعل من يوسف قنبلة حقد موقوتة على معاذ، توشك أن تنفجر!
**********
بلا شهية أخذ يتناول عشاءه حين عاد إلى منزله، أصبح لؤي يتجنب الاحتكاك به كثيرا في الآونة الأخيرة، يتناول طعامه مع زوجته، تاركا والديه مع يسرى ليكونوا رفقة يوسف، إن كان هذا الأخير موجودا، وإن كان غائبا تناولوا طعامهم معا، وهذه الليلة أيضا فضل لؤي تركهم معه، وجومه أصبح شيئا معتادا بالنسبة لهم، أخذ والداه يتحدثان بينهما، وهو ويسرى حديثهما الصمت فقط
لاحظت يسرى حزنه، كان يخفي شيئا حقا، لكنه لم يخبر أحدا، ويبدو أنه لا يريد أن يفعل، لكنه هذه المرة يبدو أكثر تعاسة، فهل وصله خبر خطبة ميمونة؟ لقد تعمدوا ألا يخبروه، وكل له قصده من ذلك، لكن في النهاية بدا لهم أن معرفته من غيرهم أفضل لهم
_يوسف كُل!
نطقت يسرى لتكسر تلك الحواجز التي شُيدت بينهم وبين يوسف، كلامها المباشر له أثار استغرابه، أردفت وهي تتصنع الغضب:
_لن أعطيك شيئا إن لم تأكل الآن، لا تأتِ إلى غرفتي لتوقظني من عز نومي لأجل معدتك الفارغة
تبسم ضاحكا من تلك الجملة، هو لا يذكر متى كانت آخر مرة طلب منها أن تصنع له طعاما في الليل، بدا واضحا أنها تحاول أن تعطيه رسالة ما، بدا واضحا أنها تشتاق لتلك الأيام التي كان فيها يوسف طبيعيا، أو ربما هي تشتاق ليوسف ذاك نفسه
من ناحية والديها فقد ظنا أنه عاد لسابق عهده، يوسف الطبيعي الذي يتمشكل مع شقيقته في النهار، ويتفقون على شيء ما يعود لصالحهما في الليل، يوسف الذي يملأ حياة شقيقته حتى لا تشعر بالوحدة؛ كونها الابنة الوحيدة لعائلتها ولا أخوات لديها، هو الأقرب سنا منها، والأكثر فهما وقربا لأفكارها
فارق العمر الذي بينها وبين لؤي كبير جدا، قرابة الاثني عشر عاما، كما أنه عاقل جدا، ويميل إلى عدم الحركة أو الكلام الزائد
ورغم أن سكينة وحتى ميمونة كانا كالأختين لها إلا أن يوسف كان الأقرب، والأفهم، والأكثر اهتماما، فهل يفهم الآن أن يسرى منزعجة من تغيره، وأنها تود فهم ما يحدث معه؟ هل ستكون قادرة على تحمل الحمل الثقيل الذي يمثله سره، وتدفنه في أعماقها فلا يعرفه أحد سواها؟
سُرَّت يسرى بتلك الابتسامة حين استشعرت صدقها، يمكنها أن تلحظ انقشاع ذلك الضباب الذي غطى نظراته طوال المدة المنصرمة، ولسوء حظها لم تستطع إنهاء الموقف على نحو مماثل للذي بدأته، فأصيبت بالإحراج من نظرات المتحلقين حولها، أنقذها يوسف حين هوى بيده إلى الطعام الذي أمامه قائلا:
_حسنا سوف آكل، لا أظنني قد أصبحت نشيطا بما يكفي لجعلي أخرج لأجلب لنفسي الطعام إذا قرصني الجوع لاحقا
_لا تبقَ جائعا حتى وإن لم تجد من يحضر لك الطعام، انظر إلى نفسك كم خسرت من وزنك في الآونة الأخيرة
جاءه تعليق والدته مفاجئا، لقد بات يخسر وزنه حقا، هل هذا هو الجسد الذي سيواجه به أمجد مستقبلا؟ إنه يدرك أن شهيته للطعام باتت تقل تدريجيا، وذا ما أثر على قدرته في تناول الطعام
وهو يعلم أيضا أنها إحدى آثار تعاطي المخدرات، لقد أصبح أسيرا لها أكثر من ذي قبل، ووحدها ستكون كافية ليخنقه أمجد بها مستقبلا، أو يسيره حيث يشاء، كان بإمكانه أن يوقف هذا باكرا ولكنه استهان بالأمر كثيرا، وهو حتى الآن لم يتوصل إلى شيء يمكنه أن يمسكه على أمجد، هذا الأخير حذر للغاية، وفوق ذلك يعرف كيف يجره إلى الهاوية بهدوء، مريحا نفسه من عناء المقاومة
إنْ تذكر الآن فمعاذ يمسك على أمجد حقيبة ما، هو لا يعلم ما فيها، لكنها حتما تحمل شيئا يدين أمجد، فهل سيتمكن من الوصول إلى شيء كهذا عند أمجد مجددا؟ أم أنه لن يسمح لما حدث مع معاذ أن يتكرر؟
_يوسف!
انتبه لنداء أمه فنظر إليها ليجيب، وجدها تحملق فيه باستغراب ثم قالت:
_لمَ لا تجيب؟
يجيب ماذا؟ إن سألته فهو لم يسمع سؤالها، لم يعرف ماذا يقول، اكتفى بخفض رأسه لينظر أمامه بصمت، علقت يسرى لتنقذه من الموقف:
_لا بأس يمكنك أن تطلب مني في أي وقت، المهم ألا تبقى جائعا، أكره رؤيتك ضعيفا هكذا
لمْ تقل (نحيلا) بل قالت (ضعيفا) تعمدت اختيار هذا اللفظ لتجعله يشعر أين سيصل في النهاية إن استمر على هذا النحو، استغل تدخلها ليقول:
_إذن سوف أزعجك دائما
_على الرحب!
ردت عليه لتحرجه بدلا من أن يتمكن من إزعاجها، وهي التي قالت قبل قليل أنها لن تطعمه إن أتى لها في وقت آخر، غمرته مشاعر دافئة إثر ذلك الحديث الصغير الذي دار بينهم، إنه شعور الانتماء، شعور العائلة الدافئ، شعور الالتجاء إلى ملاذك الأخير من البشر، هو ذا الشعور الذي حرم نفسه منه منذ أن بدأ تقمص شخصية الغاضب المنزعج من كل شيء، والذي لا يريد لأي صوت أن يعلو على صوته، فمتى سيتمكن من استعادة العيش معهم بروح المحبة التي جمعتهم لسنوات؟
ما حدث الليلة دفعه لأن يأخذ بالقرار الذي ظل يتردد في اتخاذه منذ شهر تقريبا، قرار اتخاذ شخص ما يبوح له بما يحدث في الحقيقة، يخبره بما يختلج في صدره كل ليلة، وحين كانت يسرى هي خياره الوحيد كان يخشى ألا تصمت، هو يريدها فقط مستمعة إليه، لا متدخلة في ما يحدث معه
انتهى العشاء وتفرق الجمع، التجأ إلى حصنه الصغير _غرفته_ وظل يفكر في ما حدث، وما ينوي فعله، استغرق الأمر منه ساعات، إلى أن توصل إلى فكرة: أن يختلق دعوى أنه جائع
هبط إلى الأسفل متجها نحو غرفة يسرى، كان الليل قد انتصف لكنها لا تزال مستيقظة، سمحت له بالدخول وهي تتوقع حقا أنه قادم لأجل ما اعتادت عليه، نطقت ضاحكة:
_إذن ما الوجبة التي جئت من أجلها؟
سؤال انبثق من معرفتها به في الماضي، فقد كان يأتي إليها ليس فقط ليطلب طعاما، بل يحدد نوع الطعام الذي يريده أيضا، ضحك على سؤالها ثم مد يده بهاتفه نحوها وقال:
_أريد هذا
نظرت في شاشة الهاتف لتقرأ (هل يمكنني أن أخبرك بكل ما حدث ويحدث معي، في المقابل عليك ألا تخبري أحدا بشيء مما أقوله لك؟ أتعدينني بذلك؟)
عادت بنظرها إليه وهي مندهشة، وربما مصدومة أيضا، وحين طال صمتها نطق:
_هل يمكنك ذلك؟
هي تعرف ماذا يعني هذا، لا شك أنه عانى كثيرا وهو يحتفظ بسره لنفسه، صحيح أنه اختارها من بين الجميع لأنه يثق بها، ولكن هذا يعني أيضا أنه يثق أنها لن تقدر على فعل شيء لأجله، لكنه يخشى أن تقرر إخبار أحد ما لأجل مساعدته، ولهذا يطلب منها ألا تخبر أحدا، ورغم كل شيء هي لن تضيع فرصة كهذه وُضعت بين يديها على طبق من ذهب، وقفت أمامه وقالت بجدية وثقة:
_أجل، يمكنني!
شعور بالسعادة غمر فؤاده لحظتها، همس ممتنا:
_شكرا لك!
_على الرحب والسعة!
ردت وهي لا تريد أن تشعره بأنه محتاجا إليها، وأنه لا يمكنه فعل شيء دون مساعدتها، تحدث إليها مجددا:
_حين تنتهين تعالي إلى غرفتي، من فضلك!
_حسنا!
مد إليها بهاتفه ثم غادر صاعدا إلى غرفته، ترك لها الهاتف مفتوحا على قصته التي كتبها باختصار لتقرأها، خرجت إلى المطبخ لتعد له شيئا سريعا وهي تقرأ تلك الرسالة، كانت تبكي تارة، وتغضب تارة، وتتعجب أخرى!
¶____________________¶
انتهى الفصل الرابع والعشرين
مرحبااااا
فصل اليوم هادئ نوعا ما
لكن الأحداث القادمة صادمة جدا
انتظروها فحسب ;-)
بالمناسبة يا بنات من منكم عندها أخ يطلب وجبات آخر الليل؟ XD
رأيكم بموقف يسرى؟ توقعاتكم للقادم؟
إلى فصل قادم قريبا بإذن الله 🌹
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top