الفصل الثامن والعشرين

الفصل الثامن والعشرين|| الرحيل

غادرا المشفى بعد أن عاينه الطبيب وأبلغه عن حالته، يطويهما صمت قاتل، طال حتى ركبا في السيارة من جديد

الصباح لا زال في أوله وهما نزيلا المشفى، رغم ذا فضل معاذ ألا يعلم أحد السبب الحقيقي لذهابهما، لكنه لن يفلت من خليل بعد أن عرف، كسر حاجز الصمت سائلا له:
_منذ متى وأنت على هذه الحال؟

أخذ معاذ يمرر أصابعه بين خصلات شعره بتوتر، لا يعرف كيف يجيب، في حين استمر خليل بالقيادة منتظرا الجواب، التفت نحوه حين طال صمته فرد سريعا:
_لا أعلم كم عمر هذا المرض، لكنني عرفت عنه قبل أن نذهب في تلك الرحلة إلى الساحل

_هذا كثير، لماذا لم تتعالج منذ ذلك الوقت؟

_أخبرني الطبيب عن سوء حالتي حين ذهبت للمشفى لأعرف ما هو مرضي، ولم أشأ أن أخبر أحدا حتى لا أقلقكم، بعدها استفحل المرض أكثر فيئست من علاجه، إن علاج شخص شبه ميت مجرد خسارة ليس إلا

أوجعت كلماته خليلا فعجز عن الكلام، فكما أخبره الطبيب أن لدى معاذ سرطان في الرئة، وقد استفحل كثيرا، وأيامه باتت معدودة، شعر بالاختناق حال تذكره لذلك، أراد أن يبدو أكثر جلادة فعمد إلى الكلام:
_إذن يجب أن نلغي سفرنا

_ومن قال لك ذلك؟ لا بد أن نسافر، لا بد، لا يمكنني أن أموت قبل أن أفعل شيئا، يجب أن يلقى أمجد عقابه على كل ما فعله

هو الآخر اهتزت نبرة صوته وهو يتحدث، شعور كلًّا منهما بالانكسار لم يعد يخفى على الآخر، رغم حاجة خليل الشديدة إلى معرفة ما عند صديق والد معاذ إلا أنه لم يعد يرغب بأخذه بعيدا عن عائلته، يريد له أن يقضي أيامه الأخيرة معهم، حاول ثنيه مجددا فقال:
_لقد حاولتَ أن تكون مسالما دائما حتى تقضي مع عائلتك أيامك الأخيرة بهدوء، أفعالك منذ ذلك الوقت الذي علمتَ فيه بمرضك تدل على هذا، فلمَ يجب عليَّ أخذك بعيدا عنهم؟

احتدت ملامح معاذ انزعاجا مِمَّا سمع، رد ولم يخفِ تلك النبرة المنزعجة:
_يجب عليك ذلك لأنه لا أحد سيأخذك إلى العم نعمان، يجب عليك ذلك لأنها الفرصة الوحيدة التي نأمل بها أن نجد ما يوقع أمجد في قبضة العدالة، يجب عليك ذلك لأنه إن نجح مخططنا سنستعيد يوسف، أنا لا أرغب له بأن يكرر ما فعلتُه، لا أريده أن يعيش الجحيم الذي عشتُه

أخذ يسعل عقب ذلك الانفعال ما دفع خليل لأن يقول:
_لا بأس لا تضغط على نفسك، ولكنك متعب في الوقت الحالي، أليس من الأفضل أن تؤجل سفرك حتى تكون بحال أفضل؟

_وما أدراني كم سأعيش بعد اليوم، الخميس بعد غد لذا… سيكون اليوم وغدا كافٍ لآخذ راحتي

تنهد ثم أردف:
_لن يرتاح لي بال حتى أراه مكبلا بالأغلال

أراح رأسه على مقعد السيارة وهو يحاول أن يتنفس بهدوء، استرق خليل إليه نظرة ليجده مغمض العينين، شاحب الوجه، يمكن لأي شخص أن يعرف أنه متعب، ومريض جدا، أوصله خليل إلى منزله، مرددا له الكثير من العبارات التي تطالبه بإراحة نفسه، وهذا الأخير يهز رأسه موافقا، محاولا إسكاته قبل أن يأتي أحد من عائلته ويكتشف أمره

**********

تهدأ الدنيا ويأوي الناس إلى منازلهم حين يحط الظلام رحاله على الأرض، بعد أن تعلن الشمس رحيلها نحو الغروب، تمر بضع ساعات حتى تكون الشوارع أشبه بالمهجورة، فيكون ذلك الهدوء مزعجا أحيانا، كذاك الذي احتل شوارع المدينة عقب غروب شمس الأربعاء، فاتحا الباب على مصراعيه أمام جيوش الأفكار التي غزت عقل يوسف خالي الحماية

إنها آخر مهلة أعطاها له أمجد، حاول أن يقنعه بأن يحاول قتل معاذ لمرة واحدة فقط، لكنه رفض بشدة، بل سخر من هذا الطلب؛ كون يوسف يطلبه دون أن يحاول لمرة واحدة حتى، مخفيا شكوكه حول الأمر، لم يجد يوسف بُدًّا من تنفيذ ذلك، ممنيا نفسه أن يتفقد معاذ سيارته كالعادة، ولا يمت بسببه، رغم كرهه له

خرج متخفيا برفقة أمجد كي يتأكد هذا الأخير من أنه سيعبث بالسيارة حقا، وصلا إلى المكان المقصود يسترهما الظلام، اتخذ أمجد دور المعلم فأخذ يخبره كيف يفعل شيئا لا يتسبب بإيقاف السيارة نهائيا، لأن هذا سيدفع معاذا إلى تفقدها قبل خروجه بها، بل يجب عليه إفساد شيء لا يظهر فساده إلا بعد أن ينطلق بالسيارة، فيفقد القدرة على السيطرة عليها، ويقع الحادث، فلا يدري أحد ما الذي حدث، أو أن هناك شخص ما يقف خلف هذا

رغم أنه يبدو عملا سهلا لكن نتائجه والخوف منها جعلتا يوسف مترددا، ترتجف يداه بشدة وهو ينفذ ما يقوله أمجد، يخاف من أن معاذا لن يتفقدها صباحا، يخاف أن يتسبب له ذلك بحادث، فيصبح قاتلا، لم يكن معاذ يعني له شيئا، لكن إزهاق روح ما ليس بالأمر اليسير، وهو يعلم ذلك، فلمَ لا زال يسير خلف طلبات أمجد، أو أوامره إن جاز التعبير؟ أحقا وصل به الأمر من الخضوع إلى هذه الدرجة؟ ألا يمكنه لمرة واحدة أن يقول: لا؟

بين تلك الأسئلة المؤنبة وبين استقبال كلمات أمجد وتنفيذها كان عقله يسير متخبطا، لا يستطيع أن يخفي ذلك الارتجاف الذي ضرب يديه فأوهن قواهما، لم يمر كثير من الوقت، لكنه في ساعة قلبه المضطرب بدا طويلا، طويلا جدا، ترك المكان ورحل بعد أن فعل ما فعل، منتظرا صباح اليوم التالي ليسفر عن شيء ما، وقد يكون ما يكره هو فقط ما سيعلن عنه الصباح

**********

حزما أمتعتهما راحلين منذ ساعات الصباح الأولى، يخفي معاذ حقيقة ذهابه، وخليل لم يخبر سوى القليل من أهله؛ لم يكن والده ليسمح له بالذهاب دون أن يعرف حقيقة سفره، أربع ساعات حتى يصلا إلى هناك، ليس طويلا مقارنة مع الساحل، حيث تقع مدينة خليل الأم

الشروق، هو أحد مناظر الكون البديعة، تشاهد فيه انقشاع الظلام، ترى فيه نبض الحياة حين يعود، ترى فيه النهوض بأشكال عدة، ونور الشمس الوهاج كيف يسطع من المشرق فينتشر حتى يغطي كامل واجهة السماء، وتفتح له الأرض ذراعيها بترحاب، فلا أجمل من صوت الطير التي تعزف ألحانها الطبيعية بنشاط، معطية للصباح جزءا من الجمال

هذا المنظر البهيج انتشلهما مما يجدان من غم، ليجعل سيرهما محفوفا بالأمل، تشق السيارة طريقها نحو المدينة المقصودة وسط هدوئهما، حتى تجاوزا مسافة لا بأس بها

وحين فتحت المطاعم أبوابها نزلا ليفطرا قبل مواصلة السير، بدا كل شيء هادئ جدا، كل شيء يسير بروية، لا صخب ولا ضيق، لا تزاحم ولا ضجيج، ساعات من الهدوء التي لم يحظيا بمثلها قبلا، تمنت قلوبهما راجية أن يدوم هذا ولا يرحل، فيكون كالهدوء الذي يسبق العاصفة

واصلا رحلتهما مجددا، انتصفت الطريق، وانقطعت الأحاديث، ليأخذ الصمت زمام الأمور، حينها أخرج خليل هاتفه وهو يقول:
_بدلا من هذا الصمت الرتيب لمَ لا نسمع شيئا؟

وصل هاتفه بمسجل السيارة، ثم افتتح القائمة الخاصة بالأناشيد، كانت جملة من الأناشيد التي يفضلها، كانت كطاقة إيجابية وسط جوهما الراكد هذا، فُتحت الأناشيد تباعا كل واحد يُفتح بعد انتهاء الآخر، إلى أن أتى نشيد يبدأ بالأبيات التالية:

نوِّر حياتك بالهدى .. واسلك طريق التائبين
واعمر فؤادك بالتقى .. فالعمر محدود السنين

توالت الأبيات فانسلت تنهيدة حارة من جوف معاذ، تجاوز خليل ذلك كأنه لم ينتبه، لكن بيتين من ذلك النشيد نقضا تجلده ليبدأ بالبكاء، تمردت دموعه ثم شهقاته، لتدفعه في النهاية إلى إيقاف السيارة على جانب الطريق، كان النشيد لا يزال مفتوحا:

عد للكريم بتوبة .. واركب جناح العائدين
تلقى السعادة كلها .. فلنعم درب الصالحين

وضع يده على المقود حانيا رأسه عليها، ليكمل رحلة النشيج التي بدأها، أوقف خليل النشيد وربت على كتفه قائلا:
_معاذ، رفقا بنفسك يا أخي!

لم تفلح كلماته بشيء، كانت كإبريق ماء يحاول أن يطفئ نارا شبت في غابة، لقد صبر كثيرا، كتم كثيرا، أخفى حزنه وخوفه طويلا، لقد بات يشعر بثقل الحمل عليه حرفيا

زاد قلق خليل عليه أكثر، اقترب منه وهو يطوق ذراعه على كتفه هاتفا:
_معاذ، لا ترهق نفسك يا صاحبي، إن رحمة الله وسعت كل شيء، لا تقنط! الماضي كاسمه ماضٍ ولن يعود، فاهتم لما بين يديك من وقت، وأحسن به العمل، وأبشر، فرحمة الله قريب من المحسنين

كلمات دفعت معاذا ليرفع رأسه كاشفا وجهه الملطخ بدموع الندم، والخوف والألم، لم يسعَ إلى مسحها، لم يعد هنالك داعٍ لذلك كما يرى، تصبغ عينيه حمرة البكاء، لم يستطع النظر في وجه خليل، لكنه تحدث مبينا سبب حالته هذه:
_أنا خائف، خائف مما جنيته في الماضي، أنا لا أستطيع نسيان ذلك، أنا لا أستطيع مسامحة نفسي، كيف بأولئك الذين طالهم الأذى مني؟

قطع البكاء نبرة صوته لتكتمل بالكاد جملته الأخيرة، رفع يديه أمام بصره وعاد للحديث:
_بهاتين اليدين فعلت كل شيء، كل شيء يا خليل أتفهم؟ لقد لطخت نفسي بالكثير والكثير من الذنوب، إنها ترهقني، تسجنني، تعذبني!

شد قبضتيه وعاد للبكاء ثانية حانيا رأسه، شعر خليل أن هذا الاعتراف قد كبل قدرته على الكلام، لم يستطع سوى أن يضمه إليه، أن يعيش معه شعوره، كان قاسيا جدا أن يراه منهارا هكذا؛ لطالما اعتاد أن يراه مقاوما، مثابرا، مجتهدا لا يعرف الاستسلام، أهكذا يمكن لبعض الذكريات أن تفعل بنا؟ أن تذلنا؟ أن تحطمنا؟ أم أنها الذكريات السيئة فقط؟ هو لم يجرب شيئا كهذا، فهل يظن أنه يستطيع فهمه؟

تمالك معاذ نفسه بعد بعض الوقت، فتح نافذة الباب الذي بجواره، بدا لخليل أنه يحاول استنشاق هواء عليلا، تحرك نحو الباب الآخر لينزل قائلا:
_لننزل هنا، قد يفيدنا هذا قليلا

نزل وهو يشعر بالذنب؛ ربما لو لم يفتح ذلك النشيد لما أصبح معاذ هكذا، نزل هذا الأخير بدوره، وقفا بجانب السيارة ثالثهما الصمت، يحدقان في السماء التي باتت ترتدي ثوبها القطني، والذي لم تكن ترتديه صباحا، فهل ستمطر الآن؟ هذا التفكير حدا بمعاذ للعودة إلى السيارة بعد وقت يسير قائلا:
_دعنا نواصل سيرنا، أخشى أن نعلق في الطريق إن أمطرت

ركب خليل جواره سريعا وانطلقا مجددا، لم يكن لديه رغبة في مواصلة الحديث مع معاذ عن ماضيه، بيد أن معاذا خالفه تلك الرغبة، فقد أصبح أكثر رغبة ليبوح له بما في صدره، رغبة يحركها شيء لا يعلمه، ربما هو الخوف من أن يرحل قبل أن يقول له كل شيء، أو ثقل ما خبأه طويلا في جوفه

واصل الحديث عما بدأاه من نقطة معينة، قال لافتا انتباه خليل:
_الذكريات أحيانا _إن لم تكن غالبا_ هي أسوأ عدو يواجهك بعد توبتك، حينما تتذكر شيئا مما كنت تفعله، قد ترغب نفسك في فعله ثانية، وقد تفكر بأنك لست سوى شخص لا مكان يناسبه سوى الجحيم، وقد تدمرك نفسيا لفرط التفكير بها، لذا… لطالما تمنيت أن أفقد ذاكرتي

_معاذ!

هتف خليل معاتبا، ليكمل معاذ موضحا وهو يقود السيارة غير ملتفت إليه:
_بعض تلك الأشياء تأتيك رغبة في مواصلتها تحت أي دعوى كانت، على سبيل المثال المسلسلات، لو كنت تشاهد مسلسلا، بعد توبتك سيبقى لديك فضول وحب لمعرفة نهايته، وستحاول أن تتغاضى عن مساوئه، وستبرر لنفسك كثيرا، فقط لكي تنهي مشاهدته، ربما ستقول لنفسك (إنها آخر مرة) أو (سآخذ الفائدة فقط) أو أي شيء من هذا القبيل، لكنك لو صدقت نفسك في أول مرة، فلن تستطيع السيطرة عليها بعد ذلك _إلا أن يشاء الله_ ستؤثر فيك تلك الأشياء السيئة وأنت لا تشعر

وافقه خليل الرأي، ثم علق قائلا:
_معك حق، لا أدري لمَ يكون الفضول عدوا خطيرا في بعض الأحيان إلى هذه الدرجة!

هز معاذ رأسه مؤيدا ثم استرسل في حديثه الأول:
_وفي أحيان أخرى يا صديقي تبرز لك الذكريات لتريك الشخص السيء الحقير الذي كنته، وكأنها تقول لك: أنت لست سوى هذا الشخص، فلا تحاول أن تخدع نفسك، وتكذب على الآخرين!

ساد الصمت لثوان نطق بعدها معاذ منكسرا:
_تعبت من كل ذلك يا خليل، لقد تعبت، تعبت كثيرا، ولا أعلم هل للراحة في عمري الباقي من نصيب؟

_تفاءل خيرا، ثم إنها دار فناء، سواء عشت فيها سعيدا أو حزينا سوف تقلب إلى آخرتك، فليكن همك ما أعددته للحياة الأبدية، قد تكون أعمالنا قليلة، وأجورنا ضئيلة، فتأتي الابتلاءات لترفع درجاتنا، وتثقل ميزان حسناتنا إن صبرنا، فلتصبر يا صاح ولتحتسب {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّـهِ}

أقصى ما استطاع خليل قوله، كلمات رغم قلتها إلا أنها استطاعت جبر صدع ما كان في قلب معاذ، باغتته ابتسامة لم يحسب أنها ستزوره في خضم هكذا موقف، علق بنوع من الراحة:
_إن أكثر سلوى أعقِّم بها قلبي هي طمعي برحمة الله التي وسعت كل شيء، نعم أخاف وأقلق، وقد يصل بي الحال إلى ما رأيت قبل قليل، لكني طامع برحمة ربي ولن أيأس، الحمد لله الذي لا يغلق بابه في وجه أي طارق يلوذ به، ويلجأ إليه!

أسعدت كلماته خليلا وطمأنته، رد عليه مبتهجا:
_كن هكذا دائما يا صديقي، طريق الجنة محفوف بالمكاره، لكنه طريق الطمأنينة، والظن الحسن برب العالمين، وهي سلعة الله الغالية، جعلنا الله من أهلها

أمَّن معاذ على تلك الدعوة وعادا إلى صمتهما مجددا، اقتربا كثيرا من هدفهما، حينها رن هاتف خليل مقاطعا هدوءهما، رد على تلك المكالمة التي كانت من والده، حيث اتصل به ليطمئن عليهما

وفي أثناء حديثه مع والده خرجت السيارة عن طريقها، فبين تحذيره لمعاذ وبين حديثه مع والده تشتت تركيزه، حاول أن يوقف السيارة بدلا من معاذ غير أنها كانت قد خرجت عن السيطرة، مصطدمة إطاراتها بأطراف الطريق فأخذت عدة تقلبات، متوقفة عند أحد أعمدة الإنارة، معلنة عن حادث فظيع لكليهما

لحسن الحظ _ربما_ كان توقفها على الإطارات، مر وقت يسير حتى استوعب خليل ما حدث، حينها كان الباب ناحية معاذ قد خلع، وهو ساقط في الأسفل، كان قد نسي ربط حزام الأمان حين عاد إلى السيارة وسط ضجيج أفكاره

صرخ خليل مناديا له عدة مرات فلم يجبه، أراد أن يخرج من ناحيته فنبأه الألم عن إصاباته هو الآخر، كسرت ذراعه اليمنى، وساقه آلمته بشدة، وهو لا يعلم كيف حالها هي الأخرى، والضربة التي على جبينه بدأت نزيفها

مسح تلك الدماء دافعا نفسه بالكاد حتى خرج من ناحية مقعد السائق، غير منتبه على هاتفه الذي أصبح مكان قدميه، معطيا والده إشارة بما حل به، صرخته بمعاذ قائلا (انتبه!) قد جعلت والده يدرك ما حدث، انقطع الاتصال بعدها فأعاده والده مرارا، وحين لم يفلح الأمر انطلق من فوره مع ابنه محمد، قاصدين تلك المدينة، وذلك الطريق، والخوف يلتهم قلبيهما المفزوعين، متمسكين ببصيص أمل صغير، علهما يجدانه على قيد الحياة، حتى وإن كان مصابا

نزل بالكاد من السيارة زاحفا نحو معاذ الذي تغطيه الدماء، ويحوطه السكون، أخذ يناديه مرارا حتى وصل إليه، حاول رفع رأسه بيسراه، أخذ يناديه بصوت مرتفع قلِقا:
_معاذ، معاذ هل تسمعني؟ معاذ أجبني، معاذ!

فتح معاذ عينيه بصعوبة وقد سال الدم من فمه، فرحة خليل بتجاوبه أنسته جراحه، لكنه سرعان ما تفاجأ بدمائه التي سالت من جرح جيبنه مجددا، متجهة صوب عينه، لتجبره على إغلاقها

تساقطت قطرات دمائه على وجه معاذ الشاحب، والذي لم يقل شيئا منذ فتح عينيه، أهمل خليل جراحه وسأل معاذ بقلق:
_معاذ هل أنت بخير؟ لم تتأذى كثيرا صحيح؟

كانت حالته كافية لتجيب خليلا، لكنه حاول تكذيب عينيه، ولأن الوقت ينفد منهما لم يجامله معاذ، ابتسم ثم قال بصعوبة:
_خليل، لقد انتهت رحلتي هنا

صرخ به خليل محاولا عدم تصديق ذلك:
_لا تقل ذلك، تمالك نفسك قليلا، ستـ...

قاطعه معاذ بصوته الخافت المليء بالألم:
_لا فائدة، عليك تصديق ذلك فحسب

حاول معاذ أن ينظر خلف خليل ناظرا إلى الطريق وهو يقول:
_يبدو أنه لم يكن قد بقي الكثير لنصل

وافقه خليل على ذلك بإيماءة من رأسه، أعاد معاذ النظر إليه وقال بصوت بالكاد يسمع:
_اسمعني يا خليل، أنا لن أعيش طويلا

حاول خليل كبح مشاعره لكنه لم يستطع، كيف له أن يفعل وصديقه يموت بين يديه، وأمام عينيه؟

انهمر صيب عينيه، وأرعد هزيم حزنه في سماء قلبه المُدْلَهِم بظلام المصيبة التي حلت به، عضَّ شفته السفلى محاولا التحلي بالقوة، فافترت شفتا معاذ بابتسامة عميقة محاولا بث الطمأنينة في قلب خليل، تحدث أخيرا بكلماته الأخيرة، والتي أرادها أن تكون وصية لخليل:
_لقد أردت أن أقول لك الكثير حينها، لقد أردت أن نستعيد يوسف معا، بعد وميض الأمل الذي أنارته ذكرى صديق والدي، ولكن يبدو أنني لن أستطيع، لذا لا تفقد رغبتك في إعادته، إياك والاستسلام!

في حين كانت كلماته تخرج تباعا كانت روح خليل تكوى ببطء بنار الألم، ألم ينتجه الخوف من الفقد، يجبره حاله على الصمت برهة فتأبى دموع خليل الوقوف معه، استمر في حديثه بنبرته الواهنة:
_كما لا تنسَ أن تبقى خليلا الذي لا ينظر للآخرين بعين الازدراء، خليل الذي ينصح لأنه يحب الخير للآخرين كما يحبه لنفسه، خليل الذي لا يهمه شيء مقابل أن يقدم النصيحة لمن يستحقها، في الوقت الذي تخلى فيه غيره عن النصح بحجج واهية، تارة بحجة أن الناس لا يستجيبون للناصحين، وتارة بحجة أنهم لا يريدون التدخل في خصوصيات الآخرين، و...

قطع كلامه سعاله الذي انطلقت زفرات هوائه ممزوجة بقطرات دمه، عض على أسنانه بشدة، مغلقا عينيه بقوة حينما شعر بالألم يتضاعف في صدره، تحامل على نفسه وأكمل بكلمات تقطع في آخرها صوته المتوجّع:
_خليل، كن كما عهدتك، اثبت على هذا الطريق، وانصح الآخرين، ولا تيأس أو تستسلم، ولا تكن فظا غليظا على من يستحق ومن لا يستحق، وتذكر دائما أن معاذا هذا الذي تبكي عليه الآن، لم يكن إلا شخصا تافها في الحياة من قبل

بدأت أنفاسه تضيق، لكنه لم يستسلم، حيث واصل طرح وصيته الأخيرة على مسامع خليل:
_ربما هناك من يعتقد أنه على صواب فيما يفعل، وربما هناك من لا يرغب في أن يتدخل به الآخرون، وقد يكون على علم بأنه مخطئ، ستقابل الكثير يا خليل، لكنك لن تجد أفضل من أن تكون أفعالك هي الداعي لهم والقدوة، كن معاشرا للآخرين بخلق حسن تكسب قلوبهم، كن لينا في نصحك لعلك تلقى آذانا صاغية، فكم من معرض عن الصواب بسبب سوء معاملة حدثت له

أخذ يتنفس بصعوبة، فحاول خليل أن يفعل شيئا من أجله، لكن ما عساه يفعل؟ تسرب اليأس إلى قلبه من نجاة معاذ، فقال بعدم ثقة أظهرتها نبرة صوته:
_لا تتكلم، ستكون بخير!

كان الناس قد بدأوا بالتجمع حول المكان، وطلب بعضهم الإسعاف، ألجم الصمت خليلا ولم يعد يدري ما يقول، أما معاذ فقد كان آخر ما وجهه لخليل هو:
_سأعتبر أنك قد وعدتني بفعل ما أوصيتك به، لذلك… احرص دائما على تنفيذ وصيتي، إن كنت تقدرني!

لم يتمالك خليل نفسه وأجابه مباشرة:
_بالتأكيد أقدرك، كيف لك أن تقول هذا؟

رمى معاذ بصره نحو السماء ولم يجب صديقه الذي بات يتقطع حزنا عليه حتى قبل رحيله، وما الفرق وهو أساسا قد أضحى على أعتاب الرحيل؟ أغمض عينيه وأخذ يقول بصوت مهموس:
_يا رب تقبلني في عبادك الصالحين، ارحمني يا رب ولا تحرمني من مغفرتك

رفع سبابته وأخذ يتشهد حتى فارق الحياة، سقطت يده على صدره ومال رأسه نحو خليل، ملامحه الباسمة تلك عادت لتمحو ملامح البؤس التي لازمته خلال فترة حياته الأخيرة، عادت لتسكن تقاسيم وجهه في هذه اللحظات بالذات

عصفت الأفكار فهيجت بحر المشاعر المتلاطم في جوف خليل، أهنا تنتهي رحلته مع معاذ؟ أهنا تقف آخر خطوة نحو السير في ما سافرا لأجله؟ أهنا سيخلي معاذ ظهره ويرحل؟ آلآن يتركه بوهنه ليواجه أمجد وحيدا؟ هل حقا سيموت قبل أن يشهد بعينيه عودة يوسف، وتتصافا قلوبهما ويتسامحا؟ وحين احتدم ضجيج الأفكار في رأسه ثارت الآلام فانهار جسده، ليخر مغشيا عليه في النهاية

**********

فتح عينيه ثم أغلقهما حينما لم تتضح لديه الرؤية، أعاد الكرة مرارا حتى اتضح له كل شيء، اصطدمت عينيه بالمحلول المعلق بجانبه، والذي ينتهي في أوردته، تلفت يمينا ويسارا حتى أدرك أنه في المشفى، حاول النهوض فآلمته ذراعه، حاول تحريك جسده ليشعر كيف هو وضعه الحالي، وماذا حل بجسده، لقد شعر بشيء يلف ذراعه وساقه اليمينتان، وكذلك رأسه، لم تكن إلا ضمادات تضمد جراحه، وجبائر تلف كسوره

بقي للحظات يفكر، وإذ بالباب يفتح، أرسل بصره نحو الداخل، وإذ بمحمد ووالده يُقْبِلان عليه، اقترب منه محمد وهو يقول:
_حمدا لله على سلامتك!

جلس والده بجانبه متمنيا لو يستطيع ضمه إليه، تحدث محاولا إبعاد تفكير خليل عما حدث فقال:
_كيف تشعر الآن؟

أجابه خليل وهو يحاول الابتسام قسرا:
_لا بأس!

مد يده في إشارة منه أنه يريد النهوض، ساعده محمد على النهوض حتى اعتدل جالسا، عاد يفكر فيما حدث قبل أن يغمى عليه، ثم سأل بنبرة منكسرة:
_أين هو معاذ؟

تبادل والده ومحمد النظرات، ثم عادا ينظران إليه بصمت، أدرك ما يدور في رأسيهما فقال:
_أعلم أنه قد توفي، لقد لفظ أنفاسه الأخيرة بين يدي، أعتقد أنكما تفهمان قصدي الآن!

لم يجدا بُدّا من إخباره الحقيقة، ترك والده المجال لمحمد ليتحدث فقال مختصرا:
_لقد توفي كما تعلم، وسيتم دفنه غدا بعد أن يتم نقله إلى حيث تسكن عائلته

لم يشأ محمد أن يقول أكثر من ذلك خوفا على صحته، لكن ملامح خليل كانت تعلن عدم اكتفائه بما سمع، تدخل والده الذي أدرك ذلك قائلا:
_الصلاة يا خليل، صلِّ أولا وبعدها سنتحدث

بعد أن قضى صلاته عاد ليعتدل على سريره بمساعدة من محمد ووالده، تمدد على سريره ولم يفتح فمه بحرف واحد، اتجه بعينيه الملتحفتين بالحزن نحو السقف، وعاد شريط الذكريات يعرض عليه المشهد الأخير من حياة معاذ، كان من الواضح لهما أنه قد شرد في تفكيره، لذا لم يفتح أيا منهما بابا للحديث معه، وما هي إلا لحظات حتى بدأت دموعه تترقرق في عينيه

حاول كل منهما تهدئته لكنه لم يهدأ، وعوضا عن ذلك راح يقول:
_أعلم أن الصبر أفضل، ولكن وجع الفقد ليس هينا، أستطيع استشعار فراغ مكانه من الآن، أشعر بألم فراقه يعتصر قلبي، لم أستوعب بعد أنه قد رحل، يخيل إليّ أنه لا يزال حيا، أنه سيأتي الآن، أو بعد قليل، ولكن...

توقف قليلا حينما تذكر ما حدث، وعاد ليكمل بحزن بالغ:
_لقد انتهت رحلتنا عند عمود الإنارة ذاك!

هيجت كلماته مشاعر الواقفَين بجانبه، نشيجه بات يعلو، وكيف لا يبكي؟ أمثله لا يحق له البكاء؟ فوق المكانة التي كان يحتلها معاذ في قلبه لطيب معشره، وحسن خلقه -كان يسانده ويساعده في المحنة الأخيرة التي حلت به، المحنة التي خطفت منه رفيق دربه، وصديق طفولته، وشقيق روحه

حاولا عبثا تصبيره، لكنهما الآخَرَين لم يستطيعا التحمل كثيرا فصمتا، بيد أنهما كانا أفضل منه حالا، فعلى الأقل قد مرت مدة لا بأس بها حاولا فيها تصبير نفسيهما، ولو لم يكن لمعاذ عندهما ذات المكانة التي له عند خليل

بعد جهد جهيد تمالك خليل نفسه، لقد دخل رأسه في صراع مع الصداع الذي سببه بكاؤه، حاول بعدها تهدئة نفسه، علّ رأسه أن يهدأ قليلا، لكنه لم يستطع نسيان معاذ وكلماته، ووصيته الأخيرة، وأنى له أن ينسى؟ بيد أن السؤال الذي بات يطرح نفسه بقوة: ماذا سيفعل بعد رحيله؟

¶____________________¶
انتهى الفصل الثامن والعشرين

لم أكن أتوقع أن يأتي يوم أكتب فيه عن حسن الخاتمة، لكن ها أنا ذا أكتب عنها، لا أعلم كيف أصف الأمر، وعلى أية حال الخاتمة الحسنة هي توفيق من رب العالمين، نسأل الله ألا يحرمنا منها

أعتذر منكم لو كان رحيل معاذ قد أحزنكم، لكن لهذا الحدث أهمية كبرى للأحداث القادمة، كما أني أردت لكلماته أن تحفر عميقا في نفوس القراء، وأن تفيدهم ولو بالشيء اليسير

وقبل أن أنسى استمعوا للنشيد في الأعلى
مؤثر جدا، أحببته كثيرا، فقد كان رفيقي أثناء كتابة الفصول الأخيرة، آمل لكم حسن الاستماع

إلى لقاء قريب في الفصل القادم بإذن الله تعالى 🌸

Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top