الفصل الثالث والثلاثون

الفصل الثالث والثلاثون|| تعرجات على الطريق

اعتلى من فوق رأسه خيط من الدخان متصاعدا من سيجارته التي تنتصب بين أصبعيه، سكونه حيث وقف لفت انتباه يوسف فتقدم نحوه بضع خطوات، وقف بجانبه ليجده محدقا بصورة مبروزة تضم رجلا كبيرا بالسن، يرتدي قميصا طويلا وطاقية بلون أبيض، يجلس بجواره طفل بدا في الثامنة من عمره، وتلك الملامح التي تربعت على وجهه توحي بأنه ليس إلا أمجد

لم يرَ هذه الصورة قبلا، بادر بطرح سؤال على هذا الواقف بجواره:
_من يكونا؟

رمى سيجارته التي أصبحت عبارة عن عقب فقط ثم داسها سريعا، وقال:
_إنها صورتي مع جدي

لحظات من الصمت مرت حتى نطق مجددا:
_كنت أريد أن أكون مثله حين أكبر

لم يستطع يوسف تمييز ما إذا كان يسخر أم أنه جاد، لكنه علق بجدية:
_يمكنك الآن لو تركت اتباع شيطانك

_وأنت؟

بادره بسؤال وكأنه يسخر منه، فأجاد ضرب الوتر الحساس في عمق يوسف، لمجرد حدث واحد شعر بأن يديه قد تلطختا بما لا يمكن له تطهيره، نبس بنبرة ضعيفة:
_وأنا…

لم يفهم أمجد شيئا من تلك الكلمة سوى أنها خرجت عارية عن الثقة، علق بجدية هذه المرة:
_يستطيع الماضي أن يقيدنا أحيانا

ساد الصمت مجددا حتى بدده أمجد بكلماته الساخرة:
_كنت أظن أن جميع المتدينين يلبسون هكذا ملابس دائما، لكن اتضح أنني كنت على خطأ!

سحب أنظاره من الصورة ليحدق بيوسف بنصف التفاتة، أشعرت تلك الكلمات ونظراتها يوسف بالغيظ، علق هازئا رغم انزعاجه:
_وأنا كنت أظن الأشرار في هذا العالم يرتدون الأسود، وصورهم قبيحة، وربما أيضا لهم مخالب وأنياب طويلة، وحتى قرون كالشياطين، لكن اتضح أنني كنت على خطأ!

انفجر أمجد ضاحكا قبل أن يعلق بنبرته الساخرة:
_يا له من تفكير طفولي!

صمت لوهلة ثم أردف بجدية:
_الأشرار لا يولدون، بل يصنعون، وكما قال أحدهم (كل شرير في هذا العالم كان ذات يوم طفلا بريئا) الناس عادة يحبون تسليط الأضواء على الأماكن الخطأ، ويتحدثون عما يدور على خشبة المسرح، ولا يهتمون كثيرا لما يجري خلف الكواليس

كان يشير إلى ما حدث له مع والده بطريقة المواراة، لم يغِب عن فهم يوسف قصده، فغير دفة الحديث قائلا:
_لم أرَ هذه الصورة قبلا، هل وضعتها اليوم هنا؟

أومأ برأسه موافقا ولم ينطق، فقال يوسف:
_يبدو أن ثمة شوق ما لتلك الأيام

التقط أمجد الصورة وقال:
_لا أعلم ما الذي دفعني لإخراجها اليوم، ولكن يبدو أنني سأعيدها إلى مكانها

مشى من جانب يوسف فعلق هذا الأخير ساخرا:
_يكفي أنك تحتفظ بها!

أردف قبل أن يراه يدخل غرفته:
_من الجيد أنه لا زال لديك بعض الذكريات الجيدة، هذا محفز جيد لتصبح شخصا أفضل، حتى أنك تساعدني في الوقت الراهن بطريقة لا يمكنني حتى أنا استيعابها!

أجبرت تلك الكلمات أمجد على الوقوف، لحظات حتى رد دون التفات:
_لا بأس إن كنت لا تستوعب ذلك، المهم هو ما ستفعله مستغلا هذه الفرصة

بدت تلك الكلمات خالية من السخرية، صادقة بالحد الذي جعله لا يستطيع التصريح، وكأنه يخبر يوسف بطريقة ما (أنه لا زال بإمكانه سحبه من المستنقع الذي هو واقع به) كلمات جعلت يوسف يقف متسمرا في مكانه، يطالع أمجد حتى غاب في غرفته، لكن يوسف نفسه بدا بحاجة إلى ذلك الانتشال

هو ممتن له على علاجه له، ثم توظيفه في الشركة كمساعد له، ومقابل ذلك يحصل على راتب شهري، لكن تلك الماديات لم تعني له شيئا بعد كل ما فقده، يمكنه دفع تلك الأموال بل كل أموال الدنيا لو كانت بين يديه إذا كان سيجد راحته، إذا كان سيستطيع العودة إلى يوسف السابق على الأقل، هذه الأمنية بدت له بعيدة المنال، بل وبعيدة جدا

**********

ما إن تعرفت الأجواء على فصل الصيف حتى حان موعد رحلة عائلة خليل إلى مدينتهم الأم، هناك حيث يقع الشاطئ، ويطل البحر بهيبته، العطلة الصيفية هي ميعاد لقاءهم بأقربائهم هناك، ارتحلوا إلى هناك علهم يجدون بعض الراحة، وعسى أن تشفى قلوبهم المكلومة

حمل الصيادون عدة صيدهم وانطلقوا بنشاط، ليشعلوا بنشاطهم وحماسهم الرغبة بمشاركتهم في قلب خليل، والذي كان يراقبهم من الشاطئ فحسب، تعبث الذكريات به عبثها، تذكر رحلات صيدهم في فترات ماضية، وتذكر حين قدموا مع معاذ ويوسف وجمال تلك المرة، لم يبقَ سوى جمال معه، لكن حتى هو ليس بجانبه الآن

أراد نفض غبار الذكريات بعيدا، محاولا العيش ولو ليوم واحد بدونها، بدون أن تعكر مزاجه، عاد إلى المنزل ليأخذ عدة الصيد وانطلق نحو البحر، خاض ساعات من الصراع مع الأمواج من جهة، ومع الأسماك من جهة أخرى، حتى عاد قبيل الغروب، بحمل لا بأس به

التقى على الساحل بجارٍ لهم بينهم وبينه علاقة جيدة، رسم ابتسامة على شفتيه رافعا يده محييا وقال:
_مرحبا خليل، أرى أنك نشيط هذا اليوم

بادله تلك التحية ثم وقف أمامه، كان الرجل يتحدث مع محمد قبل أن يقبل عليهما، حينها نطق ذلك الجار بحسن نية:
_أين أولئك الشباب الذين قدموا معكم تلك المرة؟

صمت قليلا ولم يلحظ تغير ملامح خليل، أردف قائلا:
_ما كان اسم ذلك الشاب الهادئ؟ آه نعم لقد كان اسمه معاذ، هل هو بخير؟

نسفت صلابة تماسك خليل بتلك الكلمات، لقد عبثت الذكريات به كثيرا، بعثرت تفكيره، وشتت تركيزه، عذبت قلبه، وآذت روحه، هرب منها إلى الصيد، فلمَ أتى هذا الجار لينكأ الجرح؟

هنا لعبوا، هنا تسابقوا، هنا رأى ضحكات يوسف الصاخبة، ومشاركات معاذ الهادئة، رغم أنه كان متعب، ويعلم بخطر مرضه إلا أنه لم يمنع نفسه من مشاركتهم مرحهم، تسابقوا في السباحة أيضا، واصطادوا الكثير في رحلتهم تلك، وشهدت الليالي سمرهم، وسمعت النجوم ضحكهم، هنا كانوا وما عادوا، وربما لن يعودوا أبدا، فمعاذ أساسا قد رحل من الحياة، ويوسف شبه فقيد عليها

سقطت عدة الصيد من يده، تلاها سقوط ما اصطاده من الأسماك، شحبت ملامحه، وحين كاد أن ينهار أمامهما باكيا، هرب بعيدا عن مرمى أبصارهم، أخذت شهقاته تتمرد، ودموعه تنساب، أخذ يركض مغمض العينين، وكأنه يعيش في وهم وحسب، وكأن تلك الذكريات هي الواقع، وهذا الواقع سرابا

ابتعد كثيرا وسط دهشتهما، حمل محمد تلك الأشياء التي رماها وقال:
_كنت أعلم أنه لن يصمد كثيرا

_ماذا حدث؟ أنا لم أفهم شيئا!

نطق الجار محتارا، فأجابه محمد مختصرا:
_القصة طويلة، لكن في الواقع ذلك الشاب الذي سألت عنه توفي قبل فترة، لفظ أنفاسه الأخيرة بين يدي خليل، لم يكن فقده سهلا عليه، ويبدو أنه لن ينساه بسهولة

صمت الرجل بندم، تمنى أنه لم يفتح فمه، ولم ينبس ببنت شفة، ويبقى السؤال الحائر: كيف يمكن للكلمة أن تحدث جرحا عميقا في القلب؟

**********

انقضى عام ببأسه وشدته منذ وفاة معاذ، يغرق يوسف في الوحل أكثر، ويسعى منذر لإعالة أسرته بعد رحيل شقيقه، يسانده والد جمال حبا ورغبة، حتى أنه منحه سيارة هو الآخر، وظل جمال بعد عمه يراقب آخر المستجدات، بشأن عامل البناء العجوز نعمان، أرهقهم البحث عنه، حتى لاحت لهم بارقة الأمل بعد عام

وجدوا الرجل يسكن في مدينة مجاورة، لم يبتعد كثيرا، فالمكان الأقرب هو أبعد ما يتم البحث فيه عادة، وفوق هذا كان قد غير اسمه، وذا ما جعل البحث عنه صعبا، كان رجلا سبعينيا هرما، لم يعد يقوى على بأس، يتحرك غالبا على كرسي متحرك

اتصل جمال بخليل ومنذر، ليذهبوا جميعا رفقة الضابط أحمد _عم جمال_ إليه، استطاعوا أن يجدوا فرصة للحديث معه، وما إن رأى منذرا حتى اهتزت يداه التي تكسوها التجاعيد، وأخذ يقاوم رغبة البكاء، نطق بصوته المبحوح:
_أنت… أنت بلا شك ابن جابر، لن أخطئ هذه الملامح

انحنى منذر ليمسك بيديه قائلا:
_يسرني أنك تعرفت عليَّ يا عم، هلا أسديت لنا خدمة بتقديم ما لديك من معلومات بشأن أمر ما

أشار العجوز له أن يقترب هامسا:
_تعال

فهم منذر قصده فأقبل عليه ثم عانقه، أخذ يمسح على ظهره قائلا:
_أنت تشبه والدك كثيرا حين كان يافعا

لم يتحدث منذر بشيء، فبالكاد هو يتمالك نفسه الآن، أرسله نعمان وهو يقول:
_أنت صغير مقارنة بعمر معاذ، أنت لست معاذا، ترى أين هو؟ لماذا لم يأتِ معك؟

السؤال ذاته يتكرر، والألم يتجدد، لكن عاما كان كافيا بعض الشيء ليستطيعوا تجاوز ألم رحيله، رد عليه بانكسار:
_نعم لست هو، لقد توفي قبل عام

ساد الصمت المكان حتى قاطعه منذر قائلا:
_على أية حال نحن أتينا لنسألك بخصوص المنزل الذي أثيرت ضده قضية في الماضي، نود أن نعرف منك كل شيء

لم يمانع ذلك الشيخ من سرد ما يعرف، تحدث بصوته الأجش:
_ذلك المنزل هو المنزل الرابع من حي الأبراج، ولا أعرف عنه الكثير في الحقيقة، لكني أعرف المقاول عزيز الذي أشرف على بنائه، لا نعرف كثيرا عما حدث بالضبط، لكن كثيرا ممن شاركوا في بنائه قد توفوا بحوادث متفاوتة في فترات متقاربة، حتى أن الأمر طال بعض أصدقائهم أو أقاربهم الذين لم يشاركوا في بنائه، ولأنني صديق لعزيز فقد خفت على نفسي، ولذلك غيرت اسمي وسكنت هنا، بل توقفت عن مزاولة عملي كعامل بناء

كان يتحدث والضابط أحمد يستمع إليه بإنصات متكتفا، لحظات حتى حلق أصابعه حول ذقنه قائلا بتفكير:
_إنني أتذكر تلك القضية التي شغلتنا آنذاك، لقد تم تفتيش ذلك المنزل بالكامل، لكننا لم نجد فيه ما يثير الريبة، ولذلك أغلقت القضية ضد صاحب المنزل، وقد علمت فيما بعد أنه قام ببيعه، أظنه قد تم بيعه للشخص الذي يسكنه الآن

حل الصمت مجددا حتى نطق نعمان كاسرا حاجزه:
_إنهم أوغاد لدرجة لا يمكن تخيلها، كانوا يقتلون العمال بطرق تظهر الأمر كحادث، حتى أنني أشك بأن وفاة جابر لم يكن لهم بها يد

وكأن تلك العبارة نبشت في عمق خليل فأظهرت له أمرا خفي عنه، معاذ توفي بحادث سير أيضا، لكن هل يمكن أن يكونوا خلف ذلك الحادث؟ قرر أن يتعمق في الأمر أكثر، ولكن ليس الآن

تبادلوا الأحاديث مع العجوز نعمان حتى اكتفوا، ثم غادروا وقد حط أحمد ذلك المنزل نصب عينيه، لم يعد في الأمر أي شيء يوحي بأن ما يحدث ليس إلا مصادفة، وإن كان لا يعلم ما يفعله حتى الآن، لكنه لن يبقى مكتوف الأيدي

**********

أكثر من عام انقضى على يوسف منذ أن وقع في براثن أمجد، وعام منذ طرده والده من المنزل، شعور بالوحدة بات ينهشه، يعيش في اضطراب مع رغبته في الانتقام

إرخاء أمجد لجانب منه تجاه يوسف قد جعل من هذا الأخير عاجزا، لكن اليأس الذي طال قلبه لم يكتفِ بإظهار استسلامه تجاه أمجد فقط، بل أصبح ينظر لنفسه بنظرة أخرى، يحتقر ما بات عليه، ويزدري الوضع الذي هو فيه، لكنه مع ذا لا يستطيع العودة إلى سابق عهده

مجرد تخيل نفسه كشخص قاتل يجعله عاجزا، يقضم الندم قلبه، وتتأرجح روحه بخيوط واهية، فلا هو الذي تخلص منها، ولا هو الذي انسجم معها، يشعر أن أعصابه دائما مشدودة، يسرف بالتفكير، يشعر أنه دائما على أهبة الاستعداد، لشيء لا يعلم حتى كنهه

يفكر بعائلته كثيرا، يتخيل كيف غدوا بعد هذا العام، هل زادت التجاعيد في وجه أبيه؟ وهل امتلأ شعر والدته بالشيب؟ وكيف كان تخرج يسرى من الثانوية؟ وهل حقا أن لؤي غدا أبا؟ وما نوع الأجواء التي يعيشونها في المنزل بعده؟

وعلى الجانب الآخر كيف هي ميمونة؟ هل تجاوزت حزنها؟ أم أنها تغرق فيه يوما بعد آخر؟ وكيف هو خليل؟ هل لا زال يفعل شيئا لأجله؟ وماذا عن شعيب الذي تزوج حديثا؟ كيف يبدو شكل تلك العائلة في الوقت الراهن؟

وجمال؟ هل انفرد بخليل بعد أن خلت له الأجواء؟ هل بدأ يمارس عمله كمهندس معماري بعد تخرجه؟ هل يفعل شيئا ما مع خليل بخصوصه؟ أم أنه يتصرف بأنانية؛ فبالكاد أصبح خليل معه وحده؟

وعائلة معاذ كيف هم؟ هل لا زال الحزن يعشعش في منزلهم؟ هل استطاع منذر تغطية مكان أخيه؟ هل تمكنوا من النهوض بعد فقد ابنهم، وإن بجراح مثخنة؟

اعتملت الأسئلة في رأسه، وهاجت الأفكار، وعصفت به زوبعة من مشاعر شتى، وزاد طغيان كرهه لنفسه، فحتى عمله ذاك في الشركة لم يستطع طرد تلك الأفكار اللائمة من رأسه، وأصبح يعود معظم الأيام مصطحبا صداعا يكاد يشق رأسه، وأصبح النوم هو ملاذه الوحيد، يتمنى أن يخطفه الموت ذات نومة، وإن كان يخاف مصيره فيما بعد الموت

**********

لم يكد الشهر ينقضي حتى تواصل جمال مع عمه، كان يود معرفة أي جديد، لكن أخبار (اللاجديد) كانت في انتظاره، لا شيء سوى أفعال عادية جدا، فمنذ اليوم الذي بدأوا فيه مراقبة المنزل ومراقبة تحركات أمجد لم يجدوا شيئا، ينهض باكرا في الصباح ويغادر مع يوسف إلى الشركة يعملان حتى الظهيرة ثم يعودان بأوجه تكشف حجم العمل الذي قاما به، وقد يعود أمجد بدورة مسائية للعمل

ختم أحمد حديثه مع جمال برسالة طويلة كتب فيها (إن يوسف يلازمه معظم الوقت، إن كنتم تهتمون لأمره فخذوه إلى المشفى واجروا له الفحوصات، إن كان لا يزال يوجد في جسده أثرا للمخدرات فهذا يكفي لأن نأخذه بعيدا عن أمجد، وقد نقوم باعتقال أمجد بهذه التهمة، أقول هذا لأنك بدوت مهتما بيوسف كثيرا، إذا تأخرت إلى حين نجد معهما شيئا يدينهما فحينها سيكون أمره قد أصبح بيد القضاء)

وصلت تلك الرسالة لتزيد قلق جمال، دفعه ذلك القلق للإسراع بإخبار عائلته بالأمر، وسرعان ما انتقلت عدوى الخوف إلى عائلته، لكنه لم يلتقهم يوما خلال عام إلا من قبيل الصدفة، وقد كان يتحاشاهم ولا يحب أن يتحدث معهم كثيرا، هذا الأمر الذي لم يغِب عن لؤي جعله يفكر إن كان بإمكانه جره معه إلى المشفى

ضغط جرس المنزل مرارا حتى قدم يوسف ليفتح الباب، لم يكن ليغب عن انتباه أحد تلاصق هذا المنزل والمنزل الذي يسكن فيه أمجد، غير أن أبوابهما الرئيسية تقع بشكل معاكس، الباب الخارجي عبارة عن سياجات متداخلة ببعضها، مشكلة بوابة يمكن رؤية الخارج منها والعكس، هذا الأمر أتاح ليوسف رؤية لؤي حين أقبل ليجيب، لم يرغب بإدخاله لكنه تحدث من خلف البوابة:
_ماذا تريد؟

_يا لهذا الجفاء! على أية حال أريد أن ترافقني إلى المشفى

_ولِمَ؟

انزعج لؤي من أسلوبه الفظ لكنه فضل التماشي معه حتى ينجح في أخذه، رد عليه بهدوء:
_ألا تريد حتى زيارة والدك المريض؟ أرجو أن يحن قلبك ولو لمرة واحدة

قطب حاجبيه وأخذ يفرك شعره ليبعثره، فكر كثيرا ولم يستطع الصمود أمام عواطفه، نظر للناحية الثانية ثم قال:
_حسنا سأذهب، لكن إياك وأن يكون هذا كذبا، انتظرني هنا!

ألقى بكلماته تباعا ثم عاد إلى الداخل، رمقه لؤي بقلة حيلة ثم عاد إلى سيارته، انتظره بضع دقائق حتى خرج، سار معه إلى أن وصلا وجهتهما، يغلفهما صمت فرضه يوسف بعدم مبادرته في الحديث، واقتضاب أجوبته إن سئل أو تحدث معه لؤي، دخلا إلى هناك وقد كان والده بالفعل في المشفى

بدا والده مريضا ما جعل جزءا من جموده ينكسر، انحنى نحوه ليسلم عليه، بدا أنه سينهار حتما، سيما مع تأثر والده الشديد، ضمه إليه وأخذ يقبله ويعاتبه بصوته المبحوح:
_كيف تفعل بنا هذا يا يوسف كيف؟ لمَ أصبحت هكذا؟ هل ستعاملنا كما يفعل أمجد مع عائلته؟ لقد كان من الخطأ أن أتركك معه

_لا تقل ذلك يا أبي، أنت لا تعلم كم حاول ليثنيني عن قراري، لكنني كنت منزعجا لأنني طردت بتلك الطريقة

حاول أن يواري بكلماته حقيقة أفعاله، كره أن يقول الحقيقة، كيف له أن ينطق بها أساسا؟ لم يمر كثير من الوقت حتى باشره لؤي بصراحة:
_يجب عليك أن تجري بعض الفحوصات، حتى نتأكد من أنك تتصرف بكامل وعيك

انسلت منه ضحكات لم يعرف كيف يصفها حتى، ربما كانت ساخرة، لكنه وجدها فرصة لتبرئة نفسه من تهمة المخدرات، كيف لا وهو الذي قضى أشهرا من العلاج حتى تعافى، إضافة إلى أنها فرصة جيدة للتغطية على أمجد، شيء ما لا زال يدفعه للتستر عليه، لا زال يرجو له عودة وهو الذي يئسها من نفسه، نطق بين الجد والسخرية:
_حسنا، وسنرى من منا على حق

لم يجادله لؤي ولم يكن به طاقة لذلك، هو لا يكاد يصدق أنه قبل دون جدال، انطلقوا لإجراء الفحوصات، ليعقبها صمت كئيب حتى تخرج النتائج، كسرها والد يوسف بشيء من الأحاديث، كيعقوب حاله وذاك البائس ما شابه ابنه يوسف بشيء، يود ذلك الوالد أن يأخذه معهم إلى المنزل، ولكن ليس قبل أن تظهر النتائج، هو لا يعلم أي قرار أنسب إن هي أظهرت نتائج إيجابية مع المخدرات

أقبلت الممرضة تحمل نتائج الفحص، ليدخلوا أخيرا عند الطبيب، يكاد يوسف يضحك وهو يعلم أنهم لن يجدوا شيئا، تحدث الطبيب بالنتائج مبشرا وهو لا يعلم أي قصة تختبئ خلف الجالسين أمامه، لكنه أخذ يوجه بعض الأسئلة ليوسف، ليكشف بها أن يوسف أصبح يشرب الدخان، استاء لؤي كثيرا لكنه لم يعلق

خرجا من عند الطبيب ليحملا معهما والدهما، وتلك النتائج التي لم يعلم لؤي أيفرح بها أم يخاف منها!

**********

تهلل المنزل بقدوم يوسف وزارت السعادة قلوبهم بعد هجران طويل، احتفاء كبير حظي به رغم كل شيء، ونتائج الفحص أضفت على فرحتهم رونقا زاهيا، هم ليسوا متأكدين بعد مما هو عليه في الوقت الراهن، لكنه عودته الآن كانت كافية بالنسبة لقلوبهم المتعطشة لرؤيته

التفت نحو لؤي فجأة وسط ذلك الاحتفاء ليقول:
_أريد أن أرى ابنك

بدا طلبا غريبا رغم أنه ليس كذلك، لكن قلب الأب الذي أضحى عليه قلب لؤي أدرك المقصود، أحضر صغيره المطوي داخل احرامات* الأطفال، لم يتجاوز عمره الشهر، ليحمله يوسف بين يديه وقد التمعت عيناه ببريق غريب، ربما كان الحزن، أو الندم، أو ربما الشوق، لا أحد استطاع تفسير تلك النظرات

ضمه إليه وأخذ يقبله، يداعب يديه الصغيرتين، ويغرقه بمشاعر دفء لم ترَ منه منذ بداية تغيره، وضع إبهامه في كف الصغير الذي أخذ يحركها بعشوائية

ماذا ستقول عائلته إن سمعوا صوت خفقات قلبه الآن؟ كان سيصبح أبا هو الآخر، وربما كان ابنه سيكون قد تجاوز نصف عام الآن، أخذ ينظر إليه بشرود وهو يتحرك بحركات طفولية لا تفسر بمعنى، حتى داهمه صوت لؤي الذي قال:
_بالمناسبة هل تعرف ماذا أسميناه؟

أخذ يراقبه منتظرا الجواب، ربما أسماه (خالد) كما هي كنيته، لكنه فاجأه حين نطق:
_يوسف، إنه يوسف!

أخذت الدهشة يوسف وهو لا يكاد يصدق ما يسمع، نطق بشيء من الاستياء:
_لماذا؟ كان بإمكانك تسميته بكنيتك، أو حتى اختر له اسما آخر

_وما به يوسف؟ أليس اسما جميلا؟ أم أنك حتى بت تود التخلي عن اسمك أيضا؟

أحنى يوسف نظراته نحو الصغير ثم نطق:
_أنت تظلمه بهذا الاسم

_أظلمه؟

استنكر لؤي هذا القول، فتدخل والدهما ليقول:
_هو لا يظلمه، يوسف يجب أن تعلم أنك تركت فراغا في المنزل، لمَ لا زلت تتحدث هكذا، وتفكر هكذا؟

أخذ يرفع يد الصغير الذي أمسك بسبابته هذه المرة وهو يطالعه بصمت، بدا على ملامحه الانكسار لكنه لم يتحدث، هذا الأمر زاد من حيرة عائلته، لكن أحدهم لم يفكر باستخراج ما في جوفه، فيكفي أنه عاد إليهم، وإن كانت عودة مشترطة بالسماح له بمزاولة عمله في الشركة، والبقاء في ذلك المنزل جوار أمجد متى ما أراد، في المقابل هو سيزورهم بين الحين والآخر

**********

كانت الأيام تفاقم الضغط عليه بدلا من مساعدته على تجاوز الماضي، والسير نحو مستقبل أفضل، والمقارنة بين ماضيه وحاضره كانت كسلاح ذو حدين، وبدلا من أن يكون له أصبح عليه، فقد صداقته مع خليل، فقد ميمونة وصغيرها الذي كان صغيره أيضا، فقد دفء العائلة وودادهم الذي أغدق به لسنوات، وحتى أصبح قاتلا في نظره لأنه عبث بسيارة معاذ، وترك من ورائه أسرة تبكيه الليل والنهار، فقد كل شيء حتى على الصعيد الشخصي، فهو لم يعد ذلك الشاب الملتزم بدينه، وصحته تنهشها السجائر بلا رحمة، حال مزعج ومؤلم يجعله غارقا في التفكير كل ما خلا بنفسه، وما عاد لنفسه من قرار

كل لحظة مع أمجد يقضيها باتت تنخر في صميم عزيمته، يشعر بالانهيار تدريجيا، حتى أصبح يود الراحة فقط، الراحة ولا شيء سواها، لم يعد يرغب بأي جديد، ولم يعد له أي شغف تجاه أي شيء، وأصبح الانتقام من أمجد مجرد أمنية ضائعة في الزمان.

¶____________________¶
انتهى الفصل الثالث والثلاثين

ولله الحمد والمنة!

لشدة تفكيري بمهلا يا صاح أثناء كتابتها كانت الأحداث تزورني حتى في المنام، الموقف الذي حدث لخليل عند الشاطئ كان أحدها XD
في الواقع لم أستطع تجاهله وعدم إضافته، خاصة أنني كنت متأثرة كثيرا بالموقف حين استيقظت :)

*كلمة (احرامات) لا أعلم هل هي فصيحة أم لا، من يعرف ليفيدنا في هذا مشكورا

رأيكم بالفصل عموما؟

إلى اللقاء في الفصل القادم بإذن الله 🌹

Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top