الفصل التاسع عشر

الفصل التاسع عشر|| ضياع!


كلمته الأخيرة دوت كصاعقة لتحط على رؤوس سامعيها في الطرف الآخر، فقد خليل أعصابه فالتقط الهاتف من يد سعيد دون استئذان، ليصرخ بيوسف بانفعال:
_ألا تعي ما تقوله أيها الأحمق؟ هل تدرك ما فعلته؟ إلا هذه الأمور ليست للعب أو المزاح، يوسف…

قُطع الاتصال من قبل يوسف بعد أن فاجأه تدخل خليل، هو ذاته لم يستطع تقبل ما فعله بعد فكيف بالآخرين، أطفأ هاتفه كيلا يستقبل اتصالا جديدا، انسل جسده الذي كان يقف على كرسي الأريكة من الخلف ليقع على الأرض بانهيار، أسند رأسه إلى ركبتيه المرتفعتين ليخبئ وجهه الباكي، طوقه بيديه حتى لا يسمح لأحد برؤية دموعه، ضغط هائل تلقته شفته السفلى وهو يعض عليها محاولا التجلد، صورة ميمونة بأعينها الحزينة تجسدت أمام عينيه، ترى كم سيكون هذا الخبر صادما لها؟ هل ستتخطاه بسهولة؟ أم أنه سيكون سقطة أليمة عليها؟ لا يدري كم سؤالا طرق عقله تلك اللحظة، أليس هو الذي قال قبل قليل أنه سيحتمل الأمر ما دام أنه لن يطول؟ الكلام أسهل من الأفعال على ما يبدو

بضع دقائق مرت بثقل لتجعله يشعر كما لو أنها ساعات، ظل جالسا في مكانه منهارا، حتى أقبل أمجد ناحيته يَصْدُر من قِبَلِه صرير مفاتيح، عينا يوسف حينها كانت تحلق نحو السقف، يسند رأسه على خلفية تلك الأريكة، مع ملامح واهنة، وقف أمجد أمامه وهو يلعب بالمفاتيح بسبابته قائلا:
_لا يمكنك أن تبقى هكذا، خذ، هذه مفاتيح المنزل المجاور، يجب أن تذهب إليه

رمى تلك المفاتيح نحوه ليستقبلها يوسف بعدم اهتمام فسقطت أرضا، فسر أمجد طلبه ذاك بعد أن رأى عدم مبالاته:
_سيأتون للبحث عنك هنا حتما، معاذ لن يقصر في التحريض ضدي، وأنا لا أريدهم أن يأتوا ويروك عندي، هل فهمت؟

بدا يوسف متبلدا حقا، التقط المفاتيح ببطء ثم سأل بنبرة واهنة:
_وأنت أين ستذهب؟

وكأن الجواب كان جاهزا على لسانه لينطقه بسرعة رادًّا عليه:
_سأبقى هنا بالطبع، سأتظاهر بأنني لا أعرف شيئا

_تبا لك!

قالها يوسف وهو ينهض من مكانه، ليسير بخطاه المثقلة نحو الباب، غادر ولهيب قلبه لم يغادر، بل زاد اشتعالا

خرج نحو ذلك المنزل الذي بدا كئيبا مع ظلام الليل الذي أقبل للتو، دخله ليجد كآبته تزيد بانطفاء مصابيحه الكهربائية، دخله غير مبالٍ بتلك الوحشة التي تملأ فراغه، بحث على آخر ضوء من الشفق عن مفاتيح الكهرباء حتى وجدها، وحين أضاءها تذكر أنه لم يصل المغرب بعد

ذهب ليتوضأ ثم عاد على أمل أن تحدث الصلاة في حاله فرقا، وحين دخل في الصلاة انهار باكيا، خانته كلماته حين أراد الدعاء في سجوده، فردد في رجاء «ربِّ احكم بالحق وأنت خير الحاكمين» تلعثم كثيرا وبكى أكثر، وحين أنهى تلك الصلاة تمدد في مكانه بحالة من الإحباط التام

**********

خطوات متأرجحة، دموع متمردة، وشهقات مكتومة، وألم يسكن أعمق نقطة من قلبه، إنه خليل الذي أخذ يسير شبه متخبط نحو منزله، لم يستوعب بعد ما سمعه، لربما توهم فحسب، لربما لم يسمعه جيدا، لكن لا فائدة من هكذا أفكار، لقد سمعه بشكل واضح، خرج تائها كالمجنون من بيت سعيد دون أن يستطيع قول شيء، عقدت الصدمة والحسرة لسانه، ماذا سيقول لعائلته الآن؟ بل كيف يوصل الأمر لميمونة؟ لا يعرف طريقة جيدة لإخبارها، وأي طريقة جيدة ستكون لإخبار شخص ما عن مصيبة حلت به؟

كان الناس قد صلوا المغرب في حين هو كان عائدا نحو منزله، لكن اقترابه من المسجد جعله يفكر بأن يصلي هناك، وحينها برز في وجهه شخص لم يتوقع رؤيته الآن، ربما بسبب سرحانه مع أفكاره، لقد كان جمال الذي طالعه بنظرات مستغربة، لينطق بعدها:
_ما هذا الوجه الكئيب الذي تحمله؟ هل حدث شيء ما؟ بالمناسبة لم أرك في المسجد أثناء الصلاة

كل تلك الكلمات ساعدت على نقض تجلد خليل، فانهار باكيا رغم محاولته الصمود، جلس على قارعة الطريق وسط ذهول جمال الذي جلس بجانبه يسأله بقلق:
_ماذا حدث؟ لقد أقلقتني أكثر

في لحظة انهيار أحدهم لا تكثر عليه من الكلام، فهو لن يستطيع الرد عليك، لن يعرف كيف يبدأ كلامه، ولن يستطيع أن يرتب كلماته، كل شيء حينها سيكون صعبا، لأنه مثقل بالألم، هذا ما أدركه جمال فآثر الصمت، لكنه كان واثقا أن الأمر يتعلق بيوسف، كان واثقا أن ثمة شيء ما قد حدث، شيء جعل خليل ينهار هكذا، إن سأل عقله الآن عما يمكن أن يكون ذلك الشيء فهو لن يسعفه بإجابة، وضع يده على كتف خليل مطوقا له؛ في محاولة للتخفيف عنه، لم يعرف ما يقول سوى:
_خليل تمالك نفسك

كان هذا الأخير يجلس دافنا وجهه بين كفيه، لحظات مرت حتى رفع كفه ليسند رأسه على ظاهره، حانيا رأسه بصمت مختنق، يجلس القرفصاء ودموعه تنهمر بلا توقف، تمردت منه شهقات رغما عنه، لتمزق الصمت بين الحين والآخر، تذكر أنه لم يصلِّ بعد، نهض من مكانه وهو يحاول أن يتماسك، تحدث رغم حشرجة صوته:
_بعد الصلاة سأخبرك

أدرك جمال أنه لم يصلِّ حتى الآن، زاد قلقه أكثر، ما الذي سيجعل خليلا يؤخر صلاته؟ لم يقل شيئا سوى أن أومأ برأسه موافقا، رافقه حتى دخل إلى المواضئ التابعة للمسجد، ثم إلى داخل المسجد، يغلفه سكون كسكون الليل، مظلم وهادئ، بدا مخيفا، وبدا أن ما يخفيه أكثر إخافة

انتهت صلاته وظل هو في مكانه، لم يفتح للحديث بابا، وحين أدرك جمال اقتراب موعد أذان العشاء طرح ما يجول في رأسه:
_ألن تخبرني بما حدث؟

سؤال صعب وجوابه أصعب، لو كنتَ مكان خليل فماذا ستفعل؟ ستعجز أن تعطيه جوابا، أو على الأقل سيصعب عليك الإجابة

طال صمته فلم يشأ جمال كسره، إن أراد أن يخبره عما حدث فسيفعل، وإن لم يرد فهو لن يجبره على ذلك، أما خليل فقد بات يخشى أن يأتي إخوته ووالده لصلاة العشاء فيستشفون من وجهه ما حدث، لن يملك أمامهم خيار الصمت كما يفعل مع جمال الآن، بحث عن كلمة تساعده على قول ما حدث، لف ودار ولم يجد غير كلمة واحدة نطق بها بوجع:
_يوسف…

أصبح الأمر أكيدا لدى جمال بأن ما يحز في نفس خليل الآن متعلق بيوسف، ولكن يوسف ماذا؟ لم يقل شيئا سوى اسمه، وجد جمال نفسه يلقي عليه سؤالا من وسط حيرته:
_يوسف ماذا؟

تحامل خليل على نفسه ليتمكن من إعطاء إجابة، ورغم شدة الأمر عليه إلا أنه تحدث أخيرا:
_لا أعلم ما حدث له، إنه يتصرف بغرابة، بغرابة، حتى أنه… طلق زوجته!

صدمة قوية تلك التي تلقاها جمال، وكأن الأمر يعينه رأسا، كيف حدث ذلك؟ ومتى؟ ولماذا؟ كلها أسئلة دوت في عقله المصدوم، حاول أن يستفسر ليفهم الأمر بشكل أفضل، سأل:
_كيف وصل الأمر إلى هذا؟ وأين هو الآن؟

مسح خليل دموعه محاولا إخفاءها قسرا، لم يكن يعلم أن أثر البكاء لا زال واضحا في حُمرة عينيه، ونبرة صوته المنخنقة، أو ربما هو يعلم لكن ما بيده من حيلة، أجاب عن أسئلة جمال الحائرة:
_لا أعلم ما الذي يحدث معه، فحتى عائلته لم يخبرهم شيئا، لا زال يتجنبهم فحسب، لكني واثق… واثق تماما أن أمجد وراء كل هذا، أما أين هو الآن فلا أعلم، لكنه قد يكون عنده، ويحاول أن يخفي الأمر عنا

جزء من القصة أصبح واضحا لدى جمال، لكن جزءا آخر لا يزال غير مفهوم، سأل مجددا رغم أنه لم يكن يرغب بإثارة وجع خليل أكثر:
_كيف وصلك الخبر؟ ثم لماذا يبدو أنك الوحيد الذي يعرف هذا من عائلتك؟ لقد رأيتهم في صلاة المغرب لا يبدو على أحدهم بأس، إن لم يكن لديك مانع أود أن أفهم القصة كلها

زفرة حارة أُطلق سراحها من جوف خليل، لا مناص من الإجابة، قد يساعده جمال في نهاية الأمر، تحدث أخيرا:
_ذهبت إلى منزلهم لكي أراه، أردت أن أكون قريبا منه؛ خوفا من أمجد بعد الذي أخبرني معاذ عنه، لكنني لم أجده هناك، وبعد بعض الحديث مع والده وأخوه رأيت أنه من واجبي أن أخبرهم بأمر أمجد، حتى لا يسمحوا ليوسف بالذهاب إليه مجددا، بعدها اتصل به لؤي، وبعد أخذ ورد _والذي بدا فيه حادا على نحو لم أعهده منه_ ذكر له لؤي زوجته، فبدأ يقول كلمات أكثر حدة ما جعل والده يتدخل، لكن حينها… وبكل برود… قال أنها طالق!

كز على أسنانه محاولا كبت بكائه قدر المستطاع، أما جمال فقد بقي ثوان يفكر قبل أن يقول:
_بكل برود؟ هل تظن أنه فعل ذلك حقا؟ وعلى أية حال هل عرفتم أين هو؟ ولمَ لمْ تذهبوا إلى منزل أمجد لتروا إن كان هناك أم لا؟

كل تلك الأسئلة شكلت نوعا ما صدمة لخليل ليقف قليلا بقوة، فكر في تلك الأسئلة جميعها ثم أجاب باستسلام:
_لا أعرف… لا أعرف كيف يفكر أو لماذا، أنا لا أعرف شيئا، وكيف لي أن أعرف وهو يخفي كل ذلك في صندوق بعيد عني؟ أما أين هو فلا أحد منا يعلم، ولم نذهب إلى منزل أمجد؛ لأن أحدنا لم يملك القوة الكافية ليحمل نفسه ويذهب إلى هناك، بالكاد سرت إلى هنا

عقد جمال حاجبيه بغضب، ثم رد عليه بانفعال لم يستطع كبحه:
_هذا غباء! لماذا لم يذهب أحدكم حينها؟ لقد ضيعتم الوقت، ومنحتموه فرصة للهرب

أدرك أنه قد انفعل كثيرا لينطق بخجل:
_آسف على هذا الانفعال!

رغم ذا لم يبدِ خليل أي ردة فعل، بدا مقيدا بأصفاد العجز، تائه الفكر، موجوع القلب، ينكس رأسه من ثقل الهم الذي يحمله على عاتقه، أما جمال فلم يستسِغ هذا الوضع، أمسك يد خليل بشدة وهو يسحبه لينهض قائلا:
_لا تبقَ هكذا دون فعل شيء، قم هيا سنذهب إلى منزل أمجد ذاك، سنبحث عن يوسف عنده، من الحماقة أن نبقى هكذا دون فعل شيء ونحن نعرف عنه الكثير

تثاقل خليل حتى لا ينهض، حاول سحب يده من يد جمال وهو يقول:
_دع يدي، كيف تريدني أن أذهب وأهله لم يفعلوا شيئا؟ لا يمكنني التصرف من زاويتي فحسب

ازداد حنق جمال أكثر وأخذ يسحبه بقوة أكبر وهو يقول:
_قم هيا سنذهب ونأخذ معنا لؤي، لن نذهب بمفردنا، كما أنه يجب ألا نذهب دون أن يعلم أحد بهذا، قم ولا تتثاقل هيا

سحبه بالقوة حتى استطاع أن يجعله يقف بعد أن اقتنع بما قال، انطلقوا مسرعين إلى منزل يوسف، ليأخذوا لؤي معهم رغم تردده، ثم توجهوا إلى منزل أمجد

ضغطوا زر الجرس ليخرج لهم أمجد بعد قليل من الوقت، وحين فتح الباب فوجئ بالثلاثة في وجهه، تظاهر بأنه لا يعرف شيئا ثم وجه حديثه للؤي قائلا:
_أهلا بك يا ابن عمي، تفضلوا!

أدخلهم إلى الداخل وهو يستر وجهه بقناع الاستغراب، في حين كان لؤي يشعر بحرج شديد، لم يقِلَّ خليل عنه حالا رغم شعوره بالكراهية تجاهه، أن يأتي هكذا فجأة لا تجمعه بأمجد صلة، وبغرض تفتيش المنزل، وقد لا يكون يوسف فيه -لهو أمر محرج بالنسبة له، حينها نطق جمال:
_بلا مقدمات واعذرني على وقاحتي: هل يوسف هنا؟

اصطنع أمجد وجها مستغربا ليقول بعدها:
_يوسف؟ كلا إنه ليس هنا، هل هناك شيء ما؟

ازداد خجل لؤي أكثر وظل خليل على صمته، في حين لم تهتز شعرة من رأس جمال الذي رد عليه قائلا بكل جرأة:
_ما حدث قد حدث ولم نأتِ لمناقشته أو الحديث عنه، ولأن أحدهم أبلغنا بوجود يوسف هنا ونحن نريد أن نتحدث معه عن أمر مهم اسمح لنا بتفتيش المنزل

تبادل مع أمجد نظرات حادة ليرى هذا الأخير كم أنه جاد فيما قال، ولأنه يعرف كل شيء لم يطرح الكثير من التساؤلات أو الاعتراضات بل بادر القول:
_رغم أنكم لستم من الشرطة ولا تملكون تصريحا لتفتيش منزلي، ورغم أني أستطيع منعكم إلا أنني سأسمح لكم بالتفتيش، فأنا لست بحاجة إلى التهم الملفقة والكاذبة، ها هو المنزل أمامكم، فتشوا كما يحلو لكم

أشار بيده أمامهم ليتيح لهم البدء بمهمتهم، لو أن جمالا قال أن أحدهم أبلغهم عن وجود يوسف عنده دون أن يطلب تفتيش المنزل لشك بأن ذلك الشخص قد شاهد يوسف وهو يخرج إلى المنزل المجاور، لكن أن يُطلب منه السماح بتفتيش المنزل فهذا يعني أن الشخص الذي أخبرهم بذلك ما هو إلا معاذ، توقعا منه ليس رؤية له، لذا سمح لهم بالتفتيش والثقة تطفح من قلبه، لم ينسَ أن يحط تعليقا ساخرا حيث قال:
_وستختارون لي مكانا لأجلس فيه أثناء عملية التفتيش أليس كذلك؟

رد عليه جمال دون خجل:
_بالطبع، وأين ما كان المكان الذي ستجلس فيه ستبقى تحت مراقبة لؤي

أنهى كلامه بنظرة إلى لؤي الذي لم يعارضه رغم تحرجه من ذلك، حينها جلس أمجد على إحدى الآرائك الموجودة في الصالة وهو يقول:
_أظنه لن يكون لدى أحدكم مانع أن أجلس هنا

هز جمال رأسه ثم أشار للؤي بأن يجلس مقابله وهو يقول:
_ابقَ معه وأنا وخليل سنبدأ التفتيش، لا ترحمه من نظراتك، سيكون الأمر جيدا إن لم يكن يغلق أحد غرفه هذه

تفلتت ضحكة من أمجد لم يرغب في كتمها حتى، ثم علق على كلام جمال:
_أنت وقح حقا، لكنك تعرف كيف تتصرف، وفي الواقع يعجبني كثيرا هذا النوع من الناس

تسرب الخوف من كلماته إلى قلوب الواقفين حوله، لا ينقصهم مصيبة ثانية ليحط نظره على جمال، ولأنه لم يكن يهتم سوى بتبرئة ساحته الآن أتبع كلامه ذاك بالقول:
_المنزل كله مفتوح أمامكم، لست مغفلا لأبقي أحد الأماكن مغلقة فيبقى شككم بي لا يزول

أشار جمال لخليل يسارا إلى الغرفة التي تقع جوار مدخل الصالة وقال:
_اذهب وفتش تلك الغرفة، وأنا سأذهب لأفتش تلك

أشار إلى الأخرى التي تقع في مقابلها على يمينهم، وقد كانت غرفة أمجد نفسه، تحرك كل واحد باتجاه، ليدخل جمال الغرفة منقبا في كل مكان، خلف الستائر وفي الخزانة، وبين البطانيات وحتى تحت السرير

كان غاضبا أنه لم يجد شيئا فأفرغ غضبه بالسخرية من تلك القطعة الناقصة من السجاد تحت قائمة السرير التي تقع في الزاوية، أخذ يحدث نفسه بسخرية:
_هل نقص المال مثلا لينقصوا تلك القطعة؟ أم أن الذي صنع السرير جعل قائمته الداخلية طويلة بعض الشيء؟

خرج بعد أن تأكد أن يوسف ليس هناك، لم يرَ خليل في الصالة فظن أنه قد أنهى تفتيش الغرفة وذهب إلى مكان آخر، سأل لؤي عنه فأجابه أنه لم يخرج بعد

ذهب إلى تلك الغرفة مستغربا، وحين دخل وجد سرير صغير الحجم بالنسبة لذاك الذي في غرفة أمجد، جواره طاولة صغيرة ذات أدراج، وفي المقابل له خزانة صغيرة، بدت غرفة استثنائية فيما إذا وجد شخص ما هنا فيبيت فيها، كان خليل واقفا جوار تلك الطاولة الصغيرة يعطي ظهره للباب، سار جمال نحوه ببضع خطوات ثم سأل:
_ما الأمر؟ لمَ تأخرت في التفتيش؟ هل وجدت شيئا؟

وقف بجانبه ليجده ممسكا بعلبة دواء ثم قال:
_هنا كان يوسف، أنا واثق أنه كان في هذه الغرفة منذ مدة قصيرة، رائحة عطره تملأ المكان، وأيضا...

صمت وظل جمال ينتظر الباقي وسط استغرابه، أكمل خليل كلامه:
_قد يكون… قد يكون هذا جزءا من ألاعيب أمجد، وليس دواء كما يبدو لنا في ظاهره، ما رأيك؟

التفت ناحية جمال ليأخذ هذا الأخير العلبة منه ويفتحها، سكب الحبوب التي فيها على راحة يده، أعادها بعد أن تأملها، ثم أخذ يطالع الوجه الخارجي للعلبة وهو يقول:
_تبدو علبة دواء عادية، يبدو أنه دواء للصداع

أعادها إلى خليل ثم قال:
_إنه ليس مغفلا ليترك شيئا يدينه كهذا أمامنا، لقد كان لديه الكثير من الوقت ليأخذ احتياطه، فأنتم قد جعلتموه يحصل على كل ذلك الوقت، لقد أخفى يوسف نفسه فما بالك بشيء كهذا

أخذ جمال يوزع نظراته على المكان مستطلعا ثم عقب:
_تخيفني ثقته تلك، أخشى ألا نجد يوسف بعد كل هذا

فوجئ وهو يرى خليل يفتح العلبة ثم أخرج منها بضعة حبوب، ليضعهن في منديل حفاظا عليهن، ثم أعاد العلبة إلى مكانها وقال:
_لن نخسر شيئا إن أخذنا بعضا منها وقمنا بفحصها

تركه جمال وما يفعل ليسأله إن كان قد فتش الغرفة، ليجيبه خليل بالإيجاب، ثم خرجا من تلك الغرفة ليتوجه خليل إلى المطبخ وجمال إلى السطح، كان السطح خاليا من أي شيء، بدا كما لو أنه هكذا منذ أن بُنِيَ المنزل، غير معد للاستخدام

هبط جمال من السطح ليتجه إلى المطبخ فيجد خليل خارجا منه وهو يهز رأسه يمنة ويسرة كناية عن عدم وجود يوسف هناك، اتجه جمال إلى الحمام المتصل بهذه الصالة وخليل ذهب نحو المجلس الذي يقع في عزلة عند باب المدخل، يتبعه حمام خاص به ويربطهما ممر صغير، اتجه جمال ليفتش في الصالة في أي مكان يمكن أن يختبئ فيه إنسان ولكن دون جدوى، حينها ذهب إلى المجلس فوجد خليلا شبه منهار؛ لأنه لم يجد شيئا

كان المنزل كبيرا بعض الشيء، ويحوي في داخله فناء يحيطه من كل جانب عدا الجهة الشمالية والشرقية، فقد كان المنزل قريبا من السور المحيط به، والفناء واسع جدا، وفيه موقف لسيارة أمجد

في الجانب الغربي يوجد بوابة لدخول السيارة وخروجها، وفي الجانب الجنوبي باب المنزل الخارجي، وقبالته يقع باب المنزل الداخلي، وفي الجهة الشرقية حائط يفصل بين هذا المنزل والمنزل المجاور، الذي بقي فيه يوسف، حينها فكر جمال بأن يفتشوا في هذا الفناء، وبالفعل بادروا إلى ذلك، ولم يبقَ سوى تلك السيارة الواقفة، كان زجاجها ليس عاكسا، لذا فقد حاولوا استكشافها دون الحاجة إلى استدعاء أمجد ليفتحها، ولكن دون جدوى أيضا

طالع كل منهما الآخر بنظرات إحباط، شعرا باليأس حقا، حينها تذكر جمال الدرج ففكر أن يكون هنالك قبوا للمنزل، في كثير من الأحيان الأشخاص الذين يبنون تحت بيوتهم قبوا يلجأون إلى وضع مدخله تحت الدرج، أو في مكان بعيد عن موطئ الأقدام عادة، وهو لم ينتبه لذلك حينما كان مستعجلا، نظر إلى خليل بحماس اشتعل فجأة ليقول له:
_القبو، قد يكون هنالك قبوا تحت هذا المنزل، دعنا نجري محاولة أخيرة

نهض خليل على خيط الأمل الجديد هذا الذي مُدَّ لهم، وهو يرجو أن يصيبوا شيئا هذه المرة، توجها إلى الداخل ليريا ابتسامة الثقة تعلو وجه أمجد الذي علق عقب رؤيتهما:
_واضح أنه ليس هنا، ولكن على ما يبدو الفضول يفتك بالبشر حقا

كان التعب قد أحدث فجوة في قوة احتمالهما ليجيبه جمال بعصبية:
_لم ينتهِ الأمر هنا، بقي القبو، إلا إذا كنت تخبئه هناك فستمنعنا بالطبع

نظرات مستغربة طالعه فيها أمجد، ظن أن جمالا قد رأى فتحة القبو بالفعل حينما نزل من الدرج، لكنه لم يكن يبالي بأي مكان في منزله ليُفتَّش كما شاؤوا، لن يجدوا يوسف ما دام أنه ليس هنا، أشار بيده ناحية فتحة القبو وقال:
_اذهب وفتش كما تشاء، ستعود خائبا كما حدث معك قبل قليل

تأكد جمال من تلك الإشارة أن القبو مدخله من هناك، حاول أن يتجاهل كلام أمجد الأخير ومضى مع خليل إلى هناك، كانت الدرج تقع خلف أمجد وقبالة لؤي، كان يراقبهما برجاء، أين يمكن أن يكون يوسف إن لم يكن هنا؟ كان هذا مقلقا له أيَّما إقلاق، ظل ينظر ناحيتهما وهو يرى جمالا يفتح القبو، طلب هذا الأخير من خليل أن يبقى في الأعلى

أخذ هاتفه وأشعل مصباحه الخارجي ثم نزل تلك السلالم ليصل أخيرا إلى هناك، كان مظلما بشدة، لا يطلو جدرانه أي طلاء، ولا يوجد فيه مصابيح من أي نوع كان، الغبار متناثر في كل مكان، بدا كما لو أنه مهجور منذ زمن، ورغم ذا واصل جمال سيره

كان القبو مقسم إلى ثلاث غرف كبيرة، لكن لا أبواب عليها، يفصل بينها ممر صغير، أخذ الشك يقضم قلبه فأخذ يقيس مساحته، هل تتوافق مع مساحة المنزل في الأعلى؟ هل يمكن أن يكون هنالك باب سري؟ أخذ يفتش وينقب ولكن دون جدوى، استسلم لهذه الحقيقة، فعاد إلى الأعلى محملا بالإحباط واليأس

سأله خليل رغم معرفته الإجابة مسبقا:
_هل وجدت شيئا؟

هز جمال رأسه نافيا ليحبط خليل بالكلية، جلس قرب مدخل القبو بصمت، ليعدي الآخرين بصمته، لم يشأ أمجد أن يظهر لهم بمظهر الشامت الذي يخفي خلفه سرا، لذا فقد تحدث إلى لؤي قائلا:
_سأتغاضى عن هذه الإهانة التي قدمتموها كشكر لي، لكني لن أتغاضى عن إخفائكم ما يجري عني، وعدم طلبكم مني المساعدة، وكأنني لا أمتُّ لكم بصلة، ما به يوسف؟ وما القصة؟ لماذا جئتم تبحثون عنه عندي؟ أريد أن أفهم، لا يمكنكم أن تغادروا مع هذا الغموض الذي جئتم به

أدرك لؤي أنه قد وقع بين فكَّي كماشة، الأمر أيضا انتهى بإحراجه فوق حرجه، هذه المرة لم يفتح جمال فمه؛ من ناحية كان محبطا، ومن ناحية الأمر يتطلب من لؤي أن يتحدث، مع أنه يعلم أن كل هذا حدث بسببه هو وأفكاره المجنونة، لم يؤخر لؤي الرد، تحدث محاولا التماسك:
_كما قال جمال أحدهم أبلغنا أنه هنا، للأسف يوسف لا يتصرف بعقلانية هذه المدة، حتى أنه...

ألجمه الصمت حينما تذكر وجود خليل، كيف يمكنه أن يتحدث أمامه بسهولة هكذا؟ هو لم يجتَزْ ما حدث له في الموقف السابق بعد، لكن أمجد لم يراعي شيئا من ذلك، بادر بالقول متظاهرا بعدم المعرفة:
_أنه ماذا؟ هل ستعطيني رموزا وتنتظر مني حلها؟ أم ماذا؟

كان هذا متوقعا من أمجد بالنسبة للؤي، فهو يعرفه فظا لا يحترم أحدا، ولا يقدر موقفا هو فيه، حينما يرغب بفعل شيء أو قوله أو سماعه فسيفعل ولن يهتم بالآخرين، أجابه لؤي قبل أن ينهض من مكانه:
_طلق زوجته

أعقب تلك الجملة بنهوضه المباشر ليطالعه أمجد بنظرات مقنَّعة بالاستغراب، لكن حين رأى أنه نهض ليقطع حديثه معه شعر وكأن الأمر إهانة له فقال:
_مشاكل زوجية ما شأني أنا بها؟ أرجو أن تراقبوا ابنكم جيدا، فلا ينقصني مزيدا من المشاكل مع أبي

نهض جمال ليمسك بيد خليل والغيظ يأكل قلبه، لا زال واثقا أن أمجد وراء كل هذا، استدار لؤي من أمامه ليتجه نحو المخرج قائلا:
_المعذرة على تصديع رأسك بمشاكلنا الخاصة، لن يصل الأمر إلى عمي لذا أرح رأسك

لحقه خليل وجمال بصمت وهما يحاولا بالكاد أن يتمالكا أعصابهما، نهض أمجد ليسير خلفهما حتى وصلا إلى باب المنزل الخارجي، وقبل أن يغلق هتف بهم بسخرية:
_ليلة سعيدة!

إن خليلا منذ أن دخل وهو يحاول ألا يبقي وجهه في وجهه؛ كيلا يلمح تلك التعابير المهزومة حزنا، والجاثية على وجهه بقسوة، وهو الآن أشد ما يكون من تلك الحال، استمر في مشيه مبتعدا بذلك الوجه الذي كادت دموعه أن تتمرد، حاول لؤي التخفيف عنه وهو لا يجد ما يخفف به عن نفسه، أما جمال فقد شعر باحتراق أعصابه أكثر من اللازم، عاد بنظره إلى أمجد ليرد عليه بالقول:
_حاول أن تكون ليلتك سعيدة أنت، لا تقلق بشأننا

تهديد مبطن شعر به أمجد من تلك الكلمات، لكنه ابتسم بخبث وقال:
_قلتها سابقا: يعجبني هذا النوع من الأشخاص، ليلة سعيدة أيها الشاب

أغلق الباب في وجه جمال قبل أن يسمع شيئا آخر، استشاط جمال غضبا من ذلك لكنه فضل الابتعاد، نوعا ما بدأ يشعر بالخوف من تلك الكلمات التي أدلى بها أمجد تعبيرا عن إعجابه به، تمنى لو أنه يكون ساخرا فحسب، فهم لم يجمعوا بعد شتات أنفسهم مما يحدث مع يوسف.

¶____________________¶
انتهى الفصل التاسع عشر

هممم ايش رايكم؟ :)

رأيكم بشخصية أمجد؟ أتمنى أعرف الجواب قبل قراءة الفصل القادم؛ لسبب ما :)

عموما حبيت شخصية جمال بعد هذا الفصل XD
رغم اني الكاتبة بس عجبني والله D:

تجاوزوا الأخطاء الإملائية فضلا؛ فأنا لم أملك وقتا كافيا لمراجعة الفصل مرة أخرى

إلى لقاء قريب بإذن الله 💚

Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top