الفصل الأربعون والأخير
الفصل الأربعون والأخير|| عفا الله عما سلف
مع ازدهار شمس الصباح في الأفق يوم ذهاب عائلة سعيد إلى بيت عبد العليم، كانت العائلة قد بدأت استعداداتها الأخيرة للذهاب إلى هناك، مخططهم يقضي أن يذهبوا قبل الظهيرة، ويبقون حتى المساء، ثم يعودون مع ميمونة
شعور الفرحة ينشر رذاذه على القلوب فيغسلها من حزن الأمس، ابتسامات استبدلتها الوجوه بعد عبوس طويل، وغمر الفرحة يغرقهم حد نسيان آلام الماضي، تلك الآلام التي لطالما سرقتهم من وسط الفرحة، ولطالما حولت سعادتهم إلى شجن، ولطالما أنستهم كيف كانوا وسط الألفة فرحين هانئين، لن يفتحوا لتلك الجراح الباب وسط هذا الجو الذي بالكاد وصلوا إليه
أخذ يوسف يعد نفسه وسط ضربات قلبه المتوتر، ربما لم يكن يشعر هكذا يوم زواجه، ببساطة لأنه الآن مطالب باعتذار، وطالب للسماح، فهل سيجده؟ أم سيعود بخفي حنين؟
أن يتم الصلح بينه وبين عائلتها هذا أمر، وأن تسامحه وتعود إليه هذا أمر آخر، لا يمكنه أن يتوقع حتى ما تكنه في قلبها، مهما كانت علاقتهم السابقة فإن القلب أحيانا يذبل ذبول الزهور، ويعجز المرء أن يعيش الربيع من جديد، على الأقل ليس في ذات البيئة
وعلى أية حال لا فائدة الآن ترجى من عدم ذهابه، يكفيه ما قد فعله في الماضي من تأجيل، عليه الآن أن يواجه قدره، إما أن تسامحه وتعود معه، وإما أن تطالبه بإنهاء كل شيء، ويعيش كل واحد منهما حياته الخاصة
صوت جدته التي نادته من الخارج ليسرع سحبه من عمق أفكاره، رد وهو يرتب الأشياء على طاولة الزينة:
_حالا يا جدتي، قليلا فقط
رتبها بسرعة ثم غادر، ملامح الابتهاج لا تفارق محياه، هذه المرة لم يسلم من تعليقات الآخرين المحرجة، لكنه رغم ذاك كان يتقبلها بصدر رحب، لقد زال ذلك الحاجز الكبير الذي حرمه منهم
وأخيرا انطلقت سيارتهم نحو منزل صهيرهم، ليحظوا باستقبال كبير، أعاد هذا الموقف لهم الذكريات يوم عقد القران، لقد تلألأ المنزل بهجة وفرحا، وشعاعات السعادة تتوهج في القلوب، لقد كان استقبالا بدا كما لو أنه لم يحدث ليجبَّ ما قبله، انحاز الرجال في مجلسهم، وانحازت النساء في مجلسهن أيضا
لم تسلم ميمونة هي الأخرى من تلك التعليقات المحرجة، ما دفعها لتغادر المجلس متعذرة بأنها مشغولة، ذهبت باتجاه المطبخ لتجد صفية لاحقة بها بسرعة، وما إن وصلتا إلى المطبخ حتى أمسكتها صفية قائلة متصنعة الغضب:
_ماذا تفعلين هنا؟ هيا اخرجي في الحال، إنهم ضيوفك بشكل خاص، هل ستتركينهم وحدهم
ردت ميمونة وهي تبتعد عنها لتفتح الثلاجة وتخرج شيئا ما:
_ليسوا وحدهم، فاطمة ونور هناك، وأيضا أمي
كانت تحاول أن تخفي حقيقة هروبها، فاجأتها صفية وهي تغلق باب الثلاجة وتقف في وجهها قائلة:
_فاطمة ونور زوجات إخوتي، لو لم تكن إحداهن موجودة لما لامها أحد، وأمي سيأتي وقت تحتاج فيه للخروج، أم أنك تنوين حبسها هناك؟
أخفضت ميمونة رأسها دون رد، حينها شعرت صفية بالإشفاق عليها، حاولت أن تتحدث بلهجة أكثر لطفا فقالت:
_اسمعي، أنتِ تعلمين أنهم جاؤوا رأسا لأجلك، وقد تعودين معهم الليلة، لذا يفترض أن تعودي وأنتِ بحال أفضل، أم أنك تنوين إرهاق نفسك بالعمل، تحت حجة أنه يجب عليك القيام بضيافتهم جيدا؟ اذهبي واجلسي معهن أفضل لك
هزت ميمونة يديها بانفعال وقالت بنبرة غاضبة بعض الشيء:
_لا أريد أن أبقى تحت ذلك الضغط الهائل من الإحراج
تسللت ضحكة هاربة من صفية على موقفها، وحين طالعتها ميمونة بنظرات مستاءة عادت لتبرر الموقف:
_آسفة لا أقصد شيئا، ولكن على أية حال إن ظللت تفرين من وجوههن فستزداد تعليقاتهن أكثر، ثم إن فاطمة ونور سيخرجن بعد قليل، أمامنا الكثير من العمل، وأما من سيبقى لا أظن أنه يمكنك أن تنحرجي أمامهن، ثم لماذا لا تردي عليهن هاه؟ لو رددتِ على واحدة لصمتن جميعا
نظرت إليها ميمونة بإحباط لتعلق قائلة:
_لست جريئة مثل البعض هنا، وعلى أية حال ماذا تريدينني أن أقول إن كانت الجدة هي من سيعلق عليّ؟
ضحكت صفية بملء فيها، كانت تعلم أن ميمونة تقصدها حين قالت «البعض» ولكم أشفقت على ميمونة من تعليقات تلك الجدة، أرادت تلك العجوز أن تمهد الطريق بينها وبين يوسف بطريقتها، لكنها زادت حرج ميمونة ضعفا إلى ضعف، ظلت ميمونة تراقب صفية التي ضحكت عليها دون تعليق، لتأخذ صفية دور المتحدث قائلة:
_حقا إنك في موقف لا تحسدي عليه، ولكن تشجعي واذهبي، استقبلي الإحراجات هنا وإلا فإنها ستتضاعف عليك حين تذهبين إليهم، وربما لا تجدي فرصة للهروب منها
نهضت ميمونة من أمامها وهي تقول:
_في النهاية لا مناص من ذلك، إذن دعيني أكمل رحلة الهروب هذه ما دام بإمكاني فعل ذلك
_إلى أين؟
سألت صفية وهي ترى ميمونة تغادر المطبخ، لتجيبها الأخيرة وهي مواصلة مشيها:
_إلى غرفتي، لا أريد سماع تعليقات
ولت مبتعدة عن صفية التي أخذت زفرة محبطة، بقيت وحدها تعبث الأفكار برأسها، ميمونة ستعود إلى بيت زوجها وتتركها وحدها، لقد اعتادت أن تبقى معها، كل واحدة تشارك الأخرى همها، يتقاسمان كل حلو ومر، ولأن ميمونة أكبر من صفية، فصفية أكثر التجاءً إليها منها، هذا التفكير أسفر عن شعور بالاستاء من قبل صفية، لكنها لن تكون مستاءة أكثر من سعادتها، أخيرا رأت الفرحة في عيني ميمونة، بعد تلك الأيام العجاف التي مروا بها جميعا
**********
تزينت الكواكب في واجهة السماء، آخذة زمام الأمور بعد أن حل الظلام مودعا سيدة النور البازغة شمس، عزفت صراصير الليل لحنها لتدل حتى الأعمى على قدوم الليل
فضلت عائلة عبد العليم أن تقدم العشاء باكرا، ليخلوا الجو بعد ذلك وقتا طويلا، وحين أنهوا عَشاءهم الذي تلا عِشاءهم، فتحوا الباب أمام يوسف ليذهب للسلام على عمته أولا، ثم على ميمونة ثانيا، وما سيحدث تبعا لذلك فقراره راجع لهما
استقبلته عمته في صالة المنزل لتسلم عليه مهنئة إياه باجتياز تلك المرحلة الصعبة من حياته، ثم علقت وهي تحدق به برجاء:
_ميمونة أمانة في عنقك يا يوسف، فلا تضيع الأمانة
شعر أن كلماتها وصلت قلبه دون أن تمر من أذنيه؛ لشدة عمقها ورجائها، رد تلك النظرة بأخرى واثقة وهو يقول:
_أعدك يا عمتي أنها لن تحزن بعد اليوم ويوسف حي
ردت عليه مسرعة بعد أن شعرت بالخوف بدل الطمأنينة:
_أطال الله في عمرك يا ولدي على طاعته، وفي كل خير، ورزقك الله ذرية صالحة
أمَّن على دعواتها ليتدخل خليل بينهما قائلا:
_أرجو المعذرة يا أمي، أين ميمونة الآن؟
أشارت نحو غرفتها وهي تبتعد من أمامهما قائلة:
_هي في غرفتها، بإمكانك الذهاب الآن يا يوسف
شكرها يوسف لتعود هي نحو مجلس النساء، بينما رافقه خليل في خطواته الأخيرة، لاحظ خليل حجم توتره حين وقف أمام الباب، أمسك المقبض وجمد في محله، أزعج خليلا فعله هذا فدفعه وهو يقول:
_ابتعد أيها الجبان، لا يوجد وحش في الداخل
فتح الباب وسط ذهول يوسف الذي لم يعلق بشيء، أشار خليل نحو الداخل وقال:
_إنها ميمونة فحسب
لو لم تتمكن من سماع كلمات خليل الأولى لظنت أن يوسف أعتقد أن أحدا ما معها في الداخل، بحركة تلقائية نظر يوسف حيث يشير، ليفاجأ بخليل يلتف حوله، ثم دفعه بقوة إلى داخل الغرفة وأغلق الباب بسرعة، ثم نطق قبل أن يفر هاربا:
_حظا سعيدا يا صديقي
فعله ذاك جعل يوسف منزعجا، لكنه لاحظ ميمونة التي تقف جوار طاولة زينتها ترقبه بصمت، بدا واضحا كم أنها هي الأخرى قد استعدت لهذه اللحظة، بفستانها الطويل الأسود ذو الورود المتناثرة، وتلك المساحيق التي حاولت تغطية بؤس الأيام الماضية بها، تسدل شعرها الذي لم يعد طويلا كما كان على ظهرها
لمح طيف الحزن المنعكس في عينيها، هذا ما كان يخشاه طوال المدة الماضية، هاتان العينان اللتان تعاتبانه بنظراتهما الصامتة عتابا أشد من الحديث، استجمع كل ذرة في كيانه ليتمالك نفسه ويقدم اعتذاره دون مزيد من الهروب، تقدم منها خطوة ثم أخرى وأخرى حتى وقف أمامها، وحين أصبح في وجهها نطق أخيرا:
_جميع قواميس الدنيا لا تعينني على صياغة جملة اعتذار تناسب مقامك وحالك، لكن الكلمة الوحيدة التي أستطيع قولها هي… آسف!
لمع بريق الدمع على سفح مقلتيها، لا زالت صامتة وعينيها تتحدثان، كانتا أكثر عتابا ولوما له من لسانها لو نطق، أردف مجددا بانكسار:
_آسف لا تكفي على ترميم حطام القلوب… أعلم! أعلم ذلك جيدا، ولكنها هي كل ما أستطيع قوله
أخذت الدموع تتكاثف في محجريها ما جعلها تنكس رأسها بألم، وهنا أكمل اعتذاره بالكلمات التي جاد بها عليه عقله في تلك اللحظات:
_آسف… بحجم الحزن الذي عانيتِ منه طوال هذه المدة! آسف… بعدد الدمع الذي أجريتِه! آسف… بمدى سعير السهاد الذي أرقك في كثير من الليالي! وآسف… بعمق الألم الذي عشتُه كل تلك الفترة أنا أيضا!
جملته الأخيرة استطاعت أن تغرس سهامها في قلب ميمونة، تعلم أنه هو الآخر عانى كثيرا، لكن فعلته بها تلك المرة لم تمر مرور الكرام على قلبها، رفعت رأسها ونطقت بوجع من وسط ذلك الجرح القديم ودموعها تدعم تلك الكلمات بغزارتها:
_لقد حاولتُ… لقد حاولتُ كثيرا أن أنسى ولم أنسى، قتلت ابننا ولم تعزنِي حتى بفقده، قتلته وقتلت فرحتنا معه، دست على كل شيء جميل لتتجاوزنا بعمى مدعيا أن هذا لأجلنا، ومن صالحنا
أكملت دموعها انحدارها نحو ذقنها لتتعانق هناك وهي تكمل حديثها بنبرة أليمة:
_لن أشكك في نيتك، لكن لماذا… لماذا لم تخبرنا بما يحدث معك؟ لماذا لم تشاركنا ذلك؟ هل تظن أننا لن نهب لنجدتك؟ أم ترانا غير أكفاء لذلك؟ لقد سحقت الثقة بنا وسرت متخبطا كالأعمى، هل كان ذلك مرضيا لك في النهاية؟
مسحت دموعها محاولة إجبارها على التوقف، ليغمض هو عينيه وكأنه سيخرج من هذا الموقف، وكأنه خيال يود إثبات عدم حقيقته بالخروج إلى الواقع، ليفتح عينيه على ذات الواقع، نطق مجددا وقد عجز عن قول المزيد:
_آسف!
صمت حتى كاد الصمت أن يطول، تركته واقفا في مكانه ثم سارت بضع خطوات حتى أصبحت خلفه، لم يتحرك ولم يقل شيئا، ظل ينتظر ما ستفعله، فوجئ بها تمسك يده وتقول:
_لا تلتفت!
استغرب أمرها لكنه فضل أن يفعل ما تقول، سحبت يده الأخرى وهو تحت تأثير الذهول، وبسرعة لم يعهدها منها قيدت يديه إلى الخلف بشدة، لا يعلم ما هو الشيء الذي ربطته به حتى، ربما حزاما لأحد فساتينها، لم يستطع كبح استغرابه أكثر من هذا ليسألها بذهول:
_ماذا تفعلين؟
تلقى ركلة في معطف ركبته ليسقط جاثيا تزامنا مع ردها:
_اصمت فحسب، سأنتقم منك بطريقتي
وقبل أن يقول شيئا آخر وضعت رباطا على فمه، ثم أتبعته بآخر على عينيه، والآخر في قدميه، ثم وضعت يدها على كتفه وهمست في أذنه:
_أتظنني طيبة إلى هذا الحد لأنسى ما فعلته بهذه السهولة، ادفع الثمن أولا، بعدها يمكننا أن نتحدث
تركته وسارت نحو خزانة ملابسها لتخرج حجابا تغطي به رأسها وهي تكمل قائلة:
_هذا إن تحدثنا مجددا
اتجهت نحو الباب ثم غادرت وهو لا يرى شيئا سوى الظلام، لم يعرف بعدها أي شعور هو الذي يسيطر عليه الآن، الخوف؟ الاستغراب؟ القلق؟ التوتر؟ أو شيء آخر؟ إن استطاع أن يصف شعوره الآن بكلمة فسيقول أنه «مضطرب» ما الذي تخطط له ميمونة؟ ولمَ فعلت هذا؟ والمزيد من الأسئلة التي لا نهاية لها تقافزت إلى رأسه، انسل من وسط الغرفة بجهد ليتجه حيث ظن أنه السرير، ليسند ظهره منتظرا ما ستسفر عنه هذه المسرحية الهزلية
طال الوقت ومرت ساعة وهو مقيد يكاد أن يجن، أخذ يتحرك قدر استطاعته بين كل فترة وفترة حتى لا يتوقف الدم في عروقه، أو تتشنج أعصابه بسبب تلك الحال التي هو فيها
لكن الشيء الذي كان يقلق بشأنه حقا هو أن يراه أحد من أهلها فيصبح أضحوكة ما بقيت له باقية، لا يدري لمَ شعر أنه لا علاقة لهم فيما فعلته، لكن احتمال مشاركتهم أو على الأقل واحدا لها في ذلك لا يزال قائما، ولكن من الذي سيفعل هذا؟ بزغت صورة خليل أمامه فشعر بالغضب حينها، وتمنى لو أنه يستطيع الخلاص من هذا الحال ليفتِك به لاحقا
فُتح باب الغرفة حينها وهو لا يدري من فعل ذلك، أُغلق الباب وسمع قرع أقدام الداخل تسير باتجاهه، ثوانٍ حتى أزيل غطاء عينيه ليرى بشكل مشوش هوية ذلك الشخص، لم يكن إلا ميمونة التي أعقبت ذلك بفك الرباط الذي يغلق فمه، ليتحدث حينها دون مقدمات:
_يداي، فكي وثاق يداي، أشعر أنهما ستتقطعا
فكت له وثاقهما بالفعل فأخذ يفركهما، بالذات تلك المنطقة التي كانت مقيدة، ثم فكت وثاق أقدامه ليمدهما وهو يفرك منطقة القيد أيضا، نطق وهو على تلك الحال:
_سامحك الله يا ميمونة ما هذا الذي فعلتِه؟
ردت عليه محاولة إخفاء قلقها بعد رؤيتها لمدى فداحة ما فعلت:
_هذا جزء بسيط مما عانيتُه، أردت أن تشعر قليلا بذلك
توقف فجأة عن الفرك وقد آلمته كلماتها، استغل الموقف وقال بنبرة لم تخفِ وجعه:
_وكأنني لم أشعر بمعاناتك؟ لا تتصرفي بأنانية يا ميمونة، لقد كنت أعاني أضعافكم، لقد كنت أحمل حزنكم إضافة إلى حزني
نظر ناحيتها وهو يحاول أن يكتم انزعاجه من كلامها ثم أردف:
_إن أردتِ ألا تسامحيني فقولي ذلك فحسب، قولي ذلك بصراحة وأريحيني، وأريحي نفسك
لم تستطع الرد عليه بعدها، بين جرحها القديم الذي هو سببه وبين ردها الفظيع الليلة وجدت نفسها تتوه وتتشتت، طغى ضعفها عليها من جديد لتتجمع الدموع في عينيها، تحدثت دون استيعاب:
_لم أستطع نسيان ذلك بسهولة، لذا أردت أن أفعل شيئا أنفس فيه عما في قلبي قليلا، علَّني ألجُ المستقبل بشكل أفضل
كان يفرك يديه ليزيل التنمل الذي يشعر به فيهما، رد عليها:
_لن تنسي، لن تنسي الأمر لأنه ليس سهلا ليُنسى، لكن تناسي، أو تغاضي عن الأمر إن أردتِ، وإن كنتِ لن تنسي فاقطعي علاقتك بكل ما يذكرك بذلك، علَّك تنسي، علَّك...
نظرت إليه بعينين دامعتين لتقول بانزعاج:
_لا تقل هذا، أنا لا أقصد ما فهمته، أنا آسفة، يبدو أنني سأظل تلك الحمقاء التي لا تعرف كيف تتصرف في هكذا مواقف
حدق في عينيها بصمت، لتجد أنه يجب عليها أن تقول شيئا هي، أمسكت يديه لترى أثر ذلك الوثاق، شعرت لوهلة بقسوتها، كيف استطاعت أن تفعل هذا؟ ضغطت على يديه لتحني رأسها قائلة:
_لم أقصد أن يصل الأمر لهذا الحد، أنا آسفة!
سحب إحدى يديه ليحطها على رأسها قائلا:
_لم آتِ هنا لأسمع منك اعتذارا، بل أتيت لألقي اعتذاري وأسمع مسامحتك
رفعت رأسها لتقابل عينيه المترقبتين لجوابها، حرر رأسها من يده ليترك لها الحرية بقول ما تشاء، ولكن طال ذلك الصمت وطال اتصال العيون، بدا كما لو أن حالهم يحكي شيئا ما في قلوبهم، يمكن القول أنه فيضان من المشاعر
في حضرة الحب يخون العقل، ويعجز اللسان، وتتحدث العيون بما تكنه القلوب، نطقت بعد مرور الوقت وشعورها بالخجل بعد ذلك الصمت:
_لقد سامحتك، ولكن لا ترتكب أي حماقة مرة أخرى، يكفي ما مضى، بالكاد يمكن أن ننساه
ابتسم أخيرا بعد سماع مسامحتها له، شعر كما لو أن صخرة كبيرة ظلت على ظهره طوال المدة الماضية قد أزيحت ليرتاح أخيرا، علقت ساخرة:
_وأخيرا ظهر يوسف الذي كنت أعرفه
انسلت ضحكة خفيفة منه إثر تعليقها، تجمعت دموعها مرة أخرى، حاولت أن تخفيها عبثا، فوجئت به يطوقها بيديه ليضمها إلى صدره، همس بها قائلا:
_لقد طال شوقي لك، وطال عنائي، ثقي تماما يا ميمونة أنه مهما حدث فأنتِ ستبقين إلى الأبد حبيبة قلبي التي لا يبدلها زمن، ولا تنسينيها ظروف، ألم أخبرك قبلا «وما الحب إلا ميمونة»
طوقته هي الأخرى بيديها، وعلى عكسه الذي استطاع قول شيء، عجزت هي عن الحديث، أخذت تبكي فحسب، غرست رأسها في صدرها وضمته بقوة، تاركة دموعها تتحدث بالنيابة عنها، تذكرت رسالته التي كتبها لها سابقا، يحكي فيها جزءا من مشاعره نحوها
(جميلة القلب أنتِ
كبدر التمام حين يطل على الوادي
رقيقة الحس أنتِ
كبتلات ورد جوري حين تداعبها أنامل الرياح
عذبة الحديث أنتِ
كأنسام الربيع حين تتفتح أزهاره
واعذريني على التشبيه
في حين لا شيء يشبهكِ على الإطلاق
ولإن كان الحب يختصر في كلمات فسأقول
وما الحب إلا ميمونة)
وحين طال صمتها تحدث هو قائلا:
_يفترض أن ينتهي هنا مسير الدموع، أليس هذا وقت للفرح؟ أم أنك تظنين أن دموعك رخيصة لأنها أهدرت كثيرا في الماضي؟ إن كنتِ تظنين ذلك فأنتِ مخطئة، في حين لم أستطع أن أكفكف دموعك بكيت معك، ظننت هذا كافيا، لكن الآن يمكنني ألا أسمح لها بأن تهدر، لذا أرجوك توقفي عن البكاء
قال كلماته وهو يزيح رأسها ليمسح دموعها بيديه، اعتلت ابتسامة واهنة وجهها الباكي، لتعلق على كلامه:
_إنها دموع الفرح، لقد بكيت كثيرا حينما كنت حزينة، حتى كادت الدموع أن تجف، لكن الآن يمكنني أن أبكي كما أشاء، ما دامت فرحا، فما هي إلا تطهير لدرن الحزن الذي غشي قلوبنا
عدل جلسته بعد أن شعر بجسده وكأنه لا زال تحت تأثير ذلك القيد، سألها مختصرا الأمر:
_إذن ماذا؟ هل قررتِ العودة معنا الليلة؟ أم أنك تفضلين البقاء مدة أخرى؟
نهضت من مكانها لتتجه مسرعة نحو السرير، ثم أخرجت حقيبة من تحته وهي تقول:
_لقد مللت البقاء، هل تريدني أن أبقى أكثر من هذا؟ لقد جهزت أغراضي للذهاب معكم الليلة
راقبها وهي تسحب الحقيبة ثم علق على كلامها:
_وما أدراني وأنتِ تخبئينها هنا
ضحكت على تعليقه ثم أخرجت حجابها من الخزانة لترتديه استعدادا للذهاب، حينها طرأ في رأسه سؤال فطرحه بطريقة مهذبة:
_أود أن أعرف أين اختفيتِ طوال تلك المدة التي تركتِني مقيدا فيها؟
سؤاله دفعها للضحك؛ إلى هذه الدرجة لديه فضول ليعرف هذا؟ ردت بكل براءة:
_أين سأختبئ مثلا دون أن يلاحظني أحد؟ بالطبع في غرفة خليل
حينها سألها يوسف بمكر:
_ولمَ لا تكون غرفة أختك مثلا؟ ألن يراك هو الآخر؟ أم أن هناك ما تخفيانه؟
ألجمها الصمت بعد أن رأت أنه تمكن منها، حيث علق دون انتظار سماع ردها:
_كنت واثقا أنه وراء هذا، لن أنساها له
تسرب القلق إلى قلبها فقالت وهي تمسك بيده بعد أن وقف:
_أرجوك لا تخبره أنني قلت شيئا
حمل الحقيبة وهو يضحك قائلا:
_لا تقلقي فحتى لو لم تقولي شيئا فقد كان تحت الشك
أكملت ارتداء حجابها سريعا ثم نظرت هل يوجد أحد في طريقه، ليغادر نحو المجلس طالبا من لؤي مفتاح سيارتهم، في حين توجهت هي لمجلس النساء لتخبرهن أن يتجهزن للذهاب، ودعت عائلتها، واعدة إياها والدتها بزيارتهم لها في الغد
لم يجد يوسف خليلا في المجلس، ولم يرَ جمالا الذي دُعي إلى هذه المناسبة أيضا مع عائلته، وعائلة معاذ، بدا أيضا أن منذرا شقيق معاذ ليس موجودا، أخذ يوسف المفتاح وخرج
وجد منذرا يجري اتصالا هاتفيا بعيدا قليلا عن جمال وخليل، وحين رآه خليل تقدم نحو سيارتهم بعد أن فتحها يوسف بجهاز التحكم، أراد مساعدة يوسف ففتح له الجهة الخلفية ليضع الحقيبة، حينها تظاهر يوسف بأنه أفلت الحقيبة خطأ لتقع على قدم خليل، أخذ هذا الأخير يتلوى من الوجع إثر تلك الضربة، اقترب يوسف منه وهو يتأسف، وحين وضع وجهه قبالة وجهه نطق قائلا بتشفي:
_لست آسفا، تستحق هذا جزاء على ما فعلته بي
طالعه خليل بصدمة ثم ما لبث أن فهم قصده، رد بدهشة:
_بهذه السرعة عرفت؟ لا شك أن ميمونة قد أخبرتك بهذا بعد أن أشفقت عليك
وضع يوسف الحقيبة في مكانها ليرد عليه:
_وهل أنا أحمق لكي لا أعرف أن هذا من عملك؟ إنها أفكارك الانتقامية
نهض خليل ليقف على قدمه السليمة وهو يتأوه، خرجت عائلة سعيد تباعا ليركبوا السيارة، ثم غادروا وسط توديعات الآخرين، حينها وقف جمال بقرب خليل وقال:
_ما الذي فعلته بيوسف ليسقط عليك الحقيبة بغضب؟
التفت إليه خليل بدهشة لمعرفته ما حدث وهو لم يكن في مسافة تتيح له سماعهما، وجده يبتسم بمكر ثم علق:
_لا تسألني كيف عرفت، فقد كانت حركاتكما بعدها توحي بذلك، حتى ولو لم أسمع شيئا
تنهد خليل بإحباط ثم علق:
_ليس من شأنك أيها الفضولي، اهتم بشؤونك الخاصة
وضع جمال يده حول عنق خليل ليتحدث معه بصوت منخفض قائلا:
_لقد غادرت عائلتي إلى المنزل وبقيت أنا لأنني أهتم كثيرا بكم، لذا لا تحاول إظهاري بمظهر المتطفل
ترك عنق خليل جاعلا إياه في حالة استغراب من محاولته الحديث معه دون أن يسمعه أحد، وعلى أية حال لم يبقَ سوى منذر الذي بدا أنه هو الآخر ينتظر عائلته لتخرج ليغادروا، حينها همس جمال مجددا بخليل:
_اسمع يا صديقي، ما رأيك أن تفعل شيئا تصنع به جميلا لمعاذ ويكون جزءا من وفائك له؟
لم يفهم خليل هذا التلميح لكنه أدرك أنه تلميح لشيء ما ذا أهمية، سأل باستغراب:
_وما هو ذلك الشيء؟
همس مجددا بالجواب:
_لمَ لا تتزوج واحدة من أخواته؟
لم يستطع خليل إخفاء صدمته من هذا السؤال، علق ساخرا:
_أنت مجنون أصلا وزادت طعنة أمجد من جنونك
علق جمال على كلامه متجاهلا سخريته:
_ولمَ لا تريد ذلك؟ الجميع يشهد لهن بالخير
_ومن قال غير ذلك؟ لكن هذا لا علاقة له بقراري ورأيي
هكذا علق خليل ليقابله جمال بالصمت، لحظة حتى عاد خليل له بسؤال طرحه قائلا:
_ولمَ لا يكون صنع الجميل إلا من قِبَلي؟ لم لا تصنعه أنت؟
كان جواب جمال حاضرا إذ سارع للقول:
_لأنه لم تربطني به تلك العلاقة التي ربطت بينكما، ثم إن والدي قد خطب لي ابنة عمي، لذا الشخص الوحيد الذي بقي متاحا هو أنت
طالعه خليل بنظرات مستخفة لبرهة ثم قال:
_لا توزع الآخرين حسب هواك، ثم إنني لا أرغب بالزواج الآن، لذا لا تحشر أنفك أيها المستعجل، فالناس ليسوا مثلك
فجأة اقترب منه جمال وأخذ يقول بحماس مصطنع ليستفزه:
_ماذا قلت؟ حقا أنت موافق؟ سأذهب الآن لأخبرهم بالأمر
أخذت الصدمة خليلا الذي أخذ يحدق به بعيون متسعة ذهولا، وجده يسير نحو منذر قائلا:
_لا بأس سأسأله عن ذلك
نسي خليل وجع قدمه ليركض نحوه خائفا من أن يكون جادا فيما يفعل هذه المرة، وحين أمسك به كان قد وقف أمام منذر وقال:
_المعذرة
فغر خليل فاه وكاد أن يصرخ، لكن جمال أكمل:
_هل رأيت قطتي البيضاء تمر من هنا؟
ابتلع خليل موقفا محرجا بعد انفعاله ذاك، أخذ منذر يقلب أنظاره بينهما ثم رد على جمال:
_المعذرة لم أرَ أي قطة في الجوار
بدا واضحا أنه شك أن بينهما شيء مختلف، لكنه لم يتكلم، حينها خرجت عائلته ليغادروا معا ذلك المكان، لم يصدق خليل أن الساحة فرغت أخيرا، التفت ناحية جمال ليفتك به فوجده يركض هاربا، حاول اللحاق به وهو يصرخ ويتوعده ويهدده، لكن ألم قدمه عرقله من اللحاق به، لوح جمال له بيده قبل أن يدخل المنزل قائلا:
_أكملت ما بدأه يوسف، حاول ردها إن استطعت
دخل سريعا إلى المنزل ثم أغلق الباب، حينها وقف خليل يطالع الباب، زينت ثغره ابتسامة عذبة، منذ ذلك اليوم الذي تعرف فيه على جمال كم هي الأحداث التي مروا بها؟ وها هي الأيام تثبت أنه كان كفوءا ليكون صديقا
الناس معادن كمعادن الأرض، لكن ليس الإنسان هو من يحكم على غيره من بني جلدته، بل هي المواقف والأيام تكشف لك من يستحق ومن لا يستحق، فبين تشدد عبد العليم وتساهل سعيد خيط رفيع، من سار عليه سار في الاتجاه الصحيح
وبعد كل شيء فالدين لا يجب أن يكون للمناكفات وتصفية الحسابات، فالدين يسر كما قال صلى الله عليه وسلم، وكما قال أيضا «يسِّروا ولا تعسِّروا، وبشِّروا ولا تنفِّروا» ولا يطلع على ما في القلوب إلا الله، ولا يعلم كيف ستكون خاتمة كل واحد منا سواه، فلا أحد يملك الأحقية ليرتب الناس كما شاء من حيث دينهم، والدين النصيحة، والنصيحة لا تكون بالجفاء والغلظة والقسوة، فلئن لم يهدِ الله بك أحدا فلا تكن سببا في ضلال أحد، يكفيك ذنوبك التي ارتكبتها يداك
وذاك الذي لا زال يتخبط في الظلمات، ألا تبصر النور الآتي من السماوات؟ آيات الله التي قال عنها {فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا} غيرك يغرق ولا يدري أين النور، احمد الله وقم وحث المسير إلى النجاة، إلى الحياة، إلى الله جل في علاه.
¶____________________¶
النهاااااااية
الحمد لله T^T
كان المفروض أهرب بعد هذا الفصل بس ما أقدر وهو الفصل الأخير XD
لازم نحتفل وكذا :)
بالمناسبة حبيت أخلي الفصل هذا خفيف وظريف، مليء بالمواقف المرحة وكذا، عشان نختم بشي يسعد القلب بعد كل ذاك الوجع 💓
بالنسبة لعبد العليم كنت ناوية أحط اسمه صالح، صالح عبد العليم، لكن مع الكتابة غلطت وسميته عبد العليم، أحيانا كنت أكتبه صالح وأحيانا عبد العليم، لو مر بكم هذا الاختلاف فاعتمدوا اسم عبد العليم وخلاص
عندي كلاااام طويييييل أحب أقوله كتعقيب على الرواية، لكن هذا الفصل طويل وما أحب أزيد طوله، عشان كذا بيكون فيه فصل منفصل للتعقيب إن شاء الله
لذلك بترك لكم المساحة هنا تعلقوا على الرواية بكل ما في داخلكم، اسمحوا لي هذه المرة أكون طماعة شوي وأطلب منكم تعليقات طويلة، اكتبوا لي فيها آراءكم، مشاعركم، ملاحظاتكم، وكللللل شي خطر في بالكم أثناء القراءة
ولا تنسوا الاطلاع على فصل التعقيب
دمتم في أمان الله 🌹
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top