(١١) اعـتــراف
انهالت التحليلات كالصواعق على رأس المجرم الذي بُهت وهو يرى خطته تتلاشى كالسراب ليُفضح أمر جريمته، عاد المحقق ليسرد باقي ما توصل إليه:
_بعد دخولك القوي انتبه نجيب لأمرك فهب واقفا، لكن ذلك لم يمديه ليفعل شيئا فقد كان اعتدالك أسرع من انتباهه وردة فعله، بادرته بوضع الحبل على عنقه ثم قمت بخنقه حتى فارق الحياة، بعد ذلك أخذت المفاتيح من جيبه وأغلقت الباب؛ كيلا يقاطعك أو ينتبه لأمرك أحد، ثم أعددت الأمر على النحو الذي رأيناه عند اكتشاف الجثة، ثم غادرت من النافذة وأغلقتها، وتوجهت إلى الجسر القديم، وعلى ما يبدو أن الأمطار كانت حينها قد هطلت أو بدأت هطولها، بسبب ذلك طُمست آثارك، ولم يعلم أحد أين توجه القاتل بعد ارتكاب جريمته
توقف قليلا ليلتقط أنفاسه ثم عاد ليكمل:
_عبرت المكان عبر الحبل الذي ربطته سلفا في الشجرتين، وبعد أن وصلت إلى الناحية الثانية حللت العقدة التي عقدتها خلف الشجرة، ثم قمت بسحب الحبل، ربما خبأته في مكان ما بعد ذلك أو تخلصت منه، لكن جزءا منه على ما يبدو قد احتك بالوتد الباقي من الجسر القديم، آثاره لا تزال واضحة عليه بحكم أنه قد أضحى متدهورا، لم أجد آثارا له على الشجرة من الناحية القريبة من هنا، أما التي في الناحية الثانية فلم أستطع التأكد بسبب بُعد المكان وبسبب العتمة التي كانت تلف المكان حينها، ومصباح الهاتف ليس قويا كفاية ليوضح الأمر، لكن بإمكان الشرطة أن تتأكد من ذلك
وجه نظره نحو المفتش ففهم الأخير هذه الإشارة ليشير لمساعده بالذهاب للتأكد من الأمر فانطلق من فوره قائلا:
_حاضر
جفاف حلقه الذي يجبره بين الحين والآخر على الصمت جعله يرتشف من ذاك المزيج رغم أنه لم يرغب بشرب المزيد أثناء التحليل، ما إن شعر بحلقه يرتوي حتى عاد ليكمل كلامه:
_بعد أن تخلصت من الحبل عدت إلى النزل، ويبدو أن الأمر بأكمله لم يستغرق منك سوى ساعة فقط
بعد أن ساد الصمت للحظة قهقه المجرم بضحكة عالية جعلت من حوله يتملكهم الاستغراب، ثم نطق أخيرا:
_إن كنت قد اكتشفت أمر تلك الخدوش اليوم... فما أدراك أنها حديثة؟ قد تكون ليست من اليوم، هذا لا يدينني بشيء
ابتسم محمد هازئا ثم علق:
_هل تعلم؟ إنني أشكرك على محاولتك قتلي حينها، فقد كشفت لي لَبْسًا لم أستطع فهمه من قبل، وعرفتُ لمَ عدتَ إلى مسرح الجريمة بقدميك
رفع زياد حاجبا وسأل ساخرا:
_حقا؟ أتحفنا بما لديك أيها المتبجح
وجه المعنيُّ أنظاره نحو المفتش وسأل:
_هل لاحظت الخدوش التي نتجت عن مقاومة نجيب للخنق؟
أجابه المفتش:
نعم لاحظت ذلك
طرح عليه سؤالا آخر:
_ما الشيء الغريب الذي لاحظته فيها؟
همهم المفتش قليلا وهو يحلق أصابعه حول ذقنه ثم قال بعد أن تذكر:
_الخدوش التي على الجهة اليمنى أخف من التي على اليسرى، لكن في الواقع لم ألاحظ ذلك إلا متأخرا
علق محمد بعد أن أتيحت له الفرصة:
_لقد استغربت من ردة فعلك حينما قلتُ: أنه من الغريب أن توجد هذه الآثار على عنق شخص أراد الانتحار، فقلتَ: أنه إذا كان قد انتحر فلا شك أنه بدأ يقاوم حينما أحس بمرارة الموت
استدار نحوه بشكل كامل وأكمل:
_أعتقد أن سبب مقولتك تلك هو أنك كنت ترى الخدوش الخفيفة بحسب موقعك منه، بينما أنا كنت أرى العميقة بحسب مكاني أيضا، حيث أنك اعتقدت أن مقاومته في آخر لحظة خلفت آثارا خفيفة
صمت هنيهة ثم أردف:
_لم أنتبه لذلك الفرق إلا عندما حمل الجثة اثنان من رجال الشرطة، وكذلك بعد أن تدلت يده اليمنى ورأيت آثار الدماء عليها، لقد استغربتُ الأمر؛ إذ كان من المفترض أن تكون آثار الدماء على اليد اليمنى أخف من التي على اليد اليسرى بما أن الخدوش على الجانب الأيمن من عنقه كانت خفيفة، ثم قلتُ: لعله وجه كل طاقته لتحرير الحبل نحو الجهة اليسرى من عنقه
كشف محمد عن عنقه لتظهر آثار مقاومته هو أيضا، ثم أخذ نفسا عميقا وقال:
_حينما أراد المجرم أقصد زياد قتلي وفقدت الأمل بالحياة، حاولت أن أترك أي شيء يدل عليه، وهكذا فهمت أن نجيب قد فكر بالطريقة نفسها، لقد أراد ترك دليل يدل على قاتله، وهذا ما فعله لكننا غفلنا عنه
اقترب المفتش من زياد حتى أصبح وجها لوجه معه وقال موجها حديثه لمحمد:
_هل تقصد أنه لا يزال يحمل ذلك الدليل معه حتى الآن؟
أجابه بثقة:
_نعم
بدا القلق واضحا على وجه زياد الذي لم يعد ينبس ببنت شفة، وأخذ العرق يتصبب من جبينه، أما محمد فقد أكمل قائلا:
_لا شك أنك أخذت احتياطك للأمر فقمت بلبس شيء يغطي وجهك، ولبست قفازات كيلا تترك أثرا لبصماتك في مسرح الجريمة
اقترب منه أكثر لتزداد ضربات قلب ذلك المجرم أكثر، أكمل ليضع النقاط على الحروف:
_بعد أن انتبه نجيب لدخولك كلما أمداه فعله هو أن يواجك وجها لوجه، ولكنك كنت أسرع منه حيث بادرت بخنقه، وحينما فقد نجيب الأمل بالحياة حاول ترك دليل يدلنا عليك، حيث أنه بلا شك كان قد عرفك، لذلك فقد قرر خدشك في أي مكان يستطيع الوصول إليه، لكنه لم يرى إلا عينيك وها نحن نراهما سليمتين، وعنقك وهذا هو المكان الذي ترك لنا الدليل فيه
أُسْقِطَ في يدي زياد وأخذ يرتعد خوفا، اقترب المفتش منه وقال:
_اسمح لي
مد يده وفتح معطفه ذو العنق الرفيع وتحته اختفى وشاح لف به عنقه، لم يُعِر أحد ذلك انتباهه لأن الجو كان باردا، وهنا تجلت الحقيقة فكانت الصدمة للجميع، آثار أربعة خدوش على عنقه في الجانب الأيسر، تقع بشكل أفقي ويقع كل واحد منها فوق الآخر، والأسفل كان أصغرهن، وهذا الجانب هو الذي كان يقابل يمين نجيب
وفي تلك اللحظة انهار زياد وسقط جاثيا على ركبتيه، ابتعد محمد عنه قليلا ثم قال:
_عدت إلى هنا تدعي أنك تريد لقاءه، زعما منك أنك تريد إخباره عن قرارك بالرحيل، لا شك أن تلك كانت حيلة دبرتها عبر اتصالك على هاتفك من هاتف آخر مدعيا أنه هاتف زوجتك، ثم كذبت قائلا بعد اكتشاف الجثة وعجزك عن محو الدليل: أنك اتصلت بزوجتك فأخبرتك أنها أرادت الاطمئنان عليك فقط
وضع الكأس الذي سئم من حمله طوال الوقت ثم أكمل:
_ولكن في الحقيقة أنك أردت إزالة آثار دمائك والجزء المخدوش من جلدك من أصابع نجيب ومن تحت أظافره، لأنك نسيت فعل ذلك حينما كنت لا تزال في مسرح الجريمة بعد ارتكابك لها
توقف قليلا ليسود بعض الصمت لكنه أراد تفسير آخر جملة فقال:
_ربما أن فرحتك لإنجاز مخططك أو حقدك عليه قد أنساك ذلك حينها، لكن استيقاظ إياد عند اكتشاف الجثة وعدم سماحه لك بإنزالها أفسد عليك الأمر بِرُمَّتِه
وكجملة يختم بها هذا التحقيق فسر آخر شيء كان لا يزال في عقله:
_أما عن الشيء الذي حاولت خنقي به فلا شك أنه هذا الوشاح الذي ترتديه الآن، قد يكون حمل شيئا مني ويمكن استخدامه كدليل ضدك
وأخيرا حُسِم الأمر وآن لمحمد أن يسكت فحل صمت رهيب في المكان، حتى كان بالإمكان سماع أصوات تنفس الموجودين بوضوح
ربما دقيقة كانت تلك التي صمتوا فيها أو أقل، لكنها بدت دهرا طويلا، كسر أسامة حاجز الصمت وهو يحث الخطى نحو زياد قائلا:
_لماذا فعلت ذلك أيها الوغد؟
أمسكه المفتش ولم يسمح له بالاقتراب منه لكنه واصل طرح أسئلته بغضب:
_لماذا قتلته؟ ما الذي فعله بك؟ هل كان الأمر يستحق أن تقوم بقتله؟ تكلم، زيــــاد!
صوت صراخه في آخر كلمة دفع زياد إلى رفع رأسه وعلى وجهه ابتسامة باهتة ليقول:
_لو كان الأمر متعلق بي وحدي لما قتلته
شعر إياد بصدمة كبيرة وهو يستمع إليه، لقد كان يشك فيه لكنه شكًا ليس إلا، وبعد أن أضحت حقيقة ما عاد يستطيع إنكارها، نبس منصدما:
_لا تقل لي أنك فعلت ذلك لأجل ابني وليد؟
نكس زياد رأسه وأجاب بصوت منخفض:
_بلى كان هذا من أجله، ومن أجل والدته التي ماتت قهرا
لم يتوقع أسامة أن هذا هو السبب، نطق بذهول:
_مستحيل!
كان زياد لا يزال على تلك الوضعية، علق قائلا:
_صدقوا أو لا تصدقوا هذه هي الحقيقة
مر بعض الوقت ما جعله يستطيع النهوض ليقف على قدميه ثم قال:
_لقد كان الابن الوحيد الذي رزقته أختي بعد خمسة أعوام من زواجها، كان في الخامسة من عمره حينما سقط، أي أنها لم تكتمل فرحتها به حتى قضى عليه ذلك الوغد
أحكم قبضته وظهر الحقد في عينيه وهو يقول ذلك، لكن أسامة الذي لا زال المفتش يمسك به صرخ قائلا:
_أنت مخطئ السيد نجيب لم يفعل ذلك
رد عليه بنبرة لا تقل عن نبرته غضبا:
_اصمت أنت أيها الحشرة! لقد رضيت لنفسك أن تكون عبدا عند هذا الرجل الذي لم يعرف قدرا لأحد
لم تهدأ نبرة أسامة بل بقيت متأججة بنار غضبه، رد عليه بتلك النبرة:
_اصمت أنت أيها المجرم! أنا لم أكن عبدا عنده ولم أرضى لنفسي أن أكون تحت رحمة أحد في يوم من الأيام
توقف قليلا ولم يعلق أحد ما جعله يقول:
كان السيد نجيب يتظاهر بعدم السماح لي بأن أذهب إلى أي مكان آخر، لكنه في الحقيقة كان يعلم أنني إذا لم أجد عملا عند غيره فإن كبريائي لن يسمح لي بطلب العمل عنده ثانية، لهذا في الحقيقة فقد كنت ممتنا له
زفر زياد حانقا ثم علق بلا مبالاة:
_سخافة!
نظرات مطولة حدق بها أسامة نحوه، لقد بدا واضحا أنه يحمل في جعبته الكثير، عشر سنوات بخدمة نجيب كافية ليمنحه الآخر ثقته، وكافية لتجعله يعرف عنه الكثير، فكيف إن زاد على ذلك بأن يبوح له بما في قلبه، ويأتمنه على أسراره؟
**********
انتهى الفصل الحادي عشر
انتهى الفصل ولا زال للقصة بقية
يبدو أنني أصبحت أعدل الفصول بسرعة ما يجعلها تسوء في طريقة السرد أو الوصف، وربما أيضا تظهر الأخطاء الإملائية
سأكون شاكرة لمن يترك لي ملاحظة على خلل ما لاحظه أثناء قراءته
شكرا جزيلا 🌸
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top