الفصل الخامس
﷽
فِي حِضنِ ذَلكَ الكرسيِّ الخَشبيِّ العَتيقِ، وَتَحتَ سَماءٍ حَالكةٍ زَيّنتهَا نُجومُ الليلِ بِبريقِهَا، كَما زَيَّنَت عَيناهُ البَيضاوتينِ غُرتهُ الفَاحمةَ.
ضَامّاً رُكبتيهِ إِلى حجرهِ بِامتعاضٍ، وَفي يَدهِ استكانتْ تِلكَ الورقةُ المُجعدةُ بِإهمالٍ.
تَمتمَ وَالمصباحُ الذِي فَوقَ رَأسهِ يَرمشُ بَين فِينةٍ وَأخرَى، كَمنْ لِحديثهِ يُنصتُ بِهدوءٍ.
_"لِماذَا فَعلتَ هَذا؟"
مَع مَن يَتحدثُ، وَكُل مَا بِحوزتهِ هُو ذَاك الكِتابُ القَديمُ، وَتلكَ الوَرقةُ البَاليةُ؟
لَكن صَديقتهُ الرِّياح أَتتْ لِتبعثرَ أَفكارهُ كَما خُصلاتهِ المُتَهدِّلَة.
نَاظراً إِلى الأمامِ بِعينيهِ الغَائرتينِ، مُتمتماً بِعلَّ وَعَسى أَن مَا رَآهُ حُلمٌ لَيس إِلَّا.
.
.
.
.
.
عَائدينَ إِلى حَيثُ نَهرِنا القُرمزيِّ، وَقد تَأكْأكتِ الشُّرطةُ حَوله، كَذبابٍ اِحتشدَ فَوقَ قِطعةِ حَلوى مُهْملة.
أَصواتهمُ المُتناثرةُ هُنا وَهناكَ، حَركاتهمْ الغَيرُ مُنظمةِ تِلكَ، تَشرحُ فِي أَي شَيءٍ هُم قَد تَورطُوا، أَو بِالأحرى؛ مَع مَنْ قَد تَواطَؤُوا.
_"مَا الذِي عَلينَا فِعلهُ؟!."
صَرخ بِها عَريضُ الكَتِفينِ، مُوجهاً إِياهَا لِصاحبهِ ذُو الرتبةِ الأعْلى مِنه.
نَظراتُ ذَلكَ الشُّرطي الحَادةِ، قَد اِستكانتْ فِي عَينَيْ رَفيقهِ الضَّخمِ ذَاكَ، وَقد غَلّفَ صَوتَه هُدوءٌ عَجيبٌ، وَكأنمَا هُو لَيسَ مِن ضِمنِ مَا يَجرِي حَتى!.
_"عَاجلاً أَم آجلا سَيعرفونَ، مَن يَهتم؟"
وَكأنَّ نَبرتهُ لَا تكفِي، لِتزيدَ كَلماتُهُ غَضبَ الآخرِ أكثرَ.
هَا هُو ينقضُّ عَليهِ مُمسكاً بِياقتهِ، لِيقولَ وَقد أَخذَ حُنقُه مِن عَقلهِ مَا أخذَ.
_"مَن يَهتمُّ؟! مَن يَهْتمُّ؟!... إِذاً مَن يَهتم إِذَا كَسرتُ رَأسكَ الآنَ وَحالاً؟"
_"يُمكنكَ المُحاولةُ."
قَالَها الأخيرُ مُخرجاً تَنهيدةً وَاثقةً، لِيفلتهُ صَاحبُ القَبضتينِ بِغيظٍ قَاومَ لِكي يَكبِتهُ.
بِمجردِ أَنِ اِبتعدَ، وَضعَ صَاحبُ الأعينِ الحَادَّةِ يَدهُ عَلى جَبينهِ زَافراً بِضيقٍ.
هُو مِثلُ الجَميعِ حَائرٌ، وَلكنْ لأنهُ أَعلى مِنهم رُتبةً، وَأكبرهُم سِنّاً؛ عَليهِ التماسكُ قَدرَ الامكانِ أَمامهمْ.
يَعرفُ كَيفَ سَتجري الأمورُ لَو لَمْ يَفعلْ ذَلك، كَيف سَيفزعُ الجميعُ وَيضطربُ بِهمجيةٍ،
لِذَا..... إِلى حِينِ انتهاءِ هذَا على خيرٍ، أَو بِسَجْنِه، مُستبعدينَ احتماليةَ اِعدامهِ عَلى يدِ السُّلُطاتِ، سَيحاولُ كُل جُهدهِ فِي سَبيلِ المُحافظةِ عَلى الأُمورِ تَحتَ السَّيطرةِ، -وَلو بَعدَ فَواتِ الأَوانِ.
اِرتفعَ صَوتُه مُنبّهاً كُلَّ الحَاضرينَ تَقريباً:
_"اِهدؤُوا مِن فَضلكُم، أُريدُ مِنكُم أَن تَتَمالَكُوا أَعصا..."
قَاطعهُ أَحدهمْ عَلى عَجلٍ:
_"أَعتذرُ عَلى مُقاطعتكُ يَا سيدِي، لَكن وَصلَنَا قَبلَ لَحظاتٍ بَلاغٌ عَنِ اِنتحارِ شَخصٍ بِطريقةٍ غَريبةِ!"
_"قُلِ التَّفاصيلَ."
تَقدمَ مِنهُ لِيفرغَ مَا بِحوزتهِ مِن مَعلوماتٍ.
_"حَسْبَ مَا قَالهُ أَحدُ القَاطنينَ بِذاكَ الحَي
-وَالذِي كَانَ نَفسه مَن أَبلغنَا عَنِ الحادثِ- أَنَّ شَابّاً لَم يَتجاوزِ العِشرينَ مِن عُمرهِ، قَفزَ مِن شُرفةِ الدَّورِ الثَّانِي لِمنزلهِ، وَالغريبُ أَن مَوقع سُقوطهِ كَانَ تَماماً فَوقَ القُضبانِ الحَديديةِ المُحيطةِ بِالمنزلِ، مِمَّا أَدى لِاختراقِ أَحدهَا عُنقه.
أَوصافهُ كَما ورَدنَا:
الشعر: بنيّ
الاعينُ: صَفراء
الـ..."
.
.
.
.
.
.
.
.
_"أسمعتِي مَا جَرى؟ لَقدْ تَم العُثورُ عَلى بَعضِ الاعضاءِ المُقطعةِ فَوقَ أحَدِ مَراكزِ الشرطةِ فِي المَدينةِ، هُم يَقومونَ الآنَ بِفحصهَا؛ لِمعرفةِ هُويةِ صَاحبهِا، لَقد صرَّحَ أحدهُم أَنها لَيستْ مِن جَسدٍ وَاحدٍ..."
_"هَذا مُقرف! أَلا تَرينَ أَننِي أُعدُّ العَشاءَ؟"
_"مَعذرةً"
قَالتهَا مُبتسمةً، لِتمدَّ الخُضراواتِ التِي قَطعتها نَاحيةَ المُشمئزةِ عندَ قِدر الطعامِ.
خَرجتْ لِتناديَ مِن تحتِ الدَّرجِ:
_"يَا صِغار، نِصفُ سَاعةٍ وَأصعدُ إِليكمْ، مَن لَم يُراجعْ دُروسهُ إِلى حِينهَا لَن أُسامحهُ."
صَوتٌ سَاخرٌ مِن داخلِ المَطبخِ قَاطعَهَا:
_"وَاو! يَالهُ مِن تهديدٍ، هُم الآنَ يَدرسونُ بِجدٍّ أَكبرٍ."
_"أنتِ لَا تعرفينَ شَيئاً، طَريقتِي نَاجحةٌ عَلى كُل حَالٍ."
قَالتِ الآخيرةَ وقَد دَخلتِ المَطبخَ مُتجاوزةً الطَّاولةَ الصَّغيرةَ التِي بِالمنتصفِ، لِتنزلَ الأَطباقَ مِن عَلى الرَّف فِي الخِزانةِ الخَشبيةِ العَتيقةِ.
غَادرتْ لَتدخلَ غُرفةَ الطَّعامِ، وَقد بَدأتْ بِصفها وَاحدةً تِلوَ الأُخرى أَمامَ كُل كُرسي، لِيقاطعهَا عَقلها مُذكّراً إِياها بِشيء.
_"بِالمناسبةِ...لَم أرَ الآنسةَ آكيمِي اليومَ، هلْ تَعلمينَ أينَ ذَهبت؟"
جَاءهَا الرّد مِن المَطبخِ بِصوتٍ شِبهِ مَسموعٍ:
_"لَم تُخبرنِي أَيضاً، لَكن رُبما لهُ عَلاقةٌ بِذلك الاتصالِ الذِي وَصلها بِالأمسِ، مَن تَظنينهُ يَكونُ؟ أَعني المُتصلَ"
هَزّتِ المَعنيةُ كَتفيهَا بِجهلٍ، مُكتفيةً بِالردِّ عَليها نَفياً
كَيفَ لَها أَن تعرفَ وَهيَ التِي سَألتْ مُنذُ البِدايةِ؟
_"انتهيتُ"
_"كَذلكَ أَنا"
_"وَأنا أيضاً وأنَا أيضاً"
_"أَنا أيضا انتهيتُ"
ضجةٌ عَمّت المكانَ، دُونَ رأفةٍ بِالهدوءِ الذِي كَانَ فِيهَ حَتى، وَحركاتٌ مُتفرقةٌ مِن كُل جِهةٍ، أَكادُ أَجزِمُ أَنهُ قَاعةُ اجتماعاتٍ وَليسَ غُرفةَ طَعامٍ.
_"كَفى!"
أَجفلَ الجَميعُ مِن صَيحتِهَا، وَقد كَاد الطَّبقُ يَتكسر بَينَ يَديهَا.
_"لَم يَجهزِ الطَّعامُ بَعد، اِذهبُوا لِاكمالِ دُروسكمْ"
تَحدثَ أَحدُ الصِّبيةِ مُجيباً، وَقد بَدَا عَليهِ أَنه أَعقلهُم عُمراً:
_"لَقدِ اِنتهينَا، بَقيتْ (اِيما) وَهي تَكتبُ آخرَ صَفحةٍ مِن وَاجبهَا"
_"إذاً؟!"
تَحنحنَ وَاقفاً، لِيتبعهُ الآخرونَ مُتجنبينَ غَضبهَا، مَن سَيجربُ مُناقشتهَا الآنَ، وَقد كَانَ سَببُ غَضبهَا بِلا مُبررٍ حَتى؟.
تَنهدتْ بَعد مُغادرتهمْ، لِتتهدَّلَ كَتفاهاَ قَليلاً مُتمتمةً:
_"رُبما بَالغتُ فِي رَدةِ فِعلِي؟"
قَالتِ الأَخيرةَ وَهي تَبتسمُ اِبتسامةً شِبهَ ظَاهرةٍ، مُكملةً عَملهَا بِتوزيعِ تِلكَ الأَوانِي فِي مَكانهَا.
يتبع...
........................................
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
كيف هي أحوالكم؟ عساكم بخير🌸
عذراً على الانقطاع،
آمل أنه لن يتكرر
إذاً...
ما هو رأيكم في الفصل؟
إنه أطول من الفصول الماضية لعلمكم 😅
انتقاد أو نصيحة؟
دمتم بأمان الله🌸
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top